فلما كانت الليلة ١٤٨

حكاية الصبية والراعي

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن العابد قد قسم قُوته نصفين، وجعل نصفه لنفسه، ونصفه لذلك الزوج الحمام، ودعا العابد لهما بكثرة النسل فكثُر نسلهما، ولم يكن الحمام يأوي إلى غير الجبل الذي فيه العابد، وكان السبب في اجتماع الحمام بالعابد كثرة تسبيح الحمام، وقيل إن الحمام يقول في تسبيحه: سبحان خالق الخلق، وقاسم الرزق، وباني السموات، وباسط الأرضين. ولم يزل ذلك الزوج الحمام في أرغد عيش هو ونسله حتى مات العابد؛ فتشتَّتَ شمل الحمام، وتفرَّق في المدن والقرى والجبال. وقيل إنه كان في بعض الجبال رجل من الرعاة صاحب دين وعقل وعفة، وكان له غنم يرعاها، وينتفع بألبانها وأصوافها، وكان ذلك الجبل الذي يأوي إليه الراعي كثيرَ الأشجار والمرعى والسباع، ولم يكن لتلك الوحوش قدرة على الراعي ولا على غنمه، ولم يزل مقيمًا في الجبل مطمئنًّا لا يهمه شيء من أمر الدنيا لسعادته وإقباله على عبادته، فاتفق له أنه مرض مرضًا شديدًا فدخل كهفًا في الجبل، وصارت الغنم تخرج بالنهار إلى مرعاها، وتأوي بالليل إلى الكهف، فأراد الله أن يمتحن ذلك الراعي، ويختبره في طاعته وصبره، فبعث إليه مَلَكًا، فدخل عليه الملك في صورة امرأة حسناء، وجلس بين يديه، فلما رأى الراعي تلك المرأة جالسة عنده اقشعرَّ بدنه منها، فقال لها: أيتها المرأة ما الذي دعاكِ إلى المجيء هنا وليس لك حاجة معي، ولا بيني وبينك ما يوجب دخولك عندي؟ فقالت له: أيها الإنسان، أَمَا ترى حسني وجمالي وطيب رائحتي؟ أَمَا تعلم حاجة الرجال إلى النساء؟ فما الذي يمنعك مني؟ وقد اخترت قربك وأحببت وصالك، وقد جئتك طائعة وعليك غير ممتنعة، وليس عندنا أحد نخشاه، وأريد أن أقيم معك طول مقامك في هذه الجبال وأكون أنيسة لك، وقد عرضت نفسي عليك لأنك تحتاج لخدمة النساء، وأنت إن باشرتني زال عنك مرضك وعادت إليك صحتك، وندمت على ما فاتك من قرب النساء في سالف عمرك، وقد نصحتك فاقبل نصيحتي وادنُ مني.

figure
فدخل عليه المَلَك في صورةِ امرأةٍ حسناءَ وجلس بين يدَيْه.

فقال الراعي: اخرجي عني أيتها المرأة الخدَّاعة الغدارة، فلا أركن إليكِ ولا أدنو منك ولا حاجة لي بقربك ولا بوصالك؛ لأن مَن رغب فيكِ زهد في الآخرة، ومَن رغب في الآخرة زهد فيكِ؛ لأنكِ فتنتِ الأولين والآخرين، والله تعالى لعباده بالمرصاد، والويل لمَن ابتُلِي بصحبتك. فقالت له: أيها التائه عن السداد، والضال عن طريق الرشاد، أقبل بوجهك إليَّ، وانظر إلى محاسني، واغتنم قربي كما فعل مَن كان قبلك من الحكماء، فقد كانوا أكثر منك تجربةً وأصوب منك رأيًا، ومع ذلك لم يرفضوا ما رفضتَ من التمتُّع بالنساء، بل رغبوا فيما زهدتَ فيه من مباشَرةِ النساء وقُربهن، فما أساءهم ذلك في دينهم ولا دنياهم، فارجع عن رأيك تحمد عاقبة أمرك. فقال الراعي: إن الذي تقولينه كرهته، وجميع ما تبدينه زهدته؛ لأنك خدَّاعة غدَّارة لا عهد لكِ ولا وفاء، فكم من قبيح تحت حُسنك أخفيتِه! وكم من صالح فتنتِه، وكانت عاقبته إلى الندامة والحزن! فارجعي عني أيتها المُصلِحة نفسها لفساد غيرها. ثم ألقى عباءته على وجهه حتى لا يرى وجهها، واشتغل بذكر ربه.

