تصدير

بقلم  أحمد سخسوخ
غادر العبقري جورج بُشنر Georg Buechner عالمنا قبل أن يُكمِل الرابعة والعشرين من عمره. وعلى الرغم من حياته القصيرة، فقد ترك لنا كنوزًا أدبية ودرامية وعلمية عظيمةَ الأثر، مهَّد بها الطريق إلى الدراما الحديثة كما يقول هاينر موللر Heiner Mueller، وكان تأثيره مباشرًا على الحركة التعبيرية التي ظهرت بعد رحيله بأكثر من ثلاثة أرباع القرن — ظهرت في ألمانيا عام ١٩١٠م — وقد ظهر هذا التأثير على وجه الخصوص جليًّا لدى فرانك فيدكند Frank Wedekind وبرتولت بريشت Bertolt Brecht، كما استفاد من تقنياته في الكتابة الدرامية كُتاب السينما فيما بعد، ويُعتبر جورج بُوشنر أول كاتب مسرحي في التاريخ يجعل بطله الدرامي بروليتاريًّا قبل أن يكتب ماركس Karl Marx وإنجلز Friedrich Engels بيانَهما الشيوعي بعشر سنوات، كما يُنسب إليه ما يُسمَّى بالشكل الدرامي المفتوح، تمييزًا له عن الطريقة الكلاسيكية أو الشكل الدرامي المُغلَق في الدراما الألمانية، والذي ارتبط ﺑ «ليسنج»  Gotthold Ephraim Lessing و«شيلر» Friedrich Schiller و«جوته» Johann Wolfgang von Goethe و«جريل بارتسر» Grill Parzer. ويعتمد هذا البناء الدرامي لدى بُشنر على مجموعة من المشاهد القصيرة يدور الحدث فيها في حلقاتٍ دائرية أو تصاعدية يتكشَّف فيها الحدث، كما يعتمد على الأغاني الشعبية (الفردية أو الجماعية) التي تتخلَّل الحدث الدرامي. ويبرز في أعماله صور التناقضات التي تُظهِر العالم على حقيقته وجوهره دون زَيف، مثل الجحيم والجنة، الشقاء والسعادة، العدل والظلم، الفقر والغِنى، الصقيع والدفء، البرودة والسخونة، وغير ذلك من المُتناقِضات. وتأتي جُمَله وتعبيراته الدرامية مُتقطَعة وغير مُكتمِلة، تُظهِر الإنسان — كما لدى شكسبير Shakespeare — في عُمقه وجوهره دون حتى ورقة تُوت تُخفي عورته؛ إذ يُظهِره في عُريه خالصًا. وقد اعتمد بُشنر في ذلك على المونولوجات الدرامية في بناء الحدث، حتى أصبحت هذه الطريقة نموذجًا تحتذي به الحركات الحديثة فيما بعد، مثل الباتافيزيقية Pataphysik والتعبيرية Der Impressionismus والسريالية Der Surrealismus.

