أوغاي موري١

ماذا يُمثِّلُ أوغاي موري؟

يشغل هذا التساؤل تفكيري من حينٍ لآخَر في الفترة الحالية. وليس السبب أنني أنظر بخفة إلى أدب أوغاي. بل على العكس، كان تبجيلي العميق لأدب أوغاي هو سبب التساؤل. من الأصل لم يُفكِّر أحدٌ في اليابان قبل الحرب العالَمية الثانية في طرح سؤال: «ماذا يُمثِّل أوغاي موري؟» فقد كان أوغاي هو أوغاي. كان هدفًا للاحترام لدرجة التقديس بلا قَيْد ولا شَرط، وبصفة خاصة كان صنمًا معبودًا للطبقة المثقفة. وأغلب الناس الذين يستهزئون بكل ما يتعلَّق بالأدب، أولئك الذين يعملون في مِهَن حقيقية في المجتمع ويحتلُّون مناصب رفيعة، ويعتقدون أن الروايات ما هي إلا لعبة لإلهاء الفتيات والسيدات، يتعاملون باحترام عظيم مع أوغاي فقط على أنه حالة خاصة. أي إن أوغاي كان معبود الثقافة بالنسبة لطبقة المجتمع العليا المثقفة منذ عصر ميجي، وفي نفس الوقت كان مُنشِئ علم الجمال الذي يُنظر إليه على أنه الأكثر مثالية، وإذا وصفناه بوصفٍ مشاغب قليلًا، فقد كان المثال الحي «للفن والأدب في الطبقات العليا». ولقد نشأتُ أنا أيضًا وسط تلك البيئة التي تعبد أوغاي.

وكان ترقِّي أوغاي حتى وصل لمنصب المراقب الطبي الأعلى للجيش، وامتلاكه خبرة عملية وتاريخًا أكاديميًّا يُعَد قمة ما يمكن الوصول إليه في عصر ميجي، من شأنه أن يزيد الشيء الكثير في سُمعته وتقييمه.

الصورة المتبقية حتى اليوم في عقول الناس من الأعمار المتوسطة إلى الكبيرة هي: «إن أوغاي فقط يختلف عن أدباء الدرجة الثالثة.» وأعتذر عن أنني أذكر أمرًا شخصيًّا خاصًّا في هذا المقام، ولكن عندما رفع السيد هاتشيرو أريتا قضية ضدي في المحاكم منذ فترة ليست بعيدة بعد نشر رواية «بعد الوليمة»، قال السيد أريتا علانيةً في المحكمة:

«حتى لو أصبحتْ حياتي نموذجًا لعمل أدبي، ربما قبلتُ لو كان الكاتب أوغاي موري أو سوسيكي ناتسوميه، ولكن أن يفعل ذلك أديب من الدرجة الثالثة …»

لم يَكُن أوغاي من أدباء الدرجة الثالثة مُطْلَقًا! فقد كان يحلق شعر رأسه مثل الجنود لأدنى حد، ولم يكن له أي علاقة بالأدباء الرومانسيين، أصحاب الشعور الطويلة، كان مختلفًا تمامًا عن الأدباء الذين يجلسون على المقاهي بلا عمل يتبخترون برابطة عُنق بوهيمية، أو المتشردين الذين تراهم ليلًا ونهارًا في الحانات بزيهم المهلهل، ويبيعون زوجاتهم فَرِحين، أو يرهنون فِراشهم ومتاعهم في محل الرهونات. وقبل كل شيء كان أوغاي «من النخبة المثقفة». بل إنه لم يَكُن من عَيِّنة المثقف الضعيف الشاحب الوجه المرتاد المكتبات، بل كان قويَّ البنية، فارسًا يمتطي صهوة جواده من حين للآخَر، وكان كذلك مثالًا حقيقيًّا وأصيلًا للأناقة التي تعلَّمَها أثناء حياته في بعثته الأوروبية رغم اجتهاده في نفس الوقت في عمله بالجيش.

تلك كانت صورة أوغاي التي تراها العيون الأكثر اعتدالًا في اليابان. إن مثقفي وفناني اليابان الذين يميلون تجاه إعطاء ظهرهم للمجتمع والحياة الواقعية والعالم المُعاش في هذه الدنيا، الأشخاص الذين يُحِسُّون بالحزن والوحدة، لا ينفكون يرون في أوغاي مثالية مفقودة، وتمثال إلههم الميت. ثم بعد ذلك، الجيل التالي من المثقفين الضعاف الذين ييئسون في منتصف الطريق من توحيد ودمج الثقافة الغربية مع الثقافة اليابانية، عندما رأوا أوغاي قد حقَّق ذلك بنفسه بمنتهى السهولة، اتخذوه إلهًا مع إحساسهم بالحسرة لفشلهم.

كان لأوغاي بالتأكيد صورة أوغاي الإنسان، بجانب صورة أوغاي السوبرمان. يُقال إن الباحثين اكتشفوا أمورًا عديدة تتعلَّق بصراع أوغاي في الحياة المعيشية اليومية، وعلاقته مع أصحاب السُّلطة والقرار في عصره، ومعاناته العائلية … إلخ. ولكن رغم ذلك ظَلَّ أوغاي يتحمَّل تلك الوحدة ويصبر على البلاء في إذعان كامل للقَدَر. على العكس زاد الإذعان (resignation) المحيط بحياة أوغاي من تأثير صورة «أوغاي السوبرمان».

