تقديم جورج بُشنر

١٨١٣–١٨٣٧م

كاتبٌ ثائر وطبيب، عبَّر عن صرخة الخليقة المعذَّبة من عبث الوجود وفنائه، هذه الصرخة التي لا نزال نسمع صداها في الأدب العالمي حتى اليوم.

وُلد في دارمشتات (مقاطعة هسن في ألمانيا)، كان أبوه طبيبًا ريفيًّا عمل فترة في حرس نابليون، فتعلَّم كيف يقدِّر كل ما هو فرنسي، وكانت أمه التقيَّة تُجلُّ الشاعر الكبير شيلر فوق كل شيء. التحق بالمدرسة الثانوية في دارمشتات، وعُرف بميله إلى الفيزياء والرياضة، كما درس الطب في شتراسبورج، وأُفعم قلبه بالثورة والحرية والتمرد على الطغيان في بلاده، وتعرَّف على خطيبته مينايجله التي كتب إليها رسائل من أجمل ما عرف الأدب الألماني. أكمل دراسة الطب في مدينة جيسن (١٨٣٣م) التي أقام فيها في ظل حكم بوليسي متعنِّت، جعله يُعاني أول أزمات حياته، ويشارك مشاركة إيجابية في الثورة، فيؤلِّف بيانًا يحرِّض فيه الفلاحين على الثورة على مستغلِّيهم سمَّاه «رسول هسن» (١٨٣٤م).

إنه يعود في أوائل عام ١٨٣٤م إلى جيسن ليواصل دراسة الطب، بعد أن أمضى في بيت أبوَيه في دارمشتات فترةَ استشفاء من التهاب في المخ أصابه نتيجةَ أزمات نفسية متكررة. كانت الظروف السياسية في بلده لا تحتمل، وقد كتب قبل عودته إلى جيسن وهو على فراش مرضه إلى صديقه أوجست شتوبر يقول: «إن الظروف السياسية تكاد تُصيبني بالجنون، إن الشعب المسكين يجرُّ في صبرٍ العربةَ التي يمثِّل عليها الأمراء وأدعياء التحرر مَلهاتهم.» كانت الأسابيع القليلة التي قضاها في بيت أبوَيه كافيةً ليعرف عن كثب جبروت الدولة البوليسية الحاكمة، ولم يكن من الممكن بعد ذلك أن يبتعد بنفسه عن مجرى الأحداث، ولا لعاطفته الجياشة المتطلِّعة إلى الحرية والعدل أن تقنع بمجلدات الطب والفلسفة والتاريخ التي كان يُغرِق نفسه فيها ليلَ نهار.

كانت البلاد الألمانية الممزَّقة ما تزال تئنُّ تحت حكم أمراء يتمسَّكون بحقهم الإلهي المُطلَق، وكانت الوحدة الألمانية التي تمَّت بعد هزيمة نابليون وحدةً فاسدة، استطاعت حقًّا أن تمنع الحروب بين الدويلات المتحدة، ولكنها لم تستطع أن توطِّد دعائم السلام. وكان الشباب يتُوقُون إلى الحرية في الداخل والخارج، وشعارات الثورة الفرنسية لا تزال تصرخ في آذانهم، وشوقهم إلى الحقوق المدنية وإنصاف الطبقات المظلومة يؤرِّق نومهم. كان دستور إمارة هسن الكبرى — موطن بُشنر — الذي صدر في عام ١٨٢٠م مجرد حبر على ورق. لقد أوجد بالفعل مجلسًا نيابيًّا، ولكن حق الترشيح لعضوية هذا المجلس ظل مقصورًا على ألف شخص فحسب مِن بين ٧٠ ألفًا من رعايا الإمارة! وكانت أغلبية هؤلاء الألف من كبار الموظفين، والقادرين على دفع مائة «جولد» من الذهب على الأقل ضرائب كل عام. وهكذا كان من حقهم أن يفرضوا الضرائب، ولكن لم يكن يُنتظَر منهم أن يعفو الشعب منها. ونشبت ثورة الفلاحين في «سودل» من مقاطعة هسن العليا، ولكنها سرعان ما أُخمدت بقوة السلاح، وتركت وراءها المرارة التي لا حد لها في نفوس الشعب. وسوف يشير بُشنر إلى هذه الحادثة في بيانه الثوري فيما بعد حيث يقول: «إن الجنود يُخرِسون بطبولهم تنهُّداتكم، وببنادقهم يمزِّقون رءوسكم، حين تجسرون على التفكير في أنكم بشرٌ أحرار. إنهم السفاحون الشرعيون، الذين يحمون اللصوص الشرعيين. تذكَّروا سودل! إن إخوتكم وأبناءكم قد قتلوا هناك آباءهم وإخوتهم.»١

