عيون الاحتضار

كُتبت مقالة «عيون الاحتضار» في عام ١٩٣٣م وهو العصر الذي فاضت فيه مشاعر الإحساس بالخطورة في تاريخ شوا كله. بل أنها تتعلق كذلك بما كتبه الرسام هاروئه كوغا قبل موته مجنونًا والأديب ريونوسكيه أكوتاغاوا قبل انتحاره، مما يغلفها بنوع من الشعور الخارق للطبيعة. عند وضع تلك المقالة في ذلك العصر، تبدو وكأنها نقطة زيت تطفو فوق سطح الماء وتطلق قوس قزح. ألا يمكننا القول إن كاواباتا استطاع تحمل ذلك العصر الرهيب من خلال موت الآخرين؟

«إن جوهر كل الفنون يكمن في «عيون الاحتضار» تلك.»

تبدو لي هذه المقالة من خلال هذا السطر، وكأنها مانيفستو السيد كاواباتا الحاسم تجاه نظرته للعالم ونظرته للفن.

«حتى لو ثمة فراق مع المرأة في الحياة، إلا أن الفراق الوحيد مع صديق الفن هو الموت، ما من فراق في الحياة. حتى وإن انقطعت عني أخبار الأصدقاء القدامى، أو افترقنا بسبب العراك، إلا أنني لم أفكر مطلقًا أنني فقدتهم كأصدقاء.»

«عندما أفكر بتمعُّن في الموت، أتخيل أنني في النهاية أرسو على التفكير أن الموت الطبيعي هو أفضل طرق الموت. فمهما كانت درجة كراهية هذا العالم والبعد عنه، إلا أن الانتحار ليس هو طريق الاستنارة. مهما كان ذا أخلاق عالية إلا أن المنتحر أبعد ما يكون عن القديس.»

«عندما أطلق عليَّ اسم «أستاذ الغرائب والعجائب» ابتسمتُ في سري ابتسامة ساخرة. والسبب أن الحزن الذي في قلبي لم يصل إلى الطرف الآخر الذي هو واحد من آلاف العميان.»

«(يشير السيد كاواباتا إلى أن السيد كوغا لما كان على وشك الموت مجنونًا، عندما يكتب كانت الريشة تضطرب فتنتج حروفًا لا يمكن قراءتها، ولكن عند الرسم كانت في منتهى الوضوح) بهذا الحال، وسط العديد من القوى المعنوية والبدنية، كانت موهبة الرسم هي التي امتدت لأطول وقت، ثم ماتت في النهاية»

«(اندهش من أن حبيبة يوميجي كانت تشبه الرسم تمامًا) فلم يكُن ذلك رسمًا من وحي الخيال. فقد رسم يوميجي لوحاته كاملة على جسد فتاته. على الأرجح إن ذلك انتصار للفن، ولكنني شعرت كذلك أنه هزيمة تجاه شيء مجهول.»

... ثمة قطع من الأفكار، مثل الاقتباسات السابقة، عن الموت والفن والمرأة متناثرة وسط ذكرياته مع عدد من الأدباء والفنانين. بعد القراءة، نعرف أن السيد كاواباتا يقدم اعترافاته الذاتية عن الفن والحياة من خلال هذه المقالة الذي يتذكر فيها أصدقاءه الراحلين، وفي اعترافاته تلك إحساس عنيف بالوحدة، ولكن لا تبدو مطلقًا في شكل اعترافات حماسية مندفعة، بل إن الاعترافات نفسها تشبه همسات بلا قيمة ملقاة على عواهنها.

إن مقالة السيد كاواباتا تتميز بالوصف الصادق لأفكاره التي تعبر عن الفرحة المريرة لمَن نجح في إخفاء مواهبه بنفسه، هي بصيرة نحو هزيمة الذي عرف مفتاح النصر في مجال الفن … فبهذا الحال، فوق سطح أرض الحديقة التي تعيث فيها عفن الطحالب، من خلال ظلال الغيوم التي تنساب مندفعة بالرياح، تختفي أشعة الشمس الدافئة أحيانًا وتنيرها أحيانًا، عندما تنيرها تكون غير مؤكدة، وعندما تظللها تكون غير مؤكدة.