إذا تكلمتُ عنِّي شخصيًّا، فبداية إحساسي بالألفة مع أوغاي كانت على العكس بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. حتى ذلك الحين درستُ في المدرسة رواية «المأمور سانشو»، ولكني لم أشعر وقتها بأية متعة من قراءة الرواية. فقد كانت بسيطة وخفيفة وبلا حبكة بشكل زائد عن الحد. وعلاوةً على ذلك كانت صورة «أوغاي العظيم» التي طُرقت بها أدمغتنا منذ عهد الطفولة من القوة بحيث دفعَتْني إلى الابتعاد عن أدب أوغاي تعظيمًا وتوقيرًا له.

ولكنني بدأتُ أفهم وأستمتع بأدب أوغاي بعد دخولي الجامعة، وأدركتُ فجأةً جمالَ أدبه. إن تقبل جيل الشباب بعد مرور عشرين عامًا على انتهاء الحرب لأدب أوغاي له أبعاد متنوِّعة.

أعتقد أن صورة أوغاي التي كانت تجسيدًا حيًّا لمثالية حكومة ميجي، صورة أوغاي التي وَضعَتْ قَدمًا على طريق التنوير وقَدمًا على طريق الحفاظ على التراث، وكذلك صورة المثقف الذكوري المثالي في نظام الأسرة الأبوي، قد اختفت من الوعي الباطن لجيل الشباب الحالي، وحتى لو لم تختفِ تمامًا فيمكن بسهولة ملاحظة أنها فقدت بريقها وجاذبيتها. يختلف كل ما امتلكه أوغاي اختلافًا تامًّا مع ديمقراطية أمريكا بعد الحرب، وتَقَدُّمية الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية. ومع إلغاء نظام المدارس الثانوية القديم في اليابان، اختفت إلى الأبد التربية والتنشئة المتأثرة بالثقافة الألمانية، التي كانت القاعدة الأساسية لظاهرة عبادة أوغاي.

ماذا يُمثِّل أوغاي موري؟

كان تأثير انتقال اليابان من النمط الأوروبي إلى النمط الأمريكي بعد احتلال أمريكا لليابان في نهاية الحرب العالمية، سببًا واضحًا في أن يشغل ذلك السؤال حيِّزًا هامًّا من تفكيري. فمن المؤكد أن أوغاي لم يَعُد على الأقل ذلك الإله البديهي الذي لا يحتاج إلى تفسير، ولكن في المقابل ظَلَّ سوسيكي (وهو الأكثر شعوبية) محتفظًا بإعجاب الأجيال الشابة.

وأطلب من القارئ أن يتفهَّم أنني لستُ الوحيد صاحب طريقة التفكير التي تقول «الأكثر شعوبية». ولكن كان «فهم أوغاي» بالنسبة لجيلي بأكمله هو المعيار الذي تُقاس به الذائقة الأدبية، بالطبع كان سوسيكي أديبًا عظيمًا، ولكنه كان يُنظَر إليه على أنه أكثر شعوبية، وأسهل في فهمه بدرجة كبيرة عن أوغاي. كان اندفاع الشباب إلى سوسيكي وتركهم أوغاي أمرًا طبيعيًّا بعد أن زالت الفكرة العتيقة التي ترى أن «الأدب البسيط السهل الفهم أدب شعوبي» وهي فكرة سيطرت على عقول المثقفين اليابانيين لعهود طويلة.

ولكن هل أوغاي فعلًا «صعب الفهم»؟ كانت لأسطورية وتأليه أوغاي — كما شرحتُ — قوة تأثير كبيرة تجعل الإجابة بسهولة على ذلك السؤال أمرًا مستحيلًا. إن أوغاي هو القمة العليا لأسلوب السهل المُمتنِع في الأدب الياباني منذ عصر ميجي وحتى الآن.

لنُعِدِ السؤال مرَّةً أخرى.

ماذا يُمثِّل أوغاي موري؟

يمثل توجيه هذا السؤال الآن، بعد أنْ ذبلت وماتت العديد من أساطير أوغاي، الأمر الأكثر خطورة واستعجالًا بالنسبة لي. بالطبع من الأهمية بمكان وضع تقييم شامل لصفات أوغاي على أنه «كلٌّ واحدٌ». ولكن الآن بعد أن ماتت كل الأساطير، وضعفت هيبته بصفته إله المعرفة، أعتقد أن جمال أدب أوغاي ذاته يتألَّق بوضوح ونقاء (حتى وإنْ لم يَكُن من المؤكد أن يتقبَّلَه أغلبية الناس).

لا يشبه جمال أدب أوغاي مُطلَقًا ما اصطُلح على تسميته «جمال» في العصر الذي نعيش فيه. يقول الشاعر والناقد كونوسكيه هيناتسو في معرض تقييمه لرواية أوغاي «هاناكو»:

«تلك التلقائية والبساطة، يَتميَّزُ بها سلوك شخص تفهَّمَ بسهولة قوة وجمال مخطوطات الصينيين القدماء.»