حياة قصيرة حافلة

جاء جورج بُشنر إلى العالم من قرية جودلاو Goddelau في تمام الساعة الخامسة والنصف مساءً من يوم الأحد السابع عشر من أكتوبر عام ١٨١٣م، وجودلاو قريةٌ صغيرة تقع بين دارمشتات Darmstadt وفورم Worm في هسن Hessen بألمانيا.١ وكان جورج هو الطفل البِكر لوالده أرنست كارل بُشنر Ernst Karl Buechner الذي كان يعمل طبيبًا في جودلاو، وقد جاءها حديثًا، وكان والده (جد جورج الصغير) ياكوب كارل بُشنر Jakob Karl Buechner يعمل طبيبًا أيضًا.
كان أرنست والد جورج يعمل في جيوش نابليون Napoleon، حتى حصل على ممتلكات كنسيةٍ مُصادَرةٍ مكافأةً له، بالإضافة إلى حصوله على لقب الدوق الكبير، وفي عام ١٨١٢م عاد إلى مدينة جيسن Giessen واستقرَّ بها، ولكنه كان يعمل في مستشفى هوف مايير بجودلاو.٢
لقد كان الأب مُعجَبًا بنابليون، وكان يُتقن الفرنسية ويعشق حضارتها، وكان دائم الحديث عن الثورة الفرنسية أمام ابنه البكر جورج، حتى أصبح موضوع الثورة الفرنسية لدى الأخير مادةً لمسرحيته الأولى موت دانتون Dantons Tod. وقد شكَّل الأدب الفرنسي لجورج وإخوته اهتمامًا كبيرًا في حياتهم؛ فقد عمل لودفيج Ludwig الأخ الثاني أستاذًا للفلسفة في فرنسا، وحصل شقيقه التالي ألكسندر Alexander على الجنسية الفرنسية، وقد وصل إلى درجة الأستاذية في تاريخ الأدب بجامعة Caën. أما الأخت لويزه Louise فقد تحقَّقت ككاتبة رومانسية.
وعلى الرغم من تأثُّر جورج بُشنر بالثورة الفرنسية، فقد كانت مَثار خلاف بينه وبين والده، وقد انتهى الأمر بأن يترك جورج منزل الأسرة على إثر نزاع مع الأب، وعلى العكس كانت الأم لويزه كارولينا ريوس Louise Caroline Reuss مختلفة كثيرًا عن والده، وكانت تحظى باهتمامات كل عالَم بُشنر الابن، وكانت تعشق الشِّعر الألماني، خاصةً أشعار شيلر Schiller وأعماله مما أثَّر كثيرًا على جورج. وهنا تجِد أن تأثير الأم على جورج من الناحية الأدبية كان كبيرًا، في الوقت الذي كان فيه تأثير الأب عليه من الناحية السياسية والعسكرية لا بأس به.

البداية

تبدأ علاقة جورج بُشنر بالأدب في سن الخامسة عشرة عام ١٨٢٨م، حينما كتب مجموعة أشعار في عيد ميلاد أُمه. وفي العام نفسه، وهو في هذه السن الصغيرة، انضم إلى حلقةٍ دراسية تهتمُّ بالثقافة والأدب بدارمشتات التي انتقل إليها على إثر ترقية والده بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الطب عام ١٨١٥م. وقد أنجبت هذه المجموعة فريدريش تسيمرمان Friedrich Zimmermann (١٨١٤–١٨٨٤م) ولودفيج فيلهلم لوك Ludwig Wilhelm Luck (١٨١٣–١٨٨١م)، وفي هذه المرحلة انكبَّ جورج على دراسة شكسبير وجوته وهوميروس Homer وأسخيلوس Aeschylos/Aischylos وسوفوكليس Sophocles/Sophokles.
وفي عام ١٨٣١م، وعلى إثر حصوله على الثانوية العامة التحق بكلية طب جامعة ستراسبورج، وهناك أقام لدى القس يوهان يعقوب Johann Jakob والد لويزا فيلهلمينا يجله Louise Wilhelmine Jaegle، التي أصبحت عشيقتَه وخطيبته فيما بعد. وتُعدُّ رسائله إليها ذات قيمة كبيرة في تاريخ الأدب الألماني.
في عام ١٨٣٣م انتقل جورج بُشنر إلى جيسن لاستكمال دراسة الطب، وهناك ينخرط في التجمعات الثورية، وينتهي من كتابة بيانه الثوري الذي سُمِّي فيما بعد ﺑ «رسول هسن» Der Hessische Landbote، ثم ينتقل إلى ستراسبورج ليرتبط رسميًّا بمينايجله، وبعدها ينتقل إلى دارمشتات ليؤسِّس جماعة الدفاع عن حقوق الإنسان، ثم يعود — بعد شهر واحد — إلى جيسن لمُواصلة دراسة الطب، وهناك يطبع بيانه السياسي «رسول هسن».

