تمهيد

بقلم  عبد الغفار مكاوي

كتب جورج بُشنر مسرحية «موت دانتون» في شتاء سنة ١٨٣٥م، في أيام معدودة لم تتجاوز شهرًا. كان يريد أن يموِّل بها هروبه عبر الحدود الفرنسية إلى مدينة شتراسبورج، التي عاش فيها ودرس الطب من سنة ١٨٣١م إلى ١٨٣٣م؛ ليُفلِت من اضطهاد البوليس واستجواباته المستمرة؛ فقد ألَّف في مدينة جيسن قبل ذلك — كما قدَّمت — فرعًا لجمعيةٍ سرية سمَّاها «جمعية حقوق الإنسان»، كما وضع منشوره الثوري الخطير الذي فتح عيون الشرطة عليه، وحرمه الاستقرار في بلده.

تتألف «موت دانتون»، مثلها في ذلك مثل مسرحية «الجنود» للنس١ مِن مشاهد صغيرة منفصلة تبلغ اثنين وثلاثين مشهدًا، يُساعد بعضها على دفع الحدث، ويخلق معظمها جو المسرحية العام الذي يُشبِه أن يكون قبرًا مُخيفًا شاحب الضوء، تتردد فيه الأصداء وتتجاوب، وترقص الظلال والأطياف، ويحبُّ الناس ويكرهون ويتعذبون ويخطبون ويقتلون ويجنون ويحاولون أن يُعِزوا أنفسهم عن قدرٍ مُعتِم محتوم يتربص بهم في كل لحظة. وإذا كان أحد معاصريه من رواد المسرح الواقعي الثائر، وهو جرابه Grabbe (١٨٠١–١٨٣٦م)، قد قال عن مسرحه: «ليكُن هو العالم.» فلعل هذا القول أن ينطبق على مسرح بُشنر أكثر مما ينطبق عليه، ولعل هذا قد حقَّق ما لم يحقِّقه صاحبه من معارضة للمسرح المثالي-الكلاسيكي والمسرح الرومانتيكي، وتصوير لنبض الإنسان وعذابه وعالمه الباطن الدفين، بعيدًا عن قوالب الأشكال الفنية وقيود المذاهب الفكرية والفلسفية والاجتماعية.

•••

يبدأ الفصل الأول من المسرحية بصالة لعب الورق، حيث يحاول دانتون مع بعض رجال الثورة الفرنسية أن يطردوا السأم عن نفوسهم.

وليس في هذا المشهد مجال لتصوير الانفعال بالثورة؛ فالحزن والكآبة والشلل الإرادي يُسيطر على جوه الثقيل.

إننا نسمع أصواتًا مخنوقة كانت من قبل تُجلجل في الساحات وقاعات الاجتماعات، كما نسمع أصوات نساء تُحاول أن تُوقِظ الحب وتلمس القلوب. وبين الشك والمرارة على لسان دانتون: «إننا نعرف القليل عن بعضنا البعض، نحن وحيدون جدًّا»، وبين الكلمات المؤثِّرة على لسان جولي: «أنت تعرفني يا دانتون»؛ يدور الحوار في هذا المشهد، كما يتردد في بقية مشاهد المسرحية حتى تصرخ لوسيل صرختها الأخيرة قبل أن ينتابها الجنون، ويقتادها الجنود إلى مصيرها المحتوم. هذا التضاد المستمر في الأفكار والمشاعر والعبارات شيءٌ أكبر وأعمق من كل الاتجاهات والأشكال والأساليب الفنية. إنه يعبِّر عن الصراع الكامن في قلب بُشنر نفسه، ويصوِّر كل ما شغل فكره وحرَّك عواطفه ويده بالكتابة، وهو ماثل في مسرحياته ووسائله، وفي حياته ونشاطه السياسي والعلمي، ممتدٌّ إلى جذور كل ثورة سياسية أو أدبية حين تُفهَم على الوجه الصحيح، «واقعيٌّ» إلى الحد الذي لا يمكن معه أن يُوصَف بالقِدم أو الحداثة، معبِّرٌ عن أهون أحداث المسرحية شأنًا تعبيرَه عن أفظع الكوارث التاريخية. ويندر أن تجد كاتبًا مثله استطاع أن يجد الكلمات التي تصوِّر هذا كله بلا طموح أو ادعاء. ولعل هذا هو الجديد في «موت دانتون»، ولعله أن يكون هو سر عظمتها وغرابتها في وقت واحد. ذلك شيءٌ يُحسُّ به القارئ ولا تنفع في توضيحه الشروح والتحليلات. وما قيمة كل التفاصيل التاريخية والعلمية عن مكانة المسرحية في الأدب الألمانية والعالمي إلى جانب هذا الإحساس الفريد؟!

ومع ذلك فإن هذا لا يمنعنا من أن نسأل: كيف استطاعت كلمات بُشنر وعباراته ومشاهده أن تعبِّر عن هذا الإحساس؟ كيف وصل إلى ذلك بلا خُطَب طنانة ولا أنَّات باكية؟ كيف استطاع أن يكتب عن حدث تاريخي ضخم كالثورة الفرنسية، فلم يمجِّدها ولم يندب حظها، بل جعلها مناسبة ورمزًا للتعبير عن عذاب الإنسان بوجه عام، وعن معنى وجوده في التاريخ أو عبث هذا الوجود؟ وبالجملة، لا بد أن نسأل أنفسنا كيف بنى بُشنر مسرحيته؟

لا نكاد نمضي قليلًا في قراءة المشهد الأول من المسرحية حتى نسمع كتائب الرعب والفزع الزاحفة، ونُحسَّ أن دانتون «بطل» الثورة الذي أنقذها من أعدائها ذات يوم، وكان مسئولًا عن حوادث القتل المشهورة في سبتمبر سنة ١٧٩٢م، لا بد أن يتحرك ويفعل شيئًا، ولكننا سرعان ما نُحسُّ كذلك أن «البطل» لم يعُد بطلًا بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة، ولم يبقَ فيه شيء من الحماس والتزمُّت والجِد الذي يحتاج إليه الثُّوار والسياسيون. إن كلماته تفيض أسًى ومرارة وشكًّا، وفِكره قد طغى على إرادته، فأصبح نسخة أخرى من هاملت لا يجد في نفسه القوة التي تحرِّكه إلى الفعل، وإن وجدها فلن يقتنع بها.

