ياسوناري كاواباتا١
١
«إنه في الواقع أستاذ عظيم في دقائق الأمور.»
ولكن الفقرة الأخيرة هي على العكس تمامًا من أدب كاواباتا. فالسيد كاواباتا — بخلاف فاغنر — على العكس «يحب أن يكون كذلك» ومن صفاته أنه يكره «الجدران الضخمة واللوحات الجدارية الجريئة الكبيرة» ولا يحب التصميم الضخم بلا فائدة.
إن نيتشه يهاجم في فاغنر الأيديولوجية والغرور، «وعدم الإخلاص تجاه ذاته»، وغباءه المطلق. إن كان الأمر كذلك فالسيد كاواباتا هو فاغنر الذي كان نيتشه يتمناه، فاغنر الذي يعرف قدر ذاته حق المعرفة، فاغنر الألمعي الشديد الذكاء. لا يجب الانجرار أكثر من ذلك في مثل هذه المقارنة، ولكن ثمة العديد من المميزات في أدب كاواباتا التي تذكرنا بفاغنر. على سبيل المثال رواية «الجميلات النائمات» التي ترسم صورة مرعبة لتطابق الموت والشهوة الجنسية، فيها غموض وإبهام فاغنر وسحره الذي يجذبنا معه للحضيض. ولكن بديلًا عن ضخامة فاغنر نجد أن «أستاذ دقائق الأمور» حجَّمها في درجة مناسبة.
إن ذكاء السيد كاواباتا يعود في النهاية إلى أنه ذكي، وإن تأمَّلْناه من هذه البديهية، فثمرة ذكائه الكبرى هي أنه لم يُخدَع من جميع أنواع الأفكار والأيديولوجيات.
وإن أعطيت أمثلة للأفكار التي لم تستطع خداع السيد كاواباتا فسنجد أنها طابور طويل عريض من مئات الأفكار المريبة. لنقل على سبيل المثال؛ العصرنة، الروايات العصرية، الشيوعية، مذهب الحسية الجديدة، تيار الوعي الذاتي، المنطق العقلي، الوطنية، الفلسفة الوجودية، التحليل النفسي، ما بعد العصرنة، الفكر … إلخ.
تُرى هل هناك أديب حالي لم يُخدع ولو لمدة قصيرة فقط بفكرة أو فكرتين على الأقل من هذه الأفكار؟ ولكن السيد كاواباتا لم يُخدع مطلقًا لأيٍّ منها ولو لوقت قصير!
المعتاد أن الألمعية تكون عائقًا للإبداع الفني ولكن حالة السيد كاواباتا مختلفة. عندما يصف إنسان السُّكْر وهو غير سكران، فهو إما أن يبرِّد ذلك السكر، أو أن يبالغ فيه مبالغة ظالمة، من السهل الوقوع في أيٍّ من الحالتين، ولكن السيد كاواباتا يملك داخله قدرة سحرية على تقديم مشاعر السكران وغير السكران في نفس الوقت. ولأنه لم يُخدع بأي فكرة أو مفهوم، فهو مع وصف المجتمع له بأنه «عبقري الرواية» إلا أن روايات السيد كاواباتا لم تنزعج أو تضطرب بمفهوم الرواية نفسه ولا حتى بمفهوم الرواية العصرية. أعرب أحد الأمريكان الذي قرأ الترجمة الإنجليزية لرواية «بلد الثلوج» عن تأثُّره الشديد بالقول: لم يسبق لي قراءة رواية بمثل هذا التفرد والتميز. وهذا رد فعل منطقي تمامًا.
ومع ذلك فالحقيقة أيضًا أن أعمال السيد كاواباتا تمتلئ بالسحر والجاذبية التي تتميز بها الروايات. إن إهمال السيد كاواباتا مع وسع أفقه أثناء معاناته في إبداع أعماله تُعطي لكل عمل على حدة مذاقًا عجيبًا من الأمان الكبير عبر التفاصيل الدقيقة. وحتى عالم الجمال الذي يختنق عند غيره، يتحول عنده في الحال إلى تباين نفساني مسالم ولطيف.
