جونئتشيرو تانيزاكي١
كثيرًا ما أفكر مؤخرًا في سؤال يقول: لماذا لا يحدث في اليابان، وخاصة في العصر الحديث أن يتحد الكمال الفني مع الثقافة الشاملة؟ فلقد رحل مؤخرًا عن عالمنا أُناسٌ مثل السيد يوشيشيغه أبه، والسيد شينزو كويزومي، مما جعلنا نتألم لانتهاء عصر مثقفي فترة تايشو، ولكن ثقافة هؤلاء الشاملة لا علاقة لها بالكمال الفني، ومن الطبيعي ألا يكتمل فنهم مُطلَقًا؛ لأنهم شخصيًّا لم يطمحوا أن يكونوا أدباء أو فنانين، وتوقفوا عند مجرد الهواية. وأظن أن ثمة علاقة بذلك الأمر مع عدم تمتُّع شخص في عبقرية السيد جونئتشيرو تانيزاكي بملامح الثقافة الشاملة، رغم أنه حقَّقَ الكمال الفني. وأكثر من ذلك، أنا أهتم كثيرًا بمقارنته مع السيد هاكوتشو ماسامونيه المثقف العظيم الذي لم يستطع تحقيق الكمال الفني.
وربما هناك نقد يقول إن الناس في العصر الحالي — مقارنةً بعصر أوغاي موري وسوسيكي ناتسوميه — تشعَّبوا إلى تخصُّصات دقيقة، ولكنه نقد قاسٍ يغض الطرف عن طبيعة التضحيات التي يضطر الفنان أن يدفعها للزمن ليُحقِّق الكمال الفني. بالتأكيد لو نجح الشخص في الجمع بين كونه فنانًا عظيمًا، وفي نفس الوقت مثقفًا عظيمًا فهذا أفضل، ولكننا نعيش في عصر يجعل فشله في ذلك سببًا في فقدان كل شيء. ولذا فكما ترمي السفينة التي تواجه خطر الغرق حمولتها في البحر، يتخلى الفنان عن أن يكون مثقفًا شاملًا في جميع فروع العلم، في مقابل أن يحقق الكمال الفني.
ولكن سواء عن وعي أو عن إرادة، لا تقتصر الدراما التي يلعب فيها البشر دور البطولة على هذا الحال دائمًا. فإله الفن ليس سهل الضحك عليه لدرجة التسامح مع قصة ساذجة تقول إنني تخليت عن أن أكون مثقفًا شاملًا، ونجحتُ في تحقيق الكمال الفني.
يُعَد جونئتشيرو تانيزاكي من أسوء النقاد تجاه الآخرين، ولكنه أفضل ناقد تجاه نفسه. وعلينا أن نندهش من أنه غالبًا لم يخطئ في الحُكم على طبيعة موهبته خلال الثمانين عامًا من عمره. ويبدو السيد تانيزاكي كإله في حدة ذكائه إذا وضعناه بجانب كاتب مثل ريئشي يوكوميتسو الذي أخطأ مرَّاتٍ عديدة في الحُكم على طبيعة موهبته، رغم تمتُّعه بموهبة رائعة ومشاعر فياضة.
لو وضعنا تعريفًا للعبقرية بمعيار الكمال الفني فقط، فيمكن أن نُعرِّف العبقري بأنه: «الشخص الذي لا يُخطئ مطلقًا في الحُكم على طبيعة موهبته ويستطيع الاستمرار في الإيمان بها دائمًا»، ولكن في الواقع هذا التعريف يحتوي على منطق لولبي. لأن معناه كأننا نقول: «العبقري هو الذي يستطيع الإيمان بأنه عبقري». ولذا يقول كوكتو قولًا ظريفًا: «إن فيكتور هوجو شخص مجنون يؤمن بأنه فيكتور هوجو.»
«في طفولتي لم أكُن ذلك الإنسان البريء الطاهر الذي يغترُّ بنفسه. لم أكُن مُطلَقًا ذلك الإنسان الذي يمتلك داخله سِمات رجال الدين أو الفلاسفة. ولا يزيد سبب رؤية الآخرين لي بهذه السمات عن مُجرَّد نتيجة لامتلاكي موهبة جعلت فهمي لجميع الأمور من جميع الاتجاهات أنضَج من الأطفال الآخَرين. بل كانت عزيمتي ضعيفة جدًّا لكي أعيش حياتي زاهدًا مُتقشِّفًا مثل رهبان الزن. وكانت عواطفي حادة جدًّا. لا شك أنني وُلِدتُ من أجل التغنِّي بالجمال الإنساني أكثر من التنظير لأبدية الروح. إنني حتى الآن لا أستطيع التفكير بأنني رجل عادي. كنتُ أشعر في كل ما أفعله أنني أملك عبقرية. وعبقريتي تُظهِر إشعاعًا حقيقيًّا عندما أعي ذاتيًّا بالمهمة المُلقاة على عاتقي، فأمدح جمال العالم الإنساني، وأتغنَّى بالمُتَع.» (الطفل الإلهي)
ولكننا لا نرى هنا اكتشاف السيد تانيزاكي لذاته الحرة فقط، ولكن يجب علينا في نفس الوقت أن نستشف زهد الكونفوشيوسية الباقية آثاره بقوة في اليابان في العقد الرابع من عصر ميجي التي تُشكِّل خلفية قصة «الطفل الإلهي»، ونستشفُّ كذلك قوة الضغط الكبرى لمذهب النجاح في الحياة الذي يُشكِّل الوجه الآخَر لذلك الزهد.
ظهرت ثقافة أوغاي العالمية فَبَدَت وكأنها أعلنت عن نفسها بحُرِّية، ولكن كانت قدماه مُقيَّدتَين بثعبان مزدوج الرأس. ثم جاء الجيل الشاب الذي تلاه فقتلَ ذلك الثعبان مزدوج الرأس من أجل تحرير قدمَيْه منه تمامًا، حتى هنا لا بأس، ولكن لا مجال لكي نُلقي باللائمة على ذلك الجيل لأنه قَتَل في نفس الوقت حتى الرغبة في اكتشاف صورة العالم المعرفي التي استندت على أغلال الثعبان. في كل حال لقد وُلِد هنا فنان نقيٌّ نقاءً خالصًا.
تُلقي طفولة السيد تانيزاكي ذاته بظلالها الغامقة القوية على قصة «الطفل الإلهي»، ولكن تحكي قصة «وشم» (١٩١٠م) قبل ذلك ولادة الفنان الشاب تانيزاكي بوضوح تام.
أرى أن تقييمنا لأدب تانيزاكي سيتغير بأشكال عديدة ومتنوعة بناءً على: هل سنعتبر الاقتباس سالف الذكر من قصة «الطفل الإلهي» تحريرًا للذات، أم نعتبره إذعانًا. إنْ عُوِّض الإذعان بالاكتمال الفني، فمن المؤكد أن حصوله على الاكتمال هنا هو أحد أنواع التخلي عن الحرية، وإنْ بات فنانًا من خلال السعي الإيجابي إلى تحرير الذات، فمن المؤكد أن الكمال الفني يتطابق مع الحرية. وبغض النظر عن موضع ثقل كلا الأمرين الأول أم الثاني في وعي السيد تانيزاكي، إلا أنني لا أستطيع إلا الاهتمام بدليل الحرية التي حصل عليها بتلك الطريقة. ودليل حصول السيد تانيزاكي على الحرية، هو الاستحسان الكامل للمشاعر الحسية، بمعنى أن الدليل هو الإيروتيكية.