دانتون : يستطيع الإنسان أن يقرض الشرفاء، ويشهد حفلات التعميد لديهم، ويزوِّج بناته لهم، ولكن هذا هو كل شيء!
كاميل : ما دمت تعرف هذا، فلماذا بدأت الكفاح؟
دانتون : لأنني أحسست بالاشمئزاز من أولئك الناس. لم أستطع أبدًا أن أنظر إلى أمثال «كاتو» المُزيَّفين بغير أن أفكِّر في ركلهم، تلك هي طبيعتي (ينهض واقفًا).
جولي : أتذهب؟
دانتون (لجولي) : لا بد أن أنصرف. إنهم يُثيرون أعصابي بسياستهم.

هذه المستويات المختلفة في الحوار والأسلوب، والتداخل المستمر بين كلام الخطباء والمشرِّعين، وحديث الذات إلى نفسها أو إلى إنسان قريب منها، وأدوار المغنِّين المتسكِّعين في الشوارع، وبذاءات الغوغاء في الحارات؛ هو الذي جعل بُشنر يكتب ذلك الحوار الذي لم يسبقه إليه كاتبٌ مسرحي في ألمانيا من قبل، ويخلق المسرح الذي نستطيع أن نسمِّيه بالمسرح «الواقعي»، هذا إذا فهمنا الواقعية من خلال الحقيقة الإنسانية الحية، لا من خلال المذاهب والعقائد والنظريات، ويأتي بعد هذا المشهد في حجرة اللعب مشهدٌ آخر في الشارع بين سِكِّير بائس وزوجته القوَّادة وبعض المتسكِّعين المخرِّبين بترديد الشعارات.

والمشهد يفيض بالسخرية والألم معًا، ويصوِّر اصطدام البطولة المهذَّبة بالوضاعة والتعاسة التي تسير حافية على أرض الطريق.

وبعد أن نعرف حكاية الزوجَين البائسَين، ونُدرك التناقض الواضح بينهما وبين عالم الخُطب والوعود والآمال؛ نرى روبسبيير النزيه، رجل الثورة العنيد ومُحاميها الجسور، بين طائفة من النساء والصعاليك ليُبرِز لنا هذا التناقض العجيب. لقد جعل من نفسه اللسان الناطق بأفكار الثورة، المدافع عن قسوتها وصرامتها، كما وضع نفسه بعيدًا عن التضاد القائم بين المتشكِّك العارف والعاطفي المُخلِص؛ فأصبح تمثالًا جامدًا للفضيلة، لا يؤثِّر عليه الضحك ولا البكاء، ولكن هل ينتصر هذا الثائر المُملُّ حقًّا أم يتحول إلى تُرس في عجلة الثورة، وأداة من أدوات القتل والبؤس والتعذيب؟ الجواب على هذا يقدِّمه تاريخ الثورة الفرنسية نفسها، كما يُعطيه المشهد السادس من الفصل الأول، الذي يلتقي فيه البطلان المشهوران، ويحاول كلٌّ منهما — على الرغم من القناع الذي يضعه على وجهه — أن ينظر في فؤاد صاحبه.

يقول دانتون لروبسبيير: «أليس فيك إذنْ شيءٌ يهمس في الخفاء قائلًا: أنت تكذب، تكذب؟» وعندما ينصرف دانتون نسمعه يقول لنفسه لست أدري ما الذي يكذب في صاحبه. إنه يحاول أن يمزِّق القناع الذي فرضه على نفسه، ويستمع إلى قلبه الذي يهمس له بصوت خافت أنه بشرٌ كغيره من البشر، وأن وراء النظريات المجردة والقوانين القاسية «أنا» وحيدة لا يصح أن تذوب في «النحن» المُطلَقة. ويمتدُّ حديث روبسبيير مع نفسه حتى يكاد يتشكك في فضيلته، ويرتاب في الشعارات والعبارات المحفوظة، ويُدرك أن الثورة قد أصبحت آلة تتحرك من تلقاء نفسها، كما أصبح هو نفسه قائدها وضحيتها في آنٍ واحد.

إنه يقف الآن أمام النافذة، ويرى الأطياف تتحرك في الليل، والهواجس الدفينة تتجسد أمامه وتُطالب بحقها في الوجود: «الليل يغطُّ في نومه فوق الأرض، ويلتفُّ في حلمٍ مُوحِش. أفكار وأماني لا نكاد نُحسُّ بها، مضطربة وغامضة، تتوارى خائفة من ضوء النهار، تكتسي الآن شكلًا ورداءً.»

ولكن زميله سان جوست لا يلبث أن يُوقِظه من هذا الحلم، ويُعيده إلى صحراء الخطط والأهداف، وينبِّهه إلى ضرورة التخلص من دانتون وأصدقائه، ويتعجله روبسبيير كأنه يحاول أن يهرب من هواجسه بأسرع ما يستطيع: «إذن فأسرِع! غدًا! لا نريد صراعًا طويلًا مع الموت! لقد اشتدت حساسيتي في الأيام الأخيرة. المهم أن تُسرِع!» وحين ينفرد بنفسه مرةً أخرى لا نسمعه يردِّد جملة محفوظة، ولا نراه يشير إلى دور المخلص الذي أحب دائمًا أن يناديه الناس به، بل نسمعه يقول لنفسه في لهجة من أُسيءَ فهمه وانفضَّ الأصحاب عنه: «يا حبيبي كاميل! إنهم جميعًا يتركونني. كل شيء حولي وحشةٌ وخراب. إنني وحيد.»

وفي الفصل الثاني نجد دانتون يتحرك إلى الفعل، على الرغم من كل مرارته وسأمه ونزعته الرواقية الزاهدة، ولكن هل سيتحرك حقًّا، أم يكفي أن تشلَّه عن الفعل عاطفةٌ بسيطة تعبِّر عنها هذه الكلمات: «تعالَ يا ولدي! قلت لك إنهم لن يجرءوا»؟ إن كاتبنا يعرف كيف يشكِّل الحدث، أو بالأحرى مجموعة الأحداث والمواقف الخاطفة المنفصلة؛ ليجعلها تصبُّ جميعًا في حدث أكبر من الثورة الفرنسية نفسها. سيظل قائمًا ما بقي على الأرض إنسان أنَّ أصغر الأحداث وأبسط المواقف يصبح أهم من نظريات روبسبيير الثورية، ومن خطبة دانتون التي يُلقيها دفاعًا عن نفسه؛ فمشهد لوسيل (حبيبة كاميل) في النهاية وهي تهذي وحدها على درجات المقصلة أعمقُ تأثيرًا من كل عبارات البطولة التي تفيض بها المسرحية. والحكايات الكثيرة المتداخلة، والمشاهد القصيرة التي تُضيء وتنطفئ كأنها أنوار أرجوحة تدور في المهرجان، وأغاني الشحَّاذين والمغنِّين المتسكِّعين، كلها ترسم خلفية الحدث الأساسي، وتحرِّك الحكاية الأصلية، وتُساعد على تشكيل الجو الضبابي العام للمسرحية؛ فلا نكاد نُحسُّ بأن دانتون يريد أن يتحرك ويفعل شيئًا حتى نسمع المغنِّي يقول:

خبِّروني! خبِّروني!
ما الذي يلقى الرجال
من نعيم أو هناء؟
من صباح لمساء
بين هم وعناء
وعذاب وشقاء

وتدخل أغنية الشحاذ أو بُكائيته فتساعد على خلق هذا الجو القدري الذي يبدو أن الشخصيات جميعًا لن تستطيع الإفلات منه (وقد تعلَّم الكاتبان قيديكند وبرتولت برشت كيف يستفيدان من هذه الأغاني في داخل الحوار، كما تبعهما في ذلك كثيرٌ من الكُتاب المعاصرين).

