ياسوناري كاواباتا١

١

ربما لا يناسب السيد ياسوناري كاواباتا أن أستعير كلمات نيتشه للحديث عنه. ولكن العبارة التالية التي ذُكرت في كتاب «نيتشه ضد فاغنر» ويصف نيتشه بها فاغنر تنطبق على أدب كاواباتا انطباقًا يثير العجب.

«إنه في الواقع أستاذ عظيم في دقائق الأمور.»

ويكمل نيتشه كلامه كما يلي:
«ولكنه (أي فاغنر) لا يريد أن يكون كذلك.
بل إن من صفاته أنه يحب الجدران الضخمة واللوحات الجدارية الجريئة الكبيرة.»

ولكن الفقرة الأخيرة هي على العكس تمامًا من أدب كاواباتا. فالسيد كاواباتا — بخلاف فاغنر — على العكس «يحب أن يكون كذلك» ومن صفاته أنه يكره «الجدران الضخمة واللوحات الجدارية الجريئة الكبيرة» ولا يحب التصميم الضخم بلا فائدة.

إن نيتشه يهاجم في فاغنر الأيديولوجية والغرور، «وعدم الإخلاص تجاه ذاته»، وغباءه المطلق. إن كان الأمر كذلك فالسيد كاواباتا هو فاغنر الذي كان نيتشه يتمناه، فاغنر الذي يعرف قدر ذاته حق المعرفة، فاغنر الألمعي الشديد الذكاء. لا يجب الانجرار أكثر من ذلك في مثل هذه المقارنة، ولكن ثمة العديد من المميزات في أدب كاواباتا التي تذكرنا بفاغنر. على سبيل المثال رواية «الجميلات النائمات» التي ترسم صورة مرعبة لتطابق الموت والشهوة الجنسية، فيها غموض وإبهام فاغنر وسحره الذي يجذبنا معه للحضيض. ولكن بديلًا عن ضخامة فاغنر نجد أن «أستاذ دقائق الأمور» حجَّمها في درجة مناسبة.

ربما ثمة مَن يسأل وماذا عن ذكاء السيد كاواباتا، فهي النقطة التي يعجز الجميع عن شرحها شرحًا واضحًا. ولكن إن ذكرنا مضاد ألمعية فاغنر، فهي الإخلاص تجاه ذاته، ومعرفة نفسه حق المعرفة، ولكن إخلاص السيد كاواباتا تجاه ذاته في الحقيقة ليست نوعًا من الأوامر السامية، بل إنه أصبح كذلك بدون أن يكون له حيلة في الأمر، ومن وجهة نظره هو فإن معرفة الذات لها نفس معنى التخلي عن الذات.

إن ذكاء السيد كاواباتا يعود في النهاية إلى أنه ذكي، وإن تأمَّلْناه من هذه البديهية، فثمرة ذكائه الكبرى هي أنه لم يُخدَع من جميع أنواع الأفكار والأيديولوجيات.

وإن أعطيت أمثلة للأفكار التي لم تستطع خداع السيد كاواباتا فسنجد أنها طابور طويل عريض من مئات الأفكار المريبة. لنقل على سبيل المثال؛ العصرنة، الروايات العصرية، الشيوعية، مذهب الحسية الجديدة، تيار الوعي الذاتي، المنطق العقلي، الوطنية، الفلسفة الوجودية، التحليل النفسي، ما بعد العصرنة، الفكر … إلخ.

تُرى هل هناك أديب حالي لم يُخدع ولو لمدة قصيرة فقط بفكرة أو فكرتين على الأقل من هذه الأفكار؟ ولكن السيد كاواباتا لم يُخدع مطلقًا لأيٍّ منها ولو لوقت قصير!

المعتاد أن الألمعية تكون عائقًا للإبداع الفني ولكن حالة السيد كاواباتا مختلفة. عندما يصف إنسان السُّكْر وهو غير سكران، فهو إما أن يبرِّد ذلك السكر، أو أن يبالغ فيه مبالغة ظالمة، من السهل الوقوع في أيٍّ من الحالتين، ولكن السيد كاواباتا يملك داخله قدرة سحرية على تقديم مشاعر السكران وغير السكران في نفس الوقت. ولأنه لم يُخدع بأي فكرة أو مفهوم، فهو مع وصف المجتمع له بأنه «عبقري الرواية» إلا أن روايات السيد كاواباتا لم تنزعج أو تضطرب بمفهوم الرواية نفسه ولا حتى بمفهوم الرواية العصرية. أعرب أحد الأمريكان الذي قرأ الترجمة الإنجليزية لرواية «بلد الثلوج» عن تأثُّره الشديد بالقول: لم يسبق لي قراءة رواية بمثل هذا التفرد والتميز. وهذا رد فعل منطقي تمامًا.

ومع ذلك فالحقيقة أيضًا أن أعمال السيد كاواباتا تمتلئ بالسحر والجاذبية التي تتميز بها الروايات. إن إهمال السيد كاواباتا مع وسع أفقه أثناء معاناته في إبداع أعماله تُعطي لكل عمل على حدة مذاقًا عجيبًا من الأمان الكبير عبر التفاصيل الدقيقة. وحتى عالم الجمال الذي يختنق عند غيره، يتحول عنده في الحال إلى تباين نفساني مسالم ولطيف.

إن السيد كاواباتا عبقرية استثنائية أبعد ما تكون عن الترويع. فقد استمر في الإنتاج بنقاء حتى الآن بشكل مؤكد ودائم بعبقرية خارقة للطبيعة. وبصفة خاصة ذلك البرود الخفيف المميز الذي يُرى في أعماله بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تلك الجاذبية التي تُسبِّب نوعًا من أنواع الرعب الذي يجعل البشرة ترتعد من تفاصيلها الدقيقة، تنطلق من أن مصير هزيمة اليابان قد سكنت بعمق في قلب هذا الشاعر.