أتى السيد تانيزاكي بالإيروتيكية دليلًا على الحرية. جاء بأقوى ما يُقيِّده ليُدلِّل به على أنه غير مُقيَّد. وهنا سيحمل الإذعان — أي التخلي عن الحرية في النهاية — نفس المعنى الواحد مع التحرر — أي الحصول على الحرية — وفي نفس الوقت أيضًا عند صناعة العمل الفني يصبح هو الأخلاق. عند إبداع أعماله الفنية كرَّس السيد تانيزاكي حياته كلها مجتهدًا في تأكيد صرامة الكلمات والأسلوب تكريسًا من النادر أن نرى له مثيلًا.
وهناك سِمات تلك الإيروتيكية نفسها. تُناسب الإيروتيكية السادية النقد أكثر، ولكن الإيروتيكية المازوخية هي الملائمة لصقل فني لامع وبرَّاق. الأولى تكره القيود وتحطِّم الشكل، لذا فثمة مخاطر من أن تتسبَّب في جفاف المشاعر، والأخيرة تحب القيود بناءً على المستهدف من الحب، فتحتفظ بنداوة المشاعر إلى الأبد. والكاتب المثالي هو الخليط الوسطي بين الاثنين، ولكن إذا أُجبِرنا على الميل لأحدهما، فمن الأفضل الميل للأخيرة. ورغم ذلك فميل السيد تانيزاكي الإيروتيكي هو الأكثر تلائمًا مع حل مشكلة الحرية التي سبق الحديث عنها. لا يُفترض أن السيد تانيزاكي الذي يُعَد خبيرًا مُحنَّكًا في نقد وتقييم الذات، لم يستخدم سِماته الشخصية تلك استخدامًا أكثر من كافٍ في إبداعه الفني.
وقد حكى بالفعل هذه الحكاية الرمزية بوضوح تام في قصة «وشم». ففي خلفية أدب المذهب الطبيعي رمادي اللون يحتفظ الخيال بمدى ما أوضحَتْه هذه القصة من جمال أزهار فاوانيا تفتح بفخامة وفخر، في خلفية سماء مُلبدة بغيوم سوداء. بل وكأنه تمهيد لها، يُظهِر هذا العمل بوضوح جميع السمات التي تميز أدب تانيزاكي حتى الوصول إلى رواية «المفتاح» في سنواته الأخيرة (رواية «يوميات عجوز مجنون» استثناء بسيط). بمعنى أن روايات السيد تانيزاكي لذيذة قبل أي شيء. مثل وجبات المطبخ الصيني والمطبخ الفرنسي، تضع صلصة صُنِعَت بدون استخسار الوقت والجهد فوق طعام طُبِخ بمنتهى التفاني والتفنُّن، ليتذوق الناس مكونات نادرة وغنية بالقيم الغذائية لا تُتاح لهم عادةً على موائدهم، فتقودهم إلى النيرفانا عند منتهى النشوة والسكر، وتقدم لهم في نفس الوقت السرور الطازج مع كآبة طازجة، والحيوية مع الانحطاط، بل ولا يهدد قواعد البداهة كإنسان معيشة عظيم في جذوره الأصلية. مهما كتب السيد تانيزاكي فالنتيجة النهائية لا يشمئزُّ منها البشر. وأتذكَّر في عُمر المراهقة أن عمتي الجميلة وهي تسخر مني قائلة: «هل تقرأ روايات تانيزاكي الإباحية؟» وقد بدت على وجهها الجميل ملامح سعيدة، فحتى لو كان أدب السيد تانيزاكي به نوع من الإباحية فقد كانت إباحية تُرضي سرًّا البالغين في المجتمع، وتُفرِح النساء خفية. ولا يمكن النظر إلى منع السلطات التعبير عن مثل هذه الأشياء أثناء الحرب إلا على أنه من أجل مثل هذه العواطف التي لم تشبع. فلم يكُن في أدب تانيزاكي أي شيء يُهدِّد وجود الدولة.
لقد غُفر للإلهة هاراتي الإمساك بالأطفال وأكلهم، ثم باتت أم عظيمة الرحمة، وعند البحث في جوهر طبيعة إيروتيكية السيد تانيزاكي، نلتقي بما يُشبه الإلهة هاراتي. تُصَوَّر هاراتي في العادة بتماثيل جالسة بجسد وفير وجميل لا يُبقي أثرًا لسيرتها المخيفة، فتحتضن طفلًا بيدها اليسرى ويحيط بها خمسة من أطفال الملائكة. تحمل المرأة بالنسبة للسيد تانيزاكي هذه الصورة المزدوجة، الوجه المُبجَّل للأم الرحيمة يُلقي بظلاله على والدته الراحلة، ومن جهةٍ أخرى وجه هاراتي تمثلها بطلة رواية «حب رجل مخرف» الشهيرة بالناعومية، بل حتى الأخيرة، يُتعبَّد لها في محراب الجمال الجسماني والأنانية الفاحشة على أنها شيء مُبجَّل. وأعتقد أن هاتين الصورتين للمرأة اتحدتا ببراعة شديدة داخل أوهام احتضار بطل رواية «يوميات عجوز مجنون» التي كتَبَها في أواخر حياته.
عند التحدُّث عن أدب تانيزاكي المُنقسم بين سلسلتين، سلسلة تُركِّز على صورة المرأة الأخيرة في «الوشم»، و«قصة شون كين»، و«المفتاح»، وسلسلة تُركِّز على صورة المرأة الأولى أي الأم الرءوم في «ذكريات حبي لأمي»، و«والدة القائد شيغيموتو» لا يمكننا مطلقًا تجاهل السلسلة الأولى.
«صنع ضوء القمر الآتي من بين الزهور هالة على وجه الأم في عُمق القبعة البيضاء، وبدا وكأنها تحمل على ظهرها شعاعًا دائريًّا صغيرًا في منتهى اللطف. عادت للحياة الآن ذاكرة احتضانها له خلف ظلال الستائر في ذلك اليوم الربيعي قبل أربعين عامًا واضحة جلية، وشعر للحظة أنه أصبح طفلًا في السادسة أو السابعة من عمره.»
ثمَّة متعة في جزئية أن التوق إلى تلك الأمومة المتسامية لو مزج صدفة مع الشهوة الجسدية، يُحوِّل المرأة على الفور إلى المرأة التي يكمن في جسدها الجميل نوع من الروح الشيطانية الغامقة المشاكسة المميزة لأدب تانيزاكي مثل بطلات «الوشم» و«قصة شون كين». ولكن عند النظر إلى التفاصيل الدقيقة، فإن شر هؤلاء النساء، شر منحته بعد طلب واستجداء من الرجل ذاته، أكثر من كونه شرًّا تملكه المرأة في أصلها. إذَن، فأنا أعتبر هذا الشر لا يزيد على مجرد «الظلال التي تُلقيها شهوات ورغبات الرجل الجسدية». وإذا بحثنا في هذا الأمر أكثر وأكثر، (وعلى الأرجح لن أفلت من الإحساس بأنه تفكير زائد عن الحد)، فأدب تانيزاكي ليس أدب التحرُّر وإقرار الشهوات الجسدية كافة كما يبدو ظاهريًّا، ولكن يستمرُّ في الحياة شعور متفانٍ في القدم في مكان عميق من لا وعي السيد تانيزاكي، وهو يعدُّ كل الشهوات الجسدية شرًّا، ويُلقي بظلال هذا الشر على شخصية المرأة هدف تلك الشهوات، ومن خلال ذلك يُعتقَد أن آلية تحقيق المطالب من خلال عقاب الذات للشهوات الجسدية للرجل، الهيكل الرئيس؛ حيث تعامل المرأة بوحشية غير ضرورية ومشاكسة غير ضرورية. ألا ترون أن كل شيء عبارة عن دراما أُعِدَّت من أجل إنجاح الهدف الأَوَّلي، ألا وهو العقاب الذاتي، وأنه يدير بسلاسة هذه الآلية؟ أليست المرأة ما هي إلا أداة في هذه الدراما؟
وكلما كانت المرأة أداة أوجبَ ذلك أن تكون أكثر جمالًا وأكثر هدفًا للعبادة. كان السيد تانيزاكي يتعبَّد شروره، يتعبَّد حُبَّه للشبقية من خلال عبادته لجسد المرأة على الأقل في هذه الدراما، وبهذا يقسم بالولاء الأبدي لموضوع «الطفل الإلهي». لا يظهر هذا التناقض تجاه الشر مُطلَقًا، في عالم «التوق نحو الأم» الذي نقَّاه وصفَّاه الحب الشهواني.