فالشحاذ يشكو الزمان ويقول:

يا أهل المروءة، يا أهل الثواب
ما بقي من الدنيا غير التراب!

وتتبع نُتَف متفرقة من الحوار، يعود الشحاذ بعدها إلى الغناء:

على الأرض بختي وآخر نصيبي
يا أهل المروءة، يا أهل الثواب!

وتتردد الأغنيات على هذا النحو في بقية المشهد على لسان الشحاذين والمتسكعين والبغايا والجنود. وفي المشهد الثالث يتحدث دانتون مع كاميل ولوسيل عن الفن، ويرثون لحال الشعراء والكُتاب والرسامين الذين يخلقون شخصيات جامدة مُصطنَعة لا تتوهج فيها شرار الحياة. وقبل أن يأتيهم خبر اعتزام لجنة الإصلاح القبض عليهم، أي بين الحديث عن الفن ودويِّ الحدث التاريخي الهائل، نسمع هذا الحوار البسيط يدور بين كاميل وحبيبته لوسيل بعد أن استُدعي دانتون إلى خارج الحجرة.

كاميل : ماذا تقولين يا لوسيل؟
لوسيل : لا شيء. إنني أحب أن أنظر إليك وأنت تتكلم.
كاميل : هل تسمعينني أيضًا؟
لوسيل : بالطبع!
كاميل : هل أنا على حق؟ أتعرفين ماذا قلت؟
لوسيل : لا، في الحقيقة لا أعرف (يعود دانتون).

وتتداخل المستويات المختلفة في الحوار من جديد، ويعود التضاد الذي عرفناه بين الشكَّاك المُتعِب الذي يقول: «نحن لا نعرف إلا القيل عن بعضنا البعض»، وبين النغمة الوفية الصادقة في سؤال الحبيبة: «هل تعرفني؟» وتلهث الجُمل وتتقطع، وتدخل الأغاني والشتائم في الحوار، وتقوم الإشارة والإيماءة الصامتة مقام الجملة الطويلة، وتدوِّي الخطبة الفصيحة والشعارات المُملَّة في المحكمة، وتنطلق الصيحات المجنونة من فم الزوجة والحبيبة، وتتساقط الكلمات الشاعرة كالأوراق الذابلة، ويعمل هذا كله على إبراز الطابع الفريد لهذه المسرحية التي ظلمها النُّقاد المعاصرون لبُشنر، واتهموها بأنها مجرد إعداد مسرحي للمصادر التاريخية (وخُمس المسرحية منقول بالفعل نقلًا حرفيًّا من وثائق الثورة الفرنسية)، حتى قدَّرها الباحثون المُحدَثون حقَّ قدرها، وعرفوا أن بُشنر قد أعاد صياغة هذه المصادر التاريخية في الشكل الفني الذي يخدم غرضه، وجعل منها رموزًا معبِّرة عن وجدان الإنسان أينما كان، وتصوير ضحكه وحزنه وفرحه وموته.

ويأتي بعد ذلك مشهدان شهيران، هما مشهد الخلاء والحجرة بالليل. إن دانتون يتعذب بذكرى حوادث القتل المشهورة في شهر سبتمبر سنة ١٧٩٢. ويزداد جو المسرحية اتساعًا وقتامة، وتتردد فيه أصداء الخواطر المرتعشة المفزوعة، وينتهي الفصل الثاني كله باجتماع المجلس الوطني بعد القبض على دانتون، وبخطبة روبسبيير الرائعة المشهورة التي ستحدِّد مصير دانتون.

وندخل مع بداية الفصل الثالث إلى سجن اللوكسمبورج، في قاعة مُعتِمة كالقبر مزدحمة بالمساجين، ولا نكاد نمضي قليلًا مع أحاديثهم العدمية (التي نُخطئ خطأً كبيرًا لو تصوَّرنا أنها تدعو إلى الإنكار أو التجديف؛ لأنها في حقيقتها تعبيرٌ عن يأس بُشنر، لا عن إنكاره للذَّات الإلهية لعذاب المخلوقات وفنائها المحتوم) حتى يدخل الحراس دانتون ولاكروا وكاميل وفيليبو، ومن ناحية أخرى يُعد زملاء روبسبيير لتنفيذ الحكم على دانتون. ولا نلبث أن نسمع دانتون في المشهد الرابع من هذا الفصل، وقد استعاد صوته المُجلجِل في قاعة المحكمة، غير أننا نعلَم سلفًا أن الأوان قد فات، وأن المؤامرة قد أُحكمت خيوطها حول رقبته. إنه ينجح نجاحًا مؤقتًا (في المشهد التاسع) في كسب معظم الأصوات في صفه، غير أن هتاف الجماهير التي تميل مع كل ريح يخيِّب ذلك الأمل؛ فها هي ذي أصواتها تختم الفصل الثالث وهي تدوِّي كالرعد: يحيا روبسبيير! يسقط دانتون! يسقط الخائن!