«لم يسبق لي أن جربت تلك المعاناة والآلام الغربية. لم يسبق لي أن رأيت في اليابان عدميةً واضمحلالًا على الطريقة الغربية.» (مقالة «حزن وقلق»)
قال السيد كاواباتا هذه العبارة المباشرة حول مواساة اليابانيين المتفردة للحزن والفناء من خلال الحزن ذاته. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يُظهر شجاعته فجأة عندما استقبل نبأ الهزيمة في الحرب وقد وصل إلى قراءة شرح كيغين كيتامورا لرواية «سيرة الأمير غِنجي» المسمى «كوغيتسوشو» حتى منتصفه.
«صديقي يوكوميتسو! سأعيش بعدك جاعلًا من جبال اليابان وأنهارها روحًا لي.»
وقد نفذ كاواباتا تلك الجملة بعد ذلك بإخلاص تام.
٢
«حزن وجمال»
نُشرت مسلسلة في مجلة «فوجين كورون» على مدار ٣٣ حلقة من عدد يناير ١٩٦١م وحتى عدد أكتوبر ١٩٦٣م.
من بين العديد من أعمال الروائيين، ثمة أعمال يمكن من خلالها أن نقرأ بالتفصيل موضوعات ذلك الأديب وتقنياته ومميزاته الفنية ومنهجه النظري وكأننا نرى ساعة حائط زجاجية تشف عما بداخلها، ورواية «ناهوكو» للأديب تاتسو هوري هي مثال على تلك الأعمال. وليس بالضرورة أن يكون ذلك العمل هو أشهر أعمال ذلك الأديب ولا أن يكون من أعماله التجريبية الطموحة. بل مجرد أن الكاتب يكتب هذه الرواية التي توضح منهجه النظري عن طريق الصدفة. ومن وجهة نظري الشخصية أن رواية «حزن وجمال» هي من هذا النوع من الروايات.
وهي كذلك ليس فقط لأن بطل الرواية روائي، ولأنها تتكلم عن علاقة الرواية بالموديل، وارتباط الرواية بالحياة، وفيها أيضًا وهو أمر نادر في روايات السيد كاواباتا عرض لما يمكن أن يكون نقدًا أدبيًّا، ولكن أيضًا لأنني شخصيًّا تعلمت بوضوح من هذه الرواية الكثير من أسرار أدب كاواباتا. ومن أجل ذلك، أريد من خلال هذه الرواية أن أتعرض للمواضيع الرئيسة التي تمتد عبر جميع روايات السيد كاواباتا.
والأدب الرومانسكي الذي ينتقل بناءً على مثل هذه الموجات، من الطبيعي أن تكون طريقة حركته مبهمة وغامضة وبطيئة وكسولة مثل حركة طحالب البحر. ولكن لأنه أدب رد فعل رومانسكي لا يسمح بالتوقع أو التخمين، فلا يوقعنا أسرى للحتمية الدرامية الصارمة، ومثلما نندهش عندما نتعامل مع غضب مفاجئ أو هياج غير مفهوم من الناس، أحيانًا ما تحدث فجأة نتائج غير متوقعة. ويكون لذلك فاعلية في سلوك النساء بصفة خاصة داخل الرواية، وكثيرًا ما تصل تلك الفاعلية إلى أن تكون نوعًا من أنواع الجمال.