في تركيبة السيد تانيزاكي الإيروتيكية لم تكُن الشيخوخة مشكلة يجب الخوف منها. والمازوخية عنده من البداية تنقصها الحميمية والنرجسية، وخلال مسار حياته كلها لم يمتلك ما يطلق عليه نورمان ميلر «النرجسية القضيبية». فالنرجسية القضيبية من المُحتَّم أن تطلب الفعل والقتال، وهنا تتواصل مع مجد تدمير الذات، ولكن بالنسبة للسيد تانيزاكي كان مثل هذا الشيء مُزعِجًا. إن طمس ساسكيه عينَيْه بنفسه في «قصة شون كين» ترمز نوعًا ما إلى «الإخصاء»، الانغماس التام في الجنس منذ البداية، ثمَّة نزعة حالمة داخل الصلاة في محراب مثل هذا الحب العنين عنةً مُطلَقة. إنْ كان الأمر كذلك فيمكن التفكير أن الشيخوخة ليست وضعًا مأسويًّا بتلك الدرجة، بل الأحرى أن في معادلة: الشيخوخة = الموت = النيرفانا بالذات، ثمَّة طريق يقترب من الانغماس التام في الجنس. إنَّ عُمر السيد تانيزاكي كروائي هو عمر يحتوي على حتمية أدبية وفنية. لأن هذا الطفل الإلهي بدأ السير من البداية في طريق الجن المؤدي إلى قطبية العلم والمعرفة وفي الطريق العكسي.
إن الكاتب الذي تعني الشيخوخة له اندثار الموضوع في نفس الوقت يثير الألم. والكاتب الذي تعارض شيخوخته الجسمانية كل العواطف الفكرية له يثير الألم. (عندما أفكر في نفسي أشعر بالذعر.) كان هيمنغواي، وكذلك هاروو ساتو، من هذا النوع من الكُتَّاب، وبغضِّ النظر عني أنا شخصيًّا، فلا شك أن السيد فوساو هاياشي والسيد شينتارو إيشيهارا يعيشان داخل مثل هذه النبوءة الرهيبة. والأمر المشوق أن كل هذه السلسلة من الكتاب يحتوون داخلهم على نرجسية قضيبية.
استُهلِكت نرجسية السيد تانيزاكي كلها في كبرياء الأديب الكبير والعبقري العظيم. وأعتقد أن معاناته المتنوِّعة في مجال الفن، وضميره الصارم تجاه الإبداع، كانا معًا برهانًا ذاتيًّا على تلك النرجسية.
ولكن بالنسبة لتركيبة الإيروتيكية الخاصة بالسيد تانيزاكي، كلما اخترق جوهر الحب الجنسي الذات واقترب الجسد من الصفر، زادت النشوة والثمالة، وزاد أكثر وأكثر جمال المستهدف وخصوبته بشدة. ولو قلنا بطريقة أخرى، يرتفع نقاء الجمال الماثل نصب العينَيْن كلما تخلَّى جوهر الحب الجنسي عن الجسد، ثم جسد مفهوم الحب الجنسي ذاته. موضوع الشيخوخة الذي ظهر في رواية «المفتاح» في سنواته الأخيرة، يوجد على امتداد الخط الطبيعي لتصرفات ساسكيه. ثم بلغ موضوع الشيخوخة قمته في رواية «يوميات عجوز مجنون». فأثناء النشوة من التأمل الحالم في آثار قدم بوذا، تدخل الشهوة الجسدية للموت، ويصل الجسد إلى الصفر تحت تشريح صارم وبارد من الطبيب. وأعتقد أن الشخص الذي يُفكِّر باستفاضة في تقرير الطبيب في نهاية تلك الرواية، قد أخطأ فهم مفهوم الحب الجنسي لدى السيد تانيزاكي.
ففي الواقع ترتبط عبادة جسد المرأة، وعبادة أنانية المرأة، عبادة كل تلك العناصر المضادة للعقل والمنطق، بالاحتقار ارتباطًا مُريبًا. ما من شيء أبعَدَ عن أفكار حرية المرأة من أدب تانيزاكي. هو لا يُنكِر بالطبع حرية المرأة. ولكن مثار اهتمامه هو جسد المرأة فقط، ذلك الجسد الذي نضج وأصبح جميلًا وحيويًّا نتيجة حرية المرأة.
هل يسكن في صدر امرأتي شيطان؟ أم يسكن ثعبان؟
تبدو رمزية أدب تانيزاكي من خلال تلك الجملة المسرحية العتيقة، ويظهر وجهًا نادرًا له يجب وصفه «روايات التثقيف الجنسي». بمعنى أن الرواية تدور حول زوجَين فَقَدَا حبهما الجنسي وحول حياة النخبة المثقفة غربية الطباع، حيث يتأرجح البطل كالبندول بين الغرب واليابان؛ مُتوزِّعًا بين عاهرة بيضاء في منتهى النشاط والحيوية من جانب، ومن جانب آخَر، يابانية عتيقة على نسق عرائس مسرح تشيكاماتسو. ثم تنتهي الرواية وهو على وشك الافتنان بالإيروتيكية اليابانية الهادئة (مع احتقاره لها). كانت أوهيسا أحمقهن، وأكثرهن انعدامًا للشخصية، وبالتالي كانت أكثرهن حكمة.
ولكن عظمة واقعية الرواية كانت في الفصول الأولى التي تصف عدم الاهتمام الجنسي للبطل تجاه زوجته. ومهما تأرجحت ازدواجية اهتمام البطل الجنسي بين الاحتقار والعبادة، في الرواية نموذج لدرجة القسوة التي يمكن أن يصل إليها رجل استولى عليه عدم المبالاة بالجنس. وهنا تظهر حتى القسوة النفسية، ولكن في الأصل لا تحتوي هذه «القسوة» على متعة سادية، ربما يجب أنْ نَصِفَها بأنها قسوة نبلاء.
ولا أحد في العالم لا يستمتع ولا يحتفل إذا قارنَ نَفْسه بجحيم هذا البرود الجنسي. وأيًّا كان يجب على المرأة أن تعيش وتتحرك وتضحك كعنصر أساسي يجعل تانيزاكي يصنع دراما العبادة والاحتقار تلك. وإنْ لم تَكُن كذلك فلا معنى للمرأة عامة.