لماذا فشلت الثورة الفرنسية؟

لا بد أن بُشنر سأل نفسه هذا السؤال وهو يكتب مسرحيته، ولا بد أنه تأثَّر عند كتابتها بفشل الثورة التي شبَّت في بلاده للقضاء على ظلم الأرستقراطية والإقطاع، وانعدام الوعي الثوري عند الألمان في ذلك الحين، سواء عند الفلاحين البائسين أو المثقفين المدَّعين الذين كانوا لا يملُّون من الكلام عن الحرية والحقوق الإنسانية، بينما ألوف الأطفال يموتون من الجوع. ولقد تصوَّر بُشنر أن الثورة الفرنسية تحطَّمت نتيجةَ الصدام بين رأيَين يمثِّلهما روبسبيير ودانتون؛ فالأول يعتقد أن الثورة لن تنجح حتى تقضي على جميع أعدائها، وتنشر حكم الرعب في كل مكان؛ والثاني يرى أن الشعب لن يشبع من الدماء، وأنه في حاجة إلى الطعام والمَلبس، لا إلى الرءوس المتساقطة. إن الثورة يجب أن تكفَّ عن افتراس أبنائها ليعيش كل فرد حياته، ويستمتع بحاضره. أحدهما يريد أن ينشر حكم الرعب والقانون والمقصلة، والآخر يريد أن يُوقِف عربة الثورة أمام الماخور. وكان لا بد للثورة أن تضيع بين هذين البطلَين المتطرفَين، وتصبح لقمة سائغة في فم طاغية أناني مثل نابليون، وكان لا بد لبُشنر أيضًا أن ييئس من الثورة ويفقد إيمانه بمعنى التاريخ، فلم يكن هو ولا عصره قد أدركا مفهوم الثورة بمعناها العلمي، ولم يكن في استطاعتهما أن يعرفا أن الثورة لا بد أن تغيِّر من ظروف الإنتاج، وتُعيد توزيع الثروات، وتقضي على التناقض البشع بين الطبقات، وإلا بقيت صرخة عالية ممزَّقة في الهواء.

•••

إن بُشنر — وهو في هذا صادقٌ مع نفسه الحساسة المتشائمة — لا يعتقد أن التاريخ يسير نحو هدف معلوم، ولا يرى — كما رأى الكلاسيكيون من قبله — أن يتطور تطورًا عضويًّا مستمرًّا نحو آفاق حضارية أرقى وأوسع؛ فهو يرى الوقائع وحدها، ويجد أن هذه الوقائع تقول عكس ما تقول به نظريات الكلاسيكيين؛ ولذلك فإن مسرحيته لا تسير إلى هدف أو خاتمة، سواء كانت هذه الخاتمة نهاية سعيدة متخيَّلة، أو كارثة شاملة تحرِّر النفس وتطهِّرها.

إن الفصل الرابع والأخير لا يأتي معه بالنهاية المنتظرة؛ فهو لا يزيد على أن يكون أحد المشاهد العديدة التي رأيناها تدور مع أرجوحة الأحداث؛ فنحن نعرف أن موت دانتون لم يحسم شيئًا، ولم يُنقِذ الثورة ولا الفضيلة، وأن روبسبيير لن يلبث بدوره أن يلقى نفس المصير، فيسقط رأسه مع دورة هذه الأرجوحة الأبدية. والمسرحية نفسها تقول هذا، على لسان كولو (في المشهد السادس من الفصل الثالث) حين يهتف بأن حُمَم الثورة تسيل، وبأنه إذا كان روبسبيير يريد أن يجعل من الثورة كرسي اعتراف، فعليه أن يرقد عليه لا أن يقف فوقه.

هو إذنْ حدثٌ غير إنساني أو حدث يتخطى حدود الإنسانية، ويسير في طريقه دون أن يعبأ بعذاب الإنسان ودمه ولحمه ونبضات قلبه. إنه يجري الآن وسوف يتكرر على الدوام، ويمتزج فيه اليأس بالعجز بالطموح بالإرادة الطيبة، ويجتمع فيه الشك والمرارة التي عبَّر عنها دانتون حين قال: «نحن لا نعرف إلا القليل عن بعضنا البعض»، مع الصدق والبراءة التي أجابته بها جولي المُحبة الوفية: «أنت تعرفني.» مثل هذه الخلجات تُومِض كالشرر تحت التراب، أو كأنوار الفنارة فوق بحر مُظلِم. إنها تُثبِت وجودها على الرغم من كل شيء، على الرغم من عجزها وضعفها بين الصيحات المدَّعية الغاضبة، والنظريات المجردة والشعارات المكرَّرة التي تلبس مسوح القداسة، وأصوات الجماهير التي تندفع مع كل ريح وتميل بسذاجتها وضعف بصيرتها وغلبة الشهوات عليها مع كل مجداف. هذه الخلجات البسيطة شيء لا ينبغي أن نطمسه أو نُخرِسه. إنه أعظم ما في الإنسان وأصدق ما يدل على وجوده، ولو أخرسناه وطمسناه في سبيل النظريات والشعارات فماذا يبقى من الإنسان؟! وليس من قبيل الصدفة ألا يبدأ هذا الفصل الرابع بحدث سياسي، بل بمشهد بسيط تُرسِل فيه جولي ولدها إلى دانتون ومعه خصلة شعر؛ علامة على أنها ستموت معه: «اذهب! أعرف أنني رأيته لآخر مرة. قل له إنني لا أستطيع أن أراه وهو في هذه الحال. (تُعطيه خصلة من الشعر) خُذ. أعطِه هذه الخصلة وقل له إنه لن يذهب وحده إلى هناك. إنه يفهم ما أريد.»

وبداية هذا الفصل ونهايته لا تربطهما صلةٌ مباشرة بالأحداث السياسية الجارية، بل يصوِّران «الحدث الأكبر» الذي أشرت إليه في بداية هذا الكلام، وقلت إنه سيظل يجري ويتكرر ما بقي على الأرض إنسان. وتصل المسرحية إلى ذروتها في مشهد «الكونسييرجيري» الذي يصوِّر ذلك الحدث الأكبر، كما يعبِّر عن وحدة الفرد وعن نجاحه في بعض اللحظات في أن يخرج من هذه الوحدة، ويتحسس في الظلام طريقه إلى قلب جاره. وقبل أن نصل إلى الذروة التي تحدثنا عنها، يقابلنا مشهد بين كاميل ولوسيل، يكاد أن يكون مشهدًا سيرياليًّا (المشهد الرابع، الفصل الثالث): «لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على حجر تحت نافذة المساجين): كاميل! كاميل! (كاميل يظهر في النافذة) اسمع يا كاميل. أنت تضحكني بهذا الرداء الطويل الضخم، والقناع الحديدي على وجهك، ألا تستطيع أن تنحني؟ أين ذراعاك؟ أريد أن أصيدك يا عصفوري العزيز.»

