فلما كانت الليلة ١٤٧

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الطاوسة لما سمعت من البطة هذا الكلام، تعجَّبت منه غاية العجب، وقالت: يا أختي، إنك أمنت من ابن آدم؛ لأننا في جزيرة من جزائر البحر، ليس لابن آدم فيها مسلك، فاختاري المقام عندنا إلى أن يسهِّل الله أمرك وأمرنا. قالت: أخاف أن يطرقني طارق، والقضاء لا ينفك عنه آبق. فقالت: اقعدي عندنا، وأنت مثلنا. وما زالت بها حتى قعدت، وقالت: يا أختي، أنت تعلمين قلة صبري، ولولا أني رأيتك هنا ما كنت قعدت. فقالت الطاوسة: إن كان على جبيننا شيء نستوفاه، وإن كان أجلنا دنا فمن يخلِّصنا، ولن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها. فبينما هما في هذا الكلام؛ إذ طلعت عليهما غبرة، فعند ذلك صاحت البطة ونزلت البحر، وقالت: الحذر الحذر، وإن لم يكن مفر من القدر. وكانت الغبرة عظيمة، فلما انكشفت الغبرة ظهر من تحتها ظبي، فاطمأنت البطة والطاوسة، ثم قالت البطة: يا أختي، إن الذي تفزعين منه ظبي، وها هو قد أقبل نحونا فليس علينا منه بأس؛ لأن الظبي إنما يأكل الحشائش من نبات الأرض، وكما أنت من جنس الطير هو الآخر من جنس الوحوش، فاطمئني ولا تهتمي، فإن الهم ينحل البدن. فلم تتم الطاوسة كلامها حتى وصل الظبي إليهما يستظل تحت الشجرة، فلما رأى الطاوسة والبطة سلَّم عليهما، وقال لهما: إني دخلت هذه الجزيرة اليومَ فلم أرَ أكثر منها خصبًا، ولا أحسن منها مسكنًا. ثم دعاهما لمرافقته ومصافاته، فلما رأت البطة والطاوسة تودُّدَه إليهما أقبلتا عليه، ورغبتا في عشرته، وتحالفوا على ذلك، وصار مبيتُهم واحدًا، ومأكلهم سواء، ولم يزالوا آمنين آكلين شاربين حتى مرت بهم سفينة كانت تائهة في البحر، فأرست قريبًا منهم، فطلع الناس وتفرقوا في الجزيرة، فرأوا الظبي والطاوسة والبطة مجتمعين، فأقبلوا عليهم؛ فشرد الظبي في البرية، وطارت الطاوسة في الجو، فبقيت البطة مخبلة، ولم يزالوا بها حتى صادوها، وصاحت قائلة: لم ينفعني الحذر من القضاء والقدر. وانصرفوا بها إلى سفينتهم، فلما رأت الطاوسة ما جرى للبطة، ارتحلت عن الجزيرة وقالت: لا أرى الآفات إلا مراصدة لكل أحد، ولولا هذه السفينة ما حصل بيني وبين هذه البطة افتراق، ولقد كانت من خيار الأصدقاء. ثم طارت الطاوسة واجتمعت بالظبي، فسلَّمَ عليها وهنَّأها بالسلامة، وسألها عن البطة فقالت له: قد أخذها العدو، وكرهتُ المقام في تلك الجزيرة بعدها. ثم بكت على فراق البطة، وأنشدت تقول:

إِنَّ يَوْمَ الْفِرَاقِ قَطْعٌ لِقَلْبِي
قَطَّعَ اللهُ قَلْبَ يَوْمِ الْفِرَاقِ

وأنشدت أيضًا:

تمنَّيْتُ الْوِصَالَ يَعُودُ يَوْمًا
لِأُخْبِرَهُ بِمَا صَنَعَ الْفِرَاقُ

فاغتمَّ الظبي غمًّا شديدًا، ثم ردَّ عزم الطاوسة عن الرحيل، فأقام معها في تلك الجزيرة آمنَيْن آكلَيْن شاربَيْن، غير أنهما لم يزالا حزينين على فراق البطة، فقال الظبي للطاوسة: يا أختي، قد علمت أن الناس الذين طلعوا لنا من المركب كانوا سببًا لفراقنا ولهلاك البطة، فاحذريهم واحترسي منهم ومن مكر ابن آدم وخداعه. قالت: قد علمت يقينًا أن ما قتلها غير تركها التسبيح، ولقد قلت لها: إني أخاف عليك من تركك التسبيح؛ لأن كل ما خلقه الله يسبحه، فإن غفل عن التسبيح عُوقِب بهلاكه. فلما سمع الظبي كلام الطاوسة قال: أحسن الله صورتك. وأقبل على التسبيح لا يفتر عنه ساعة، وقد قيل إن الظبي يقول في تسبيحه: سبحان الديان ذي الجبروت والسلطان.

وورد أن بعض العُبَّاد كان يتعبد في الجبال، وكان يأوي إلى ذلك الجبل زوج من الحمام، وكان ذلك العابد قسَّمَ قُوتَه نصفين. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