والسيد تانيزاكي ليس مُولَعًا بالنساء مُطلَقًا إذا قارَنَّاه بأديب مثل سايسيه مورو، الذي يكتشف في المرأة، مهما كانت، عالَمًا أنثويًّا غريبًا، فيفرح ويستمتع. فلا تجعل المرأة سواء كانت المرأة المجردة العادية أو المرأة عامة، أو عامة النساء السيد تانيزاكي يحلم أي أحلام، ولا تُنمِّي المرأة خيالاته لمُجرَّد أنها امرأة فقط. بالنسبة له يجب أن تُلَبِّي المرأة ذوقه حتى النهاية، وتحفز الاهتمام الجنسي لأقصى حدوده، ووقتها حقًّا يفيض بريق فيتشاوي لكل ما يتعلق بتلك المرأة، وتتحقَّق هنا الأرض الطاهرة أو الجنة.
وفي النهاية، أتمنى بشدة من كلِّ مَن له علاقة بتعليم الكتابة والتعبير في اليابان أن يقرأ «كتاب القراءة الرشيدة» للسيد تانيزاكي. ناقش السيد تانيزاكي السحر المختلف لكل أنواع الكتابة، بدايةً من العصور القديمة، وحتى الوصول للعصر الحاضر بحياد وعدل، ودون التحيُّز لذوقه فقط، وفي نفس الوقت أعتقد أن تأكيده على ذوقه الشخصي أفضل دواء فعَّال للميل تجاه التحيُّز الذي يسهل أن يسقط فيه تعليم الكتابة في اليابان. وأقول هذا لأنني شخصيًّا كنتُ ضحية تنمُّر تعليم الكتابة في المرحلة الابتدائية المتفانية للواقعية التقريرية الخاطئة، ثم قرأتُ «كتاب القراءة الرشيدة» في المدرسة المتوسطة، ففرحتُ فرحةً لا يمكن وصفها، وكأنني أجول بين سهول الكتابة الرحبة.
١
لقد كتبتُ بالفعل عن الأعمال الكاملة للسيد تانيزاكي عدة مرات من قبل. ولا أحب أن أكرِّر ما كتبتُه. وبمناسبة صدور أعمال تانيزاكي الكاملة من دار نشر شينشو هذه المرة، سأفترض أن دراساتي عن السيد تانيزاكي حتى الآن التي يمكن أن نسميها أرثوذكسية قد قُرِئَت بالفعل، ولديَّ رغبة هذه المرة أن أسلِّط الضوء على أعمال السيد تانيزاكي الكاملة من زاوية مختلفة. ربما يمكن بذلك الحصول لأول مرة على موقع لرؤيةِ صَنْعَته الأدبية، ذات الملامح المجسدة وكأنها تشبه وجهَي جبل فوجي الأمامي والخلفي.
ولقد اخترتُ قصة «موت بلون الذهب» دليلًا عكسيًّا على منبع ذلك الضوء.
نُشِرَت «موت بلون الذهب» مُسلسَلة في «جريدة طوكيو أساهي» في ديسمبر ١٩١٤م، وقد كرهها المؤلف ذاته الذي يصعب أن يرضى تجاه أعماله، فلم ينشرها في أي طبعة من أعماله الكاملة، ثم مُنِحَت فرصة لأن تُقرَأ لأول مرة في أعماله الكاملة التي أصدرتها دار نشر «الرأي العام المركزي» بعد وفاته. في الكثير من الحالات ثمة دافع هام وخَفِيٌّ لأنْ يَكره المؤلفُ أحدَ أعماله بصفة خاصة. على سبيل المثال يُعلن السيد ياسوناري كاواباتا على الملأ كراهيته لقصة «وحوش»، ولكن المتعارف عليه في المجتمع أن «وحوش» ليس فقط تحفة أدبية خالدة، بل إنها من أهم الأعمال التي تُلقي الضوء على ملامح أدب كاواباتا كله من أحد الزوايا.
عندما يتعلَّق الأمر بالكراهية والافتنان، يتخطى الكاتب أحيانًا الأعراف والتقاليد دون وعي. ويحدث أن تتخطى مشاعره حدود العقل، فيحطِّم الشكل، ويُرينا على غير المتوقَّع سهولًا واسعة الأركان. بل ويحدث وقتها فجأة أن يفتح القارئ الذي يُريد الكاتب إرشاده فقط إلى الحدائق التي تفانى في تجميلها، يفتح بابًا مختفيًا خلف لبلاب الأسوار العالية، ويختلس النظر على سهول أخرى في تلك الفرصة الضئيلة التي لا تتاح له مرَّةً ثانية باستثناء ذلك. ثم يرتبك الكاتب وينتبه إلى خطئه، فيمتنع عن إرشاد القارئ إلى ذلك الباب مرَّة أخرى.
إذا قارنا بين عمل كاواباتا «وحوش»، وعمل تانيزاكي «موت بلون الذهب»، نجد أنهما على الرغم من اشتراكهما فيما يمكن وصفه «العمل الخفي المشئوم»، إلا أنهما يتناقضان في الظروف المحيطة بهما. أولًا: السيد كاواباتا المُعارِض للشكلية يعيش حياته بلا مبالاة سلبية، فلم تكُن قصة «وحوش» عملًا عاريًا يقتصر فقط على دعم اللاشكلية. لقد صادف أن موضوع القصة هو الكراهية، فلم تزد عن حكاية حب بارد يُظهر — شكليًّا — الكراهية والازدراء، وكل الأعمال هي هكذا بالضرورة، فلم يَكُن من طبيعة القصة الاعتداء على تبجيل الأعمال الأخرى للشكلية. تختلف قصة «موت بلون الذهب» للسيد تانيزاكي في هذه النقطة. فهذا الأديب الذي جعل حياته أعمالًا فنية كالحدائق الغنَّاء ذات كمال فني وتكنيكي وجهد متفانٍ نتيجةً لحرثٍ وجهد عظيمَين (ربما ثمة استثناءات قليلة في أعماله المبكرة)، هو إنسان لم يحدث له أنْ فَقَد ذلك الجلال الشكلي حتى وهو يكتب قصة عن فضح طبيعة البشر بلا نهاية. يكره هذا الأديب ما يشبه التنهيد الذي يخرج بلا وعي. ويشترك كلٌّ من السيد كاواباتا والسيد تانيزاكي في نقطة أنهما من أدباء الوعي المُتقَن بالذات، ولكن اتجاهات ذلك الوعي الذاتي لكلٍّ منهما تختلف عن الآخَر. كان تانيزاكي ناقدًا حادًّا تجاه ذاته، ولكنه لم يملك تقريبًا أي قدرة نقدية تجاه الآخَرين.
ثانيًا: عند مقارنة قصة «وحوش» مع قصة «موت بلون الذهب»، نجد أنه رغم أن الأولى تحفة فنية، فالثانية عمل فاشل. ليس في نيتي بتاتًا أن أقارن تحفة أدبية مع عمل فاشل لهذين الأديبين العظيمين، وأوضح العيوب والمميزات، ولكن في حالة نقد أعمال السيد تانيزاكي التي تملك قوةً تركيبية، وكمالًا شكليًّا سلسًا، على خلاف كاواباتا الذي يتبع طريقة الانتصار دون حرب، فليس هناك وسيلة إلا الاقتراب من هذه الأعمال الواضح فشلها فشلًا ذريعًا. حقيقة: اعترف السيد تانيزاكي الناقد الحاذق تجاه أعماله بنفسه بالعيوب الفنية في «موت بلون الذهب»، وكان يريد لو استطاع أن يزيلها من قائمة أعماله.