«لم يسبق لي أن جربت تلك المعاناة والآلام الغربية. لم يسبق لي أن رأيت في اليابان عدميةً واضمحلالًا على الطريقة الغربية.» (مقالة «حزن وقلق»)

قال السيد كاواباتا هذه العبارة المباشرة حول مواساة اليابانيين المتفردة للحزن والفناء من خلال الحزن ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُظهر شجاعته فجأة عندما استقبل نبأ الهزيمة في الحرب وقد وصل إلى قراءة شرح كيغين كيتامورا لرواية «سيرة الأمير غِنجي» المسمى «كوغيتسوشو» حتى منتصفه.

كانت آخر جملة في كلمة العزاء التي ألقاها السيد كاواباتا في تأبين الأديب «ريئتشي يوكوميتسو»:

«صديقي يوكوميتسو! سأعيش بعدك جاعلًا من جبال اليابان وأنهارها روحًا لي.»

وقد نفذ كاواباتا تلك الجملة بعد ذلك بإخلاص تام.

٢

«حزن وجمال»

نُشرت مسلسلة في مجلة «فوجين كورون» على مدار ٣٣ حلقة من عدد يناير ١٩٦١م وحتى عدد أكتوبر ١٩٦٣م.

من بين العديد من أعمال الروائيين، ثمة أعمال يمكن من خلالها أن نقرأ بالتفصيل موضوعات ذلك الأديب وتقنياته ومميزاته الفنية ومنهجه النظري وكأننا نرى ساعة حائط زجاجية تشف عما بداخلها، ورواية «ناهوكو» للأديب تاتسو هوري هي مثال على تلك الأعمال. وليس بالضرورة أن يكون ذلك العمل هو أشهر أعمال ذلك الأديب ولا أن يكون من أعماله التجريبية الطموحة. بل مجرد أن الكاتب يكتب هذه الرواية التي توضح منهجه النظري عن طريق الصدفة. ومن وجهة نظري الشخصية أن رواية «حزن وجمال» هي من هذا النوع من الروايات.

وهي كذلك ليس فقط لأن بطل الرواية روائي، ولأنها تتكلم عن علاقة الرواية بالموديل، وارتباط الرواية بالحياة، وفيها أيضًا وهو أمر نادر في روايات السيد كاواباتا عرض لما يمكن أن يكون نقدًا أدبيًّا، ولكن أيضًا لأنني شخصيًّا تعلمت بوضوح من هذه الرواية الكثير من أسرار أدب كاواباتا. ومن أجل ذلك، أريد من خلال هذه الرواية أن أتعرض للمواضيع الرئيسة التي تمتد عبر جميع روايات السيد كاواباتا.

في البداية أولًا، يجب أن نشير إلى أن فكرة أن أدب كاواباتا هو أدب رومانسكي٢ غنائي باتت الآن هي الفكرة السائدة عنه. أي إنه لا يضع أهمية كبرى على الصراع بين العلاقات الإنسانية أو الأفكار، بل على العكس يمحو الآثار الجسدية للشخصيات الإنسانية، فتصبح مثل النموذج البدائي كما هو، ويجعلها مثل الإكتوبلازم٣ الذي يخرج من جسد الوسيط الروحاني، ويكون هذا في بعض الحالات عبارة عن رومانسكي يتكرر بنفس الشكل على مدى عدة أجيال ليتشابك ويتعقد، وفي النهاية يتسامى فوق ثنائية الخير والشر، ويذوب الأصدقاء مع الأعداء والموتى مع الأحياء داخل حزن يعيش بلون واحد. وأخيرًا تختلط حتى الشرور والفضائل مع الحزن، لدرجة أن يصل الوجود الحي كله إلى نوع من أنواع الفرحة من خلال التناغم معًا عبر الحزن. هذا النوع من الرومانسكية يتكرر بإلحاح في أدب كاواباتا كله، ويظهر ذلك في شكل النموذج التقليدي له في رواية «حزن وجمال».
الأمر الثاني أن أدب كاواباتا هو أدب رد فعل رومانسكي. وهذا له علاقة بأن أدب كاواباتا يتميز بأنه عديم التركيب، تسير الحكاية وكأنها تعتمد على أنها حرة الترابط (free-association)، من خلال المشاعر التالية التي تحدث بناءً على رد فعل غير منطقي من أحد المشاعر. مثلًا هناك أحد الوجوه. وهو وجه غير محدد مثله مثل حركة الغيوم، والتغير الذي يحدثه أحد المشاعر على ذلك الوجه، يُحدث رد فعل على وجه الحبيبة، من الطبيعي، يرسم في القلب موجات لها شكل مختلف. وبهذا تكون الحكاية في غفلة من الزمن قد انتقلت إلى الموجة الثانية من المشاعر.

والأدب الرومانسكي الذي ينتقل بناءً على مثل هذه الموجات، من الطبيعي أن تكون طريقة حركته مبهمة وغامضة وبطيئة وكسولة مثل حركة طحالب البحر. ولكن لأنه أدب رد فعل رومانسكي لا يسمح بالتوقع أو التخمين، فلا يوقعنا أسرى للحتمية الدرامية الصارمة، ومثلما نندهش عندما نتعامل مع غضب مفاجئ أو هياج غير مفهوم من الناس، أحيانًا ما تحدث فجأة نتائج غير متوقعة. ويكون لذلك فاعلية في سلوك النساء بصفة خاصة داخل الرواية، وكثيرًا ما تصل تلك الفاعلية إلى أن تكون نوعًا من أنواع الجمال.

ويمكننا كذلك أن نعيد تسمية ذلك الأمر باسم الأدب الرومانسكي المفاجئ. والسيد كاواباتا لا يستخدم فقط مثل ردات الفعل الفجائية تلك، ولكنه يستخدم كثيرًا طريقة أنه فجأة يقدِّم لنا أولًا أمرًا لا يمكن توقعه، ثم بعد ذلك يبدأ تدريجيًّا وببطء تفسيره وفك رموزه. فأحيانًا ما يحمل تأثير «الوردة»٤ التي استخدمها ممثل وكاتب مسرح النوه الشهير زيامي، وأحيانًا أخرى يسقط في شراك الدعابة السمجة بديلًا عن توليد العفاريت والجنيات الخارقة للطبيعة.