ولنُعطِ مثالًا محددًا، يمكن رؤية المفاجأة التي يولدها أدب رد الفعل الرومانسكي عندما يصل إلى الجمال المؤلم. مثلًا في فصل «أحجار متراكمة – حديقة الصخور» مشهد ركل أوتوكو بأقدامها العارية لعامود القنديل الصخري. ثم بعد ذلك، مشهد عدم مجيء كيْكو التي كان من المنتظر أن تدخل الحمام، مهما مر الوقت، ثم فجأة تتأهب في مظهر جميل للخروج على غير المتوقع. يُختصر هنا الوصف النفسي بين تلك الأحداث، وتكون المشاهد حية بسبب طبيعتها المتدفقة تباعًا، ولكن كاواباتا المشهور ببراعته الحادة في التحليل النفسي، يستخدمه بترشيد واقتصاد. ولكنه عندما يستخدمه مرة، كما في فصل «ربيع مبكر»، يبرع براعة تصل إلى حد كراهية العالم في وصف التحليل النفسي للزوجة التي تكتب مخطوطة الرواية على الآلة الكاتبة. فمع أن بطل الرواية الروائي كان يخشى أن تعرف زوجته حقيقة علاقته الغرامية السابقة كما هي من خلال كتابته في الرواية، إلا أن الزوجة شعرت على غير المتوقع بجرح عميق لأنه لم يهتم اهتمامًا كافيًا بإبرازها في الرواية حتى ولو في صورة «الزوجة التي تغير غيرة جنونية».
وفي النهاية لا داعي للكلام عن رومانسكية الشهوة الجنسية في الرواية.
«كانت تلك الشهوة الجنسية تشبه بهجة مفاجئة.»
في فصل «أجراس ليلة رأس السنة» عندما يسارع البطل بمسح خط دموع الطفلة الوالدة، التي «على وشك أن تدخل من فتحة الأذن»، وعنايته بالفتاة وتمريضه لها بعد أن تناولت السم في نهاية الفصل نفسه، وفي فصل «لوتس وسط اللهب»، مشهد كيْكو التي تُظهر بإلحاح تخلصها من الشعر الزائد، ووضع أوتوكو الموسى على عنقها ذلك، وخاصة براعة الحكاية العجيبة الخاصة بثدي كيْكو الأيمن وثديها الأيسر الذي تمتد عبر الرواية بأكلها، كل ذلك يعبر تمامًا عن رومانسكية الشهوة الجنسية. وفتنة الحب السحاقي في فصل «لوتس وسط اللهب» ورائحته التي تسبب الغُصة، ويترك إدراج قصة الأميرة كازونوميا في فصل «خصلات شَعر» انطباعًا لا يمكن نسيانه، حيث إن القصة من ذلك النوع الذي يعشقه كاواباتا. ثم وكما هو المعتاد، كلا الرجلان اللذان يظهران في هذه الرواية (الأب والابن) لهما وجود غير واضح المعالم، وأغلب أفعالهما مصطنعة، وجانب كبير منهما شديد القسوة، ويشبه الظلال الباردة.
٣
«بلد الثلوج»
نُشرت الرواية أولًا مسلسلة في عدة مجلات بالترتيب التالي:
فصل «مرآة منظر الغروب» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد يناير من عام ١٩٣٥م.
فصل «مرآة صباح أبيض» بمجلة «كايزو» عدد يناير من عام ١٩٣٥م.
فصل «حكاية» بمجلة «النقد الأدبي الياباني» عدد نوفمبر من عام ١٩٣٥م.
فصل «جهود ضائعة» بمجلة «النقد الأدبي الياباني» عدد ديسمبر من عام ١٩٣٥م.
فصل «زهرة القش» بمجلة «تشويو كورون (الرأي العام المركزي)» عدد أغسطس من عام ١٩٣٦م.
فصل «وسادة النار» بمجلة «بونغيه شونشو» عدد أكتوبر من عام ١٩٣٦م.
فصل «أغنية دمية تيماري» بمجلة «كايزو» عدد مايو من عام ١٩٣٧م.
فصل «حريق وسط الثلوج» بمجلة «كورون (الرأي العام)» عدد ديسمبر من عام ١٩٤٠م.
فصل «مخلص بلد الثلوج» بمجلة «غيوشو» عدد مايو من عام ١٩٤١م.
فصل «تتمة بلد الثلوج» بمجلة «روايات شينتشو» عدد أكتوبر من عام ١٩٣٥م.
وفي عام ١٩٣٧م عندما حصل السيد كاواباتا على جائزة مجلس النقاش الأدبي في اليابان ذُكرت الرواية ضمن أفضل أعماله. وبهذا لم تحصل الرواية على الإعجاب والتقدير من داخل وخارج اليابان فقط، بل إن المؤلف نفسه يعُدها هي و«ذكريات سن السادسة عشرة» من أحب أعماله إلى قلبه.