كانت السنوات التي امتدت من ١٨١٥م إلى ١٨٣٠م في ألمانيا في تلك الفترة التي تلت الحرب المريرة على نابليون سنواتِ جوع وحرمان وقهر لجموع الفلاحين والعمال اليدويِّين، وكانوا يقِفون في جانب، مُثقَلين بالضرائب، مُهدَّدين بالعبودية والجوع، بينما يقِف الموظفون الأذِلاء ورجال البلاط والعسكريون في جانب آخر، وكانت أخبار الظلم الذي يزداد عليهم يومًا بعد يوم تصل إلى بُشنر وهو يدرس في شتراسبورج، ثم وهو يواصل دراسته في جيسن. ولم يكن من الممكن في نطاق المدينة الجامعية الصغيرة، وعيون الجواسيس تحيط بالطلبة من كل جانب، أن يُخفي سخطه على الأوضاع الظالمة في بلاده، وتطلُّعه إلى العدالة واحترام الإنسان في ظل نظام جمهوري حر.

وبدأت شرارات الثورة تتجمع، ثورة صغيرة بغير شك قوامُها الطلبة والمتعلِّمون وبعض أساتذة المدارس والجامعات، تُقلِق رجال البوليس أكثر مما تحرِّك مشاعر الشعب الذي كان لا يكاد يعرف عنها شيئًا. وكان بُشنر يشارك في تمرُّد المثقفين دون أن يُخفي سخطه عليهم وارتيابه فيهم؛ ذلك أنه لم يُؤمِن بثورة تأتي من أعلى، وتردِّد شعارات الحرية والمساواة، بينما الشعب محروم من حقوقه الأولية، رازحٌ تحت نير الجوع والظلم والوحشية، وكان لا بد في رأيه أن يرفع الحرمان المادي والظلم الاجتماعي عن الشعب قبل التفكير في حقوقه السياسية، وها هو ذا يعبِّر عن ذلك في بيانه الثوري فيقول: «إن الضغط المادي الذي ينوء به جزء كبير من الشعب الألماني يبعث على السخط والحزن، مثله مثل الضغط الروحي، وليس من المؤلم في نظري ألا يُسمَح لهذا المثقف أو ذلك بالتعبير عن أفكاره بقدر ما يؤلم حقًّا أن نجد آلاف الأُسَر لا تملك أن تسوِّي بطاطسها.» لقد كان كل همه أن يجد الإنسان يُحترَم في وطنٍ يحرِّره من الظلم والجوع والهوان.

كان يعيش بقلبه مع الجائعين من العمال والفلاحين، وينظر نظرة الشك والحذر إلى مناقشات الأساتذة والمثقفين، وكانت أهم وسيلة لديه للوصول إلى هؤلاء الفلاحين هي طبع المنشورات وتوزيعها عليهم.