ولنُعطِ مثالًا محددًا، يمكن رؤية المفاجأة التي يولدها أدب رد الفعل الرومانسكي عندما يصل إلى الجمال المؤلم. مثلًا في فصل «أحجار متراكمة – حديقة الصخور» مشهد ركل أوتوكو بأقدامها العارية لعامود القنديل الصخري. ثم بعد ذلك، مشهد عدم مجيء كيْكو التي كان من المنتظر أن تدخل الحمام، مهما مر الوقت، ثم فجأة تتأهب في مظهر جميل للخروج على غير المتوقع. يُختصر هنا الوصف النفسي بين تلك الأحداث، وتكون المشاهد حية بسبب طبيعتها المتدفقة تباعًا، ولكن كاواباتا المشهور ببراعته الحادة في التحليل النفسي، يستخدمه بترشيد واقتصاد. ولكنه عندما يستخدمه مرة، كما في فصل «ربيع مبكر»، يبرع براعة تصل إلى حد كراهية العالم في وصف التحليل النفسي للزوجة التي تكتب مخطوطة الرواية على الآلة الكاتبة. فمع أن بطل الرواية الروائي كان يخشى أن تعرف زوجته حقيقة علاقته الغرامية السابقة كما هي من خلال كتابته في الرواية، إلا أن الزوجة شعرت على غير المتوقع بجرح عميق لأنه لم يهتم اهتمامًا كافيًا بإبرازها في الرواية حتى ولو في صورة «الزوجة التي تغير غيرة جنونية».

وكذلك في بداية فصل «خصلات شَعر» كمثال على طريقة المفاجأة البارعة ذات الحبكة المتعمدة، يستخدم الزوجان أوكي صيغة الاحترام القصوى بكثرة تثير التقزز في التحدث معًا لدرجة الاعتقاد أنهما قد أصيبا معًا بالجنون، فحتى لو كان ذلك يحمل معنى المشاكسة، فعند مواصلة القراءة حتى نصل إلى الحديث الخاص «فرصة الشعر الأمامي»٥ إلخ فيما بعد، نفهم جيدًا تأثير المشاكسة الذي يشبه وجبة الطعام الباردة للزوجين اللذين بلغ بهما ملل الحياة الزوجية منتهاه.
سأتحدث بعد ذلك عن رومانسكية الوقت الذي يظهر كثيرًا في أدب كاواباتا. عندما يتدحرج الزمن من الماضي إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى الماضي، يتعمد السيد كاواباتا أن يصل الفروقات في ذلك الزمن إيصالًا مبهمًا مثل الغيوم في اللفائف المصورة. ويسبب ذلك إعطاء روايات السيد كاواباتا انطباعًا بمرور الزمن مرورًا خانقًا، وفي نفس الوقت عمقًا سوداويًّا كئيبًا. وأكثر النماذج التقليدية لذلك في فصل «لوتس وسط اللهب»، في الجزء الخاص بذكريات صاحبة مطعم معكرونة الأودون،٦ يسير القارئ دون أن ينتبه لنفسه داخل مشاهد الماضي التي لا يمكن نسيانها. ولا يقتصر ذلك على هذا المكان فقط، بل إن رومانسكية الزمن تقوم على أن يتبادل الماضي والحاضر الاعتداء كل منهما على الآخر، وعلى تبادل تغلغل الألوان الجميلة مع الألوان المسمومة بطول رواية «حزن وجمال».

وفي النهاية لا داعي للكلام عن رومانسكية الشهوة الجنسية في الرواية.

وكما يرمز السطر التالي من فصل «لوتس وسط اللهب» لتلك الرواية بأكملها:

«كانت تلك الشهوة الجنسية تشبه بهجة مفاجئة.»

في فصل «أجراس ليلة رأس السنة» عندما يسارع البطل بمسح خط دموع الطفلة الوالدة، التي «على وشك أن تدخل من فتحة الأذن»، وعنايته بالفتاة وتمريضه لها بعد أن تناولت السم في نهاية الفصل نفسه، وفي فصل «لوتس وسط اللهب»، مشهد كيْكو التي تُظهر بإلحاح تخلصها من الشعر الزائد، ووضع أوتوكو الموسى على عنقها ذلك، وخاصة براعة الحكاية العجيبة الخاصة بثدي كيْكو الأيمن وثديها الأيسر الذي تمتد عبر الرواية بأكلها، كل ذلك يعبر تمامًا عن رومانسكية الشهوة الجنسية. وفتنة الحب السحاقي في فصل «لوتس وسط اللهب» ورائحته التي تسبب الغُصة، ويترك إدراج قصة الأميرة كازونوميا في فصل «خصلات شَعر» انطباعًا لا يمكن نسيانه، حيث إن القصة من ذلك النوع الذي يعشقه كاواباتا. ثم وكما هو المعتاد، كلا الرجلان اللذان يظهران في هذه الرواية (الأب والابن) لهما وجود غير واضح المعالم، وأغلب أفعالهما مصطنعة، وجانب كبير منهما شديد القسوة، ويشبه الظلال الباردة.

٣

«بلد الثلوج»

نُشرت الرواية أولًا مسلسلة في عدة مجلات بالترتيب التالي:

فصل «مرآة منظر الغروب» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد يناير من عام ١٩٣٥م.

فصل «مرآة صباح أبيض» بمجلة «كايزو» عدد يناير من عام ١٩٣٥م.

فصل «حكاية» بمجلة «النقد الأدبي الياباني» عدد نوفمبر من عام ١٩٣٥م.

فصل «جهود ضائعة» بمجلة «النقد الأدبي الياباني» عدد ديسمبر من عام ١٩٣٥م.

فصل «زهرة القش» بمجلة «تشويو كورون (الرأي العام المركزي)» عدد أغسطس من عام ١٩٣٦م.

فصل «وسادة النار» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد أكتوبر من عام ١٩٣٦م.

فصل «أغنية دمية تيماري» بمجلة «كايزو» عدد مايو من عام ١٩٣٧م.

