الفصل الحادي عشر

الوحش . الوحش . الوحش

ملك رأس القضيب وفم الميزاب

وقطع الرفيقان المسافة بين الأرز وسفح الجبل يصطادان ما يجدانه، فأصابا غرابين وثعلبًا، وبينما كانا واقفين على أحد الرعاة يحلب لهما لبنًا، وإذا بالراعي صفَّر صفيرًا شديدًا، فهبت كلابه كالبرق الخاطف، ثم أشار الراعي إلى سفح الجبل، وقال: أنظرتم ذلك الذئب؟

فأبصر الرفيقان حينئذ شبحًا بعيدًا هيئته كهيئة الكلب يثب من صخرة إلى صخرة في سفح الجبل.

فشرب سليم وكليم لبن الشاة على عجَل ثم اتَّجها نحو الذئب.

وكانت الشمس قد ظهرت حينئذ من وراء الجبال العالية فصار الجبل (يدخن) من تأثير حرارتها، فضحك كليم وقال: اصعد فهذا طور سيناء يعممه الضباب. فقال سليم: لا تشغلْنا بالمزاح الآن وإلا فاتنا الذئب. ويظهر أن الذئب قد رآهما؛ لأنه أخذ يعدو عدوًا سريعًا موغلًا في الجبل.

فجدَّ سليم وكليم في طلبه، وهو تارة يظهر وطورًا يغيب، واستمر على ذلك نحو نصف ساعة حتى كلَّت قواهما، وكان الذئب يتلفت ثم يجدُّ في العدو فيخيل لهما حين لَفْتَتِه أنه يضحك منهما، ويقول لهما: «أراه غباري ثم قال لها الْحَقِ.»

ولكن هذا الطراد لم يستمر وقتًا طويلًا، فإن الضباب كان قد تكاثف على الجبال المجاورة، وصارت الريح تسفيه نحو سليم وكليم، ولم يمضِ رُبع ساعة حتى أقبل عليهما مسرعًا، وغطى الجبل وأحاط بهما من كل جانب، فلم يعودا يعرفان الطريق،١ وكانا قد قطعا ثلثي الجبل والذئب أمامهما، ولا تخلو تلك الأماكن المقفرة من غيره من الوحوش، فصارا يسيران رجوعًا على غير هُدى راضيَيْن من الغنيمة بالإياب، سالمين من مفاجأة الوحوش والذئاب؛ لأنهما كانا لا ينظران شيئًا أبعد من عشرين قدمًا، فأشبها في هذه الحالة رجلين مكتوفين ملقيين لسباع البر؛ لأن سلاحهما وأيديهما التي كانا يعتمدان عليها لم تعد تجديهما نفعًا.

وكانا من حين إلى حين يطلقان بندقيتهما في الفضاء إرهابًا وإبعادًا للوحوش عنهما.

وبينما هما سائران كعميان يتلمسون الطريق، وقد تكاثف الضباب فيها حتى لم يعد يَرى أحدهما موضع قدمه، وإذ هوت أقدامهما في وادٍ صغير فسقطا، وانطلقت البندقيتان في سقوطهما، ولولا رحمة الله لقتلتهما، ولكنهما لم يكادا ينهضان مترضضين حتى سمعا طلقًا ناريًّا قريبًا منهما في بطن الوادي وصائح يصيح بصوت أجش: الوحش الوحش الوحش.

فانقطعت حينئذ أنفاسهما وجمدا في مكانهما يتوقعان أمرًا جديدًا.

فلم يلبث أن لاحت لهما من خلال الضباب المتكاثف على قيد ذراعين منهما صورة هائلة.

فإن وحشًا هائل الجثة منتصبًا على قدميه مغطى جسمه بالشعر، وله وجه كوجوه البشر حوْله شعر كثيف طويل ولحية مخيفة، كان واقفًا أمامهما وقفة الأسد ينتظر فريسته.

فكاد دمهما حينئذ يجمد في عروقهما خوفًا وجزعًا، ومد سليم يده إلى بندقيته، ولكنه تذكر أنها كانت فارغة.

أما ذلك الشخص الهائل، فكأنه فهم فِكْر سليم، فرفع بندقيته في الفضاء كتهديد وإنذار، وصاح بصوته الأجش: الوحش الوحش الوحش، فعجب حينئذ سليم وكليم من أن ذلك المخلوق الغريب قادر على النطق كالبشر، فَرَأَيَا حينئذ وجوب المجاملة، فأخفيا جزعهما وابتسما، وقال كليم: العوافي يا عم.