إن تلك الكلمات تشرح الأمر كله. لا تظهر «قوة وجمال مخطوطات الصينيين القدماء» في شكلها الحي عند أوغاي على هيئة حروف صينية مَهيبة، بل باتت لغة يابانية واضحة ومُوجَزة بعد تصفيتها من خلال تربية وثقافة أوغاي الأوروبية. إننا مع لغة أوغاي نتذوَّق الثقافة الصينية الطازجة التي جلَبَتْها الطبقة العليا في عصر نارا، وليس علم اللغة الصينية المُظلِم الذي صار مُركزًا في عصر توكوغاوا الإقطاعي، إن أدب أوغاي يجعل القارئ يَسْكر من تلك اللغة اليابانية التي مزجت ثقافة الطبقة العليا في الشرق والغرب على تباعدهما الزماني وفجوتهما المكانية بروعة وكمال لا شك فيه.

لقد استخدمتُ الآن كلمة «يَسْكر» بلا وعي، ولكن ما من لغة أبعد من لغة أوغاي عن السُّكْر بمعناه الديونسيسي. ولهذا السبب ذاته نحن لا نَسْكر معه سُكْرًا عاديًّا. ولكنه يشبه السُّكر الذي يُصيبنا بعد أن نصعد طريقًا جبليًّا طويلًا، وقد نزَّ منا عَرَق كثير ثم نشرب كوبًا من ماء بئر بارد بعد وصولنا، نحن نَسْكَر من تلك السلاسة والنقاء. وعند إعادة التفكير أجد أن سبب عدم محبتي أوغاي إلا بعد دخولي الجامعة هو أن التعرف على ذلك «السُّكر الرائق النقي»، مستحيل لطلبة المرحلة الإعدادية والثانوية.

يحتوي أدب أوغاي على عبير جيد وموسيقى. والأسرع أن أتحدَّث عن أمثلة مُحدَّدة.

على سبيل المثال تبدأ قصة «هاناكو» السالفة الذكر بما يلي:

«خرج أوغست رودان إلى محترفه.

غرفة واسعة تنيرها أشعة الصباح. هذا الذي يُطلق عليه الآن فندق بيرون، كان في الأصل مَبنًى بناه أحد الأغنياء برفاهية، ثم أصبح حتى وقت قريب جدًّا ديرًا لراهبات طائفة القلب المُقدَّس. وخلال ذلك الوقت كانت فتيات فوبورغ سان جيرمان، وراهبات دير القلب المُقدَّس، يتجمَّعْنَ هناك ليُغَنِّين أغاني التمجيد.

ومن المؤكد أن الفتيات كُنَّ يُغنِّين فاتحاتٍ شفاههن الوردية بعد أن وقَفْنَ في صف واحد يشبه صف صغار الطير داخل العش في انتظار عودة الأم.

لا يُسمَع هذا الصوت الصاخب الآن.

يسيطر على المكان صخب مختلف عنه. يسيطر عليه هذه الأيام حياة يومية مختلفة. إنها حياة بلا صوت. حياة مختلفة بلا صوت ولكنها عنيفة ومهتزة ولَزِجة»

وهكذا يُقاد القارئ إلى «محترف» رودان الصارم، وفي هذا التمهيد، عمَّق التأكيدُ على أغاني التمجيد التي كانت تُغنَّى بواسطة «الشفاه وردية اللون» للفتيات الصغيرات ولا تُسمَع حاليًّا، من وحشة وهدوء المكان. وكان تأثير شفاه الفتيات الوردية خلال الأسلوب الصارم والجاد، نفس تأثير زهور حمراء يُختلَس النظر إليها من نوافذ المَبنى الحجري الرمادي. ثم تكون هذه الحسية الطازجة الطاهرة وفي نفس الوقت الخجولة، عاملًا عاطفيًّا مساعدًا لهيئة «هاناكو» التي ستظهر فيما بعد.

أمرٌ قد لاحَظَه السيد هيناتسو أيضًا، أن أوغاي عندما يصف الأعمال التي لم تكتمل المتراصة داخل المحترف بالوصف التالي:

«وكأنها أنواع نباتات مختلفة تتفتَّح زهورها تحت أشعة الشمس»

بتنا جميعًا أسرى بالفعل لعبير وشعر وموسيقى أوغاي. ولم يكُن هذا العبير طيب الرائحة عبير الزهور الطيب، ولكنه كما ترمز قصة هاناكو بدقة متناهية، عبير طيب لزهور صناعية نُقِشَت من الرخام، فهي زهور نُقِشَت من رخام صلد، (بمعنى أنها زهور نُزِعَت من الواقع ورُشِّحَت من خلال الرخام) هي «عبير الوضوح الطيب» الذي بلا شبهة إبهام أو غموض، هي الأشعار السَّلِسة الواضحة. عندما وُصفت المنحوتات غير المكتملة بدون قصد بعبارة: «وكأنها أنواع نباتات مختلفة تتفتَّح زُهُورُها تحت أشعة الشمس» تحول الإبداع الفني إلى تكوين طبيعي بناءً على كلمة «نباتات»، ورُشِّحَت معاناة الإبداع وتحوَّلَت إلى طاقة طبيعية ممتدة. بل ومن خلال استخدامه للرمز الصيني القديم المُعقَّد الذي يعني زهرة وليس الرمز المُبسَّط، يوحي بزهرة مُتأنِّقة أكثر صلادة وتعقيدًا.

ويُفترَض كذلك أننا يمكننا بسهولة أن نلاحظ موسيقى أسلوب أوغاي من خلال الاقتباس القصير أعلاه.