وتنبض هذه الخلجات المؤثِّرة قبل أن نصل إلى الذروة التي أشرنا إليها قبل نهاية المشهد الخامس من الفصل الرابع؛ فها هم المساجين يشتركون في حديث واحد هو في حقيقته مونولوج طويل موزَّع على فيليبو ودانتون وهيرو وكاميل، يجأرنَ فيه بالشكوى من قوة غيبية مسيطرة. إنهم في الحقيقة لا يجدِّفون، ولكنهم في يأسهم يصرخون. ويدخل السجان ليقتادهم إلى العربة التي ستنقلهم إلى ساحة الإعدام، فيشعرون بأنهم قد اقتربوا من بعضهم البعض أكثر من أي وقت مضى. إن فيليبو يقول لأصحابه: «تصبحون على خير أصدقاء! فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون، اللحاف الذي تتوقف تحته كل القلوب وتُغمَض كل العيون.»

ويعانق المساجين بعضهم البعض، ويتأبط هيرو ذراع زميله كاميل وهو يقول له: «افرح يا كاميل؛ فسوف تكون ليلتنا جميلة.» ثم ينتهي مشهد الإعدام بموت جولي الذي تؤكِّد به قُربها من دانتون وبموت لوسيل الذي تُثبِت به وفاءها لكاميل.

ولكن لنتأمل معًا هذا المشهد الخامس عن قرب؛ فها هم أولاء أصدقاء دانتون قد شُلَّت إرادتهم عن الفعل، ودخلوا معه بين فكَّي الثورة التي ستفترسهم بعد لحظات، وغابوا في تلك الطاحونة الكبرى التي ستطحنهم كما طحنت سواهم. إنهم يسألون الآن عن معنى الوجود أو عبثه، عن حقيقته أو باطله، كما يبحثون عن شيء لعلهم يصِلون إليه في الظلام، ويُمضون في حديثهم فيمزِّقون كل قناع، ويتحررون من كل الأوهام، ونسمع كلماتهم الجادة المُخيفة التي لا تحاول أن تحلَّ تناقُض الوجود بالابتسامة الساخرة المريرة، ولا تستعير من التراجيديا القديمة ذلك الانفعال البطولي والهائل، بل تخلق لنفسها نوعًا جديدًا من الانفعال الأليم.

إن هيرو يكشف القناع عن اللعبة الخالدة، لا بالسخرية الحادَّة أو العبارات الطنَّانة، بل في نغمة تفيض بالجد والتعاسة. وكاميل، هذا الشاب الجميل الذي يحب الجمال في كل شيء، يلجأ إلى الاستعارة والتشبيه الجديرَين بفنان مثله. ودانتون ينزع عنه دور بطل الثورة الذي تعِب من تمثيله، ويتحدث بغير صيغ محفوظة أو أشكال جاهزة، فتكاد عباراته أن تتحول إلى دقَّات مُطرِقة: «عندما يأتي اليوم الذي يفتح فيه التاريخ قبوره، فسوف يختنق الاستبداد من رائحة جثثنا.» أو حين يقول: «العالم هو الفوضى والعلماء.» ولكن فيليبو هو الوحيد الذي يُصرُّ على تعزية نفسه وأصحابه بهذا التجانس والانسجام الأبدي الذي يُؤمِن بوجوده: «افرح يا كاميل؛ فسوف تكون ليلتنا جميلة»، «فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مطمئنون.» إنه وهو على حافة الموت لا يزال يملأ عينَيه من الخطوط الإلهية الرائعة، ولا يزال يعتقد أن هناك آذانًا ينسكب فيها الصراخ والعويل كأنه لحن منسجم. أما هيرو فيفضح ذلك الوهم القديم الذي يجعل البطل يتعزى بالتاريخ، ظنًّا منه أن الأجيال المُقبِلة هي التي ستُنصِفه: «إنها عبارات محفوظة للأجيال المقبلة. أليس كذلك يا دانتون؟ إنها لا تعنينا في شيء.» ماذا بقي إذن للمُعزِّين؟ لم يبقَ أمامهم إلا أن يلتصقوا ببعضهم البعض ويصرخوا؛ فليس هناك أغبى من أن يُطبِق الإنسان فمه بينما يُضنيه الألم.

وأما كاميل فهو يخلق صورة بعد صورة، يفضح بها الأقنعة التي يرتديها الإنسان في أعماله وأتعابه، وهو في الحقيقة يفتح فمه متصنِّعًا الفرح، ويصبغ وجهه باللون الأحمر. إن علينا أن ننزع الأقنعة، كل الأقنعة. إن الفروق بيننا ليست بالقدر الذي نتصوره، ونحن جميعًا أوغاد وملائكة، أغبياء وعباقرة، وكل هذا في وقت واحد. العناصر الأساسية في وجودنا تختفي وراء الأصباغ المُعقَّدة، ولكنها في صميمها واحدة؛ فالأرجوحة الأبدية تدور ولا تكفُّ عن الدوران، والحياة تنقضي بين نوم وهضم وإنجاب أطفال، وما الخلافات التي نتوهَّمها إلا متنوعات على لحن واحد، والطموح والبطولة والعبقرية وتكلف الظَّرف كلُّها أقنعة فارغة؛ فنحن في الحقيقة موسيقيون مساكين، وأجسامنا كما يقول دانتون هي الآلات التي نعزف عليها أنغامنا المُملة المتشابهة، ولا حقيقة لشيء خلف هذا كله إلا للألم والعذاب؛ فلنصرخ إذن ولنبكِ كما ينبغي لنا! لا بل إن هذا الصراخ نفسه لا يعدم مَن يعرِّيه ويكشف عنه القناع؛ فهيرو يقول إن الإغريق والآلهة قد صرخت، بينما ادَّعى الرومان والرواقيون البطولة والصبر. ومع ذلك فليس هذا الصراخ نفسه إلا نوعًا من التلذذ الأبيقوري الذي يحاول الإنسان أن يُريح به ذاته؛ علينا إذن أن نمضي في كشف كل الأقنعة، وأن نعرِّي الإنسان من أوراق الغار وأكاليل الورد وأوراق العنب!