ودعوني هنا أقتبس ما حكاه السيد كاواباتا بنفسه عن رواية «بلد الثلوج» من الحوار الذي أُجري معه ونشرته دار كاوادِه شوبو تحت عنوان: «ياسوناري كاواباتا وقراءة الكتب الأدبية».
في نفس الحوار الأدبي، ذكر السيد كاواباتا أنه كتب أجزاءً كبيرة من رواية «بلد الثلوج» في منطقة يوزاوا للينابيع الساخنة، وأنه عندما كان يكتب بدايتها في يوزاوا، لم تكن الأحداث التالية قد حدثت في الواقع بعد. وذكر كذلك أن الحريق وسط هطول الثلوج حدث بالفعل في الواقع.
إن رواية «بلد الثلوج» عمل متفرد جدًّا كرواية، وتعد تجربة عملية للاستمرارية المحضة في الرواية. عندما يُقاد القارئ إلى داخل بلد الثلوج عبر مشهد القطار الشهير في مقدمة الرواية، يقع القارئ بالفعل منذ تلك اللحظة أسيرًا للتدريب العملي لحواسه من خلال تصوير ووصف انعكاس المشهد بتلك الغرابة على زجاج النافذة. الألم الناتج من منظر الغروب الذي ينساب في قاع المرآة. عندما «تضيء نيران الجبل البري في وجه الفتاة». هنا تتألق ريبة أدب كاواباتا اللاواقعي في صورة رمزية واحدة. وإن استخدمتُ هنا مصطلح «رد الفعل الرومانسكي» الذي ذكرته قبل قليل، فليس هذا رد فعل قلبي فقط، ولكنه أيضًا رد فعل وانعكاس للأضواء وصور الظلال.
وفي الواقع مشهد القطار هذا يُعد تمهيدًا لكل الفصول، أي نعم لم تظهر بعد كوماكو التي يجب وصفها بأنها بطلة العمل الرئيسة، ولكن يقدم هذا المشهد مسبقًا أسئلة للقارئ، مَن «شخصيات» هذه الرواية؟ وما «مناظرها»؟ وما دور «الطبيعة» فيها؟ وما «أحداثها»؟ ثم يجيب عنها إجابات مستفيضة وسرية. ويشبه هذا بالضبط المقدمة التي تُوضع للكتب الفلسفية لكتابة تعريف صارم ودقيق مسبقًا لكل المصطلحات الفلسفية المتنوعة التي ستستخدم داخل ذلك الكتاب.
«وكما هو متوقع لسبب ما لم يشعر شيمامورا بالموت، بل أحس بما يشبه الانتقال من طور إلى آخر، أن روح الحياة داخل يوكو سيختلف شكلها فقط.»
إنْ كان ثمة موضوع رئيس لهذه الرواية التي يبدو أنها راهنت فقط على الاستمرارية المحضة لكل لحظة من حياة البشر غير المحددة، لكانت تلك الجملة تعبر عنه تمامًا. ليس يوكو فقط، بل لقد كان وضع كوماكو دائمًا أسيرًا كذلك تحت مثل هذا الموضوع. إنه توثيق عجيب «لتغير طور الحياة داخل» المرأة، وتجميع لمسودات لحظات «الانتقال» التي تشبه امتداد سنابل اللهب خُفْية. بل إن كوماكو ويوكو لا تصلان حتى إلى درجة شخصيات متسقة للنهاية. بل لدرجة أنه ما من شخصية واحدة مستقلة بذاتها لأيٍّ منهما. ولا يمكن رسمهما بصدق وصراحة إلا من خلال تلك اللحظات الدقيقة لذلك التغير في أطوار الحياة المتنوعة من خفقان واهتزاز وفرحة. إن كلمة «جهود عقيمة» التي تظهر مرات عديدة داخل الرواية، هي كلمة عكسية تجاه خطورة الجمال للتأكيد على شكل هذه الحياة التي تُهدر بهذا الحال دون هدف.