المؤلف لا يُغنِّي مطلقًا. ولكنَّ صوتًا بلا صوت، وغناءً بلا صوت، يمتلك نغمًا هادئًا وجميلًا، يتردَّد صداه وكأنه غناء الفتيات لأغاني التمجيد الذي لا يُسمع الآن. إذا سُحِرتَ بنغم أسلوب أوغاي الأدبي هذا، فسترى أنغام أي أديب آخَر عبارة عن أغاني أوساكا الشعبية الرتيبة أو أغاني اليابان الكلاسيكية. وأنغام أوغاي ليست من أجل الموسيقى فقط. ولكنها جزء لا يتجزَّأ من تطوُّر الحكي الذي لا يستعجل القارئ مُطلَقًا ولا يجعله مُتلهِّفًا بتشويق في غير محله ومع ذلك يفتح له أفاقًا جديدة مع كل كلمة بأسلوب مُتميِّز وهادئ بل وكذلك في منتهى الدقة. أولًا تنويه عن محترف رودان، ثم يحكي عن أشعة شمس الصباح التي تتسلَّل إليه، ثم يتحدث عن ماضي ذلك المبنى، ثم يُلقي بجملة:

لا يُسمع هذا الصوت الصاخب الآن.

في سطر جديد، وبعدها يتحوَّل الحديث ويبدأ في شرح عمل رودان. لا يَتعجَّل الكاتب مُطلَقًا. ويقتصد في الكلمات لحدها الأدنى، فما من كلمة واحدة بلا جدوى، وتبدو كل كلمة كأنها تصدر عنها تَموُّجات قوية تشبه تموجات بحيرة بيوا.

ماذا يُمثِّل أوغاي؟

هنا أعتقد أنني يجب عليَّ وضع تعريف لِمَا يُمثِّلُه أوغاي من وجود في العصر الحالي.

إن أوغاي بعد أن فقد الآن كل أنواع الأساطير التي كانت تحيط به، وفقد العبادة العمياء من طبقة البرجوازية الصغيرة، هو الشخص الذي يجب أن يعود للحياة بحقٍّ، بصفته فنان الكلمة. يجب مدح عبقريته التي خلقت اللغة اليابانية المُتأنِّقة في العصر الحالي من العدم، والتي وَصَلَت للكمال خلال فترة خلق تَوافُق بين الكلمات والجمل. إذا كان الأدب في أي عصر يجب تقييمه من خلال رقيه أو عظمته، فعلى الأرجح أوغاي هو أعظم أديب في العصر الحديث من حيث الرقي والسمو. أي نعم ليس بأعماله عمل ضخم من حيث الكم، ولكن مُجمَل إنجازاته تُمثِّل خلاصةً معمارية واحدة وكأنها بناءٌ بُنِي فقط من أجود أنواع شجر السرو الياباني. في ظِلِّ ما يحيط بنا حاليًّا من طوفان الأساليب الأدبية، منها المُعقَّد، ومنها الفوضوي، ومنها معدوم الحس، ومنها المُفرط في الحشو، ومنها المتهاون، ومنها المتراخي، ومنها البذيء، ومنها معدوم الشفافية، لا شك أن جيل الشباب سيأتي عليهم وقتٌ يكرهون حتى رؤية الأدب بعد أن ينفد حبهم. لأن ذوق الإنسان، أيًّا كان، يَتطوَّر بالضرورة متجهًا ناحية الصقل والتهذيب. ولا شك أنهم سوف يكتشفون وقتها جمال أوغاي ويدركون أنه هو «الأناقة» الحَقَّة.

•••

كتب أوغاي أول قصتين من قصصه الثلاث التي وصفها هاروو ساتو بوصف «قصص رومانسية البدايات أو ثلاثية ألمانيا» وهي أميرة الرقص ويوميات الفقاقيع وساعي البريد، في عام ١٨٩٠م وهو في عمر الثامنة والعشرين، وكتب الأخيرة وهو في التاسعة والعشرين، فهي أعمال تفوح منها رائحة الشباب المتأخر وكُتِبَت بأسلوب راقٍ. وأنا شخصيًّا أحب قصة ساعي البريد بصفة خاصة أكثر بكثير من أول قصتين اللتين لهما سمعة شهيرة في المجتمع.

تحكي ساعي البريد قصة ضابط ياباني شاب ذهب إلى ألمانيا للدراسة. ثم دُعي إلى حفل في قلعة الكونت بولوف في طريق عودته من التدريب، ليلتقي بالأميرة أيدا الجميلة، وفي اليوم الأول لتعرُّفه عليها تعطيه الأميرة رسالة، وفي حفل العام الجديد في القصر الملكي يستطيع الضابط الشاب تسليم تلك الرسالة بنجاح إلى الكونتسة عمة الأميرة. عثر الضابط الذي ذهب للقصر الملكي مرة أخرى، عثر على الأميرة أيدا في ملابس عسكرية على غير المُتوقَّع، فتبوح له لأول مرة بسر الرسالة وتنتهي القصة بالسطر التالي:

«فقط يتبقى في الذاكرة اليوم اللون السماوي لملابس الاحتفال التي تظهر من بين أكتاف الحاضرين.»

نُقشت تلك الخاتمة الممتلئة بالإيحاء في قلبي بقوة.