ويكتب بيانه الثوري «رسول هسن» في مارس من عام ١٨٣٤م، ويساعده أستاذ اللاهوت «فيدج» على طبعه في مطبعته السرية وتوزيعه بمعرفة أصدقائه، وإن كان قد عدَّل فيه كثيرًا ليخفِّف من لهجته الحادة ضد الأغنياء والمُترَفين! وألَّف في الشهر نفسه جمعيةً سرية سمَّاها «جمعية الحقوق الإنسانية»، مهمتها تنوير جماهير الشعب ورفع الحرمان المادي عنهم، ولكن أنصار الملكية وجماعات الطلبة ابتعدت عنها، بل كادت تُقاطعها حين طلب بُشنر أن يُسمَح لغير الجامعيِّين بالانضمام إليها، ولكنه أصرَّ على طلبه، ودخل في جمعيته السرية الخبازُ والترزي وصبي الجزار إلى جانب الطالب والأستاذ الجامعي، وفي نفس العام ألَّف في مسقط رأسه «دارمشتات» فرعًا آخر لهذه الجماعة من المتمرِّدين كانوا يجتمعون سرًّا؛ ليتدارسوا شئونهم، وينظِّموا دعايتهم بين الفلاحين، ويتمرَّنوا على استخدام الأسلحة تمهيدًا للثورة الشعبية الشاملة. ووُزِّع منشور بُشنر الثوري بعد أسابيع طويلة من العمل فيه، فما أكثرَ المتحذلِقين الذين راحوا يعدِّلون في أسلوبه ويخفِّفون من لهجته! وراح أعضاء الجماعة السرية يوزِّعونه في حذر على الفلاحين، ويُلقونه تحت أبواب البيوت. واعتبرت السلطات حيازة المنشور خيانةً عظمى، حتى بلغ الأمر بكل مَن وجد منشورًا تحت بابه أن يسلِّمه في فزع إلى رجال البوليس؛ خوفًا من التشريد والتعذيب والحبس الانفرادي. ويُقبَض على أحد أصدقاء بُشنر (منيجوروده) ومعه عدد كبير من نُسَخ البيان الثوري الرائع، ويُسرِع بُشنر في شجاعةٍ نادرة بالسفر إلى فرانكفورت وأوفنباخ ليحذِّر زملاءه. وتُفتَّش غرفته في غيابه، فلا يجد البوليس شيئًا يُذكَر، اللهم إلا مجموعة من رسائل خطيبته إليه كتبَتها بالفرنسية، فأخذوها معهم من باب الاحتياط! وينتهي الفصل الدراسي الصيفي فيعود إلى بيت أبوَيه، اللذين ينصحهما الناس بإبقاء المتمرِّد الشاب تحت رقابتهما في فصل الشتاء أيضًا.

هكذا ضاع صدى البيان قبل أن يُعلِن صوته، وتحطَّم السيف الناري قبل أن يُثبِت وجوده. لقد كان الضمير الاجتماعي في ذلك العهد ما يزال يغطُّ في نومه، فبقي هذا الاحتجاج النبيل صرخةً في الفضاء! وكان لدى الفلاحين من الصبر على الجوع أكثر مما كان يُتوقَّع، فلم يكن من المستطاع أن يعُوا لغته المُدعَّمة بالإحصاءات، وإن فهِموها فلم يكن من المستطاع أن يستجيبوا لها بالسرعة التي خيَّلها له حماس الشباب.

