الفصل العاشر

ليلة باردة تحت أشجاره «بلا فراش ولا غطاء»

فدخل سليم وكليم إلى دائرة الأرز مشيًا على الأقدام، وتبعهما بطرس مع بغليه، فربطهما وراء غرفة صغيرة مبنية على انفراد بإزاء الكنيسة القديمة القائمة في شمالي الأرز.

وقد افتقد سليم وكليم أصحابهما الذين بعثوا في طلبهما فلم يجدا لهم أثرًا فاستغربا ذلك، وكان في الغرفة التي أشرنا إليها عائلة مؤلفة من امرأتين وبضعة أولاد، ولم يكن في الأرز غيرهم، فسألاها فأجابتهما أن قومًا كانوا نازلين في الأرز قوَّضوا خيامهم في ذلك الصباح وساروا في جهة الجنوب؛ ليقيموا هناك يومًا أو يومين.

فاستاء الرفيقان من ذلك؛ لأنهما لم يجلبا غطاءً ولا فراشًا، ولكنهما تذكرا الكنيسة؛ لأن المسافرين ينامون فيها، فقيل لهما إن أمين مفاتيحها غائب ولا يعود إلا في اليوم التالي.

وكان قد أمسى المساء وهبط الظلام، وبرد الهواء بردًا قارصًا، فصار كليم وسليم يضحكان من نفسهما؛ لأنهما سيضطران إلى النوم على أديم الأرض تحت السماء!١ ولكن جوعهما ذكَّرهما بالطعام قبل الرقاد، فاختارا أرزة عظيمة قائمة بجانب الغرفة المذكورة إلى الشمال، فبسطا تحت جذعها بساطًا كان معهما، وتناولا طعامهما من الخرج وجلسا، فجلس بطرس بجانبهما يأكل معهما، وكانت السيدتان صاحبتي ذوق فأحضرت إحداهما قشًّا وحطبًا، وأشعلته بجانب كليم وسليم لطرد البرد والظلام.

أما بطرس ففي أثناء ذلك كان يقول للسيدتين وفمه ممتلئ بالطعام: عافاكم عافاكم. كأن السيدة صنعت ذلك إكرامًا له.

ولما حان وقت الرقاد بسط الرفيقان بساطهما بجانب جذع الأرزة؛ ليتَّقيا به الريح الباردة التي كانت تهب من المشرق واردة من قمم رأس القضيب وفم الميزاب، ووضع كل واحد منهما كيسَي الخرج تحت رأسه وتغطيا بغطاء خفيف كان معهما اتِّفاقًا.

ويظهر أن غربان الأرز كانت تنظر إليهما حينئذ من أعلى الأشجار؛ لأن اثنين منهما أخذا ينعقان، فخيِّل للرفيقين أن صوتهما عبارة عن قهقهة وضحك من نومهما على هذا الفراش.

ولما درت السيدتان أن الرفيقين سينامان تلك (النومة المكربة)، خرجتا إليهما ودعتاهما إلى النوم في الغرفة خوفًا عليهما من البرد، فامتنع سليم وكليم عن ذلك تأدبًا؛ إذ لم يكن مع السيدتين رجال، ولكن صاحبنا بطرس دبَّ حينئذ في جسمه برد شديد، وصار لا يطيق النوم في الخلاء، فقال: أنا أقبل دعوتكما بشكر. ثم حمل غطاءه واتجه نحو الغرفة، فصاح به سليم وكليم: يا بطرس، كيف تترك بغليك خارجًا؟ ألا تخاف عليهما من ذئب أو ضبع؟ فأجاب: لا؛ فإنكما على مقربة منهما …

فقال سليم حينئذ: كثَّر اللهُ خيرك. أما كليم فإنه كان يقهقه ويقول لرفيقه: ضَبِّطْ إذا كنت تقدر على مبادئ الديموقراطية التي تدعو إليها.

وهكذا نام بطرس في الغرفة مع السيدتين وبقي سليم وكليم في البرد والظلام يحرسان نفسيهما والبغلين.

وفي الحقيقة إن الرفيقين لم يناما في تلك الليلة نومًا هنيئًا، فكانا كالأسد ينامان بعين ويسهران بعين خوفًا من الطوارئ، وكان ذلك السكون التام في هدوء الليل وسط جبال شاهقة وأحراش متَّسعة وجهات مقفرة؛ مما تجعل نفس أقوى الأقوياء في حذر دائم، سواء كان ذلك من اللصوص أو الوحوش.

ويَظهر أنَّ خَوف سَليم وكليم كان في محلِّه، فإنَّه لم تدخل الساعة الثالثة بعد نصف الليل حتى انتبه سليم على صوت فرقعة، فرفع رأسه قليلًا فلم يَرَ شيئًا، ولكنه سمع صوتًا كصوت كلب يقضم عظمًا، ثم تلا ذلك صوت البغلين يرفسان ويجفلان، وقد قطعا قيادهما وأخذا يهيمان بين أشجار الأرز، فحينئذٍ انتبه بطرس وخرج من الغرفة وصاح: ذئب! ذئب! فهب الرفيقان مذعورَيْن؛ إذ لم يكن في يدهما سلاح حتى ولا سكين تجرح، ولكن من حسن الحظ كان لدى السيدتين بندقيتان لرجُلِهما الذي كان قد سافر إلى بشري في ذلك اليوم، فتسلح سليم وكليم بالبندقيتين، وبذلك عادت إليهما قوة الأبطال.

ولما لم يُرَ للذئب أثر قضى الجماعة بقية الليل في السهر خوفًا من غدره، فلم يلبث الصباح أن ذرَّ قرنه وهبَّت نسماته أبرد من الثلج، وانتبهت الطيور في أعالي الأشجار تستقبل الفجر بأصواتها المختلفة، فقال سليم لرفيقه: لا أعلم كيف تطلع علينا شمس الغد؟ فإننا تعبنا وسهرنا ونمنا في البرد. ولكن لما أصبح الصباح وتعارفت الوجوه هب سليم وكليم يمشيان بقوة ونشاط فوق العادة، فاستغربا ذلك، وعجِبَا من جودة ذلك الهواء النقي الخارج من يد الله كما صنعه الله، يجدد القوى ويملأ النفس نشاطًا وارتياحًا.

وبعد أن غسل الرفيقان وجهيهما بماء يُستقى من نبع قريب من الأرز قال سليم: إن هذا الذئب قد أخافنا في الليل وأنا من المغرمين بالصيد، فهلم بنا نأخذ البندقيتين وشيئًا من الرصاص، ونصعد إلى الجبال التي فوقنا، فإننا نصطاد فيها ونتفرج بمشاهدتها، ونروض أجسامنا باجتيازها، ونتغذى من لبان المواشي التي ترعى بها، وإذا وجدنا الذئب في طريقنا فالويل له.

فطاوعه كليم على ذلك فأخذا البندقيتين وسارا وقد تركا بطرس في الأرز في أحسن رفقة على أن يعودا في المساء، وكان اتجاههما إلى جهة الشرق نحو رأس القضيب وراء الأرز، وهو جبل مشرف عليه، وعلوُّه نحو ٩ آلاف متر عن سطح البحر. وهو مقابل «لفم الميزاب» الذي يعلوه ألف قدم.

هوامش

(١) أما اليوم ففي الأرز فندق للمبيت والطعام أنشئ منذ بضع سنوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