وهذا الألم الذي نريد أن نصرخ به يصبح ضحكات تتردد أصداؤها في فراغ العدم، ويضحك الآلهة على هذا «اللعب الملوَّن لصراع الموت»، وكأننا، كما يقول كاميل، أسماكٌ ذهبية على موائد الآلهة؛ وتموت الأسماك إلى الأبد، وتضحك الآلهة إلى الأبد. لم تُفلِح البطولة إذن بقناعها الحجري المتكلَّف، ولم تنجح صور الانسجام، ولا «الخطوط الإلهية العظيمة» التي جاء بها فيليبو، أن تجلب العزاء في موقف يصعب فيه كل عزاء. وها هو ذا دانتون يتدخل في هذا المونولوج الطويل بهذه الصورة الكونية البشعة عن الضحك الأبدي من عذاب البشر. إنهم خنازير تُجلَد حتى الموت لكي يلذَّ طعمها في أفواه الملوك والأمراء، وأطفالٌ يشوبهم الإله السامي الرهيب «مولوخ» ويُدغدغهم بأشعة الضوء لكي يُسعِد الآلهة بضحكاتهم الأليمة، وأسماكٌ ذهبية تموت أبدًا على موائد الآلهة المباركين، فيضحك الآلهة أبدًا على صراعهم المميت. ويلخِّص دانتون هذه الصور المخيفة في عبارة واحدة تقول إن العالم هو العماء، والعدم هو إله الكون. ويأتي السجان فيُعلِن أن العربات تنتظرهم أمام الباب، وتهبط هذه الصور الكونية فجأةً إلى مجال الإنسان وعلاقته الحميمة بالإنسان، ويُعانق الأصدقاء بعضهم، ويُمسِك هيرو بذراع كاميل ويقول له: افرح يا كاميل؛ ستكون ليلتنا جميلة. ويحاول المساجين أن يُواجهوا قدرهم وقد رفعوا الأقنعة عن وجوههم. يكتسب كل شيء وجهه البشري، حتى صفحة السماء وعليها خيالات الآلهة الشاحبة تبدو الآن في صورة بشرية، وتختلج القلوب بالنبض الإنساني فتحجب صورة «البشر الذين يموتون كالأسماك الملونة في أطباق الآلهة الضاحكين، كما تخفِّف من بشاعة هذه الضحكات التي كادت تخنق صرخات الألم. وحين يُقبِل السجان ويُعلِن في كلمة موجزة: «أيها السادة، تستطيعون الآن أن ترحلوا» بعمق إحساسنا بألم الإنسان، فنزداد منه قربًا وبه انفعالًا. ويبقى الفرد، على الرغم من كل عزاء، وحيدًا مع عذابه، ما من شيء يخفِّف عنه هذا العذاب إلا العبارات المحفوظة التي قُصدت بها الأجيال القادمة، ولا الوجوه المتحجِّرة التي تتصنع البطولة أو تتكلف الابتسام أو تصرخ للتلذذ بصوتها، ولا الخطوط الإلهية العظيمة وآيات التجانس والانسجام في الكون، ولا حتى إلقاء النفس بين أحضان العدم أن الإنسان يظل وحيدًا مع ألمه، ولكن هناك نغمة طيبة تتسلل إلى هذه الوحدة الشقيَّة المُعتِمة، وتتجاوز ضحكات البشر والآلهة لتشدَّ «الأنا» إلى «الأنت»، وتجمع بين الإنسان وأخيه في العذاب بصوت هادئ هامس: «تصبحون على خير يا أصدقاء.» أو في صوت يحاول أن يكون مرحًا: «افرح يا كاميل؛ فستكون ليلتنا جميلة!» وليس هذا هو الموضع الوحيد الذي تصلنا فيه هذه النبضات البسيطة؛ فنحن نسمعها قبل هذا المشهد بقليل على لسان لوسيل المجنونة وهي تغنِّي أمام نافذة حبيبها: تعالَ! تعالَ يا صديقي! اطلع على السلالم بهدوء؛ فهم جميعًا نائمون.» وفي كلمات كاميل المشغول بمصير لوسيل بعده:

«كان الجنون يُطلُّ من عينَيها.» «لتُساعدها السماء على العثور على فكرة ثابتة مريحة.»

ونظل نستمع إلى هذا الصوت الحميم العاري من كل قناع، الذي لا تحجبه عنه الضحكات المجنونة، ولا الصرخات المتألمة، ولا الضجيج المنبعث من دوران الأرجوحة الأبدية. إن جولي تموت وهي تفكِّر في دانتون: «لا أريد أن أتركه ينتظرني لحظة واحدة.» ولوسيل تهتف أمام نافذة السجن: «تعالَ! تعالَ يا عصفوري العزيز.» وعلى المقصلة يتكرر الصوت النقي الذي استطاع أن يتخلص من كل قناع؛ فكاميل يختم دعابته مع سائق العربة التي تقودهم إلى ساحة الإعدام بقوله لدانتون: «الوداع يا دانتون!» وحين يقول لاكروا في صوت لا زال يحتفظ بأثر من آثار البطولة: «ستُكسَر رقاب الطغاة فوق قبورنا.» يُداعبه هيرو وينزع عنه هذا القناع الأخير بقوله: «إنه يحسب جثته مزبلة الثورة!» ولا تُفلِح كلمة فيليبو: «إنني أسامحكم وأرجو ألا تكون ساعتكم أمرَّ من ساعتي» في إحداث الأثر الإنساني الذي كانت ترجوه. ولا يجد فابر ما يقوله خيرًا من هذه الكلمة: «وداعًا يا دانتون! إنني أموت مرتَين.»

ويقول هيرو: «آه يا دانتون! لقد أصبحت عاجزًا عن إخراج نكتة واحدة.» ويحاول أن يُعانق دانتون فيدفعه الجلَّاد بعنف، فيقول له دانتون آخر كلمة نسمعها على المقصلة: «أتُريد أن تكون أقسى من الموت؟ أيمكنك أن تمنع رءوسنا من تقبيل بعضها في قاع السلة؟!»

كلمات لا تذكر شيئًا عن التاريخ، ولا البطولة، ولا الطغاة، ولا الفضيلة، ولا الدم. إنها لا تحاول أن تسخر أو تتألم أو تضحك أو تبكي، بل تعبِّر للمرة الأخيرة عن هذه النغمة الهادئة التي تتسلل إلى القلب، وتربط بين الإنسان وأخيه الإنسان برباط العذاب، وهو أول وآخر ما يتعلمه الإنسان من مواجهة الحقيقة والمصير. إنها النغمة التي تأتي على لسان هيرو وهو يمدُّ يده ليلمس ذراع صاحبه: افرح يا كاميل؛ ستكون ليلتنا جميلة.

هذه المشاهد الأخيرة من مسرحية «موت دانتون» ليست في صميمها إذنْ سوى حوار ذاتي، أو مناجاة (مونولوج) متصل يتحدث به بُشنر إلى نفسه، وإن كان يوزِّع عباراته على الشخصيات المختلفة. صحيحٌ أننا نجد خُطبًا عديدة أُلقيت بنصها في زمن الثورة الفرنسية، كما نجد مستويات مختلفة من الكلام على ألسنة الشحاذين والمغنِّين والبغايا والجنود والزوجات والمتسكعين في الشوارع والحارات «وأبطال» الثورة أنفسهم، تمرُّ إلى جانب بعضها البعض، فلا تكاد تتلاقى أو تلتحم إلا في لحظات قليلة يبلغ الحدث الإنساني فيها ذروته، ولكن المهم أن القاعدة الأساسية والخلفية الدائمة لكل هذه المستويات التعبيرية المختلفة هي إحساس بُشنر بشفاء الإنسان وعذاب الخليقة.