فلما رأى المَلَك حُسْنَ طاعته خرج، وعرج إلى السماء، وكان قريبًا من الراعي قرية فيها رجل من الصالحين لم يعلم بمكانه، فرأى في منامه كأن قائلًا يقول له: بالقرب منك في مكان كذا رجل صالح فاذهب إليه، وكن تحت طاعة أمره. فلما أصبح الصباح توجَّه نحوه سائرًا، فلما اشتد عليه الحر انتهى إلى شجرة عندها عين جارية، فجلس في ظل الشجرة ليستريح، فبينما هو جالس وإذا بوحوش وطيور أتوا إلى تلك العين ليشربوا منها، فلما رأوا العابد جالسًا نفروا ورجعوا شاردين، فقال العابد في نفسه: أنا ما استرحت هنا إلا لتعب هذه الوحوش والطيور. ثم قام وقال معاتبًا لنفسه: لقد أضرَّ بهذه الحيوانات في هذا اليوم جلوسي في هذا المكان، فما عذري عند خالقي وخالق هذه الطيور والوحوش؟ فإنني كنت سببًا لشرودهم عن مائهم ومرعاهم، فوا خجلتي من ربي يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء! ثم أفاض من جفنه العَبَرات، وأنشد هذه الأبيات:

أَمَا وَاللهِ لَوْ عَلِمَ الْأَنَامُ
لِمَا خُلِقُوا لَمَا غَفَلُوا وَنَامُوا
فَمَوْتٌ ثُمَّ بَعْثٌ ثُمَّ حَشْرٌ
وَتَوْبِيخٌ وَأَهْوَالٌ عِظَامُ
وَنَحْنُ إِذَا انْتَهَيْنَا أَوْ أُمِرْنَا
كَأَهْلِ الْكَهْفِ أَكْثَرُنَا يَنُامُ

ثم بكى على جلوسه تحت الشجرة عند العين، ومنْعِه الطيور والوحوش من شربها، وولَّى هائمًا على وجهه حتى أتى إلى الراعي فدخل عنده وسلَّم عليه، فردَّ عليه السلام وعانقه وبكى، ثم قال له الراعي: ما الذي أقدمك إلى هذا المكان الذي لم يدخله أحدٌ من الناس عليَّ؟ فقال العابد: إني رأيتُ في منامي مَن يصف لي مكانك، ويأمرني بالمسير إليك والسلام عليك، وقد أتيتك ممتثلًا لما أُمِرت به. فقبله الراعي وطابت نفسه بصحبته، وجلس معه في الجبل يعبدان الله تعالى في ذلك الغار، وحسُنت عبادتهما، ولم يزالا في ذلك المكان يعبدان ربهما، ويتقوَّتان من لحوم الغنم وألبانها، متجرِّدَيْن عن المال والبنين، إلى أن أتاهما اليقين، وهذا آخِر حديثهما.

قال الملك: لقد زهَّدتِنِي يا شهرزاد في ملكي، وندَّمتِنِي على ما فرط مني في قتل النساء والبنات، فهل عندك شيء من حديث الطيور؟ قالت: نعم.