«ما من توافق بين السماء والجبال.»
ومع كل ذلك، تمتلئ تلك الرواية امتلاءً تامًّا بتلك الجاذبية التي تجعل القراء يذهبون في رحلات سفر للبحث على موديل شخصيات رواية «بلد الثلوج». حتى وإن لم تظهر الصورة الكاملة، فالاستمرارية المحضة، تعطي القارئ القوة لكي يقوم بنفسه بتركيبها وتجميعها في النهاية. بهذا المعنى فإن هذه الرواية فريدة، وكذلك في نفس الوقت، هي الرواية الأكثر شمولًا وعمومية.
٤
... نُشرت في عدة مجلات بالترتيب التالي بالتوازي مع رواية «ضجيج الجبل».
فصل «ألف طائر كركي» بملحق مجلة «أحوال القراءة» عدد مايو من عام ١٩٤٩م.
فصل «شمس الغروب في الغابة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الثاني عشر أغسطس من عام ١٩٤٩م.
فصل «إشينو» بمجلة «حدائق الروايات» عدد يناير من عام ١٩٥٠م.
فصل «أحمر شفاه الأم» بمجلة «حدائق الروايات» عددي نوفمبر وديسمبر من عام ١٩٥٠م.
فصل «نجمة مزدوجة» بملحق مجلة «بونغيه شونشو» العدد الرابع والعشرين الصادر في شهر أكتوبر من عام ١٩٥١م.
لا تظهر الآنسة إينامورا، التي تحمل صرَّة جميلة من قماش عليها رسم ألف طائر كركي الذي يُعتقد أنه سبب تسمية عنوان الرواية بذلك الاسم، في هذه الرواية إلا مرتين فقط، وتقريبًا لا تتكلم، وليس لها أي علاقة بحياة بطل الرواية الشاب كيكوجي، وليس لها أي علاقة بالعلاقات الإنسانية داخل الرواية، وتختفي تمامًا في النصف الثاني منها. ويأتي خبر أنها تزوجت، ولكن لا أحد يعلم هل ذلك صدق أم كذب.
«في ظلال أشجار الطريق تلك، ظن كيكوجي أنه رأى الأنسة إينامورا تحمل صرة من قماش كريب بلون وردي عليه ألف طائر كركي أبيض.»
هذا الشبح الجميل النقي، مع أنه يحمل تحذيرًا من خيط السببية القبيح في هذا العالم داخل الرواية، في تلك السماء المرتفعة، تطير طيور الكركي الألف. عنوان ربما بدا أنه ليس له أي علاقة بموضوع الرواية الرئيس ولكن حتى ذلك نوع من تقنية الرواية التقليدية.
ولكن أنا أرى أن متعة تلك الرواية هي في مواضع تحول حيوية جمال التقليدي الياباني دون تعمُّد إلى صور كاريكاتورية. فحفلات الشاي المقدسة تقام من خلال تشيكاكو لاستخدامها كمؤامرة شريرة في حفلات التعارف للزواج، والمعلومات الجمالية عن أدوات الشاي، في الواقع، بالنسبة لتشيكاكو ليس إلا معلومات وظيفية عامِّيَّة، وعندما لا ينجح الزواج الذي تدفع إليه كيكوجي دفعًا، تبدأ في مناورات سرية للتخلص من أدوات الشاي. وأدوات الشاي تلك كل على حدة، تكمن داخلها علاقات خيانة دميمة وتنتقل من خلالها، وكذلك كوب من نوع شينو الذي يصبح إرثًا من أثر السيدة أوتا، عليه أثر أحمر شفاهها، وكأن أثر جرائمها، ملتصق بالكوب، كل تلك الأدوات الدقيقة تُستخدم من أفضل ما يمكن كأدوات حياتية دنيوية في الرواية.