في نهاية عام ١٨٣٤م ينكبُّ على دراسة الثورة الفرنسية لينتهي الأمر بكتابة مسرحيته الأولى «موت دانتون»، تنشرها دار فرانكفورت بداية عام ١٨٣٥م، يعبِّر فيها عن مأساة الثورة الفرنسية التي تخضَّبت أيديها بالدماء، وهي التي جاءت لتحقِّق العدالة والحرية والمساواة.

وتتوالى أعماله الدرامية والأدبية، فيكتب مسرحيته ليونس ولينا Leonce und Lena ومسرحية فويسك Woyzeck عام ١٨٣٧م، ويُترجم عملَين إلى الألمانية للشاعر الفرنسي فيكتور هوجو Victor Hugo، وهي لوكرتيا بورجيا Lucretia Borgia وماريا تودور Maria Tudor، وفي هذه الأثناء، وفي عام ١٨٣٦م، ودون أن يُكمِل الثالثة والعشرين من عمره يحصل جورج بُشنر على الدكتوراه في الجهاز العصبي لسَمك الباربا (وهو نوع من السمك يعيش في المياه غير المالحة وسط أوروبا، ويقترب طوله من المتر، ويتراوَح وزنه ما بين ٥–١٣ كيلوجرامًا)، وينتقل على أثر ذلك للعمل مُدرسًا بكلية الفلسفة بمدينة زيورخ Zuerich بسويسرا، وبعد فترة يشعُر بالملل من تدريس مادة «مقارنات في علم التشريح بين السَّمك والضفادع».

النهاية

وفي بداية عام ١٨٣٧م يُصاب جورج بُشنر بمرض التيفوس، فاضطرت السيدة كارولينا شولتس Caroline Scholz وزوجها لرعايته في منزلهما بزيورخ. وفي ١٩ فبراير من هذا العام تصل خطيبته مينايجله إلى زيورخ. وكان جورج في هذه اللحظة — كما تصفه السيدة كارولينا شولتس — يتنفَّس بصعوبة شديدة، وقد قطع الأطباء أي أمل له في الحياة. وهنا تقول السيدة كارولينا: «جلست أنا ومينا في حجرتنا، وكنَّا نعرف أنه على بعد خطوات منَّا يتمدَّد جسد ميت.» وبعدها بيومَين رحل جورج بُشنر إلى عالم آخر غير عالم الأحياء.

دراما بُشنر والخلاف الأبدي

يرى الدكتور عبد الغفار مكاوي، في مقدمة ترجماته المتميِّزة لأعمال جورج بُشنر في هذا الكتاب، أن مسرحيته الأولى هي «الوحيدة التي أتمَّها قبل موته، وهي «موت دانتون»»، ثم يؤكد أن هذه المسرحية — يقصد موت دانتون — مسرحية «لا تسير إلى هدف أو خاتمة، سواء أكانت هذه الخاتمة نهاية سعيدة مُتخيَّلة، أم كارثة شاملة تحرِّر النفس وتطهِّرها. إن الفصل الرابع والأخير لا يأتي معه بالنهاية المُنتظَرة؛ فهو لا يزيد على أن يكون أحد المشاهد العديدة التي رأيناها تدور مع أرجوحة الأحداث.» وعبد الغفار مكاوي بذلك يميل إلى تقرير أن جميع أعمال جورج بُشنر المسرحية — بما فيها موت دانتون — غير مُكتملة، حيث — كما يقول — يُتابع جورج بُشنر «الكتابة كالمَحموم، فيؤلِّف مسرحيته الشعبية «فويسك» أو مَلهاته الباكية «ليونس ولينا» ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر العاطفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (١٧٥١–١٧٩٢م)، وقد بقيت كلها أعمالًا ناقصة لم تتم.»