ولكن معجزة العبقري هي أن حتى أعماله الفاشلة مختومة بختم العبقرية الناصع، وعلى العكس يحدث كثيرًا أن نكتشف فيها بالذات الطبائع المميزة له، والمواضيع الهامة التي انتهت دون أن يُطوِّرَها بعد ذلك. فإذا قرأنا عمل ستندال الفاشل «المانس»، سنعرف مصير أفكاره في تلك الفترة.
«موت بلون الذهب» أحد أنواع القصص الفكرية والفلسفية، ويحكى السيد تانيزاكي فيها بوضوح أفكارًا أهملها فيما بعد بالكامل سواء كان الإهمال مُتعمَّدًا أو عن طريق الصدفة. تُرى ماذا لو لم يهملها؟ … إن تَخَيُّل هذا بالذات امتياز أصيل يُسمَح به للقارئ. ماذا لو تطورت هذه الأفكار تطوُّرًا منطقيًّا؟ ربما حصلنا على أدب تانيزاكي يختلف بالكامل اختلافًا واضحًا في تطوُّره عن أدب تانيزاكي الذي نراه اليوم، حتى ولو كان مماثلًا في حجمه وفي عظمته.
تحكي قصة «موت بلون الذهب» حياة جميلة لأوكامورا صديق الراوي منذ الطفولة. وتنتهي القصة بأن يُعبِّر الراوي الذي حقَّق نجاحًا أدبيًّا إلى حدٍّ ما، عن مشاعر الغيرة تجاه ما وصل إليه أوكامورا من حدود قصوى للفن صعب عليه هو الوصول إليها حتى النهاية. ولكن بالطبع الركيزة الأساسية لهذا النوع من القصص، هي إعطاء الراوي سمات شخصية عادية، متعمدًا من أجل جعل أوكامورا بارزًا، يشبه الراوي السيد تانيزاكي في بيئته وظروفه، إلا أنه شخص مختلف تمامًا. بل الأحرى أن الكاتب من خلال إعداد شخصية الراوي لتكون ذريعة استطاع أن ينقل مشاعره بحرية إلى أوكامورا.
كان أوكامورا «فتى بدا أصغر مني بعام أو عامَين بجسمه الصغير ووجهه الجميل ومظهره الراقي، مع أن عمره من عمري»، ولكنه وُلد في أسرة غنية، ونتيجةً لتكراره الطويل لتمارين الجمباز الفني أضحى شابًّا جميلًا مثل أبوللو. كان مُتفوِّقًا يتميز في اللغات ويكره الرياضيات والتاريخ، ولكنه بعد أن يعود من المدرسة كان ينغمس في حياة المُتَع واللذات، تجنَّبَ المجتمع فترةً ثم أنشأ قرية خلف جبال هاكونه، وحقَّق فكرة «تجسيد الفن»، وفي النهاية أنجز «موتًا بلون الذهب» أثناء تبجيل الشعراء، فحقَّق اتحاد الحياة بالفن.
بالطبع من ناحية التأثُّر الأدبي هناك تأثير بو وبودلير، وما من تحليل عميق لأفكار أوكامورا، وكذلك، ثمة ميل نمطي لوصف القرية العدمية، ومع ذلك لا شك في فردانية القصة التي تُثير الدهشة في وقتها.
(استطرادًا عن الموضوع، فقول أوكامورا أحب الرسامين إليه: «تويوكوني في اليابان، ولو ترك في الغرب» يدل بوضوح على حالة الفقر في عصر تايشو، حتى وإنْ كان ثمة علاقة عاطفية بين لوترك والسيرك، إلا أن ذلك يفضح الطبيعة العاطفية الكثيفة في تقديس أوكامورا للجمال، حتى ولو لم يُكشَف عنها هنا.)
إذَن لنعرض انتقادات أوكامورا لليسنغ استنادًا على عدة أفكار يتشبث بها.
- أولًا: «البصيرة التي بلا بصر ليس لها أي فائدة في مجال الآداب والفنون. وأعتقد أن الشرط الأول لأي فنان أن يمتلك كل الحواس.»
- ثانيًا: «من الخطأ تقسيم المتعة الفنية إلى حزن وضحك وفرح؛ لأنه في هذا العالم لا يُفترض وجود حزن خالص، أو ضحك خالص، أو فرح خالص.»
- ثالثًا: «لا أعترف البتة «بوجود حدود بين الرسم والشعر».»
- رابعًا: «لا قيمة لرسم شيء في لوحة أو كتابته في شعر، ما لم يكُن جميلًا جمالًا أستطيع رؤيته بنظرة واحدة، أي أنْ يكون جمالًا شكليًّا، أو يكون ألوانًا موجودة وجودًا مكانيًّا. وأجملها هو الجسد الإنساني. مهما كانت الأفكار عظيمة لا يمكن الشعور بها من خلال النظر. ولذلك لا يُفترض وجود جمال في الأفكار. (...) الجمال لا يخضع للتفكير. بل هو إجراء في منتهى البساطة، نستطيع الشعور به مباشرة من نظرة واحدة. بل وكلما كان الإجراء بسيطًا كانت فاعلية الجمال أكثر قوة وعنفوانًا.» (الخطوط السفلية من وضع ميشيما.)
- خامسًا: «إذا تحدثتُ عن الفن المثالي فهو التعبير عن الجمال الذي تراه العين بطريقة موسيقية بقدر الإمكان.»
- سادسًا: «إذا كان نحت رودان «موت صافو» جميلًا فهذا معناه أن الجسدَين اللذين يُظهرهما هذا العمل جميلان. ويُفترَض أن تاريخ صافو ليس له أي علاقة مطلقًا. (...) وإنْ كان ثمَّة لحظة يجب أن يختارها الرسام، فهي تلك اللحظة التي يَصِل فيها الجسم إلى أفضل وأقوى حالات الجمال.»
- سابعًا: (نافيًا الخيال من خلال «لحظة الدلالة» التي يقول به ليسنغ) «سواء كان لاوكون يتنهَّدُ أو يصرخ، أو سواء كان يتألَّم وينزف دمًا، يكفي فقط أن يظهر جماله الجسماني ظهورًا كافيًا في تلك اللحظة. (…) أجل هو كذلك … إنني في الأصل أكره بشدة كلمة قوة الخيال المزعجة. فلا أستطيع الموافقة على جمال أي شيء مُطلَقًا ما لم يظهر أمامي بوضوح وأستطيع رؤيته بعيني أو لمسه بيدي أو سمعه بأذني. لا أرضى إلا بتذوق إحساس الجمال العنيف الذي يشبه الضرب بأشعة المصباح القوسي بدون أي مُتَّسَع للخيال.»
- ثامنًا: «الرواية هي أكثر الأعمال الفنية وضاعة. يليها الشعر. الرَّسمُ أنبَلُ من الشعر، والنحتُ أنبَلُ من الرَّسم، والمسرح أنبَل من النحت. وبالتالي أنبَل الأعمال الفنية هي في الواقع جسد الإنسان ذاته. يبدأ الفن أولًا من أن يجعل الفنان جسده جميلًا … السيرك هو الموسيقى التي تنسجم وتتناغم مع جسد الإنسان. ولذا فهو الفن الأعظم على الإطلاق.»
- تاسعًا: «بالنسبة للجسم البشري، جمال الذكر أدنى من جمال الأنثى. وأغلب ما يُسمى بالجمال الذكري هو تقليد للجمال الأنثوي. وما يُسمى الجمال المحايد الذي يظهر في النحت اليوناني، هو في الواقع رجل ذو جمال أنثوي.»
