الفصل السابع عشر

حب المجانين

لوقا يأكل الحصرم ومخلوف يضرس

وفي المساء ركب المستر كلدن ورفاقه يقصدون بيروت عن طريق بعلبك، فسار سليم وكليم إلى أكمة على جانب الطريق ليشاهدوهم منها.

وكانت هذه الأكمة قريبة من الكنيسة، فلما صاروا عليها سمعوا صراخًا عظيمًا فيها، ففطنوا حينئذٍ إلى مخلوف الذي سُجن فيها، فنهض سليم ليراه، ولكنه لم يخطُ خطوتين حتى كان مخلوف قد كَسر الباب وخرج منها وعينه تستطير شررًا، فلما رأى سليم صاح به: أين متَّى حاروم، ولوقا طمعون؟ فأجابه سليم: قد رحلا. فوثب حينئذ مخلوف راكضًا إلى الطريق ليتبعهما، وإذا به يرى الدواب والأحمال أمامه؛ لأنها لم تكن قد بعدت بعد، فأطلق ساقيه للريح وراءها، فسار سليم وكليم وراءه أيضًا، فوصل مخلوف إلى المسافرين وصار يقلب نظره فيهم، فلما وقع نظره على إميليا صاح صيحة دوت لها الجبال، وانطرح على الأرض صارخًا: لقد صدق سليم. عادت إميليا.

فضحك كلدن وقال: لم نخلص من الأسرار بعد. فأخبره حينئذ متَّى أنه شاب مجنون أنقذ في زمانه حياة إميليا، فمد كلدن يده إلى جيبه وأخرج منها ورقة بخمسمائة دولار وأومأ بها إلى مخلوف قائلًا: خذ هذا تذكارًا من إميليا، فصاح به: ومن أنت؟ فقال كلدن ضاحكًا: أنا زوجها.

فيا ليتك يا مستر كلدن لم تلفظ هذه الكلمة، فإن مخلوف ازدوج حينئذ جنونه؛ فصار يضرب الأرض بيديه ورجليه ورأسه ويصيح: زوجها؟! زوجها؟! وأنا إذن من أنا؟! مَن أَذِنَك أن تتزوجها؟ كيف تسلبني حقي ومالي؟ ها ها متَّى حاروم، ما شالله ما شالله، ثياب جديدة وشعر مصقول، وراكب على بغل، قه قه قه، بغل على بغل، لو لم تكن بغلًا لما زوجت ابنتك هذا النغل وتركت رجلًا مثلي، ولكن أظنكم تضحكون، إميليا إميليا، أنسيت يعقوب؟

فقال كلدن حينئذ لزوجته: مسز، سوقي جوادك إلى الأمام واتركينا. فوثب حينئذ مخلوف وثبة الذئب وصاح: بل أنت تتركها. ثم مد يده إلى جيبه، وأخرج منها سكينًا وهجم على كلدن، فلم يكن كلمح البصر حتى أطبق عليه سليم وكليم من وراء وقَبَضَا على يده، فأسرع البغالون وشدوا وثاقه بحبل غليظ، فانكسرت حدة مخلوف حينئذٍ فصار ينوح ويصيح متذللًا باكيًا: إميليا إميليا، بحياتك لا تتركيني، ماذا صنعت لك حتى تعذبيني؟ أما أنقذتك من الموت؟ هل أنقذتك لغيري؟ أمَا أحببتك عشر سنوات دون أن أنساك؟ إميليا إميليا، يقولون إنه زوجك، فلا بأس، هو زوجك فخذيني أنا خادمًا لك، إنني أتبعك ماشيًا لا راكبًا، لا أكلمك ولا أدنو منكِ، وإنما أحرسك وأخدمك وأقبِّل قدمك، إميليا إميليا، انظري أنا صديقك تعيس الآن ولوقا طمعون عدوك سعيد، يا لنكران الجميل! يا للظلم! هو يركب بجانبك مسرورًا وأنا يشدونني بالحبال ويعذبونني! إميليا إميليا، خذيني معك، لا تقتلي نفسًا بريئة فإن الله يحاسبك.

فأثَّرت هذه الكلمات في نفس إميليا حتى ذابت لها شفقة على ذلك التعيس، فخاطبت زوجها مستأذنة في أمر ثم وجَّهت جوادها نحو مخلوف، فدنت منه وهو مشدود الوثاق، فكأن روحه عادت إليه، فمدت يدها البيضاء اللطيفة ووضعتها على كتفه وقالت له بنغمتها الساحرة: عزيزي مستر يعقوب. فصاح مخلوف: بلا مستر بلا مستر، بحياتك قولي: عزيزي يعقوب كما كنت تقولين. فقالت: عزيزي يعقوب، لا أقدر أن آخذك الآن معي، ولكني أعدك أنني سأطلبك. فصاح مخلوف: متى يكون ذلك؟ فقالت: حين وصولي إلى بلادي. فبكى مخلوف وصاح: بلادك! ولكن بلادك هنا. فقالت: بل بلادي أميركا يا عزيزي مستر يعقوب، فَعِشْ هذه المدة مسرورًا راضيًا بغيابي؛ لأنني سأتذكرك دائمًا وأرسل إليك كل ما تحب إلى أن يتيسر لي استدعاؤك.

وهكذا هدأ ذلك المجنون العاشق التعيس بشيء من اللطف والوعود، ولكن هدوءه كان وقتيًّا؛ فإنه ما إن تحرك الركب وسار حتى اشتد به الجنون وشرست أخلاقه، فاضطروا إلى شد وثاقه وأرسلوه إلى دير قزحيا، ولا يزال في الدير إلى اليوم ينشد الأشعار ويترنم بذكر حبيبته إميليا.

فمسكين أنت يا مخلوف، تَخاصَم البحر والريح فكان الصلح عليك، ولكن أما سمعت ما قال سليم؟! إن العبرة بالانتظار والثبات، وأنت لم تقدر على الانتظار؛ لأن عقلك رحل عند أول صعوبة، على أنك لو انتظرت وكنت الآن عاقلًا، فربما كنت نلت الآن أسمى منزلة عند إميليا بعد منزلة زوجها.

•••

أما سليم وكليم فقد أقاما في الأرز يومًا، ثم تخلصا من مكاريهما بطرس الثقيل وعادا إلى طرابلس، وحين عودتهما من الأرز ممتلئين صحةً وقوةً كان سليم يقول لكليم كلما مرَّا بالأديرة: أما اقتنعت الآن بعد ما رأينا من تقلبات حوادث الحياة وقصصها المضحكة المبكية أنه خير للإنسان الذي يريد الراحة أن يعيش منفردًا عن العالم في دير أو في نفق؟

فتنهد كليم وقال: ليس الانفراد عن الناس هو الذي يريح الإنسان، فإن مخلوف منفرد الآن عنهم في دير ولكنه تعيس جدًّا، فراحة الإنسان وسعادته في داخله؛ أي في نفسه، فلا يبحث عنهما خارجًا عنها، والنفوس القوية العادلة المستقيمة تَقْدر أن تكون مستريحة سعيدة حتى في وسط تقلبات الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