صُنعت رواية «ألف طائر كركي» ببراعة وحذق رومانسكي من خلال التضاد العكسي لما يحمله الجمال الياباني من عناصر مميزة له، مثل أن التلميح أن العلاقات الإنسانية الحسية الحيوية تترسب في العمق لأنها تمر من خلال طراز الجمال أكثر من العلاقات الإنسانية العادية … مثل الاستخدام العامِّيِّ لأدوات الشاي، الإيروتيكية المكنونة التي تتعلق بعملية تلقي أدوات الشاي والنظر إليها في تأمل. وهذا ما أعطى هذه الرواية قيمة أكبر من كونها عملًا عن الجمال المجرد فقط.
٥
«الجميلات النائمات»
نُشرت في مجلة «شينتشو» من عدد يناير إلى عدد يونيو من عام ١٩٦٠م، ثم من عدد يناير إلى عدد نوفمبر من عام ١٩٦١م.
إن هذه الرواية هي أكثر روايات السيد كاواباتا ذات الحجم المتوسط، اكتمالًا وتنسيقًا من حيث الشكل والتصميم، وهي تحفة أدبية من أبرز ما ألف السيد كاواباتا مؤخرًا.
إنني لا أنسى حتى الآن شعوري عندما انتهيت من قراءتها لأول مرة، وعندما أحاول أن أتذكر عملًا فنيًّا يقترب من هذه الرواية في جعلها صدري يختنق وأنفاسي تتلاحق لحظة بلحظة لقلة الأكسجين الواصل إليه وكأنني داخل غواصة تغرق، فلا أستطيع إلا مقارنتها بصعوبة بالغة بأعمال كافكا. تلك الرواية التي تدور من أولها لآخرها في غرف سرية لنادي بنظام العضوية السرية، هذا بذاته يصنع ببراعة شديدة رمزية للحالة النفسية المحاصرة. ولقد أصابتني حالة من الهلع لاعتقادي أنها الرواية التي تمثل الجحيم بالنسبة لكاواباتا.
ولكن، الموضوع الرئيس الذي يظهر هنا، حتى مع اتخاذه شكلًا في غاية التطرف، ولكنه ليس جديدًا مطلقًا بالنسبة إلى قرَّاء أدب كاواباتا. حتى شكل الحب، ظهر في قصته القصيرة «وحوش»، وحتى تفضيل البنات الصغيرات (عقدة لوليتا) الذي كرره في أعماله منذ بداياتها، في النهاية يصل في هذه الرواية إلى نهايتها الحتمية. إن العذراء والعصافير والكلاب لا تحكي من تلقاء نفسها، ولكنها تظهر وهي تتخذ براءة ونقاء الوجود كمفعول به مطلقًا. إن سبب انحسار الإيروتيكية من خلال التعارف النفسي، هو أن الجوهر يظهر بمجرد تبادل الحوار قليلًا. إن الأمر المثير في منطق الإيروتيكية التي تطلب وتلح للحصول على ما لا يمكن الوصول إليه، هو الرغبة في التوقف الصارم عند حدود بشرة جلد الشخص المرغوب، أكثر من رغبة الدخول إلى الجانب الداخلي له. إن الوصول للخارج في الإيروتيكية الحقيقية، أكثر استحالة من الوصول للداخل ويمتلئ بالألغاز أكثر. في مثل هذه الإيروتيكية يمثل غشاء البكارة الرمز الأكثر روحانية وجاذبية «للخارج»، ولا ينتمي بأي حال إلى الجانب الداخلي للأنثى.
في إطار أدب كاواباتا، بهذا الحال، فإن أكثر الأمور إيروتيكية هي العذراء، بل وهي نائمة، لا تنطق ببنت شفة، لها وجود من المستحيل الوصول إليه إلى الأبد مثل خط الأفق، مع أنها عارية كما ولدتها أمها. إن «الجميلات النائمات» هن المحصلة النهائية لمنطق الرغبة هذا.