فصل «حريق وسط الثلوج» بمجلة «كورون (الرأي العام)» عدد ديسمبر من عام ١٩٤٠م.

فصل «مخلص بلد الثلوج» بمجلة «غيوشو» عدد مايو من عام ١٩٤١م.

فصل «تتمة بلد الثلوج» بمجلة «روايات شينتشو» عدد أكتوبر من عام ١٩٣٥م.

أي إن الرواية استغرقت منذ بداية نشرها، ثلاثة عشر عامًا حتى تكتمل. ثم ترجمها إدوارد ج. سايدنستيكر (Edward George Seidensticker) إلى الإنجليزية في عام ١٩٥٦م ونشرتها دار نشر كنوبف (Knopf) في نيويورك، وتابعتها الترجمة الألمانية ثم السويدية ثم الفنلندية ثم الإيطالية ثم الفرنسية وغيرهما من اللغات بالتوالي.

وفي عام ١٩٣٧م عندما حصل السيد كاواباتا على جائزة مجلس النقاش الأدبي في اليابان ذُكرت الرواية ضمن أفضل أعماله. وبهذا لم تحصل الرواية على الإعجاب والتقدير من داخل وخارج اليابان فقط، بل إن المؤلف نفسه يعُدها هي و«ذكريات سن السادسة عشرة» من أحب أعماله إلى قلبه.

ودعوني هنا أقتبس ما حكاه السيد كاواباتا بنفسه عن رواية «بلد الثلوج» من الحوار الذي أُجري معه ونشرته دار كاوادِه شوبو تحت عنوان: «ياسوناري كاواباتا وقراءة الكتب الأدبية».

ميتسو ناكامورا (ناقد أدبي) : إن «بلد الثلوج» رواية خيالية، أليس كذلك؟
كاواباتا : الجزء الأكبر من «بلد الثلوج» خيالي. قمت بتجميله. ولكن على الأقل الطبيعة خيالية. ولكن نماذج الشخصيات قمت بتجميل بعضها وصناعة البعض بنفسي.
ناكامورا : ماذا عن البطل الرئيس للرواية؟
كاواباتا : البطل …؟
ناكامورا (ضحك) : صُنع في صورة شريرة جدًّا...
كاواباتا : أجل، جعلتُ منه شخصية سيئة. وهذا دوره أن يُبرز الآخرين. وحتى البطلتان أيضًا، إحداهما شخصيتها عجيبة أليس كذلك؟ هذه ليس لها وجود في الواقع.
ناكامورا : تقصد يوكو …؟
كاواباتا : في يوم ما، قال لي ممثل الكابوكي شوتارو هاناياغي إنه سيقوم بتمثيل الرواية على المسرح ولذا سيذهب لرؤية الموديل. فلم أعطِه تفاصيل المكان، ولكنه بحث عنه بنفسه وذهب حسب ما سمعت. (ضحك) ثم بعد ذلك في حوار فني له مع الرسام الشهير كيوكاتا كابوراكي قال هاناياغي: «إن موديل شخصية يوكو كانت امرأة ذات عينين تلمعان دائمًا» ولا أعلم مَن هي تلك المرأة التي أصبحت يوكو. (ضحك.)
ناكامورا (ضحك) : لقد ظهرت خصوصًا له.
كاواباتا : أما موديل كوماكو فلحسن الحظ تزوجت. وعندما كانت هي وزوجها ما زالا يعملان في ذلك النُّزل للينابيع الساخنة، زارهما صدفة الناقد الأدبي سويكيتشي أَوْنو فقال له ذلك الزوج: «يأتي الكثير من الزوار لرؤية مكان الأحداث»، «حسنًا، هذه هي طبيعة المجتمع وحبه للنميمة» (ضحك.)

في نفس الحوار الأدبي، ذكر السيد كاواباتا أنه كتب أجزاءً كبيرة من رواية «بلد الثلوج» في منطقة يوزاوا للينابيع الساخنة، وأنه عندما كان يكتب بدايتها في يوزاوا، لم تكن الأحداث التالية قد حدثت في الواقع بعد. وذكر كذلك أن الحريق وسط هطول الثلوج حدث بالفعل في الواقع.

إن رواية «بلد الثلوج» عمل متفرد جدًّا كرواية، وتعد تجربة عملية للاستمرارية المحضة في الرواية. عندما يُقاد القارئ إلى داخل بلد الثلوج عبر مشهد القطار الشهير في مقدمة الرواية، يقع القارئ بالفعل منذ تلك اللحظة أسيرًا للتدريب العملي لحواسه من خلال تصوير ووصف انعكاس المشهد بتلك الغرابة على زجاج النافذة. الألم الناتج من منظر الغروب الذي ينساب في قاع المرآة. عندما «تضيء نيران الجبل البري في وجه الفتاة». هنا تتألق ريبة أدب كاواباتا اللاواقعي في صورة رمزية واحدة. وإن استخدمتُ هنا مصطلح «رد الفعل الرومانسكي» الذي ذكرته قبل قليل، فليس هذا رد فعل قلبي فقط، ولكنه أيضًا رد فعل وانعكاس للأضواء وصور الظلال.

وفي الواقع مشهد القطار هذا يُعد تمهيدًا لكل الفصول، أي نعم لم تظهر بعد كوماكو التي يجب وصفها بأنها بطلة العمل الرئيسة، ولكن يقدم هذا المشهد مسبقًا أسئلة للقارئ، مَن «شخصيات» هذه الرواية؟ وما «مناظرها»؟ وما دور «الطبيعة» فيها؟ وما «أحداثها»؟ ثم يجيب عنها إجابات مستفيضة وسرية. ويشبه هذا بالضبط المقدمة التي تُوضع للكتب الفلسفية لكتابة تعريف صارم ودقيق مسبقًا لكل المصطلحات الفلسفية المتنوعة التي ستستخدم داخل ذلك الكتاب.

