الفصل السادس عشر

صوت الابنة الكريمة

يحيي العظام الرميمة

فحينئذ ذهلت إميليا عن نفسها وعن زوجها وعن مقامها، ووثبت خارج الخيمة كالبرق الخاطف وهي تصيح: أين؟ أين؟

فتبعها المستر كلدن وسكرتيره ولوقا، وحينئذ عرف المستر كلدن من لوقا تفصيل ما جرى، فرام كلدن تسكين جأش زوجته وإقناعها بالانتظار إلى أن يصلحوا ملابس الشيخ ويحسنوا حالته، وينقلوه من تلك الغرفة، أما إميليا فلم تُصغِ لأحد، بل مرقت كالسهم قاصدة الغرفة.

فلم يكن لوقا ولا كلدن يعرفان — وا أسفاه — أنه مجنون.

•••

فلما وصلت إميليا إلى باب الغرفة دفعته وهي ترتجف، ودخلت فأبصرت على الأرض شخصين مقيدين راقدين، والحقيقة أنهما كانا في نوبة الصرع كما تقدم.

فصرخت إميليا صرخة الجنون واليأس حين وقع نظرها على أبيها بتلك الحالة، ورجعت القهقرى خوفًا، ولكنها كالبرق عادت إليه وأكبَّت عليه.

وكان الناس قد اجتمعوا في الخارج، فنادى كرنيجي اثنين منهم وحمَّلهما مخلوف فنقلاه إلى الكنيسة فبقيت إميليا مع أبيها.

فانحنت الابنة حينئذ تقبِّل قدميه ويديه. وكانت تبكي وتناديه بصوتها اللطيف: أبتاه، أبتاه، انتبه فقد جاءت إميليا … أبتاه، افتح عينيك وانظر إليَّ … لقد جئتك بحفيدتين معي، قم وانظر إليهما فإنهما تذكرانك إميليا صغيرة … أبي، هل غضبتَ عليَّ ولعنتني لما تركتك؟ … هل خطر في بالك أنني فررت من خدمتك؟ … قم وأخبرني أنك لم تسئ الظن فيَّ … إن ضربًا من الجنون استولى عليَّ ودفعني إلى السفر … فلعل الله هو الذي أراد ذلك لأعود إليك بالخير والغنيمة والظفر … أبي، ما لك لا تجيبني؟! … ما هذا الرباط الذي في يديك ورجليك؟! … ما هذا الجلد الخشن الذي يستر جسمك مع أنه كان يلبس الملابس الناعمة؟! …

ما هذا الشَّعر الهائل الذي يغطي جبينك الذي كان صافيًا هادئًا؟! وما هذه القوة التي في قدميك؟! … آه لقد تعذبتَ في شيخوختك كما تعذبت في صباي، ولكنا استرحنا الآن، فقم وعانقني، أبتاه، أبتاه، ما لك لا تجيب؟!

فيا لتأثير الحنان البنوي! يا لفعل القلب في القلب! يا للعدالة الأبدية التي لا تسمح بموت «الحق» في العالم!

فإن الشيخ الهائل لم يلبث أن تحرك لذلك الصوت الملائكي اللطيف، وانتفض وفتح عينيه، فجمدت إميليا في مكانها جمود الصنم، فأدار الشيخ نظره في المكان متحيرًا كأن على عينيه غشاوة، ثم صاح: ماذا تريدون؟ فغصت إميليا بدمعها وأجابت: أبي، هل انتبهت؟ فبهت الشيخ وقال متحيرًا: من أنتِ؟ فقالت: أنا إميليا، أنا إميليا.

فحينئذ جلس الشيخ متثاقلًا وصاح غاصًّا بدموعه: إميليا! متى جئت يا حبيبتي؟ فانطرحت الفتاة بين ذراعيه وصارا يبكيان بكاء اللقاء بعد طول الفراق.

ولم يُدوِّن علم الطب قط في تاريخه حادثة شفاء من الجنون كهذه الحادثة الغريبة، وكل من سمع بها رجَّح أن الشفاء كان من فراغ جنون الشيخ في تهيجه الأخير على لوقا، وإن كان لصوت ابنته دخلٌ في ذلك أيضًا.

وإذ سألت إميليا أباها عن حالته وسبب وجوده هناك، ولبسه تلك الملابس، وجدته أشدَّ منها عجبًا ودهشة من ذلك؛ لأنه بعد رجوع عقله إليه نسي كل ما كان.

•••

وبعد ساعة ونصف حضر «مُزيِّن» من بشري، فأصلح شعر الخواجه متَّى، وأُلبس ملابس نظيفة، ونُقل إلى صدر خيمة إميليا، وكان الناس في الخارج قد ضجروا وهم ينتظرون «يوم كلدن»، فلما بلغ ضجرهم إلى المستر كلدن قال لإميليا باسمًا: لا أنا ولا أنت، بل إن أباك هو الذي سيعمل يوم كلدن.