- عاشرًا: «الفنون هي إظهار للشهوة الجسدية. والمتعة الفنية نوع من أنواع المُتَع البيولوجية أو المُتَع الحِسِّية. ولذا هي لا تكون مُتَعًا روحية، ولكنها تكون مُتَعًا حِسِّية بالكامل. ينطبق ذلك بالطبع على الرسم والنحت والموسيقى، وحتى العمارة لا تخرج عن هذا الإطار.»
٢
ألا يقرأ الناس في تلك الحِكم العَشْر عاليه التي اقتبستُها بدون مخافة الإعياء، إعلانًا فنيًّا للسيد تانيزاكي ذاته استعار لسان أوكامورا لكي يُعلِنَه؟ حقيقة: لم يستعرض السيد تانيزاكي نقدًا فنيًّا بهذه التعرية وهذا التجريد النظري الذي في «موت بلون الذهب» خلال عمل روائي، لا في أعمال سابقة ولا لاحقة.
لقد سبق لي أن قيَّمْتُ السيد تانيزاكي في الماضي بوصفي له بأنه «عبقري اللوحات المرسومة»، ولكن الكاتب الذي يُطوِّر خلال حياته كلها تلك الصورة النمطية في فترة الشباب، ويُقحم المفاهيم التي تكون في منتهى الطبيعية لو كانت في عالم الفنون التشكيلية إلى عالم الأدب بمنتهى الجراءة، لا نرى له شبيهًا في العالم أجمع، ولن نجد غيره إلا تيوفيل غوتيه فقط.
إذا بسَّطْنا تلك الانتقادات العشرة وحاولنا أن نلخصها فهي كالتالي:
- (أولًا): البصرية، تقديس الحسية.
- (ثانيًا): إنكار المشاعر – معارضة الرومانسية.
- (ثالثًا): إنكار التصنيف – معارضة الكلاسيكية.
- (رابعًا): إنكار الفكر – تقديس الجسد والوحشية (fauvism).
- (خامسًا): الموسيقية والتناغم مع اللوحات المرسومة.
- (سادسًا): إنكار التاريخ – إنكار الزمن – معارضة التاريخيانية والتطرف (extremism).
- (سابعًا): إنكار الخيال – اللحظانية (momentalism) الغارقة في عيش اللحظة الآنية.
- (ثامنًا): اتحاد الفنون الجسدية مع الموسيقى.
- (تاسعًا): إنكار الجمال الذكري – الهرمافروديتسية.
- (عاشرًا): إنكار الروح – الحسية المطلقة.
إذ نعرضها بهذا الشكل، نجد أن أفكار أوكامورا تتكون من عدة إنكارات، بل أنه يعارض وجود الأفكار نفسها، يتولد تناقض اصطلاحي من خلال إنكار نفس الفكرين في وقت واحد، وبدون الانتباه إلى تلك العيوب النظرية، يُحقِّق أوكامورا من خلال موته داخل القصة تجسيدًا لاتحاد الحياة مع الفن. تحمل المؤلف الذي تُرِك وحيدًا عبء هذا التناقض وأدرك تفاصيل سقوطه في إنكار الذات الخاص بالإبداع الفني وكأنها مِلْك يديه. وهدفي هو تَحَرِّي ذلك التناقض، وتحليل كيف لم يتحمل أدب تانيزاكي ذلك التناقض فأحدث تغييرًا في اتجاهه، وفي النهاية كيف تجاهل المؤلف نفسه قصته «موت بلون الذهب».
(أولًا) البصرية وتقديس الحسية، هي الصفة المميزة لأعمال السيد تانيزاكي خاصة في فترته الأولى، وهي الظهور الواضح والصريح لمرحلة الشباب التي تمتلك شهوات شديدة. وفيها أعدت بدقة حتمية أن يتحوَّل أوكامورا — الذي أنكرَ على ميلتون الضرير قدرته على رؤية الجمال — إلى ساسكيه في «قصة شون كين». لأنه ما من طريقة للحفاظ على الجمال الذي يُرى بالعين، الجمال الذي عُوِّض من خلال حاسة البصر، لحظة اختفائه من هذا العالم إلا طمس منبع حاسة البصر الفسيولوجية (العينين) المُولِّدة للجمال. أي إن السيد تانيزاكي يسير عكس تدفُّق شلال فلسفة أفلاطون، ويجعل عمى ساسكيه يحمل معنًى عكسيًّا لعمى ميلتون. كان النقاء الحسي الذي يُنال عَبْر طمس العين، وضع لم يتخيله السيد تانيزاكي بعدُ في شبابه. ولذا يتشبَّثُ أوكامورا بالكمال الفني فقط دون أن يفقد أي شيء.
«في مأزق انعدام الإحساس وانعدام الحركة يجب أن يُخلق الجمال بجعل الحكم من خلال الجمال الجنسي فقط. وبرغم ذلك لا يكون الاعتماد على معايير الجمال الكلاسيكية. يجب تبديل المشاعر كافة بالحسية.»
ودعونا نطلق على ذلك مُوَقَّتًا القضية الأولى.
٣
بعد ذلك، مثل هذا التفكير من الطبيعي أن يكون احتقارًا للطبيعة الباطنية، وإذا بلغنا في الحسية لأقصى حدودها مع استبعاد العاطفة، فلن يكون جمال المناظر الطبيعية ولوحات المواد الثابتة قضية، بل من الطبيعي أن يكون «أجمل شيء هو الجسد الإنساني» (رابعًا). ولكن ثمة تناقض بين (رابعًا) و(خامسًا) و(سادسًا). والسبب أن لو طلبنا الجمال الوجودي الحالي الشامل للآنية واللحظانية مع احتقار خطوات التفكير، سيكون التناغم مع الموسيقى التي هي فن زمني، تنازلًا، والتفكير في محاولة نفي الزمن والتاريخ نفيًا تامًّا مع القيام بتسوية مع الموسيقى يُعد أيضًا تناقضًا. ولكن ربما يدافع أوكامورا عن نفسه بالقول إن استمرارية الموسيقى الزمنية هي استمرارية نقية خالصة ليس لها أي علاقة البتة باستمرارية الزمن الذي يحتاج لإجراءات، ولا باستمرارية التاريخ. ولكن مهما كانت استمرارية خالصة فلا مناص من انهيار «الحد الأقصى لأفضلية وقوة» الجمال الجسماني داخل استمرارية زمنية محددة. وإذا محونا قوة الخيال من الموسيقى، فما الذي يتبقى لنا؟ ألم تَكُن تلك التسوية التنازلية للفن اللحظي للوجود الآني مُنعَدِم العاطفة تمامًا، هي محاولة منه لكي يجعل الموسيقى بديلًا عن تأثير قوة الخيال التي أنكرها بنفسه؟
وهكذا فهذه الدوغما هي التي تُشكِّل القضية الثانية التالية. «الجمال بصفته هيئة، شامل للوجود الآني اللحظي، والجنس المباشر، الذي لا يمُرُّ عَبْر وسيط من خلال الخيال، يجب أن يعوض من خلال قوة الخيال النابعة من الموسيقى. من أجل ضمان العلاقة المباشرة بدون أي وسيط البتة بين متلقي الجمال والجمال، بخلاف الغريزة الجنسية الخالصة، يجب تعريف استمرارية خالصة لفن الزمن.»