وكانت تلك ما يشبه الشهادة الأخيرة على أن اليابان في النصف الثاني من عصر ميجي، قد لحقت أخيرًا بميدان الرومانسية الغربية وشاركت فيه. ولم يُتح الحظ الحسن لأدباء اليابان بعد أوغاي (لا أنكر أن هويته العسكرية ساعدته) أن يوجدوا بأنفسهم مرة أخرى في خضم ذلك العالم الغربي الذي يشبه الروايات بهذا الشكل. كانت صورة أوروبا التي ترفض مشاركتهم إلى الأبد حاجزًا أمام مثقفي اليابان الذين رأوها من خلال وعيهم الذاتي، مثلما ترمز لذلك قصة ريئتشي يوكوميتسو «حنين السفر». تسرد قصة «ساعي البريد» بسلاسة وتلقائية، وتبرز أثناء السرد الفاخر صورة امرأة لا تجد أمامها طريقًا إلا دفن نفسها بنفسها في قبر التقاليد العميق بدلًا من أن تكره تلك التقاليد وتبحث عن الحرية. والأهم من صفات تلك المرأة الشخصية، هو تلك اللغة الراقية الشاعرية العقلانية الصافية التي لم يكتبها ياباني مرة أخرى في العصر الحديث. كانت شخصية هذا الضابط الياباني الشاب الذي يتميز بالهدوء والرقي المحايدين ويميل إلى رومانسية غنية خلال تحرُّكاته داخل القصة، هي الإلهام الأول لشخصيات أبطال أوغاي الرجال في أعماله المتنوعة. نسخ الأدب الياباني منذ عصر الأسرات بيئة القصور الملكية الفاخرة للدول الأجنبية وجعلت منها نسخة يابانية مكتملة، كما نرى مثلًا في «حكايات هاماماتسو تشوناغون» وبلغت مهارة شديدة في وصفها دون مشاعر تهيُّب، ولكن أوغاي أثبت إثباتًا قاطعًا بإمكانية تطبيق ذلك حتى تجاه أوروبا.

في عام ١٩٠٩م كتب أوغاي الذي بلغ السابعة والأربعين من عمره، لأول مرة رواية باللغة المحكية. وهي قصة «نصف يوم». وقد ظلت زوجته السيدة موري ترفض إعادة نشرها لوقت طويل، فلم يَستطِع عامة القُرَّاء رؤيتها حتى عام ١٩٥١م.

ومن المفهوم أن هذا المحتوى لا يمكن كتابته بلغة فخمة، فالمحتوى هو الذي حدَّد اللغة وجعل أوغاي يستخدم اللغة المحكية لأول مرة. كُتبت القصة بأسلوب أدبي موضوعي منفصل عن المؤلف، ولكنها تصف جحيم أسري مرعب لدرجة أن رجلًا يشغل مكانة اجتماعية لا تتزعزع وحقق شهرة عريضة لم يستطع أن يقضي عليه بأي طريقة مهما استخدم من قوته وإمكانياته تلك. ولم يكتب أوغاي في كل أعماله امرأة أخرى بكل هذا العنفوان الذي تحمله «الزوجة» ولا حتى مرة واحدة. إن عنفوان تلك الزوجة وتعنُّتها لا يمكن رؤيته حتى في مجتمع تحرير المرأة بعد الحرب العالمية الثانية. بل لدرجة أننا ننتبه إلى أننا يمكننا إعادة النظر إلى عصر ميجي من زاوية أخرى للرؤية عندما نفكر أن امرأة مثل هذه المرأة عاشت فيه. ولكن من ناحية قسوة القلب تتطابق تلك المرأة مع قسوة قلب أوغاي في أحد جوانبها. يصف أوغاي نفسه دائمًا أنه شخصية هادئة وراقية تكره الصراعات، ولكن الذي دعم أدبه ودعم ثقافته هو ذلك القلب القاسي والشفاف في نفس الوقت. وعندما يعيش ذلك الرجل مع امرأة ذات قلب قاسٍ ولكنه غير شفاف في بيت واحد، يشبه الأمر صدام قطعتَي دومينو من العاج. ويظهر الشكل العجيب لليابان في العصر الحديث في مثل هذه الحياة المعيشية الباردة التي يصعب وصفها بالحياة الأسرية. في عالم السيرة التاريخية الذي كتبه أوغاي فيما بعد، يُدار «البيت» بطريقة صحية أكثر تحت منطق الإقطاع الصارم. ثم يستمر حتى اليوم وضع البيت الياباني الذي لا يملك استقرار «الهوم» الإنجليزي، ولا بأس من القول إن أوغاي استمرَّ يشعر بفشل اليابان في العصر الحديث إذا نظر إلى أسرته شخصيًّا. إن عالم قصة «نصف يوم» مؤلمة ومأسوية بالنسبة لي أكثر من أي قصة فقيرة للأدباء الطبيعيين.