ها هو ذا يقول لهم: «اذهبوا يومًا إلى «دارمشتات»، وانظروا كيف ينعَم السادة هناك بأموالكم، ثم احكوا لأطفالكم ونسائكم الجياع كيف يُوزَّع خبزهم على بطون الأجانب. احكوا لهم عن الثياب الجميلة التي صبغوها بعرَقهم، والأشرطة المزخرَفة التي فصَّلوها بشقوق أيديهم المُتعَبة. احكوا لهم عن القصور الرائعة التي بُنيت من عظام الشعب، ثم انزوُوا في أكواخكم المُدخنة، وأحنوا ظهوركم في حقولكم الجرداء ليستطيع أطفالكم ذات يوم أن يذهبوا إلى هناك، حيث يجتمع ولي عهد مع ولية عهد ليُنجبا ولي عهد آخر، وينظروا من وراء النوافذ ليروا ما يأكله السادة، ويشمُّوا رائحة المصابيح التي يُشعلونها بلحم الفلاحين.» كلمات واضحة ما كان يمكن أن تلتبس في ذهن الفلاحين لو كُتب لها أن تصل إليهم: «ستة ملايين «جولد» تدفعونها في الإمارة لحفنة من الناس وُضعت حياتكم وأملاككم تحت رحمتهم، مثلكم مثل غيركم في بقية أجزاء ألمانيا الممزَّقة؛ لستم شيئًا ولا تملكون شيئًا، حقوقكم سُلبت منكم. إن عليكم أن تُعطوا ما يطلبه منكم مستغِلُّوكم الذين لا يشبعون، وأن تحملوا ما يُلقونه على أكتافكم. افتحوا أعيُنكم وعدوا حفنة المستغلين الذين لا يستمدون قوتهم إلا من الدم الذي يمتصونه من عروقكم، والأذرع التي تُعِيرونها لهم وأنتم مسلوبو الإرادة.»

وهكذا ضاعت دعوة «السلام للأكواخ، والحرب على القصور»، وصُودِر البيان قبل أن يصل إلى الأيدي وقُمعت الحركة الثورية، واستيقظت روح الفنان في نفس بُشنر الذي فرَّ إلى بيت أبوَيه في شتاء ١٨٣٤ / ١٨٣٥م؛ هربًا من القبض عليه، حيث كتب هناك في شهرَي يناير وفبراير مسرحيتَه الوحيدة التي أتمَّها قبل موته، وهي «موت دانتون»، وقد أثبت الباحثون أن خُمسها على الأقل منقول بنصه من تواريخ الثورة الفرنسية «تييرومنييه»، وما كان قصده أن يمجِّد هذه الثورة، بل أن يعبِّر عن فزعه من جبرية التاريخ وعدمية الوجود وتمزُّق البطل، ثم هرب في فبراير سنة ١٨٣٥م إلى شتراسبورج، قبل صدور الأمر بالقبض عليه بقليل، ويواصل دراسة الطب هناك، وحصل على شهادة الدكتوراه برسالة «عن الجهاز العظمي للأسماك»، ويُتابع الكتابة كالمحموم؛ فيؤلِّف مسرحيته الشعبية «فويسك»، وملهاته الباكية «ليونس ولينا»، ورائعته القصصية «لنس» عن مأساة شاعر حركة العاصفة والاندفاع ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (١٧٥١–١٧٩٢م)، وقد بقيت كلها أعمالًا ناقصة لم تتم.