لا هنا ذهنية منطقية أو واعية للتأكيد بأعلى صوته على أمر ما. الموجود هو فقط، الحياة غير المتصلة، والأحاسيس التي تستيقظ أحيانًا عندما يلمسها فتتولد فجأة بصيرة لا تصل إلى أن تكون عقلانية، تلك البصيرة في اللحظة التالية، (بدون أي فخر مطلقًا!) يتم إنكارها وإهمالها والتخلي عنها، هي ذهنية من نوع خاصة. وتفوح في كل سطر روائح شؤم بدرجة عظيمة، وحتى وإن كان المكتوب ذاته واضحًا جليًّا، ولكنه يلتحف برداء طفيف من شيء يجب أن يوصف وكأنه «سخام روحاني». وإن ظننتَ أنه شفاف تجده غير شفاف، ولا يشير صراحة إلى الأمور كما ينبغي. وعندما يمشي المرء ليدخل في مثل هذه الذهنية، وكأنه قد رافقه مرشد غير مخلص، فيقع في التيه. فلا يُعلمه الدليل بمكان الوصول مطلقًا، ولا يشير بإصبعه نحو المناظر ولا النباتات بوضوح ليعرِّفه بها. ثمة شيء مُختفٍ خلفه، ولكن الأمر الأكثر إزعاجًا هو أن المؤلف نفسه على ما يبدو ليس لديه الحماس ولا الشغف لإخفاء شيء. هنا يُرمز لموت الفنان وفناء العالم الذي ينعكس في عينيه قبل الموت مباشرة. ثمة إيحاء فقط، وما من وصف أو رسم واضح. وريبة حكاية أن الموهبة الفنية وكأنها عضو من أعضاء الجسم الأكثر قوة ومتانة، فهي التي تبقى حيَّة لآخر شيء عند الموت، ليس فقط أنها «تبقى حيَّة» بل إنه رعب النظر لحرية القيم في التعامل مع الموهبة الفنية وكأنها عضو من أعضاء الجسم. إن قيل لنا: «عيون الاحتضار» هي أسرار الفنون، يُخيَّل لنا أننا فهمنا، ولكن في المحصلة النهائية لم نفهم شيئا. فثمة نقص في الاهتمام بأسلوب كتابة يجعلنا نفهم، لأنه على الأرجح إن الإنسان في ساعة الاحتضار لا يمكن إيصال تلك التجربة النهائية. وفي النهاية يصبح الأمر أنه لا يمكن إيصال معنى سر الفنون إلى البشر مطلقًا. والذي نفهمه فقط هو؛ لو أن هناك إنسانًا واحدًا في هذا العالم يرفض الانتحار بشدة ويعيش طويلًا، فهذا الإنسان المريب يحمل عبء عاقبة الفنون مثل «الهولندي التائه»، إن كان الوضع طبيعيًّا فهو لا يرى في المعتاد إلا مناظر لا تراها إلا عيون الاحتضار، ويرفض إبلاغ ذلك للناس ويبتسم وهو ينظر أحيانًا تجاه الإناث الجميلات الصناعيات، ولكنه وصل في النهاية إلى أنه ليس له علاقة بتشكيل مثل ذلك الجمال، وينقصه هو والآخرين الحماس والشغف من أجل نحت ذلك الجمال نحتًا حيًّا … بالضبط مثل غروب واضح للأبد، هيئة الفنان المنعزل الذي وصل بمفرده إلى أقصى قمم «أسرار الفنون» وجعلها ملكه، أو هيئة العبقري الخبير. إن روح الرعب الخارق للطبيعة التي توقظ قلب القارئ وتستدعيه في «عيون الاحتضار» ليست أنها بلا سبب. وذلك لأن «صورة فنان الموت» تلك، وحتى وصولنا إلى هذه اللحظة الآنية، قد حافظت على نفسها على مدى عشرات السنين، ومع وجهات النظر المضادة المثيرة، إلا أنها برهنت على أن داخلها هي بالذات يكمن «الشباب الأبدي» لهذا الأديب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