في ذلك العام الذي كتب فيه قصة «نصف يوم» كان أوغاي غزير الإنتاج، فكتب أيضًا أعمالًا مثل «طرد العفاريت» و«تخدير» و«حياتي الجنسية» و«دجاج» و«قطعة ذهبية». وهو ما يُطلق عليه عصر مجلة «سوبارو»، وتتضمَّن القصص المختلفة التي تمتلئ بالرغبة في معارضة المذهب الطبيعي كذلك، سخريةً واستهزاءً به، على سبيل المثال رواية «حياتي الجنسية» عبارة عن سيرة ذاتية جنسية خفيفة المحتوى لياباني تُحكى بسلاسة وتلقائية، فباتت رواية كاريكاتورية ساخرة من المذهب الطبيعي الذي شوَّه الواقع الياباني لأنه قلد الشهوانية الجسدية العارمة للفرنسيين. ولكن اليوم عندما يقرأ اليابانيون، الذين انتشر بينهم أكلُ اللحوم وزاد نموهم الجسماني، رواية «حياتي الجنسية»، من المؤكد أنهم يشعرون بعدم الرضا نوعًا ما. لم يُكتب فيها كذب، ولكنها رواية بسيطة بدون تعقيد ولم تتطرَّق بتاتًا إلى القوة الشيطانية المُرعبة التي تكمن في الشهوة الجنسية. ورغم ذلك كتبها أوغاي مغامرًا بمكانته ومنصبه، فمُنِعَت الرواية من الصدور، ووُجِّه للمؤلف ذاته لَفْت نظر من قادته، ولكن أوغاي مع تمسُّكه بصلابة موقفه، تعتريه أحيانًا رغبة عارمة في إحداث صِدَام من خلال الأدب، بين الحرية الروحية التي حصل عليها مرَّة في أوروبا وبين الأخلاق الضيِّقة المُزيَّفة لليابان التي ينتمي إليها.

من بين هذه القصص القصيرة أنا شخصيًّا أحب قصة «طرد العفاريت» ذات المذاق الشعري أكثر من قصة «تخدير» (وهي نسخة يابانية مُبسَّطة من أدب نهاية العالم «الديستوبيا» في ألمانيا) التي يُقال إن المؤلف نفسه كان يحبها بصفة خاصة. كانت تلك القصة لها نفس تركيبة قصة «الحكايات المائة» التي كتبها فيما بعد، ولكنها ليس بها لا عُمق ولا غرائبية الحكايات المائة، ولكنها تُوضِّح خصائص أوغاي الأدبية بالغة الأناقة والحيوية.

أما عن القصة فمحتواها وجود حفل في مطعم «شين كي راكو» الشهير وفي نهاية الحفل تدخل القاعة فجأة العجوز مالكة المطعم، مُرتديةً معطف نصفي أحمر اللون، وهي تحتفل بطقس نثر حبوب الفاصوليا الحمراء. فقط هي هذه القصة، ولكنها قصة قصيرة ذات تركيبة أنانية جدًّا للأديب الذي كتب انطباعات أدبية طويلة في مقدمتها.

تكوين تلك القصة القصيرة إيروتيكي على نحوٍ ما. لقد تعمَّدَ المؤلف أن يعتذر عن سبب ذهابه إلى «شين كي راكو» بالقول: «ليس لأنني فكَّرتُ أن هناك نساءً جميلات»، ولكن عندما تظهر في النهاية عجوز كثيرة التجاعيد ترتدي معطفًا فاقع الاحمرار، يتحوَّلُ اللون الاحتفالي الأحمر المبهرج داخل القصة التي لا تحتوي على أي ألوان أخرى إلى لون وردي باهر، ومن خلال تلك النهاية الساخرة، تنتهي القصة بدون أن تمتلئ في النهاية بالإيروتيكية المخفية. أمَّا في قصة «الحكايات المائة» فقد أُخفِي مفتاح العمل بحرص أكبر من قصة «طرد العفاريت». تنتهي القصة بالإخبار فقط عن ليلة من الحكايات المائة لا يحدث فيها أي شيء. هي نفس مراوغة قصة طرد العفاريت البارعة في التأثير، ولكن لا مثيل في أي مكان آخَر ذلك الشعور الكئيب المتبقي بعد القراءة أن بطل القصة (الذي يوصف بأنه كيبون العصر وأنه ليس لديه أي اهتمام بالحياة) في الواقع عبارة عن شبح حي.

كانت رواية «شاب» هي أول رواية بدأ أوغاي نشرها مُسلسلةً في مجلة «سوبارو» عام ١٩١٠م، ولكن الرواية ليس فقط لم تلقَ تقييمًا عاليًا من الأوساط الأدبية في وقتها، بل حتى الآن لا تُوصَف بأنها عمل شهير له، مقارنةً برواية «الإوزة البرية».

ولكن التعليم العاطفي الصافي للبطل جونئتشي كويزومي ذي العشرين ربيعًا في نهاية عصر ميجي، يمتلئ بجاذبية طاهرة لا تذبل مهما مرَّ الوقت. كُتبت الرواية لتثير الاهتمام بنماذج أبطالها فيسهل جدًّا تخمين أن أوسون هو أوغاي وأن فوسيكي هو سوسيكي وأن أُويشي هو هاكوتشو وأن أُومورا هو موكوتارو كينوشيتا وأن إيكو هي أوتاكو شيمودا. ويتعامل أوغاي مع نماذج أبطاله بجعلهم يذوبون تمامًا داخل أسلوبه الأدبي، ويصبح كل الأبطال مثل الأسماك التي تعوم داخل حوض زجاجي، ولذلك لا احتمال أن يتولَّد هنا مشاعر عاطفية صارخة.

جونئتشي كويزومي الشاب الغض الغر حسن النية الذي نشأ في الأرياف ومثلما يوضح اسمه،٢ ذو قلب بريء ويعيش ممثلًا للاهتمام المعرفي في عصره، ولكنها ليست فترة شباب عاصف ومندفع (Sturm und Drang) بل بالأحرى فترة شباب تكوين ثقافي هادئ، متلقي وليس فاعل. يحتوي داخله على ما يشبه الإيروتيكية، إلا أنه لا يغرق فيها بعمق.