٤
كذلك يكمن تناقض — على الأرجح تناقض جوهري — في (ثامنًا) و(تاسعًا). لأن «الفن يبدأ أولًا من أن يجعل الفنانُ جسده جميلًا»، يغرق أوكامورا في الجمباز الفني لكي يصقل جمال ملامحه ويبرزه. وفي نفس الوقت لأن أوكامورا رجل فهو يبحث عن المرأة بصفتها هدفًا جماليًّا تأمر به الحسية ويضطر إلى الوصول إلى الخلاصة التي تقول «بالنسبة للجسم البشري الجمال الذكوري أدنى من الجمال الأنثوي»، ولكن لو قال أوكامورا مثل غيته: «لو نظرنا من وجهة نظر علم التشريح المحض، نجد أن الجمال الذكوري يتفوَّق على الجمال الأنثوي» لهان الأمر، ولكن أوكامورا الذي يؤمن أن القبول الحسي هو المعيار الموضوعي (!) لجميع أنواع الجمال، ليس أمامه إلا الاعتراف بتفوُّق الجمال الأنثوي. ما الذي يجبره وقتها على «جعل جسده جميلًا»؟ هنا يحدث التناقض.
الفنان هو منبع الحسية، وهو الإيروتيكية، وإذا كان خالقًا للجمال ومُدرِكًا له وحاكمًا عليه فهذا كافٍ جدًّا، لماذا يجب عليه هو ذاته أن يكون جميلًا؟ فحتى النهاية يجب إدراك الجمال بصفته موضوعًا خارجيًّا، وإذا كان لا ينشأ إلا في بيئة تنعدم فيها الأفكار والمشاعر انعدامًا تامًّا، ألا يقود الجمال الذاتي الذي لا يمكن إدراكه بصفته موضوعًا خالصًا بالأحرى إلى فوضى للجمال؟ بل يؤمن أوكامورا أن مفهوم الحسية البصرية المتسامي هو الذي يحقِّق للجمال وجوده. وإذا كان ذلك هو جوهر الطبيعة المميزة للرجل حقًّا، فلكي يكون الرجل جميلًا يجب عليه التخلي عن تلك الفكرة، وعندما يتخلى عنها فإنه يتخلى وقتها عن «الرؤية» التي هي الطبع المُميِّز لحسية الرجل، ألا يعني ذلك أن الأمر ينتهي إلى إنكار الذات منبع الحواس التي تجعل وجود الجمال مُمكِنًا؟ لو أن كل الجمال يُولد فقط من وعي الرجل، فيجب على الرجل أن يلعب دورًا مزدوجًا من أجل أن تمتلك تلك الذاتية العنيفة طبيعة موضوعية محايدة. بمعنى القيام بدورين صانع الجمال ومجسده في وقت واحد. ولضمان حيادية الجمال كان أوكامورا يعُدُّ نفسه — خارجيًّا — هو الجمال ذاته، (بل ولأنه يُفترض ألا يوجد ما يضمن ذلك الجمال، إلا الرجل بصفته مالكًا للحسية البصرية، بمعنى أن الضامن لجماله هو فقط ذاته الذكورية نفسها)، جعل نفسه هو منبع الحسية التي تجعل الجمال وجودًا باطنيًّا. لقد حاول حل ذلك التناقض من خلال الجمع بين الفنان والعمل الفني في جسد واحد. ثم كانت لحظة الاتحاد تلك، اكتمال الفن الذي قصده، وفي نفس الوقت، أوقف حسيته، أي إن ذلك التبر خنق تنفس الجلد، فانعدم وجود أي شيء أخيرًا في داخله، وبات الجسد بالنسبة للآخَرين ليس إلا موضوعًا، بمعنى أنها لحظة الموت.
٥
سيبدو ذلك إلحاحًا مني، ولكنني رتَّبتُ القضايا الثلاث مرة أخرى.
- القضية الأولى: «في مأزق انعدام الإحساس وانعدام الحركة يجب أن يُخلق الجمال بجعل الحكم من خلال الجمال الجنسي فقط. وبرغم ذلك لا يكون الاعتماد على معايير الجمال الكلاسيكية. يجب تبديل المشاعر كافة بالحسية.»
- القضية الثانية: «الجمال بصفته هيئة، شامل للوجود الآني اللحظي والجنس المباشر الذي لا يمرُّ عَبْرَ وسيط من خلال الخيال، يجب أن يعوض من خلال قوة الخيال النابعة من الموسيقى. من أجل ضمان العلاقة المباشرة بدون أي وسيط البتة بين مُتلقِّي الجمال والجمال، بخلاف الغريزة الجنسية الخالصة، يجب تعريف استمرارية خالصة لفن الزمن.»
- القضية الأخيرة: «الفنون بقدها وقديدها حسية (sensual)، والضمان الأخير لموضوعيتها، ليس في قبول الإحساس بها، ولكن بسبب أن الفنون يجب أن تُقبَل وأن تُحَس، لا يكون الوصول الأقصى للخلق الحسي إلا الموت الفني للذات.»
وكما ذكرت من قبل، إن هناك تناقضًا بين هذه القضايا الثلاث، كل على حِدة، وعلى الأرجح أن القضايا الثلاث التي استخرجتُها من قصة «موت بلون الذهب»، تستنفد الكلام عن مثالية فن السيد تانيزاكي خلال حياته كلها، ومن جهة أخرى، نَأَى السيد تانيزاكي بنفسه بعيدًا عن عمله الفاشل «موت بلون الذهب» فلم يبحث تلك القضايا بحثًا شاملًا. وسوف أتحدَّث فيما بعد عن هذا الأمر، ولكنني أعتقد أن السيد تانيزاكي على الأرجح انسحب بعد أن استشعر خطرًا ليس بالهَيِّن إن مد الخط على استقامته وتحرى عن هذه القصة.
الأعمال المنشورة في هذا الكتاب، مثل «وشم»، و«سر»، و«حب رجل مخرف»، و«قصة شون كين»، و«مانجي»، تنتمي إلى القضية الأولى، أما أعمال مثل «رقائق الثلج»، و«والدة القائد شيغيكيمي»، تنتمي إلى القضية الثانية من خلال استمرارية خالصة لنوع من أنواع الموسيقى (أسلوب الكتابة يضمن ذلك)، ولكن من خلال تطابق عجيب تحتفظ تحفته الرائعة في أواخر عمره «يوميات عجوز مجنون» فقط، مع «موت بلون الذهب» بنوع من تباين عكسي ساخر، فتقترب بالكاد من القضية الثالثة. ولكن في حالة نقد أدب تانيزاكي، يجب ألا ننسى إجراء مقارنة بين المأسوية الهزلية الخفيفة في «موت بلون الذهب» التي كتبها في شبابه، وبين الكوميدية المهيبة في «يوميات عجوز مجنون» التي كتبها في أواخر عمره.
إنني لا أفضل طريقة النقد بالتحليل النفسي الضحل، ولكن على الأرجح يمكن السماح بتتبع أثر التحليل النفسي لأعمال السيد تانيزاكي الذي انبهر في أحد الأوقات لدرجة عظيمة بعالِم النفس كرافت إيبنج.
يُفترض أن الميول الجنسية لبطل قصة «جوتارو» المحب للمازوخية الجسدية أكثر من حبه للمازوخية النفسية، تخفي بالضرورة نرجسية جسدية تفتخر بجسدها ذاته. وتُعَد قصة «موت بلون الذهب» هي الظهور الواضح والأكثر طبيعية لمثل هذه النرجسية. ثم لو حافظت قصة «موت بلون الذهب» حتى النهاية على النرجسية الخالصة، لقادنا التطابق المنطقي إلى الجمال المكتمل من خلال هذه القصة.