وفي الواقع يؤكِّد بعض النُّقاد هذا الرأي حول أعمال جورج بُشنر باعتبارها أعمالًا ناقصة، وهو الرأي الذي تبنَّاه الدكتور عبد الغفار مكاوي في مُقدِّمته لأعمال الكاتب، وإن كنتُ أميل إلى تبنِّي موقف مُغاير يرى أن جميع أعمال جورج بُشنر أعمال مُكتمِلة وتامة غير ناقصة.

موت دانتون

كتب جورج بُشنر مسرحية «موت دانتون» في أربعة فصول، تحتوي في مُجملها على اثنين وثلاثين مشهدًا دراميًّا قصيرًا. وقد وضع بُشنر بطله الدرامي (دانتون) منذ اللحظة الأولى في موقف مأساوي يُرهِص بكل ما سيأتي من أحداث مُفجِعة؛ إذ يبدأ بحديثه عن الوحدة والحب الذي يشبِّهه بالقبر، حتى يصل في المشهد الأخير إلى ميدان الثورة، وقد نُصبت المقصلة ليدفع الجلَّادون به ورفاقه لقطعِ رقابهم. وهنا يستدير دانتون إلى الجلاد الذي يفرِّقهم قائلًا: «أتُريد أن تكون أكثر فظاعة من الموت؟ أتستطيع أن تمنع رءوسنا لكي تقبِّل بعضها البعض وهي في قاع السلَّة؟»٣

وفي المسرحية يبدو تأثر جورج بُشنر واضحًا بشكسبير، خاصةً في رسمه لشخصية دانتون الذي رسمه في حالة هاملتية متردِّدة — إلا في لحظات نادرة كهاملت أيضًا — تُقعِده عن العمل والفعل، حتى نهايته تحت المقصلة، ويصبح بذلك في النهاية ضحية لتركيبته الهاملتية.

ليونس ولينا

هي مسرحية مُكتملة — أيضًا — كتبَها جورج بُشنر خصيصًا ليشترك بها في إحدى المسابقات المسرحية، وقد كتبَها في ثلاثة فصول، وتتكوَّن في مجموعها من أحد عشر مشهدًا دراميًّا. وتدور المسرحية حول فكرة هروب الأمير ليونس Prinz Leonce مع خادمه؛ نظرًا لأن الأمير قد أُعلنت خطبتُه على الأميرة لينا Prinzessin Lena من مملكةٍ أخرى لأسباب سياسية دون أن يراها من قبل. وفي الوقت نفسه تهرب لينا مع خادمتها، ويلتقي ليونس مع لينا دون أن يعرف أحدهما الآخر، ثم يتَّفقا على الزواج، بعدَها يعود الأمير إلى مملكته ومعه الأميرة لينا، ويضطرُّ والده الملك أن يوافق على زواجهما، وبعد إزاحة الأقنعة يكتشف الملك أنهما ابنُه وعروسه التي كان قد قرَّر تزويجها لابنه. هنا يقرِّر أن يتنازل عن الحكم لولده حتى يتمكن من الانصراف إلى التفكير الفلسفي دون أن تُزعِجه أمور المملكة، وتنتهي المسرحية بذلك.
وقد كتب جورج بُشنر هذه المسرحية بأسلوبٍ مخالف عن أسلوبه السابق في موت دانتون؛ إذ إنه يوصِّفها بالكوميديا، ويصوِّر شخصياتها بشكل كاريكاتوري، ويتلاعب فيها بالألفاظ. والمسرحية تذكِّرنا — بشكلٍ ما — بكوميديات شكسبير وشخصيات مهرِّجيه،٤ حيث يتجسَّد «في جسد بُشنر روح شكسبير»، كما يقول ب. أولينين P. Olenin عن بُشنر وأعماله دون أن يقصد عملًا واحدًا، بل كل كتاباته.