•••

يُعَد بُشنر المُناهِض الأول لمثالية الشاعر الكبير شيلر. إن صورة البطل المنتصر الذي يُصارع عالم المادة من أجل تمجيد الفكرة المثالية لا أثر لها عنده؛ فأبطاله يُعانون مأساتهم، وينحدرون إلى هوة من العدم، تحرِّكهم كالدُّمى الذبيحة أو كخيالات الظل يدٌ خفيةٌ باطشة، ويسحقهم قدرٌ قاسٍ مجهول. و«موت دانتون» تتألف من مشاهد مسرحية تأثَّر فيها بُشنر بفن شكسبير، وجعل موضوعها رجل الثورة الفرنسية المشهور دانتون، بطل حوادث القتل المشهورة في سبتمبر ١٧٩٢م الذي ساقه زميله روبسبيير إلى المقصلة في ٥ أبريل عام ١٧٩٤م، وتدور أحداثها في يومين اثنين معبِّرةً عن احتقار دانتون لرعب الثورة التي جاءت لتحقِّق الحرية والمساواة، فإذا بها تخضِّب يدَيها في بحرٍ من الدماء. إن دانتون بطل الثورة لم يعُد بطلًا. إنه ينظر بغير اكتراث إلى روبسبيير وهو يُدفَع به إلى المقصلة، ويشمئزُّ من مشهد الدماء المسفوكة والرءوس المتساقطة، ويسأل: «ما هذا الذي يكذب فينا، ويفجِّر، ويسرق، ويقتل؟!» لقد صار هاملت جديدًا يخنق فكره إرادته: «ما نحن إلا دُمًى، تشدُّ خيوطَها قوًى مجهولة، ما نحن إلا عدم. لسنا نحن أنفُسنا، بل السيوف التي تتصارع بها الأشباح، لكن المرء لا يستطيع أن يرى الأيدي التي تحرِّكها، كما في حكايات الأطفال». إنه لم يعُد يعرف ما يريد، أو هو بالأحرى لم يعُد يريد شيئًا، اللهم إلا الراحة الحقيقية في القبر: «جولي، أُحبُّك كالقبر، صدرك رمسي وقلبك تابوتي.» إن الثورة عنده هي فوضى الجماهير، وأبطالها هم السفاحون، ويمرُّ الزمن فتصبح الخدعة تاريخًا. والمسرحية كلها تعبِّر عن مأساة الثورة، كما تعبِّر عن خيبةِ أملِ شابٍّ حسَّاس بعد إخفاق ثورته وثورة أمثاله في تحطيم الطغيان الإقطاعي المستبِد في بلده.

وأما قصته «لنس» فتُشبِه أن تكون دراسة سيكلوجية للعبقري المجنون، الذي أصبحت نفسه مسرحًا تصطرع عليه قوى النور والظلام، وتهوي على الدوام في فراغٍ مُوحِش يحيط بها من كل جانب، ومللٍ قاتل يسلبها كل معنًى للحياة، وعالمٍ يضطرب لا تميِّز فيه الحلم من الحقيقة. كان يقف الآن على حافة الهاوية، تدفعه لذة مجنونة إلى إعادة التطلع إليها مرةً بعد مرة، ومعاناة هذا العذاب من جديد. إن العالم يضيِّق الخناق عليه حتى يكاد أن يختنق ويصرخ كالطفل المريض يريد أن يدفع بيدَيه جدران الأرض والسماء التي تكاد تسحقه، ويُبعِد عنه أشباح القلق التي تكتم أنفاسه.

ومقياس الصدق الفني عند «بُشنر» ليس هو الفكرة المثالية المجردة، بل العاطفة والشعور. و«لنس» يعبِّر عن رأي بُشنر الأدبي خيرَ تعبير: «إنني أطلب من كلِّ شيءٍ الحياةَ وإمكانيةَ الوجود، عندئذٍ أرضى عنها، ليس لنا أن نسأل بعد ذلك إن كان جميلًا أو قبيحًا. إن الشعور هو المقياس الوحيد في مسائل الفن، غير أن هذا الشعور بالحياة يُقابلنا نادرًا. إننا نجده عند شكسبير، ونسمعه يتردد في الأغاني الشعبية، كما نلمسه في بعض الأحيان عند جوته. وكل ما عدا ذلك نستطيع أن نُلقي به في النار. إن هؤلاء الناس يعجزون عن تصوير حظيرة كلاب. أرادوا أن يصوِّروا شخصيات مثالية، ولكن كل ما أراه منها أمامي ليس إلا دُمًى خشبية. هذه المثالية هي أخسُّ احتقار للطبيعة الإنسانية.» إن بُشنر يطالب الفنان بأن يغوص في كيان كل موجود، أن يترك الشخصية تخرج بنفسها إلى الحياة، فلا يحاول أن يحشرها في قالب أو ينسخها على صورة نموذج محدَّد من قبل، لا يختلج فيه نبض، ولا يتردد نفس. و«ليونس ولينا» هي ملهاته الوحيدة التي يغلِّفها جوٌّ صافٍ من المرح الحزين والسخرية المريرة. إنها تعبِّر عن انتصار الحب على الملل القاتل والخوف المتسلِّط من الموت والفناء.