ولذلك بعد أن ينتهي القارئ من جميع الفصول ينتبه لأول مرة إلى معنى تلك المقدمة. بمعنى أنه ينتبه إلى أن كوماكو ويوكو وكل الشخصيات داخل الرواية يُنظر إليهم «من داخل مرآة عجيبة»، يُنظر إليهم وكأنهم «خدعة في حلم»، وبالنسبة للقارئ وأيضًا بالنسبة للبطل شيمامورا، عدم إعطائهم «ألم النظر إلى الأحزان»، وكذلك، ظهور المناظر داخل الرواية، واضحة زاهية بتفاصيلها الدقيقة لكل منظر على حدة، بسبب أنها كما هو المتوقع تحت سيطرة «القوة اللاواقعية لمشهد الغروب المنعكس في المرآة»، وكذلك الأحداث التي تقع داخل الرواية، على سبيل المثال، مشهد الحريق وسط هطول الثلوج في نهاية الرواية، وسقوط يوكو من مقصورة الطابق الثاني، مثلها مثل إضاءة النيران لوجه يوكو المنعكس في زجاج نافذة القطار، ليست إلا لحظة معجزة هادئة يختلط فيها البشر مع الطبيعة بدون حد فاصل بينهما، ينتبه القارئ إلى كل ذلك وغيره. ولذلك بنهاية تلك الرواية، عندما رأى شيمامورا يوكو التي سقطت على ظهرها فوق الأرض، لا يتعجب أحد عندما يرى طريقة إحساسه بذلك كما يلي:

«وكما هو متوقع لسبب ما لم يشعر شيمامورا بالموت، بل أحس بما يشبه الانتقال من طور إلى آخر، أن روح الحياة داخل يوكو سيختلف شكلها فقط.»

إنْ كان ثمة موضوع رئيس لهذه الرواية التي يبدو أنها راهنت فقط على الاستمرارية المحضة لكل لحظة من حياة البشر غير المحددة، لكانت تلك الجملة تعبر عنه تمامًا. ليس يوكو فقط، بل لقد كان وضع كوماكو دائمًا أسيرًا كذلك تحت مثل هذا الموضوع. إنه توثيق عجيب «لتغير طور الحياة داخل» المرأة، وتجميع لمسودات لحظات «الانتقال» التي تشبه امتداد سنابل اللهب خُفْية. بل إن كوماكو ويوكو لا تصلان حتى إلى درجة شخصيات متسقة للنهاية. بل لدرجة أنه ما من شخصية واحدة مستقلة بذاتها لأيٍّ منهما. ولا يمكن رسمهما بصدق وصراحة إلا من خلال تلك اللحظات الدقيقة لذلك التغير في أطوار الحياة المتنوعة من خفقان واهتزاز وفرحة. إن كلمة «جهود عقيمة» التي تظهر مرات عديدة داخل الرواية، هي كلمة عكسية تجاه خطورة الجمال للتأكيد على شكل هذه الحياة التي تُهدر بهذا الحال دون هدف.

وصْف السيد كاواباتا للطبيعة. لم يكن ذلك مثل ما يقوله عنه الآخرون، مجرد وصف فقط للطبيعة الجميلة رُسمت رسمًا جيدًا. بعد أن يصف التغيرات المريبة لألوان الجبال، والمشاعر التي تأتي من ذلك، يكتب السيد كاواباتا فجأة وكأنه قد تخلَّى عن الأمر برمته:

«ما من توافق بين السماء والجبال.»

داخل مرآة تعكس الثلوج التي تتألق ناصعة البياض، تبرز خدود كوماكو التي تثيرها الحياة البرية فاقعة الحمرة. وفي العُليَّة العجيبة، تعيش نفس المرأة «بجسد شفاف يشبه دودة القز». عندما نربط تلك التفاصيل بعضها ببعض، من المستحيل أن نستطيع تشكيل صورة كوماكو كإنسان مؤكد ومتجانس. ثم في الأصل الشهوة الجنسية لا تحتاج إلى صورة كاملة ومتجانسة.

ومع كل ذلك، تمتلئ تلك الرواية امتلاءً تامًّا بتلك الجاذبية التي تجعل القراء يذهبون في رحلات سفر للبحث على موديل شخصيات رواية «بلد الثلوج». حتى وإن لم تظهر الصورة الكاملة، فالاستمرارية المحضة، تعطي القارئ القوة لكي يقوم بنفسه بتركيبها وتجميعها في النهاية. بهذا المعنى فإن هذه الرواية فريدة، وكذلك في نفس الوقت، هي الرواية الأكثر شمولًا وعمومية.

٤

«ألف طائر كركي»٧

... نُشرت في عدة مجلات بالترتيب التالي بالتوازي مع رواية «ضجيج الجبل».

فصل «ألف طائر كركي» بملحق مجلة «أحوال القراءة» عدد مايو من عام ١٩٤٩م.

فصل «شمس الغروب في الغابة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الثاني عشر أغسطس من عام ١٩٤٩م.

فصل «إشينو» بمجلة «حدائق الروايات» عدد يناير من عام ١٩٥٠م.

فصل «أحمر شفاه الأم» بمجلة «حدائق الروايات» عددي نوفمبر وديسمبر من عام ١٩٥٠م.

فصل «نجمة مزدوجة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الرابع والعشرين الصادر في شهر أكتوبر من عام ١٩٥١م.

لا تظهر الآنسة إينامورا، التي تحمل صرَّة جميلة من قماش عليها رسم ألف طائر كركي الذي يُعتقد أنه سبب تسمية عنوان الرواية بذلك الاسم، في هذه الرواية إلا مرتين فقط، وتقريبًا لا تتكلم، وليس لها أي علاقة بحياة بطل الرواية الشاب كيكوجي، وليس لها أي علاقة بالعلاقات الإنسانية داخل الرواية، وتختفي تمامًا في النصف الثاني منها. ويأتي خبر أنها تزوجت، ولكن لا أحد يعلم هل ذلك صدق أم كذب.

ولكن كيكوجي يرى لحظيًّا شبح الآنسة إينامورا من نافذة القطار. من الغريب أنه لم يكن ثمة مارة في الطريق الذي أمام القصر الإمبراطوري الذي تصطف على جانبيه الأشجار وتسقط عليه شمس المغيب.