فأجاب ذلك المخلوق الهائل: الله يعافيك، ماذا تفعلون هنا؟

فثاب الرشد حينئذ إلى سليم وكليم وتحركت نفسهما للدخول في الحديث معه، فأجابا: نحن نتصيد وقد فاجأنا الضباب وأدركنا الجوع، فهل لديك طعام؟

فقال الرجل: عندي طعام، ولكن لماذا دخلتم إلى هنا من غير إذن مني؟

فقال سليم: كنا قادمين لاستئذانك، فالحمد لله أننا لقيناك هنا.

فقال الرجل: فإياكم مرة أخرى أن تدخلوا هذا المكان من غير إذني.

فأجاب سليم وكليم: أمرك يا عم.

وفي هذا الحين هبَّت ريح شديدة من جهة الشرق، فكنست الضباب عن الجبل ودفعته إلى جهة الأرز، فانجلى المكان للأنظار، فوجد سليم وكليم نفسيهما في وادٍ صغير واسع الأديم، وعليه في جانبه العالي كوخ صغير مستور عن الأنظار لأنه على مساواة الجبل.

فمشى الرجل الهائل نحو الكوخ قائلًا: تعالوا لأطعمكم. فخيِّل لسليم أنه قال: تعالوا لأكلمكم. لأنه خاف عاقبة السير معه إلى حيث يقصد، وذكر في تلك اللحظة حكايات الغول والجن التي سمعها في صغره من العجائز والشيوخ، وكيف أنها تأكل الناس، فقال لرفيقه مازحًا في إبان الخطر إظهارًا للقوة: ما جئنا نسمن أجسامنا في الأرز لكي نجعلها طعامًا لوحش كهذا الوحش.

وكان الرجل الهائل قد بلغ كوخه في طرف الوادي ودخله، ثم خرج ومعه بيضتان وكِسرتا خبز، فوضعهما على حجرين بإزاء الكوخ، وأومأ إلى الرفيقين قائلًا: تعالوا كلوا.

وكان سليم وكليم لا يزالان جامدين في مكانهما يتشاغلان بإصلاح ملابسهما، فلم يريا مناصًا من إجابة الرجل إلى دعوته، فتقدما نحو الحجرين بجانب الكوخ وجلسا، أما الرجل فإنه جلس بإزائهما بعيدًا عنهما نحو ثلاثة أمتار.

فحدق به الرفيقان هذه المرة جيدًا فذهب عنهما حينئذ شيء من الجزع والخوف، فإن ذلك الرجل كان إنسانًا لا يختلف عن باقي البشر، إلا بكونه يلبس رداءً مصنوعًا من جلود الغنم إلى ركبتيه، وليس على جسمه لباس غيره، وكان وجهه محاطًا بشعر كثيف طويل شابَ أكثره، ولكن في عينيه وملامحه دلائل الهدوء والتأمل والانكسار. وما هذه بعلامات الوحوش أو قطَّاع السبيل؛ فسكن حينئذ بالُ الرفيقين، وقال سليم لكليم: هلمَّ ندخل معه في الحديث، فإنني أرى لهذا الرجل شأنًا يُذكر.

فالتفت إليه كليم وقال: هل مضى عليك وقت طويل في هذا المكان يا عم؟ وكان الرجل حينئذ مطرقًا إلى الأرض يتأمل ويفكر بما قام في نفسه لدى مشاهدته هؤلاء البشر القادمين من المدن، فرفع رأسه لسؤال كليم وأدار فيه عينين متحمِّستين وأجاب: أقيم هنا من حينما جئت إلى هنا. فقال سليم: ومتى جئتَ إلى هنا؟ فتنهَّد الرجل وأجاب: من حين تكوين العالم.

فنظر سليم إلى رفيقه بدهشة، فقال الرجل: ما لك لا تصدقني؟ قلت لك إنني هنا من حين تكوين العالم، فإذا كنتَ نبيهًا فافهم، وإلا فاسكت وأرحني.

فقال كليم: عفوًا يا عم واسمح لي أن أكلمك بحرية، إننا حين نظرناك أول مرة دهشنا لإقامتك منفردًا في هذا المكان، أما الآن فيظهر لنا من كلامك أنك في شأن عظيم، فهل تكرم علينا وتفيدنا شيئًا؟

فلما سمع الشيخ هذا الكلام الليِّن أطرق إلى الأرض بانكسار وصار يفكر، ثم رفع رأسه وقال: إنني مسرور من لطفك ولين كلامك، وهذه أول مرة في حياتي أرى رجلًا عاقلًا، ولكن اعذرني فإن سري هائل.