سأقوم بدراسة بحثية استدلالية عن السيد تانيزاكي في شبابه. إذا كان السيد تانيزاكي عندما كتب «موت بلون الذهب» يحاول تطبيق أفكاره تلك، فلا شك أن النهاية التي من المُحتَّم أن يصل إليها؛ أنه لا وجود حقًّا إلا «الموت بلون الذهب» لجعل لحظية ومباشرة تجسيد الفن أبدية، وأن فنه سيغدو فنًّا لا مثيل له في التخلِّي عن الإدراك، فنًّا هدفه الوحيد هو الموت. تُرى هل يمكن من الأصل وجود فن يستخدم الكلمات، وهو أبعَدُ ما يكون عن الروايات التي تضع أساسها التعبير عن المُدرِك (الرائي) — مثل نيجينسكي في الباليه مثلًا — فن يضع أساسه على نفي وإنكار الذات؟ تُرى هل حقًّا اقتنع السيد تانيزاكي بمحاكاة الموت في نهاية كل رواية لكي تكتمل، تشبُّهًا بما وصفه بول فاليري «بأعظم تعبير عن الذات»، وهو فن المسرح الراقص الذي يُعبِّر عن الجمال من خلال الجسد فقط، ويضع في نهاية كل فصل موسيقى بديلة عن الموت؟ أليس الطموح للموت الجسدي هو سبيل الإنسان الوحيد في محاولة الهروب من الثنائية المطلقة للكلمات والجسد؟
أعتقد أن السيد تانيزاكي رفض الانتحار منذ أن تنكَّر بنفسه من قصة «موت بلون الذهب». بمعنى أن الاستمرار على قيد الحياة يعني اليأس من جمال الذات، أي اليأس من الفرضية البديهية الهامة لنظرية الفن في «موت بلون الذهب»، لأن الإنسان إذا حاول أن تكون ذاتُه جميلة، فعلى الأرجح سيواجه إغراء رغبة انتحار لا متناهية. ولا داعي لذكر أن جمال الذات هو التناقض الأكبر لهذه النظرية الفنية، ولكن بدونه لا يستطيع أوكامورا الوجود، وبدونه لا يمكنه الوصول للاحتقار النهائي للإدراك، وبدونه لا يستطيع الإنسان دخول المدينة الفاضلة (يوتوبيا) التي بلا خيال، حيث «الجمال بلا وسيط». فمن أجل أن يعبر حاجز الخلود الذي بينه بصفته خالقًا وبين الجمال بصفته مخلوقًا، ليس أمامه طريق آخَر إلا أن يسحق ذلك التناقض بالموت. فليس أمامه إلا محو منبع حسية الذات بصفتها السبب الحقيقي لوجود الجمال. وفيما بعد يكتشف ساسكيه بطل قصة «حكاية شون كين» طريقة الانتحار الجزئي، ولكن هذه الطريقة هي بكل وضوح طريقة المُدرِك، وليس لها أدنى علاقة من الأصل بالتركيبة النفسية التي تفكر أن الذات هي الجمال. إن فعل ساسكيه هو أفضل حكمة تقود إليها الحسية.
٦
من خلال تنكُّره لقصة «موت بلون الذهب»، أغمض السيد تانيزاكي عينيه عن التناقض الجذري في طريقته الفنية، ثم استخدم المغالطات التقليدية التي تتميز بها اليابان والتي يجب أن توصف بالحل الوسط بين الواقعية والزخرفة، ليفتح حدودًا فنية بلا نهاية، دون أن تمتد يده إلى طريقة جديدة لتطوير تلك المغالطات. وبديلًا عن جحيم النرجسية، تفتَّحت زهرة حلم المازوخية السلس بآلاف التغيرات المتنوعة. يحكي لنا السيد تانيزاكي الذي لا علاقة له بالولع المؤدي إلى تحطيم القدرات النقدية السادية لكل الأشكال والأنماط، يحكي لنا عن سعادة ما بداخل أي مأساة مهما كانت، ثم يؤدي هذا الحكي المتحمس ذاته إلى انبهار القارئ. أدرك السيد تانيزاكي طريقة سرية تجعل للحسية وجودًا من خلال الجمال، فلم يسقط مرة أخرى في هوة تدمير الذات كما حدث في قصة «موت بلون الذهب». تمتلئ الأعماق بالعفن الأخضر الناعم وتشتبك المعاناة مع المتعة في مكان بعيد. فلم يعد الإغواء بالموت متجسدًا الجمال هو المغري للجمال. بمعنى أن الإغواء بتوظيف الجمال، أزال قلق الموضوعية التي أظهرته قصة «موت بلون الذهب» بصفته خطرًا، فطوَّر الروائي مذهبه الموضوعي تطورًا حقيقيًّا كاملًا.
وفي أحيان كثيرة تظهر خلسة في الأعماق، دراما السيد تانيزاكي الداخلية. فيُعَد السحاق في رواية «مانجي» عالمًا نجا تمامًا من الوعي الذكوري الذاتي. (انظروا إلى براعة خلق موقف موضوعي من خلال وصف الظرف.) وبهذه الطريقة تفوَّق السيد تانيزاكي على الجميع ببراعته في رواية «مانجي» بأن يغمس يديه داخل الأعماق بدون رحمة، ويلاحق شخصيات الرواية ليدفعهم إلى الهلاك. تُلْقي تجريدية الحماس الجنسي في هذه التحفة الفنية الخالدة كأحد أنواع رمزية «الجنس» على الطريقة الفرنسية في القرن الثامن عشر، تُلقي بظلالها على أعماله البعيدة في أواخر عمره مثل المفتاح ويوميات عجوز مجنون. بل وتطفح الأعماق السحيقة التي يسقط الإنسان فيها بالسعادة الجنسية في النهاية سواء في رواية «مانجي» الأكثر رعبًا أو في رواية «قصة شون كين» الأكثر كمالًا وجمالًا. ويجب علينا القول إن الوصف الطبي الذي يتعامل بواقعية باردة مع الموت في يوميات عجوز مجنون، سخرية بارعة تجاه ميل روح الإنسان التي أُغويت إلى مثل هذه «السعادة» فقط. وليست هذه سخرية تجاه الجسد ولكنها ما زالت سخرية تجاه الروح وتجاه الأفكار.
من المؤكد كذلك أن رواية «رقائق الثلج» ستظل تحفة فنية خالدة، سجلت النمط الثقافي لليابان لتبلغه للعالم أجمع على المدى الطويل في المستقبل. لا تتوقف الثقافة عن أن تكون عملًا فنيًّا، ولكن ربما يغدو فرد المجتمع الشعبي في المستقبل غير قادر على فهم أغلب التقاليد العميقة لهذه الدولة؛ نمط المعيشة، والإحساس بالأشياء، والتذوق، حركة وسكون الحياة اليومية، وما يسيطر على الأذواق والميول من أقصاها لأقصاها. من المؤكد أن تصبح رواية مثل «رقائق الثلج» التي تبرهن على وجود شيء ما كامن وسط المشاعر المعتادة أن الزهور تعني «كرز» وأن الأسماك تعني «شبوط»، عملًا كلاسيكيًّا يجيبنا باستمرار على التساؤل الذي يقول ما الثقافة؟ ويغدو شبح بطلة الرواية «كيان تشان» رمزًا للغموض الأبدي للمرأة اليابانية.