«في ظلال أشجار الطريق تلك، ظن كيكوجي أنه رأى الأنسة إينامورا تحمل صرة من قماش كريب بلون وردي عليه ألف طائر كركي أبيض.»

هذا الشبح الجميل النقي، مع أنه يحمل تحذيرًا من خيط السببية القبيح في هذا العالم داخل الرواية، في تلك السماء المرتفعة، تطير طيور الكركي الألف. عنوان ربما بدا أنه ليس له أي علاقة بموضوع الرواية الرئيس ولكن حتى ذلك نوع من تقنية الرواية التقليدية.

إن رواية «ألف طائر كركي» عمل اكتمل فيه طراز كاواباتا في محاكاة النموذج التقليدي القديم اكتمالًا تامًّا، وإن ضربنا مثالًا من أعمال جونئتشيرو تانيزاكي فهو عمل يضارع رواية «حكاية ضرير» ورواية «قاطع القصب». الشخصية التي رسمت في الرواية بحيوية ونشاط هي المرأة الشريرة تشيكاكو التي لديها وحمة في صدرها، وهي تلك التي تشبه النبيلة الشريرة التي تظهر في حكايات عصر الأسرات،٨ بالنسبة للشاب كيكوجي، فهو لا يمكن اعتباره شابًّا من شباب اليوم، إن هذا الشاب عديم اللون الشفاف تمامًا الذي يترك نفسه كاملة للحسية الجسدية، الهادئ هدوءًا حقيقيًّا، عندما «ينام في الظلام وينظر إلى اليراعات المضيئة»، يصاحب ذلك مشاهد لوجه الأمير هيكارو غِنجي. وانتحار السيدة أوتا، المرأة التي كانت عشيقة والده، ثم أصبحت عشيقته، بتناول السم عندما سمعت عن خطوبة كيكوجي، هذه الجاذبية القصصية أيضًا من ذوق عصر الأسرات، واختتام الأحداث بنهاية خطيرة بين الحياة والموت أن تتعهد ابنة السيدة أوتا لكيكوجي أنها سوف تتحمل إثم أمها، كل هذا على طراز الأدب في عصر الأسرات.

ولكن أنا أرى أن متعة تلك الرواية هي في مواضع تحول حيوية جمال التقليدي الياباني دون تعمُّد إلى صور كاريكاتورية. فحفلات الشاي المقدسة تقام من خلال تشيكاكو لاستخدامها كمؤامرة شريرة في حفلات التعارف للزواج، والمعلومات الجمالية عن أدوات الشاي، في الواقع، بالنسبة لتشيكاكو ليس إلا معلومات وظيفية عامِّيَّة، وعندما لا ينجح الزواج الذي تدفع إليه كيكوجي دفعًا، تبدأ في مناورات سرية للتخلص من أدوات الشاي. وأدوات الشاي تلك كل على حدة، تكمن داخلها علاقات خيانة دميمة وتنتقل من خلالها، وكذلك كوب من نوع شينو الذي يصبح إرثًا من أثر السيدة أوتا، عليه أثر أحمر شفاهها، وكأن أثر جرائمها، ملتصق بالكوب، كل تلك الأدوات الدقيقة تُستخدم من أفضل ما يمكن كأدوات حياتية دنيوية في الرواية.

صُنعت رواية «ألف طائر كركي» ببراعة وحذق رومانسكي من خلال التضاد العكسي لما يحمله الجمال الياباني من عناصر مميزة له، مثل أن التلميح أن العلاقات الإنسانية الحسية الحيوية تترسب في العمق لأنها تمر من خلال طراز الجمال أكثر من العلاقات الإنسانية العادية … مثل الاستخدام العامِّيِّ لأدوات الشاي، الإيروتيكية المكنونة التي تتعلق بعملية تلقي أدوات الشاي والنظر إليها في تأمل. وهذا ما أعطى هذه الرواية قيمة أكبر من كونها عملًا عن الجمال المجرد فقط.

٥

«الجميلات النائمات»

نُشرت في مجلة «شينتشو» من عدد يناير إلى عدد يونيو من عام ١٩٦٠م، ثم من عدد يناير إلى عدد نوفمبر من عام ١٩٦١م.

إن هذه الرواية هي أكثر روايات السيد كاواباتا ذات الحجم المتوسط، اكتمالًا وتنسيقًا من حيث الشكل والتصميم، وهي تحفة أدبية من أبرز ما ألف السيد كاواباتا مؤخرًا.

إنني لا أنسى حتى الآن شعوري عندما انتهيت من قراءتها لأول مرة، وعندما أحاول أن أتذكر عملًا فنيًّا يقترب من هذه الرواية في جعلها صدري يختنق وأنفاسي تتلاحق لحظة بلحظة لقلة الأكسجين الواصل إليه وكأنني داخل غواصة تغرق، فلا أستطيع إلا مقارنتها بصعوبة بالغة بأعمال كافكا. تلك الرواية التي تدور من أولها لآخرها في غرف سرية لنادي بنظام العضوية السرية، هذا بذاته يصنع ببراعة شديدة رمزية للحالة النفسية المحاصرة. ولقد أصابتني حالة من الهلع لاعتقادي أنها الرواية التي تمثل الجحيم بالنسبة لكاواباتا.