«بدت أسنان الفتاة التي لمستها إصبع إيغوتشي، مبللة قليلًا لدرجة أن التصق بالإصبع قليل من اللزوجة. فحص إصبع سبابة الرجل العجوز تنسيق أسنان الفتاة، إلى أن وصل إلى ما بين الشفتين. ثم كرر الذهاب والإياب مرتين أو ثلاث مرات. ومع أن الجانب الخارجي للشفتين كان يميل إلى الجفاف، إلا أنها من الداخل كانت رطبة وسلسة. في الجانب الأيمن هناك سن نبتَت فوق سن أخرى. أدخل إيغوتشي إبهامه أيضًا وجرَّب أن يمسك تلك السن البارزة. أراد بعد ذلك وضع إصبعه على الجانب الداخلي للأسنان ولكن كانت أسنان الفتاة العلوية والسفلية منطبقتين على بعضهما البعض بصرامة فلم يستطع فتحهما رغم أنها نائمة.»
وأيضًا التفرقة بين طريقة كتابة شخصيات الفتيات الست في الواقع متميزة وفريدة. بعد أن نُزع كل ما يمكن أن يعتمد عليه الروائي في التفرقة بين شخصيات الرواية؛ مثل التفرقة من خلال الحوار وطريقة تحريك أعضاء الجسم، وبريق العينين، والملابس، تغلف طريقة عيش كل فتاة على حدة وأسرار حياتها جسدها من الداخل بجلال وهيبة وسرية، ويظهر فقط على أنه هدف للمداعبة فقط. مثل قماش لوح أبيض، يرسم عليه العجوز إيغوتشي نشر أوهام وخيالات ماضيه كما يحلو له، وفي نفس الوقت، في كل مرة جسد كل فتاة على حدة، يعطيه فرحة وتأثر طازج من خلال جاذبية كل منهن الفردية التي لا يمكن تبديلها مطلقًا. وليس هذا ما يطلق عليه فردانية الشخصية. أمام رغبة الرجل التجريدية، يقف لحم المرأة المادي ويواجه تلك الرغبة في كل مرة بالقوة الأكثر جوهرية ليصبح عائقًا لها ويمنعها. ترتبط مادية ذلك الجسد بصرامة مع الاختلاف في كل عضو من أعضاء الجسم مهما كان اختلافًا ضئيلًا، مثل الاختلاف في سُمك الشفة السفلى، والاختلاف في نحافة الرقبة وطولها. إن وصف أجساد الفتيات في رواية «الجميلات النائمات» بهذا الحال، يمكن مقارنته وتشبيهه بمراقبة نحَّات محنك ذو خبرة طويلة.
«أليست الأخرى موجودة؟»
إن تلك الكلمة اللامبالية، تعتبر الجملة الأكثر عنفًا التي توجهها الإيروتيكية إلى الإنسانية. بل لدرجة أنني أعتقد أن هذه الرواية هي أحد الأعمال الفكرية.
إنَّ تساؤل سارتر في الجزء الثاني من سيرة جان جينيه: «هل يمكن الخلاص بواسطة الجمال؟» لا ينطبق تمامًا على هذه الرواية فقط، بل إنني أعتقد أنها ترمز باتساع إلى شخصية أدب كاواباتا كله، ولذا سوف أطيل الاقتباس من كلام سارتر في ذلك الكتاب:
٦
«أنت ذاهب إلى مكان ما، أليس كذلك؟»
إن الأعمال المتتالية: «الجسر المقوس»، «أمطار الخريف»، «سوميوشي»، تقتبس موضوعها الرئيس من كتاب «ريوجين هيشو» الذي كُتب في عصر هييان ويحتوي على بصيص من أغاني المديح البوذية، وعندما ظهرت هذه الأعمال في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة (كُتبت «الجسر المقوس» في أكتوبر من عام ١٩٤٧م، وكُتبت «أمطار الخريف» في يناير ١٩٤٩م، وكُتبت «سوميوشي» في أبريل ١٩٤٩م) كان من الصعب نسيان شعور نقائها الخالص. ففيها أنفاس الحياة الأكثر خفاءً، وتُحكى بنبرة صوت يشبه طنين حشرات الجدجد في فصل الخريف، وتخطت ضوضاء ما بعد الحرب لتصل إلى آذان الأقلية تقريبًا. وأنا شخصيًّا تفتحتْ عيوني على عظمة السيد كاواباتا في ذلك الوقت.