ولكن ثمة اختلاف بين خفة رواية «حياتي الجنسية» وبين خفة رواية «شاب». فتلك خفة تشتبك وتتعقَّد مع إرادة وضبط النفس لأوغاي الإنسان. أما «شاب» فهي تُعبِّر عن نموذج تقليدي لنظافة وحياء الشباب لا يختلف في أي عصر كان (حتى عصرنا الحالي). ثم أفلتت الرواية تمامًا من تعبيرات المراهقة الممتلئة بالمشاكسة والتصنُّع التي تتصف بها روايات الشباب في كل عصر.

ويعود هذا إلى تأثير إضافة صبغة المثالية المُتمثِّلة في كتابة روائي متوسط العمر لبطل في العشرين من عمره، وفي نفس الوقت يعود إلى المراقبة العميقة للنفس الإنسانية للمؤلف. إن إحساس السخط الذي نشعر به الآن ونحن نقرأ، على العكس يعود إلى ملاحظات عِدَّة تُظهِر حقيقة تلك الرواية الأبدية، أن تلك هي طبيعة الشباب في أي عصر، وأن الشباب ليس قبيحًا كما يظن كلُّ شاب في نفسه، وأن المراهقة ليست عنيفة كما يُعتقَد فكريًّا. وتختلف تلك الرواية في الجانب العنيف للغريزة الجنسية المنحرفة الذي يظهر في رواية «حياتي الجنسية»، حيث يمكننا القول إنه عندما نتطرق إلى التطور النفسي والمعرفي لشاب فمن المؤكد أن الشباب في كل عصر يأخذ موقف التلقِّي هذا في أنقى صوره. من المؤكد أن أوغاي في منتصف عمره بدأ يُدرِك تركيبة النفس البشرية العجيبة التي عبَّر عنها توماس مان بمهارة شديدة حينما قال: «الشيخوخة صفة للذكور، أما الشباب فصفة للإناث.» أعتقد أن قراءة هذه الرواية ضرورية جدًّا لشباب اليوم من رواية «بوتشان».

لقد كتب أوغاي في عام ١٩١٠م كلًّا من قصة «الوسط الأدبي المتجول» (Le Parnasse ambulant) التي تُعَد رسمًا كاريكاتوريًّا للوسط الأدبي، وقصة «في طور الإصلاح» التي تُعَد نقدًا أبديًّا وحضاريًّا لليابان الجديدة في العصر الحديث، ثم بعد ذلك «هاناكو» و«اللعبة». وفي العام التالي (١٩١١م) بعد أن كتب «أوهام»، و«انتحار ثنائي»، نشر أخيرًا تحفته الشهيرة «الإوزة البرية» بعد بلوغه التاسعة والأربعين. وفي كل مرة أعيد قراءة تلك الرواية دائمًا ما أفكر في نفس الأمر، تُرى هل استطاع أي كاتب من الكُتَّاب والروائيين الذين جاءوا بعد أوغاي امتلاك مثل هذه اللغة التي كان أوغاي يملكها؟ والتي يجمع فيها قِطَع الواقع التافه في اليابان مع نظرة الطائر الشمولية إلى أفكار العالم الضخمة، ومن الأدوات اليابانية الدقيقة إلى المناظر العملاقة، بحرية وبلا تَفرِقة أو تمييز، بل ودون أن ينتقص ذلك من وحدة اللغة؟

ربما لم يكُن المثال المناسب، ولكن لغة الروائي تاتسو هوري إن استطاعت أن ترسم مدينة كارويزاوا الراقية، فهي لا تصلح للتعبير عن المناطق المزدحمة والضوضاء التي في طوكيو. ولغة جونئتشيرو تانيزاكي استطاعت التعبير عن كل شيء بدرجة عظيمة، إلا أنها لا تناسب الأفكار المجردة. ولم يظهر كاتب ياباني امتلك أسلوبًا أدبيًّا يحتوي بفنية عالية فوضى التحديث في اليابان مثل أسلوب أوغاي. بالطبع ظهر أدباء كثيرون بارعون في فن الحبكة الروائية، وظهر أدباء ذوو درجة عالية من التكثيف والتركيز الشعري، وظهر أدباء يُدخلون في أسلوبهم العادات والتقاليد السطحية بلا حدود ولا نهاية، ولكن كان كلُّ ذلك بفضل عبقرية لغة أوغاي التوفيقية. فقد ظهر أدباء عباقرة في كتابة الأفكار التجريدية، ولكن ينقصهم قوة التصوير التي تخترق الأشياء مثل الأشعة السينية. وأنا أشعر بالأسى لأن أوغاي الذي امتلك ذلك الأسلوب الأدبي بهذه القدرات، لسوء الحظ لم يكُن لديه مُتَّسَع من الوقت ليكتب لنا عملًا روائيًّا ضخمًا وشموليًّا. ولكن رواية «الإوزة البرية» هي عمل أوغاي العبقري الشامل الذي اقترب من تلك الحالة المثالية المطلوبة.

تحكي لنا الرواية بواسطة الراوي قصة حُب لم تكتمل للنهاية بين صديق الراوي أوكادا الشاب الوسيم صاحب الصفات المحمودة وبين أوتاما الفتاة الشابة الجديرة بأن تُحَب ولكنها محظية لمرابي. تمكَّن أوغاي من خلال أسلوبه الأدبي المتين والراسخ من إبراز عادات وتقاليد وطبيعة ذلك العصر داخل الرواية.