لينز٥

كتب بُشنر قصة لينز عن شاعر حركة العاصفة والاندفاع Sturm und Drang   يعقوب ميخائيل رينهولد لينز Jakob Michael Reinhold Lenz، وكان تركيزه الأساسي على الناحية النفسية في لينز الذي أُصيب بحالة من الشيزوفرينيا، وعاش «تعيسًا ثم أصبح نصف مجنون»، كما وصفه جورج بُشنر في إحدى رسائله إلى أسرته. وتغوص القصة في شرح وتحليل التناقض والصراع النفسي والتمزُّق الداخلي في نفس البطل حتى قادَه ذلك إلى الجنون، وقد نُشرت القصة لأول مرة عام ١٨٣٩م؛ أي بعد رحيل جورج بُشنر عن العالم بعامَين، كما أُعدَّت للمسرح ومُثِّلت لأول مرة عام ١٨٨٥م، وقد أعد فولفجانج زيهم Wolfgang Ziehm القصة إلى الأوبرا باسم «يعقوب لينز»، وعُرضت في هامبورج عام ١٩٤٩م.

فويسك

في طبعة شتوتجارت — عام ١٩٧٨م — توجد نسختان لمسرحية فويسك؛ إحداهما منقولة عن خط يد بُشنر، والأخرى منقَّحة للقارئ العادي. وتتكون النسخة المنقولة عن خط بُشنر من ثلاثة أجزاء؛ يحتوي الجزء الأول منها على سبعة عشر مشهدًا قصيرًا، ويبدأ هذا الجزء بمشهد الخلاء بين فويسك Woyzeck وأندرز Andres، وينتهي بمشهد المعسكر الذي يودع فيه الأول الثاني.
ويبدأ الجزء الثاني بالمشاهد من الثالث حتى السابع (وربما يشير هذا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، كما يبدأ الجزء الثالث بمشاهد مرقَّمة ما بين ٤ حتى ١٠ (بالطبع يُشير هذا أيضًا إلى ضياع أو فقدان بعض المشاهد)، حيث يبدأ المشهد الرابع بماريا Marie أمام منزلها مع الأطفال، وينتهي بمشهد فويسك أمام المستنقع وهو يرمي بالسكين في الماء بعد قتله لماريا، ونجد المشاهد المرقَّمة في هذا الجزء أرقام ٧، ٩، ١٠ مشطوبة بخط يد بُشنر، وهذا في الواقع ما جعل الناشرين يلجئون إلى إعداد نسخة من هذه المسرحية — مسرحية فويسك فقط — للقراءة أو للتمثيل بترتيب خاص بالمشاهد — من وجهة نظرهم — مع إضافة بعضها أو حذف البعض الآخر، ومن هنا تختلف نُسَخ هذه المسرحية — في ترتيب مشاهدها — من ناشر إلى آخر، ومن طبعة إلى أخرى، ويتركز هذا الاختلاف في الواقع على ترتيب المشاهد، وعلى حذف بعضها أو اعتماد المشطوب منها.

ويرجع هذا الاختلاف في الواقع إلى اعتماد الناشرين على مسودة خطية لبُشنر فُقد أو ضاع بعض مشاهدها، وشُطب بعض ما تبقَّى منها، بالإضافة إلى تغيير في بعض الكلمات والجمل بالمسرحية. ونجد نهاية المسرحية رغم كل هذا مكتملة — إلا من مشهد أو اثنين في بعض الطبعات، كما يتضح فيما بعد؛ إذ تنتهي المسرحية — في كل الطبعات — بقتل فويسك لماريا وإلقائه للسكين التي قتلها بها إلى الماء، ثم ذهابه إلى المستنقع أو البحيرة بحثًا عن السكين ليُخفي أداة الجريمة، ثم اغتساله في مياه المستنقع لإخفاء بُقَع الدم مِن على يدَيه وملابسه، وأثناء ذلك يمر شخصان من أمام المستنقع على بُعد، وقد توقَّفا بعد سماعهما لأصوات إنسان يموت، وهي نهاية للمسرحية تتفق وتكنيك البناء الدرامي المفتوح الذي يطرح بعضًا من الأسئلة بعد المشهد الأخير، مثل: هل سيموت فويسك غرقًا؟ هل سيُنقذه الرجلان؟! وإذا أمسكاه هل سيبلِّغان عنه أو يقدِّمانه إلى البوليس؟! إلى آخر هذه الأسئلة التي لا تغلق التفسيرات على نهاية المسرحية، وهو تكنيك يختلف عن تكنيك البناء الدرامي المُغلَق للأعمال الكلاسيكية للسابقين على جورج بُشنر في الدراما الألمانية، مثل ليسنج وشيلر وجوته وجريل بارتسر وغيرهم.