ولكن، الموضوع الرئيس الذي يظهر هنا، حتى مع اتخاذه شكلًا في غاية التطرف، ولكنه ليس جديدًا مطلقًا بالنسبة إلى قرَّاء أدب كاواباتا. حتى شكل الحب، ظهر في قصته القصيرة «وحوش»، وحتى تفضيل البنات الصغيرات (عقدة لوليتا) الذي كرره في أعماله منذ بداياتها، في النهاية يصل في هذه الرواية إلى نهايتها الحتمية. إن العذراء والعصافير والكلاب لا تحكي من تلقاء نفسها، ولكنها تظهر وهي تتخذ براءة ونقاء الوجود كمفعول به مطلقًا. إن سبب انحسار الإيروتيكية من خلال التعارف النفسي، هو أن الجوهر يظهر بمجرد تبادل الحوار قليلًا. إن الأمر المثير في منطق الإيروتيكية التي تطلب وتلح للحصول على ما لا يمكن الوصول إليه، هو الرغبة في التوقف الصارم عند حدود بشرة جلد الشخص المرغوب، أكثر من رغبة الدخول إلى الجانب الداخلي له. إن الوصول للخارج في الإيروتيكية الحقيقية، أكثر استحالة من الوصول للداخل ويمتلئ بالألغاز أكثر. في مثل هذه الإيروتيكية يمثل غشاء البكارة الرمز الأكثر روحانية وجاذبية «للخارج»، ولا ينتمي بأي حال إلى الجانب الداخلي للأنثى.

في إطار أدب كاواباتا، بهذا الحال، فإن أكثر الأمور إيروتيكية هي العذراء، بل وهي نائمة، لا تنطق ببنت شفة، لها وجود من المستحيل الوصول إليه إلى الأبد مثل خط الأفق، مع أنها عارية كما ولدتها أمها. إن «الجميلات النائمات» هن المحصلة النهائية لمنطق الرغبة هذا.

وبالطبع لا يمكن هنا أن نرى ترنح الحياة العنيف لنساء رواية «بلد الثلوج». ومن الأفضل أن ننظر إلى رعب الوصف التالي للمداعبة الحسية الذي يقترب من أن يكون وصفًا في علم التشريح:

«بدت أسنان الفتاة التي لمستها إصبع إيغوتشي، مبللة قليلًا لدرجة أن التصق بالإصبع قليل من اللزوجة. فحص إصبع سبابة الرجل العجوز تنسيق أسنان الفتاة، إلى أن وصل إلى ما بين الشفتين. ثم كرر الذهاب والإياب مرتين أو ثلاث مرات. ومع أن الجانب الخارجي للشفتين كان يميل إلى الجفاف، إلا أنها من الداخل كانت رطبة وسلسة. في الجانب الأيمن هناك سن نبتَت فوق سن أخرى. أدخل إيغوتشي إبهامه أيضًا وجرَّب أن يمسك تلك السن البارزة. أراد بعد ذلك وضع إصبعه على الجانب الداخلي للأسنان ولكن كانت أسنان الفتاة العلوية والسفلية منطبقتين على بعضهما البعض بصرامة فلم يستطع فتحهما رغم أنها نائمة.»

في إطار السرعة البطيئة، لا يشبه هذا اللعب الجسماني أي نوع من أنواع المداعبة الجسدية الطبيعية مهما بدا أنه يشبهها. ولأن ذلك ليس سلوك حب يتفاعل مع إيقاع حركة الحب الجنسي، فهو يشبه سلوك التعارف السري، ومن أجل ذلك ينطبق تمامًا تراكم الكلمات، مع الحركة البطيئة (slow motion) المضادة للفسيولوجيا، وتعطي لسرعة تقدم الرواية ذاتها اختناقًا غريبًا مؤلمًا وواقعيًّا.

وأيضًا التفرقة بين طريقة كتابة شخصيات الفتيات الست في الواقع متميزة وفريدة. بعد أن نُزع كل ما يمكن أن يعتمد عليه الروائي في التفرقة بين شخصيات الرواية؛ مثل التفرقة من خلال الحوار وطريقة تحريك أعضاء الجسم، وبريق العينين، والملابس، تغلف طريقة عيش كل فتاة على حدة وأسرار حياتها جسدها من الداخل بجلال وهيبة وسرية، ويظهر فقط على أنه هدف للمداعبة فقط. مثل قماش لوح أبيض، يرسم عليه العجوز إيغوتشي نشر أوهام وخيالات ماضيه كما يحلو له، وفي نفس الوقت، في كل مرة جسد كل فتاة على حدة، يعطيه فرحة وتأثر طازج من خلال جاذبية كل منهن الفردية التي لا يمكن تبديلها مطلقًا. وليس هذا ما يطلق عليه فردانية الشخصية. أمام رغبة الرجل التجريدية، يقف لحم المرأة المادي ويواجه تلك الرغبة في كل مرة بالقوة الأكثر جوهرية ليصبح عائقًا لها ويمنعها. ترتبط مادية ذلك الجسد بصرامة مع الاختلاف في كل عضو من أعضاء الجسم مهما كان اختلافًا ضئيلًا، مثل الاختلاف في سُمك الشفة السفلى، والاختلاف في نحافة الرقبة وطولها. إن وصف أجساد الفتيات في رواية «الجميلات النائمات» بهذا الحال، يمكن مقارنته وتشبيهه بمراقبة نحَّات محنك ذو خبرة طويلة.

وفي النهاية من الطبيعي والمنطقي أن الميل الإيروتيكي تجاه الشيء الثابت غير المتحرك، الشيء الذي لا يمكنه التأثير بتاتًا، يؤدي إلى صورة وهمية لاغتصاب الموتى. عندما يُبدي إيغوتشي الذي ينام مع فتاتين في نهاية هذه الرواية دهشته من اكتشافه موت إحداهما تقول له المضيفة المؤدبة:

«أليست الأخرى موجودة؟»

إن تلك الكلمة اللامبالية، تعتبر الجملة الأكثر عنفًا التي توجهها الإيروتيكية إلى الإنسانية. بل لدرجة أنني أعتقد أن هذه الرواية هي أحد الأعمال الفكرية.