الصدفة القدرية التي تقوم على أساسها الرواية عندما تظهر وجبة سمك الإسقمري بصوص الميسو على مائدة عشاء مسكن الطلبة في إحدى الليالي، فتفقد بذلك أوتاما فرصة التحدُّث مع أوكادا الذي خرج للتريُّض، بمفردهما للأبد، ثم تُقتَل إوزة برية كانت تعوم في بركة لوتس ذابل بعد أن قذفها طالب لا مُبالٍ بحجر.

يحكي أوغاي القصة داخل حركة حتمية، فكلُّ شيء يمضي في هدوء مثل حركة الأجرام السماوية، وشخصيات الرواية طالب جامعي ومحظية، ولكن القدر الذي يُحتِّم ألا يتقابل الاثنان يترك أثرًا لآلام لا تنتهي.

لا تظهر في رواية «الإوزة البرية» سخرية بارزة من أدباء المذهب الطبيعي مُطلَقًا، ورغم ذلك فالرواية تعالج ببراعة عيوب المذهب الطبيعي، فكتب أوغاي رواية رمزية اعتمادًا على واقعية مؤكدة تتخطى بمراحل إتقان واقعية المذهب الطبيعي.

عبَّر أوغاي بدرجة مُعيَّنة من الحياء عن الحالة النفسية للبطلة أوتاما، والحالة النفسية للبطل أوكادا، بدون إظهار أي أثر للقُبح، بل إنه أنجز ذلك التحليل بدون الخوض في تحليل جارح. وأوضح أوغاي من خلال قصة حب تحتوي في داخلها على مذهب الوصولية للفتى ومذهب النفعية للفتاة، شعاعًا خافتًا لنُبل البشر الذين عاشوا بلا أي ريب في اليابان وقت أحداث الرواية، لم يبتهج أوغاي بذلك الشعاع بل فَصَلَه عن الرومانسية ومحاه بالكامل. ربما يتحول أوكادا بعد بضع سنين إلى إنسان دنيوي كامل.

وربما تكون رمزية الإوزة البرية هي الإشارة إلى مثالية عصرٍ حَاوَلَ النهوض والطيران ولكنه فشل. ولكن أوغاي لا يرى في موت الإوزة البرية شيئًا عظيمًا وقويًّا، بل إن الراوي وأوكادا مع صديقهما إيشيهارا يأكلون الإوزة البرية بلا مبالاة. وبذلك لم يكُن قاتل الإوزة البرية قوة الزمن العنيفة، ولا ضغط الحكومة والقانون، بل القاتل مجرد طالب عديم الإحساس، ولذا أكل هؤلاء الطلبة شبابهم بأنفسهم في صورة إوزة جُعِلَت «مَزَّةً» لخمر الساكي. وكان موقف أوكادا تجاه أوتاما هو نفس هذا الموقف، فهو يرحل دون أن يفهم الشغف الذي تَوَلَّد داخل قلب أوتاما، ولكن إذا سألنا حتى لو فهمه، هل كان سيتخلى عن مكانته ويقع في حب أوتاما؟ فالإجابة أنه لا يبدو أن أوكادا كان سيفعل ذلك بأي حال. فالأمر كله ينتهي في هدوء مؤلم من نوع لا يمكن وصفه فالبشر جميعًا كلُّ فرد منهم يسير في النهاية في مساره المحتوم، وليس أمامه إلا أن يُحقِّق مصيره بنفسه.

في مقالة «موقفي» التي كتَبَها أوغاي في عام ١٨٨٧م ما يلي: «عندما أُسأَل على أفضل الكلمات التي تعبر عمَّا أُحِسُّ به داخل عقلي، فتبدو أن تلك الكلمة هي resignation (الإذعان). ليس ذلك في الأدب فقط. ولكن نفس الأمر في أي موقف من مواقف الحياة. وعلى غير المُتوقَّع عندما يظنُّ الآخرون أنني أعاني، فأنا لا أعاني حقًّا. ربما يكون موقف الإذعان resignation هو انعدام العزيمة. ولكني لا أعتقد أنني سأحاول الدفاع عن نفسي في تلك الحالة.»

يرى القارئ، الذي يقرأ أعمال أوغاي، مرارةً ومعاناة تتعمَّق تدريجيًّا من البداية، مرورًا بالإوزة البرية وحتى النهاية، وتتمركز تلك المرارة والمعاناة داخل أوغاي فقط، ولا يُظهرها في العَلَن.

إذا كان التطيُّر جُبنًا، فتحمُّل العذاب شجاعة. إن مرض العصر الذي عاش فيه أوغاي لا يستمر كما هو حتى العصر الحالي، ولكن في أي عصر، داخل ما يراه الناس من شعور الحركة والنشاط الإيجابي المزدهر البطولي، يختفي شعور الجبن والتذمُّر تجاه العصر، ولكن أوغاي على الأقل، لم يكُن من ذلك النوع الجبان. إن ما يطلق عليه أوغاي الإذعان resignation مصطلح يشرح في كلمة واحدة هدوء وشجاعة وعذاب قلب الشخص الذي لا يتخلى حتى النهاية عن وظيفته ودوره في الحياة.
١  مقدمة كتبها يوكيو ميشيما لأعمال أوغاي موري الكاملة التي صدرت عن دار نشر «تشوكورون» عام ١٩٦٦م ضمن سلسلة الأدب الياباني. (المترجم)
٢  معنى اسم جونئتشي كويزومي باللغة اليابانية هو نبع الماء الصغير الأكثر نقاءً. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