حكاية السلحفاة وطائر الماء

زعموا أيها الملك أن طائرًا طار وعلا إلى الجو، ثم انقضَّ على صخرة في وسط الماء، وكان الماء جاريًا، فبينما الطائر واقف على الصخرة، وإذا برمة إنسان جرَّها الماء حتى أسندها إلى الصخرة، ووقفَتْ تلك الجيفة في جانب الصخرة، وارتفعت لانتفاخها؛ فدَنَا منها طير الماء وتأمَّلَها فرآها رمة ابن آدم، وظهر له فيها ضرب السيف وطعن الرماح، فقال في نفسه: إن هذا المقتول كان شريرًا، فاجتمع عليه جماعة وقتلوه، واستراحوا منه ومن شرِّه. ولم يزل طير الماء يكثر التعجُّب من تلك الرمة حتى رأى نسورًا وعقبانًا أحاطوا بتلك الجيفة من جميع جوانبها، فلما رأى ذلك طير الماء جزع جزعًا شديدًا وقال: لا صبر لي على الإقامة في هذا المكان. ثم طار منه يفتش على موضع يأويه إلى حين نفاد تلك الجيفة، وزوال سباع الطير عنها، ولم يزل طائرًا حتى وجد نهرًا في وسطه شجرة، فنزل عليها كئيبًا حزينًا على بُعده عن وطنه، وقال في نفسه: لم تزل الأحزان تتبعني، وكنت قد استرحت لما رأيت تلك الجيفة، وفرحتُ بها فرحًا شديدًا، وقلت: هذا رزق ساقه الله إليَّ. فصار فرحي غمًّا، وسروري حزنًا وهمًّا، وافترستها سباع الطير مني، وحالوا بينها وبيني، فكيف أرجو أن أكون سالمًا في هذه الدنيا وأطمئن إليها؟ وقد قيل في المثل: الدنيا دارُ مَن لا دارَ له يغترُّ بها مَن لا عقلَ له، ويطمئن إليها بماله وولده، وقومه وعشيرته، ولم يزل المغتر بها راكنًا إليها يختال فوق الأرض حتى يصير تحتها، ويحثو عليه الترابَ أعزُّ الناس عليه، وأقربهم إليه، وما للفتى خير من الصبر على مكارهها، وقد فارقت مكاني ووطني وكنت كارهًا لفرقة إخواني وأصحابي. فبينما هو في فكرته، وإذا بذكر من السلاحف أقبل منحدرًا في الماء، ودنا من طير الماء وسلَّم عليه، وقال: يا سيدي، ما الذي أبعدك عن موضعك؟ قال: حلول الأعداء فيه، ولا صبر للعاقل على مجاورة عدوه، وما أحسن قول بعض الشعراء:

إِذَا حَلَّ الثَّقِيلُ بِأَرْضِ قَوْمٍ
فَمَا لِلسَّاكِنِينَ سِوَى الرَّحِيلِ

فقال له السلحف: إذا كان الأمر كما وصفته، والحال مثل ما ذكرتها، فأنا لا أزال بين يديك، ولا أفارقك لأقضي حاجتك، وأَفِي بخدمتك، فإنه يقال: لا وحشة أشد من وحشة الغريب المنقطع عن أهله ووطنه، وقد قيل: إن فرقة الصالحين لا يعدلها شيء من المصائب، ومما يسلِّي به العاقل نفسه الاستئناس في الغربة، والصبر على الرزية والكربة، وأرجو أن تحمد صحبتي لك، وأكون لك خادمًا ومُعينًا. فلما سمع طير الماء مقالة السلحف قال له: لقد صدقتَ في قولك، ولعمري إني وجدت للفراق ألمًا وغمًّا مدة بعدي عن مكاني، وفراقي لإخواني وخلَّاني؛ لأن في الفراق عبرةً لمَن اعتبر، وفكرة لمَن تفكَّر، وإذا لم يجد الفتى مَن يسلِّيه من الأصحاب، ينقطع عنه الخير أبدًا، ويثبت له الشر سرمدًا، وليس للعاقل إلا التسلِّي بالإخوان عن الهموم في جميع الأحوال، وملازمة الصبر والتجلُّد، فإنهما خصلتان محمودتان يعينان على نوائب الدهر، ويدفعان الفزع والجزع في كل أمر. قال له السلحف: إياك والجزع، فإنه يفسد عليك عيشك، ويُذهِب مروءتك. وما زالا يتحدثان مع بعضهما إلى أن قال طير الماء للسلحف: أنا لم أزل أخشى نوائب الزمان، وطوارق الحدثان. فلما سمع السلحف مقالة طير الماء، أقبل عليه وقبَّله بين عينيه، وقال له: لم تزل جماعة الطير تعرف في مشورتك الخير، فكيف تحمل الهم والضَّير؟ ولم يزل يُسكِّن روع طير الماء حتى اطمأن، ثم إن طير الماء طار إلى مكان الجيفة، فلما وصل إليه لم يرَ من سباع الطير شيئًا، ولا من تلك الجيفة إلا عظامًا، فرجع يخبر السلحف بزوال العدو من مكانه، فلما وصل إلى السلحف أخبره بما رأى، وقال له: إني أحِبُّ الرجوع إلى مكاني، وأتملى بخلَّاني؛ لأنه لا صبرَ للعاقل عن وطنه. فذهب معه إلى ذلك المكان فلم يجد أشياء مما يخافان منه، فصار طير الماء قرير العين، وأنشد هذين البيتين:

وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يِضِيقُ لَهَا الْفَتَى
ذَرْعًا وَعِنْدَ اللهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمَّا اسْتَمْكَنَتْ حَلَقَاتُهَا
فُرِجَتْ وَكُنْتُ أَظُنُّهَا لَا تُفْرَجُ

ثم سكنا في تلك الجزيرة، فبينما طير الماء في أمن وسرور، وفرح وحبور؛ إذ ساق القضاء إليه بازًا جائعًا، فضربه بمخلبه ضربة فقتله، ولم يُغنِ عنه الحذر عند فراغ الأجل، وسبب قتله غفلته عن التسبيح، قيل إنه كان يقول في تسبيحه: سبحان ربنا فيما قدَّر ودبَّر، سبحان ربنا فيما أغنى وأفقر.

هذا ما كان من حديث الطير. فقال الملك: يا شهرزاد، لقد زدتِني بحكايتك مواعظَ واعتبارًا، فهل عندك شيء من حكايات الوحوش؟

حكاية الثعلب والذئب

فقالت: اعلم أيها الملك أن ثعلبًا وذئبًا أَلِفَا وكرًا، فكانا يأويان إليه مع بعضهما، فلبثا على ذلك مدة من الزمان، وكان الذئب للثعلب قاهرًا، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد، وقال له: إنْ دمتَ على عتوِّك ربما سلَّطَ الله عليك ابن آدم، فإنه ذو حِيَل ومكر وخداع؛ يصيد الطير من الجو، والحوت من البحر، ويقطع الجبال وينقلها، وكل ذلك من حِيَله؛ فعليك بالإنصاف، وترك الشر والاعتساف؛ فإنه أهنأ لطعامك. فلم يقبل الذئب قوله، وأغلظ له الرد، وقال له: لا علاقةَ لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها. ثم لطم الثعلبَ لطمةً فخرَّ منها مغشيًّا عليه، فلما أفاق تبسَّم في وجه الذئب واعتذر إليه من الكلام المشين، وأنشد هذين البيتين:

إِنْ كُنْتُ قَدْ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا سَالِفًا
فِي حُبِّكُمْ وَأَتَيْتُ شَيْئًا مُنْكَرَا
أَنَا تَائِبٌ عَمَّا جَنَيْتُ وَعَفْوُكُمْ
يَسَعُ الْمُسِيءَ إِذَا أَتَى مُسْتَغْفِرَا

فقَبِل الذئب اعتذاره، وكفَّ عنه أشراره، وقال له: لا تتكلم فيما لا يعنيك، تسمع ما لا يرضيك. وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