إنه في نظره كالدمية المسكينة التي تحرِّك خيوطَها يدٌ مجهولة، ويتحكم في مصيرها قدرٌ مجهول، يُجبِرها على أن تظهر فترة على المسرح فتضحك أو تبكي أو تدَّعي البطولة أو تبحث عن دور تقوم بتمثيله، ولكن مهمته أن يعرِّيها من ثيابها المُزركَشة، وينزع عنها جميع الأقنعة، ويُبرِزها في وحدتها وعريها وصفائها.

إن دانتون يعبِّر عن ذلك حين يقول: «ما نحن إلا دُمًى، تشدُّ خيوطَها قوًى مجهولة. عدمٌ نحن. ما نحن إلا عدم. سيوفٌ تتصارع بها الأشباح، غير أن الإنسان لا يرى الأيدي التي تحرِّكها، كما يحدث في الخرافات تمامًا.»

والسطور التي يقولها بُشنر على لسان دانتون أيضًا عن الموسيقيين المساكين وعن صرخة الموت الإلهية التي تُعزَف على أجسامهم، لكي تصعد إلى آذان السماء وتخمد شيئًا فشيئًا لتموت هناك؛ ليست كذلك إلا تعبيرًا عن هذا الإحساس بالعذاب المقدور. وبُشنر يردِّد هذه الفكرة نفسها في إحدى رسائله إلى خطيبته (وقد كتبها من مدينة جيسن في شهر مارس سنة ١٨٣٤م): «آه، نحن الموسيقيون المساكين الذين نرفع أصواتنا بالصراخ! ألا نئنُّ وننشج على آلات تعذيبنا إلا لكي ينفذ النشيج من شقوق السُّحب، ويظل يتردد كالنغمة الهامسة حتى يموت في آذان السماء؟ إنني لا أجدِّف، ولكن الناس هم الذين يجدِّفون، ومع ذلك أراني وقد لقيت جزائي؛ فأنا أخاف من صوتي، وأخاف من مرآتي.» إنه يريد أن يكشف عن جوهر هذا الإنسان، ويصل إلى حقيقته المطموسة وراء الأقنعة والأشكال والتقاليد.

وكما حطَّم الشكل المسرحي التقليدي في كتاباته، ولجأ إلى ما يُسمَّى الآن بالشكل الدرامي المفتوح والمشاهد الملحمية المستقلة كأنها الوحدات الفردة (المونادات) التي تحدَّث عنه ليبنتز، وملأ لغته بالنغم والإيقاع والصور الشعرية الحية والجُمَل المتقطِّعة اللاهثة والإيماءات الصامتة والحركات والإشارات والأغاني الشعبية متأثِّرًا في ذلك بعض التأثر بشكسبير وجوته ولنس وشيلر؛ فقد أراد كذلك أن يحرِّر الإنسان بقسوة من كل القوالب والأشكال المفروضة عليه؛ ليصل إلى الإنسان الخالص في عُريه وبؤسه وبراءته. هناك يستطيع أن يحب ذلك الإنسان لأنه يتعذب، ويقترب منه لأنه أخوه وشريكه في المصير المحتوم، ويلعن معه كل النظريات المجردة والقوالب الجامدة والتقاليد البالية التي وضعوه فيها كما وُضع أوزيريس في التابوت، فحرموه من السعادة باللحظة الحاضرة، وأطفئوا الشرارة المضيئة التي أودعها الخالق فيه، وهناك أيضًا سيلعن الأرستقراطية التي هي «أبشعُ احتقارٍ مُخزٍ للروح المقدس في الإنسان»، ويسخر من ذلك الركام الميت الذي يُسمَّى بالعلم، والغرور الكاذب الذي يُدعى بالبطولة، والغنى الفاحش الذي يُذلُّ الناس ويُجيع الأطفال. إن ما يُحزِنه أو يُضحكه في آنٍ واحد كما يقول في إحدى رسائله إلى أسرته (بتاريخ فبراير ١٨٣٤م)، ليس هو حالة الإنسان، بل مجرد أنه إنسان، وهو أمرٌ لا حيلة له فيه، وهذا هو الذي يجعله يضحك أو يبكي؛ لأنه إنسان مثله يُشاركه نفس المصير؛ فهو يشعر أنه ينسحق تحت أقدام القدرية التاريخية المقيتة، كما يقول في خطاب آخر إلى خطيبته. ليس الفرد عنده إلا زبدًا يطفو على الموج، وليست العظمة غير عرض زائل، ولا العبقرية سوى لعب بالدُّمى، وصراع مُضحِك مع قانون حديدي، أقصى ما يطمح إليه الإنسان أن يعرفه وإن كان من المستحيل عليه أن يتحكم فيه.

أهي العدمية إذن؟

إن الكلمة تتردد كثيرًا في كتابات بُشنر، ولكن من الخطأ أن نصفه بها أو نجعلها عنوانًا على اتجاهه في الفن والحياة، بل إن من الخطأ والظلم أيضًا أن نقيِّده بإحدى هذه المدارس الكثيرة التي نلغو بذِكرها ليلَ نهار؛ ذلك أن بُشنر، كما أشرت من قبل، هو الأب الحقيقي للمسرح الحديث بتياراته وأساليبه المختلفة، وهو كذلك بكفاحه الثوري في سبيل المظلومين والجائعين والمقهورين والمستغلين، أحد رواد الاشتراكية في بلاده، ولكننا لن نستطيع الاقتراب من قلبه حتى نتخلص من كل النعوت والأسماء التي تصف مسرحه بأنه واقعي أو طبيعي أو اشتراكي أو عدمي أو ملحمي أو غنائي أو شاعري … إلخ. حقًّا إن مسرحه يجمع بين هذه الاتجاهات، ولكنه أكبر وأعمق وأشد تعقيدًا من هذا كله. وإذا أردنا أن نعرف حقيقته فلا بد من السير على طريق المفارقة والتضاد، ولا بد من البحث عنها في عذاب الخليقة الغانية وومضة الحياة في كل كائن حي مهما صغر شأنه.