فازداد سليم وكليم رغبة في الوقوف على خبر هذا الرجل الغريب، فقال سليم: نحن أولادك يا عم فلا تحذر منا.

فلما سمع الشيخ كلمة (أولادك) أجفل ونهض كأنَّ أفعى لسعته، وبدا الغضب في وجهه فقال: لا لا، ليس لي أولاد ولا أريد أن يكون لي أولاد.

فقال كليم لرفيقه: لقد هدمتَ ما بنيناه. ثم التفتَ إلى الشيخ، وقال: الحقَّ أقوله لك يا عم، إنني لا أستطيع كتمان ما في نفسي، فلا تغضب علينا ودعنا نستفيد منك، إنني أرى في أمرك شيئًا مدهشًا، ويخيل لي أنني أقرأه في عينيك، فأستحلفك باسم الله أن لا تحرمنا من الفائدة.

فلما فاه كليم بكلمة (الله) أحنى الشيخ عنقه، وجثا على الأرض وعفر خده بالتراب وهو مطبق العينين.

فقال كليم لرفيقه همسًا: لقد قبضنا على شيء. ثم قال للشيخ: فالله — سبحانه وتعالى — قد هيَّأَ لنا اليوم فرصة لقياك، ولا ريب أن ذلك بتدبير منه وعناية خصوصية، فهل لك أن تطلعنا على سبب إقامتك هنا إنفاذًا لإرادة الله؟

فرفع الشيخ رأسه واستوى جالسًا، ثم قال: نعم، ربما كان لله إرادة بهذا الأمر، ولا أخفي عنكم أنني في الليالي الأخيرة سمعت مرارًا صائحًا يصيح: قد انتهى قد انتهى.

أجل يا إخوان، لقد انتهى ملك الشر والظلم والكذب والرياء والاعتداء في العالم الفاسد، إن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة، فكل شجرة لا تثمر ثمرًا صالحًا تقطع وتلقى في النار.

انظروا هذه المملكة الواسعة التي أمامنا، هذه هي العالم الحقيقي؛ ولذلك قلت لكم إنني ههنا منذ تكوين العالم، فأنا الآن هنا أكوِّن العالم الحقيقي الذي يسود فيه الخير والصلاح، وقد مرت عليَّ سنوات عديدة أهذِّبه وأؤدبه، فتم لي ذلك بمعونة الله تعالى، وإذا فتشتم هذه الأقطار كلها لا تجدون فيها بين سكانها أثرًا لفظائع العالم وشروره الهائلة.

فقال سليم همسًا: نعم، لا نجد فيه شيئًا حتى ولا سكانَ. فأجاب كليم همسًا أيضًا: يظهر أن صاحبنا مجنون.

ثم التفت كليم إلى الشيخ وقال: إنني أعجب يا عم كيف استطعت تهذيب هذه المملكة مع أن الملوك عجزوا حتى الآن عن تهذيب ممالكهم؟

فصاح الشيخ حينئذ بغضب: ويلٌ للملوك ولْترتجفْ عروشهم من غضب الله، ولو كان أصغر الملوك يصنع بمملكته ما صنعتُه بمملكتي لما بقي فيها شرٌّ، فإنني سألت نفسي حين تسلَّمت هذه المملكة: ما هو أصل الشر؟ فرأيت أن (أصله الوحش الذي في الإنسان)، فإنكم تعلمون أن في الإنسان شيئين: الوحش والإنسان، فالوحش يطلب كل شيء لنفسه ولو مات غيره، والإنسان يشفق على نفسه وعلى غيره أيضًا؛ فقلتُ إن رأس واجباتي كملك لهذه الديار قتل الوحوش لاستئصال الشر، فاقتنيت هذه البندقية، وقد اشتريتها بجلود عشرين ذئبًا وأسدين وخمسين ثعلبًا وعشر ضباع، وكنت أجلس على هذه الرابية، وكلما رأيت أحدًا يعتدي على غيره — أي كلما رأيت الوحش يطمع في ما هو لغيره — قتلته برصاصة واحدة، ففي بدء الأمر قتلت مئات ثم عشرات، أما الآن فقد تناقص الشر، وقلما أقتل في الشهر واحدًا.