إنَّ تساؤل سارتر في الجزء الثاني من سيرة جان جينيه: «هل يمكن الخلاص بواسطة الجمال؟» لا ينطبق تمامًا على هذه الرواية فقط، بل إنني أعتقد أنها ترمز باتساع إلى شخصية أدب كاواباتا كله، ولذا سوف أطيل الاقتباس من كلام سارتر في ذلك الكتاب:

«إن مذهب الجمال (aestheticism) لا ينشأ مطلقًا من الحب غير المشروط للجمال. بل إنه يتولد من الكراهية.»
«إن الجمال ليس مظهرًا وليس وجودًا، بل إنه أحد أنواع العلاقات، أي إنه عبارة عن تأثير التغير من الوجود إلى المظهر.»
«إن الجمال ذاته هو استحالة رؤية ما يُرى بالعين.»
«إن الجمال (والشِّعر) يعبِّر على العكس عن انتصار العدم. في حالة الشِّعر، يتغلب الوجود، ولكن في حالة الجمال يصبح الوجود خفيفًا، ويُصدر صدًى فارغًا، فيقل ذلك الضغط.»
«لا تُشبع الجمال، واصنع له كهفًا. إن ذلك هو علم الفراسة المنفر الذي يملك حقيقة الإنكار.»
«إن الشر يخطط لتدمير الوجود. وإذا حاول الشر تنفيذ ذلك الدمار بدون استعارة قوة الوجود، بمعنى إذا حاول الشر إظهار قوته الذاتية دون التواطؤ مع النظام والعقل والمنطق، فهناك ضرورة لأن يتحول الشر إلى جمال. إن الجمال هو القانون الذي ينظم عالم الخيال، وفي عالم الخيال يتأسس النظام، ويصبح القانون الوحيد الذي يجعل ذلك الجزء يُطيع الكل بدون وجود الخير. إن الشر ليس إلا الجمال الذي يُرى من خلال عيون الكراهية والحقد، وجمال مذهب الجمال هو الشر كقوة للنظام.» (ترجمة هيرويوكي هيراي)

٦

ربما بدت «يوميات سن السادسة عشرة» للوهلة الأولى سطحية، ولكن في الواقع إن القارئ الذي يكتشف بدايات السيد كاواباتا كروائي من خلال عين فتى عنيد، على العكس يكتشف بعد ذلك بين أبطال رواية «راقصة إيزو»، طفولية وتدليلًا ونقاءً بل وإرادة إيجابية. إن البريق الحي لتلك الإرادة ولقائها مع الموت هما مثل وجهي عملة واحدة تطلق بريقًا يزيغ العين في قصتي «أغنية عاطفية»، و«أغنية إيطالية» فكلاهما تبدأ وتنتهي أيضًا بنفس الجملة:

«أنت ذاهب إلى مكان ما، أليس كذلك؟»

إن الأعمال المتتالية: «الجسر المقوس»، «أمطار الخريف»، «سوميوشي»، تقتبس موضوعها الرئيس من كتاب «ريوجين هيشو» الذي كُتب في عصر هييان ويحتوي على بصيص من أغاني المديح البوذية، وعندما ظهرت هذه الأعمال في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة (كُتبت «الجسر المقوس» في أكتوبر من عام ١٩٤٧م، وكُتبت «أمطار الخريف» في يناير ١٩٤٩م، وكُتبت «سوميوشي» في أبريل ١٩٤٩م) كان من الصعب نسيان شعور نقائها الخالص. ففيها أنفاس الحياة الأكثر خفاءً، وتُحكى بنبرة صوت يشبه طنين حشرات الجدجد في فصل الخريف، وتخطت ضوضاء ما بعد الحرب لتصل إلى آذان الأقلية تقريبًا. وأنا شخصيًّا تفتحتْ عيوني على عظمة السيد كاواباتا في ذلك الوقت.

١  نُشرت هذه الدراسة كمقدمة للأعمال الكاملة لياسوناري كاواباتا التي صدرت ضمن مجلدات الأدب الياباني في مارس عام ١٩٦٤م. وصدرت في كتاب لأول مرة مع دراسات أخرى لميشيما عن عدد من الأدباء اليابانيين مثل أوغاي موري جونئتشيرو تانيزاكي وإيزومي كيوكا وغيرهم، في أكتوبر من عام ١٩٧٠م أي قبل انتحار ميشيما بشهر. (المترجم)
٢  الفن الرومانسكي (Romanesque): طراز من الفن المعماري والنحت والرسم والأدب انتشر في أوروبا الغربية من نهاية القرن العاشر الميلادي إلى نهاية القرن الثاني عشر حتى ظهور الفن القوطي. ويشير الفن الرومانسكي إلى صفة الفانتازيا في الفن التي تتجاوز حدود المنطق والأحداث الحقيقية من خلال الخيال الجامح. (المترجم)
٣  إكتوبلازم (Ectoplasm): هو شيء مادي أو خيالي يظهر على الوسيط الروحاني في جلسات التواصل مع أرواح الموتى لكي يعبر عن الروح التي تتلبس الوسيط الروحاني. (المترجم)
٤  تأثير الوردة الذي أشار إليه ممثل وكاتب مسرح النوه الشهير زيامي هو أمر في منتهى الغموض ولكنه ربما يشير إلى أن الغموض هو سر نجاح العمل الفني. (المترجم)
٥  في الأساطير اليونانية الإله كايروس إله الفرصة ليس له شَعر إلا في مقدمة رأسه فقط وأصلع في مؤخرة رأسه، ولذا هناك مثل يقول: «إن إله الفرصة ليس له إلا شعر أمامي فقط» بمعنى أن على الإنسان أن ينتهز الفرصة أول ما تعن له وإلا فلن تأتيه مرة ثانية. (المترجم)
٦  ذُكرت في الترجمة العربية باسم معكرونة الإطرية وهي شرائط تصنع من عجين القمح وتؤكل مسلوقة مع حساء. (المترجم)
٧  نُشرت الترجمة العربية عن الإنجليزية بعنوان «سرب طيور بيضاء». (المترجم)
٨  لا يوجد ما يُسمى عصر الأسرات سياسيًّا في اليابان، حيث من المتعارف عليه أن الأسرة الإمبراطورية لم ينقطع نسلها منذ بدأت وحتى الآن، أما ثقافيًّا وأدبيًّا فيطلق عصر الأسرات على الفترة من نهاية عصر هييان (٧٩٤–١١٩٢م) إلى بداية عصر موروماتشي (١٣٣٦–١٥٧٣م). (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