وقد كتبت «ليونس ولينا» على أثر مسابقة أعلن عنها الناشر «كوتا» في الثالث من شهر فبراير عام ١٨٣٦م ﻟ «أفضل ملهاة ألمانية»، وحدَّد لها موعدًا ينتهي في اليوم الأول من شهر يوليو من نفسه العام. كان نجاح مسرحيته «موت دانتون» قد منحه الشجاعة، كما أعانته ترجماته لبعض مسرحيات فيكتور هيجو (لوكرتسيا – بورجا – وماريا تودور) على فهم الكثير من أسرار المسرح، أجمل الفنون وأصعبها جميعًا. وانتهى من كتابة ملهاته في أسابيع قليلة من فصل الربيع، غير أنه تأخَّر في إرسالها إلى الناشر، فوصلت بعد انتهاء موعد المسابقة بيومَين، وأُعيدت له المخطوطة دون أن تُفتَح!

كتب بُشنر ملهاته وفي خياله نموذج للملهاة الرومانتيكية، هو مسرحية «فون برنتانو» «ليونس دي ليون»، التي كان قد اشترك بها في نفس المسابقة منذ سنوات عديدة، وسقطت في المسابقة. ومن يدري؟ لعله لم يكن أيضًا يتوقع النجاح بقدر ما كان يريد أن يتحدى القدر!

والقراءة الأولى للمسرحية توحي بأنها مسرحية رومانتيكية، تسيطر على فن الملهاة كما فهمه هؤلاء الرومانتيكيون وعبَّروا عنه بروحهم الشاعرية الحالمة. والواقع أن بُشنر قد كتب المسرحية تحت تأثير قراءاته للرومانتيكيين الألمان من أمثال برنتانو وتيك وهوفمان وكاميسو، والفرنسيين مثل فيكتور هيجو وألفريد دوموسيه، ولكن الواقع أيضًا أنه أراد أن يتحرَّر من أحزانهم وأشواقهم، ويكشف الرومانتيكي في نفسه لكي يتخلص منه، ويتجاوز عالمهم بالسخرية منه وبالتحدي له. هي مسرحية حالمة، ولكنه الحلم الذي يفتِّش عن المعرفة، وهي حلمٌ شفَّاف، ولكنه لا يُنسينا مرارة الواقع المُفزِع أبدًا. إنها من طراز مسرحيات الحلم؛ مِن حلم ليلة صيف لشكسبير إلى لعبة الحلم أو إلى دمشق لسترند برج، ومع ذلك فليس فيها مكان للمثاليِّين ولا للعاطفيِّين!

الحياة ملهاة، ولكن هذه المعرفة لا تأتيه إلا من معرفته بفناء الحياة وزوالها، وإذا كان الإنسان يشترك في تمثيل هذه الملهاة فليس ذلك لأنه يُسعِده أن يشترك فيها، بل لأن قدرًا قاسيًا قد كتب عليه ذلك؛ فعنصر الكوميديا ينمو من الجذور التراجيدية، بل إن العنصر التراجيدي يصبح عن طريق العنصر الكوميدي سخرية مُرة شاملة، وهذا ينطبق على الأمير «ليونس» الذي يشف شفافية النور، ولكنه يكاد يقتل نفسه من طول التأمل في نفسه، مثله في ذلك مثل دانتون؛ البطل الذي شل تفكيره قدرته على الفعل.