فارتعدتْ حينئذ فرائص سليم وكليم، وتحققا جنون ذلك الشيخ التعيس، وصار همهما إظهار التقوى والصلاح والقداسة؛ لئلا يُلحقهما بمن فتك بهم جنونه من قبل، أما الشيخ فكان في هذا الحين يسرِّح نظره في مملكته الواسعة، وإذا به قد صرخ بغتة بصوت كصوت الوحش: الوحش الوحش الوحش، وقام يعدو وبندقيته في يده، فالتفت كليم وسليم وهما مدهوشان إلى الجهة التي سار فيها، فنظرا على أكمة قريبة ذئبين يتقاتلان، فلما خرج الشيخ من واديه أطلق على الذئبين طلقين فصرعهما بالحال، ثم أسرع إليهما فأجهز عليهما وجرهما إلى كوخه وطرحهما أمام سليم وكليم وهو يضحك لفوزه ويقول: كلاهما معتدٍ فأرَحْنا المملكة منهما.

فتنفس حينئذ سليم وكليم الصعداء؛ لأنهما علما أنه إنما كان يقصد بكلامه الحيوانات لا البشر، وقال كليم حينئذٍ للشيخ الذي كان يحشو بندقيته: لقد أدهشتنا يا عم بقوتك ونشاطك وصلاحك، فلماذا لا تذهب معنا إلى المدن لمحاربة الشر هناك وتكوين العالم الحقيقي فيها؟ إن مدننا الفظيعة القبيحة محتاجة إلى الإصلاح، فلماذا تحرمها من مساعدتك؟

فعَبَسَ الشيخ حينئذ وقال وشرر الغضب تتطاير من عينيه: المدن! ويل للمدن! وويل لي إذا دخلت المدن! فإنني لا أقدر على جمع الوحوش التي فيها؛ إذ ليس لي غير يدين، ولا أقدر أن أمسك بهما أكثر من بندقية واحدة، وبندقية واحدة لا تكفي لإخضاع الوحوش الذين فيها، آه من المدن ومن العذاب الذي ذقته في المدن! لا تصدقوا أنني ولدت هنا، بل إنني ولدت في المدن، وعشت في المدن. ولكن الوحوش فيها أكلتني وطحنتني ففررت منها، كلا يا إخوان، إن صحبة الذئاب والضباع والنمورة في البر أفضل من صحبة الإنسان في المدن، ولكن لا بأس ستأتي نوبة المدن، وحينئذٍ أدخل إليها — بإذن الله — دخول المنتقم لله من وحوشها الضارية.

فقال سليم: ومتى يكون ذلك يا عمَّاه؟ فقال الشيخ: أما سَمِعت ما قلته من أن الأمر قد انتهى.

فمنذ هذا الحين وقف سليم وكليم على حقيقة ذلك التعيس، فعَلِما أنَّه رجل أضاع صوابه لظلمٍ أصابه، فبرح بلدته وأقام في تلك الجهات المقفرة، وهو يعتقد أن الله ولاه عليها لمحْقِ الظلم والشر ثم يملِّكه المدن لاستئصالهما منها أيضًا.

وقد افتقد سليم وكليم كوخه ومعيشته فوجدا أنه يعيش في أشد الحالات، ورُبَّ يوم لا يتناول فيه غير كسرة خبز أسود يصنعه من دقيق يعجنه، ويشويه على النار، أو قطعة من لحم الوحوش (المعتدية) التي يصطادها، وكان يمر عليه في زمن الثلج والشتاء عدة أيام مخبوءًا في كوخه الحقير لا يخرج منه لتراكم الثلج عليه في ذلك الجبل، وكان قد تعوَّد احتمال البرد كالحيوانات، فإذا ذاب الثلج قليلًا زحف من كوخه وخرج على الثلوج يسير عليها زلقًا لا مشيًا، كأنه سائح فوق ثلوج القطبين.

فأشفق كليم وسليم أشد إشفاقٍ على ذلك الرجل الذي يعيش في شيخوخته هذه المعيشة القاسية، فصارا يفكران في سبيل لنفعه، وقبل توديعه عَرَضَا عليه نقودًا وسألاه ماذا يتمنى، فردَّ النقود بعظمة ضاحكًا، وقال: ماذا أفعل هنا بالمال؟! أما حاجتي فهي أن لا تطلقا النَّار في مملكتي على أحد إلَّا إذا كان ظالمًا معتديًا، وإلا اضطررت إلى تأديبكما.

فأخبره حينئذٍ سليم وهو يضحك في نفسه أنهما لم يطاردا الذئب إلا لأنه هجم عليهما تلك الليلة في الأرز. فقال له الشيخ: إنني أعرف هذا الوحش وهو يسمى (أبا اليد الحمراء) فسأؤدبه قريبًا.

هوامش

(١) يسمون هناك هذا الضباب غطيطة؛ لأنه يغطي الأرض. والطرابلسيون يرونه من مدينتهم يعمم جبال لبنان كالغيوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