وفي طبعة شتوتجارت — عام ١٩٨٥م٦ — يُنهي الناشر المسرحية بفويسك وهو يتحدث إلى مياه المستنقع، وفي الوقت نفسه يأتي شخصان تصل إلى أسماعهما من بعيد أصوات لإنسان يحتضر في ظلمة الليل، ثم يتجهان إلى مصدر الصوت، بعدها يأتي مشهد قصير للأطفال — بضعة أسطر قليلة — وهم يقرِّرون التوجه ناحية الجثة، ثم يأتي مشهد آخر من ثلاثة أسطر، يتحدث فيه رجل البوليس عن «القتل الجميل»، وأنه لم يرَ منذ زمن طويل قتلًا جميلًا بهذا الشكل،٧ وبالطبع تنتهي المسرحية.

ولهذا ربما تبنَّى بعض النُّقاد الرأي الذي يرى أن أعمال جورج بُشنر هي أعمال ناقصة، وهو الرأي الذي ربما بُني على أساس اختلاف طبعات مسرحية فويسك، وحذف بعض مشاهدها، وإعادة ترتيب هذه المشاهد وفقًا لوجهة نظر الناشر.

إنك تجد — مثلًا — أن المشهدَين الأخيرَين — مشهد الأطفال ومشهد رجل البوليس — ليسا في نص فويسك المترجَم في هذه النسخة من الكتاب؛ إذ اعتمد د. عبد الغفار مكاوي في ترجمته من الألمانية على النص الذي حقَّقه ونشره فرتز برجمان عام ١٩٥٨م، وتتَّفق نهاية مسرحية فويسك بالكتاب مع النص الألماني للمسرحية في طبعة الكلاسيكيين الكبار التي طُبعت بسالزبورج عام ١٩٨٠م،٨ وهو ما جعل النُّقاد يختلفون حول بعض طبعات هذه المسرحية، وحول تحليلاتهم لمسرحيةٍ لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ الدراما الحديثة، خاصةً الدراما الألمانية، وقد وصفها فريدريش دورينمات Friedrich Duerrenmatt بأنها «أكثر المسرحيات التي سحرتني».
١  Vgl. Buechner: Die Grossen Klassiker Literatur der Welt, Bd 17, Andreas Verl. Salzburg 1980, s. 12 ff, und Hans Mayer: Georg Buechner und Seine Zeit, Suhrkamp. Taschenbuch Verl. Frankfurt am Main 1972, S. 233 FF.
٢  Vgl. Hans Mayer, ebenda, s. 33 FF.
٣  Buechner: Die Grossen Klassiker, 2, 213.
وقارِن أيضًا الترجمة المتميِّزة لموت دانتون للدكتور مكاوي في هذا الكتاب.
٤  قارن نهاية نص ليونس ولينا في هذا الكتاب مع مقارنة نص: Georg Buechner: Leonce und Lena, Phillipp Reclam Jun. Stuttgart, 1985 s. 61.
وقارن نهاية المسرحية ذاتها في طبعة: Buechner: Die Grossen Klassiker, s. 243.
٥  Georg Buechner: Lenz, Der Hessische Landbote, Phillipp Reclam Jun. Stuttgart, 1957.
٦  Vgl. Georg Buechner: Woyzeck, Leonce und Lena, Hers. Von otto C. A, Phillipp Reclam Jun. Stuttgart, 1985.
٧  Vgl. Ebenda, s. 28.
٨  Buechner, Die Grossen Klassiker, s. 297.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