إن ليونس أبيقوري من نوع عجيب؛ فهو يتلذذ بتعذيب نفسه، ويستقطر الألم الكوني قطرةً قطرة، ويجد متعته في حبٍّ يموت كطفل رقيق شاحب مُسجًّى في تابوت، قبل أن يجدها في نعمة الحب الذي ينمو ويتفتح ويزدهر. إنه يعشق نفسه، أو بعبارة أصح يعشق أن يمتص الدم من جراحه؛ أن يرى عواطفه تذبل وتتحلل، أن يجد نفسه يترنح كالراقص على الحبل بين الحلم والواقع، والوهم والحقيقة، واللعب والجد. إن كل همه أن يُوقِف اللحظة الراهنة ليستمتع بها إلى آخر قطرة، ولكن اللحظة تمرُّ، وتزيده إحساسًا بلوعة وعذاب المصير، فيتأملها وكأنه يقول لها على لسان فاوست: تريَّثي قليلًا فما أجملَك!

هذا الإحساس بالحياة يظل يتأرجح بين متعة الخيال التي لا حد لها، وبين خيبة الأمل التي يسبِّبها السأم. والحياة تُواصل عبثها، يشدُّها الإحساس الرومانتيكي الذي يموت من ناحية، وتجذبها حقيقة الواقع الذي يتجرد مِن سحره من ناحية أخرى.

إن الشخصيات لا تجد الفعل الذي تغوص في لجته؛ ولذلك فهي مهدَّدة في كل لحظة بالسقوط في هوة الفراغ. إنها، على حد قول فاليريو، كصفحةٍ بيضاء كُتِب عليها في كل لحظة أن تملأها بالكتابة. وتكاد الذات أن تتفرق وتتلاشى، لولا أن النظرة الساخرة المبتعدة تجدِّد سخريتها من هذه الذات في لحظات الملل وتجدِّد أيضًا متعتها بعذابها، ولولا نعمة الأسطورة التي تحقِّق الحلم في النهاية، وتخلِّص الإنسان بالحب والسعادة من خوفه من الملل والعدم.

وقصة هذه المسرحية بسيطة؛ فالأمير ليونس من مملكة بوبو قد أعلنت خطبته لأسباب سياسية على الأميرة «لينا» من مملكة «بيبي»، ولكن الأميرَين لم يسبق لهما أن تلاقيا وجهًا لوجه، وليس في إمكانهما أن يشعرا بالحب نحو بعضهما البعض؛ ولذلك يلجآن إلى الفرار من هذا الزواج الرسمي، فيهرب ليونس في صحبة خادمه فاليريو (وما أشبهَه بشخصية مُضحِك الملك)، وتهرب لينا في صحبة مربِّيها، ولكن القدر يشاء أن يلتقي العروسان دون أن يعرف أحدهما الآخر، وأن يتحابَّا ويتفقا على الزواج. وكأن بُشنر يريد بهذا أن يصوِّر قدرية التاريخ على خشبة المسرح، وأن يُمسِك بيدَيه تلك الخيوط التي تحرِّكنا بها قوة مجهولة، وكأننا دُمًى مسكينة في يدَيها. ويعود الأمير ليونس إلى مملكته بعد أن صمَّم على الزواج من حبيبته المجهولة، ويقدِّمهما فاليريو إلى البلاط كما يقدِّم «آلات حية»؛ المقدور إذن قد حدث. ويضطر الملك الذي لا يريد أن يؤجِّل احتفالات الزواج حتى لا يشغله كذلك عن تأملاته الفلسفية إلى الموافقة على عقد زواج العروسَين المُقنَّعين، ثم لا يلبث أن يكتشف أنهما هما ولده وعروسه، وتنتهي الرواية نهاية سعيدة، فيخلُف ليونس أباه على العرش، وتُرفرف السعادة والحكمة على المملكة التي لا يعيبها سوى أن اسمها هو بوبو!٢

ويُلاحِظ القارئ أن بُشنر يسجِّل بهذه المسرحية، في إطار ساخر، زهدَه في السياسة، وخيبة أمله في الثورة على الاستبداد. إنه هنا يكرِّر ما قاله في بيانه الثوري الفريد، وإن لم يقُله بنفس اللهجة الجادَّة التي كادت تُودي بحياته.