فجيء بكيس كبير من ريالات بقيمة ألف جنيه فحمل مفتوحًا على بغل، وسار وراءه الخواجه متَّى بملابسه النظيفة المرتَّبة وشعره المصقول، وصار يفرق في الجماهير الحاضرة ريالًا ريالًا لكل واحد من الأولاد وريالين ريالين لغيرهم. وكانت الجماهير تزحمه من كل جانب.

فلما أبصر سليم وكليم صاحبهما «ملك رأس القضيب» بتلك الحالة الجديدة اعتراهما العجب الشديد، فكانا يدنوان منه ويتأمَّلان فيه، أما هو فلم يعرفهما، ولم تفارقهما الدهشة حتى أطلعهما الترجمان على تفصيل الحادثة.

•••

وفي المساء عزم كلدن وزوجته على السفر من الأرز للرجوع إلى أميركا بعد وجودهما ضالتَهما المنشودة، فقوضا الخيام وعزما على الركوب، وكان لوقا طمعون قد انفرد عنهما بعد الحادثة ولم يلتقِ بمتَّى، فقبل السفر قصد إميليا وسألها ضاحكًا أتسمح له الآن بوكالة الأشغال التي طلبها؟ وكان كلدن حاضرًا، فأجابه: هذه المسألة صارت متوقفة على رضى الخواجه متَّى.

وإذ قُصت هذه القصة على الخواجه متَّى وطلب رأيه فيها ضحك أولًا، ثم أطرق مفكرًا، وبعد ذلك قال: رأيي أن الصفح أولى؛ فإن الوحش الذي في الإنسان لا تذلِّلُه المقاومة والعناد، بل الحلم والصفح؛ ولذلك يكون الأقل حيوانية والأكبر عقلًا أكثر صفحًا وحلمًا.

فلو سمع سليم وكليم هذا الجواب لقالا: إن فلسفة صاحبنا في «الوحشية» وهو مجنون مخالفة — من حسن الحظ — لفلسفته فيها وهو عاقل.

•••

وقبل السفر استدعى كلدن سكرتيره وقال له وهو يطوف معه بين أشجار الأرز: مستر كرنيجي، أما تعلمت شيئًا من هذه الحادثة؟ فأجاب كرنيجي: تعلمت وجوب الرحمة للضعفاء الذين يسقطون في جهاد الحياة، وإلا لم يكن هنالك فرق بين البشر وبين الحيوانات. فقال: صدقتَ يا صديقي؛ إذن خصص في كل عام مليون فرنك لمساعدة العيال التي تسقط، واكتب لمحلنا أن يقرض مليون دولار لمحل خصمنا «أرميس» الذي أفلس من مزاحمتنا، ومليونًا آخر لمحل «ودن» الذي خسر ثروته في احتكاراتنا، فإنني بعد الآن صرت أرى أن البشر لا يكونون بشرًا إذا كانوا يصرفون كل ما أعطاهم الله من النباهة والعقل والقوة في مجاهدة بعضهم بعضًا ليستأثر أقوياؤهم بالمنافع والخيرات دون الضعفاء، ويدوسوهم كما يدوسون الحيوانات الدنيئة.١

وكان سليم وكليم في أثناء ذلك يُعنيان بأمر أمين، وقد فحص حالته طبيب كان بين زائري الأرز، فأخبر أن أجله قريب، وأشار بعودته إلى أهله في الحدث، فصنعوا له محملًا وحملوه عليه، وأعادوه إلى أهله في الحدث، وشيَّعه سليم وكليم بالأسف والحزن الشديد لعدم مقدرتهما على مرافقته لنيتهما العودة إلى أشغالهما في طرابلس، لكنهما استأجرا رجلين لمرافقته مع المكاري.

وقبل سفر أمين التفت فأبصر خصمه لوقا بجانب متَّى وكلدن، والثلاثة يتحادثون ويضحكون، فبكى وقال: أين العدالة في العالم؟! فإنني أرى الباطل يعلو والحق يُعْلَى عليه. فتنهد سليم وأجابه: العدالة يا صاح موجودة، ولكن المهم الجد والانتظار والثبات، ألم تنظر كيف انتصرت إميليا ولوقا بهذه الصفات؟ فلا تجدِّف على النواميس الأبدية؛ فإنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، وكل ظلامة مهما كانت عظيمة تكشف عن صاحبها إذا تسلَّح بهذه الفضائل، فإن الله أعدل من أن يخذل الحق، وهو لنصرته لا يطلب من البشر غير الصبر والجد والانتظار.

فقال أمين متأوِّهًا: وما الحيلة بمن لا يستطيع الانتظار لأن أيامه معدودة؟ فأجابه سليم: هذا وهْم يا صاح، وعلى افتراض صحته، فإن المظلوم يكون أقرب إلى الله في الآخرة مما لو أنصفه الله هنا.

فهز أمين رأسه وقال: كلام حلو للتعزية. كلام حلو للتعزية.

وقد توفي أمين في الحدث بعد انقضاء أسبوع على وصوله إليها.

هوامش

(١) من هنا تعلم كرنيجي توزيع أمواله في المشروعات العمومية النافعة، بعد أن أُثْرِيَ ثراءً عظيمًا كسيده كلدن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