أما عن مسرحية فويسك فإن بطلها «السلبي» يُعَد أولَ شخصية كادحة تحتل مكان الصدارة في زمنها في مسرحية عالمية، وقد استمد بُشنر موضوعها من حكاية واقعية جرَت حوادثها لجنديٍّ بسيط قتل زوجته لخيانتها له، وتسود المسرحيةَ كلها روحُ الانهيار الكوني الشامل والفزع من ظلام العدم والقلق أمام المجهول.

إن البطل هنا، مثله مثل دانتون، لا يُقاوم ولا يتقدم إلى الأمام، بل يحني رأسه للقدر المُعتِم، لا عن ضعف، بل عن بصيرة بعبث كل فعل وانتصار. ولما لم يكن هناك فعل، فليس ثمة رد فعل له، ولا مسرحية بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. إن الفصل ينحلُّ إلى مَشاهد منفصلة، ومحاورات ذاتية (مونولوج)، ولحظات خاطفة، وليس ثمةَ خطٌّ يرتفع بالحدث أو يهبط به إلى نهايته، بل لوحات وصور مُفكَّكة، ورعشات لا يجمعها غير التوتر المتصل؛ ولهذا يرى النُّقاد أنها تمثِّل خطوة هامة على طريق المسرح الملحمي الحديث.٣ وفويسك قد وجد حقيقة كما قدَّمنا، واختلف الأطباء الشرعيون في قواه العقلية. كان يقول في المحاكمة إنه سمع أصواتًا تُناديه: «اطعن! اطعن!» ليس هو الذي قتل إذن، بل قوة مجهولة طاغية يعجز عن إدراك كنهها. وتقول القضية التي تستند إليها المسرحية إن صانع القبعات يوهان كرستيان فويسك طعن أرملة الجرَّاح فوست البالغ عمرها ستة وأربعين عامًا بسكين حادَّة، وذلك في اليوم الثالث من شهر يونيو عام ١٨٢١م حوالَي الساعة العاشرة مساءً على عتبة مَسكنها في مدينة «ليبزج». قتلها بدافع الغيرة؛ فقد كانت عشيقته، وكان يعلم أن لها علاقة برجال آخرين، وبالأخص بالضباط والجنود، وكانت قد وعدت أن تلقاه في المساء، ولكنها خرجت مع غيره؛ مما دفعه إلى الإقدام على جريمته. وأيًّا ما كانت تفاصيل القضية التي شغلت الرأي العام آنذاك فقد حُكِم على فويسك بالإعدام بالسيف، ونُفِّذ فيه الحكم علنًا في السابع والعشرين من شهر أغسطس عام ١٨٢٤م في سوق ليبزج. ويحتمل أن تكون هذه القضية قد ظهرت في محيط عائلة بُشنر، وربما تحدَّث في شأنها مع أبيه الذي كان هو نفسه طبيبًا، وكان له رأيه في المناقشات الطبية الطويلة التي دارت حول فويسك ومدى قدرته العقلية. المهم أن بُشنر قد تذكَّر هذه الحادثة التي ظلَّت كامنة في عقله الباطن أثناء دراسته في شتراسبورج، ووجد في شخصية فويسك تعبيرًا عن اقتناعه بالقدرية التي تُسيِّر الإنسان وتلعب بمصيره وتسلبه إرادته.

وقد ظهرت المسرحيتان بعد موت بُشنر المفاجئ بمرض التيفوس، ولم يكد يُتمُّ أربعة وعشرين عامًا من عمره.

١  راجع — إن شئت — تفصيل هذا في كتابي «البلد البعيد»، دار الكتاب العربي بالقاهرة، ١٩٦٧م، ص١٣٦–١٤٦، لدى مقال بعنوان «الرسول الثائر».
٢  بوبو هي المقعدة؛ كما أن بيبي، اسم مملكة الأميرة لينا، هو عضو الذكورة عند الرجل.
٣  راجع لكاتب السطور: المسرح الملحمي، سلسلة كتابك، دار المعارف بالقاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