•••

لا أحب أن أختم هذه المقدمة قبل أن أشير ببضع كلمات إلى ما سوف يلاحظه القارئ في لغة هذه المسرحية وشخصياتها؛ فهناك تعبيرات وتشبيهات لا بد أنها ستصدمه أو تُفزِعه، وفي بعض ألفاظها غلظة وقسوة وتلميح أو تصريح قد يستهجنه ويرفضه. وأنا لا أحاول تبريرها أو الاعتذار عنها؛ فالفن كما يعلم القارئ لا شأن له بالأخلاق، اللهم إلا في غايته الأخيرة وتأثيره النهائي غير المباشر، والفنان لا يكتب ليؤيِّد الفضيلة أو يحارب الرذيلة، ولكنني سأكتفي هنا بتكرار ما أشرت إليه مرارًا في الهوامش والتعليقات على النص، من أن بُشنر لا يقصد الألفاظ النابية أو التعبيرات الغليظة لذاتها، بل بقدر ما تصوِّر الشخصيات وتُعيد خلق العصر، وترسم لوحة تعبِّر في صدق عن تلك السنين المضطربة التي عاشتها فرنسا في ثورتها الإنسانية الكبرى. وقد لقيت المسرحية عند ظهورها في سنة ١٨٣٥م في مدينة فرانكفورت (لدى الناشر زوارلندر) معارضة شديدة، وارتفعت أصوات تستنكر ما تصورته فيها من خروج أو إلحاد. أجاب بُشنر على هذه الاحتجاجات في خطاب أرسله إلى أبوَيه في شهر يوليو من تلك السنة، وقال فيه إن الكاتب المسرحي في نظره ليس إلا مؤرِّخًا وإن كان يتفوق على هذا في أنه يُعيد خلق التاريخ، ويضعنا مباشرةً في حياة العصر، ويقدِّم لنا بدل الأوصاف شخصيات حية. إن مِن أهم واجبات الكاتب المسرحي أن يقترب من واقع التاريخ ما أمكنه ذلك، بحيث لا تكون كتابته عنه أقل أو أكثر أخلاقية مما هو عليه في الحقيقة. ولم يخلق الله التاريخ لكي تتسلى الفتيات بقراءته؛ فإذا لام أحدٌ الكاتب لاختياره هذه المادة أو تلك فلا بد عندئذٍ أن نُلقي بأعظم نفائس الأدب في البحر.

ويواصل بُشنر دفاعه عن مسرحيته ونظريته في الفن والكتابة في خطاب متأخِّر، فيقول إنه يرسم شخصياته بالطريقة التي يعتقد أنها تناسب الطبيعة والتاريخ، ويسخر بمن يحاولون أن يحمِّلوه مسئولية اتفاقها مع قواعد الأخلاق أو خروجها عليها. وربما سارع القارئ باتهام المؤلف بالإنكار، وربما سخط على المشهد الأول من الفصل الثالث بوجه خاص، غير أنه يعلَم بغير شك أن الآراء التي ترِد على ألسنة الشخصيات المسرحية لا يتحتم أن تكون هي آراء المؤلف — ولا المترجم بالطبع! — كما أن إغفال هذا المشهد أو إسقاط بعض العبارات من نص عالمي مُعترَف به في كل اللغات والآداب شيءٌ لا يصح أن نُقدِم عليه؛ فإذا وجدنا أنه يخالف تقاليدنا أو عقيدتنا، أمكننا دائمًا أن نعلِّق عليه أو نبحث عن مبرِّراته، دون مساس بالنص الأصلي الذي ينبغي أن تكون له حرمته. ولست أدافع عن المؤلف إذا قلت إنني لم أجد في كل ما قرأت له أو عنه ما يشكِّك في عقيدته، بل لقد وجدت على العكس من ذلك أنه مؤمن صادق الإيمان، وأنه إذا كان يثور على الألم ويكفر بالعذاب الذي يقاسيه الإنسان في هذه الحياة وتقاسيه الخليقة معه، فلأنه يجد أن هذا الألم والعذاب هو الطريق الوحيد للوصول إلى الله. ولقد عبَّر كثيرًا عن هذا المعنى في خطاباته إلى أبوَيه، كما قال قبل موته المفاجئ بيومَين: «ليس لدينا الكثير من الآلام، بل إن ما لدينا منها جِدُّ قليل؛ لأننا لا نتصل بالله إلا عن طريق الألم.» كما قال أيضًا فيما تشهد به كارولينه شولس، وهي السيدة الطيبة التي سجَّلت أخبار مرضه الأخير يومًا بيوم: «نحن موت، وتراب، ورماد، فكيف يجوز لنا أن نشكو؟» وليست القضية في نهاية الأمر قضية مؤلف أو مسرحية — مضى على صدورها أكثر من مائة وثلاثين عامًا! — بل هي قضية تتصل بنظرتنا للفن، ووزنه بميزان الصدق والعمق، لا بميزان اللوائح والقوانين.

ملحوظة

رجعتُ في هذه الترجمة إلى النص الذي حقَّقه ونشره فرتز برجمان في دار «أنزل» سنة ١٩٥٨م، كما استفدت في كتابة المقدمة بالبحث الذي نشره الشاعر العالم فالتر هولرر Walter Höllerer عن موت دانتون في المجلد الثاني من كتاب «الدراما الألمانية»، الذي أشرف عليه ونشره العلَّامة بنوفون فيزه Benns Von Wiese، وبكتاب الأخير عن التراجيديا الألمانية من ليسنج إلى هيبل.

أما عن الترجمة فلا بد من الاعتراف بأن بعض المقطوعات الشعرية فرضت نفسها عليَّ، فوجدتني أترجمها بالعامية، تجاوبًا مع الروح الشعبية التي تسري في كل أعمال بُشنر، وبخاصة في مسرحية «فويسك»، وقد أوردت النص الحرفي لهذه المقطوعات في الهامش باللغة الفصحى؛ مراعاةً لحق إخوتنا من القراء في البلاد العربية الشقيقة، الذين قد يتعذر عليهم فهم بعض كلمات اللهجة المصرية.

هذا ويجب ألا ننسى أن بُشنر قد ترك مسرحيته فويسك بغير أن يُتمَّها، والنُّقاد والدارسون يختلفون حتى اليوم في المشهد الذي يُناسب الخاتمة، كما يختلفون حول ترتيب المشاهد نفسها، سواء في هذه المسرحية أو غيرها. وقد اعتمدت في هذه الترجمة على طبعة برجمان السابقة الذِّكر، ولم أجد حاجة لمراجعة الطبعة الجديدة التي قام بها الأستاذ «ليمان»، ونشرتها جمعية الكُتاب العلمية، وهي الطبعة التي صدرت بعد فراغي من الترجمة بسنوات، وتضمَّنت من النصوص والشذرات ما يهمُّ الدارس المتخصِّص للأدب الألماني. وأخيرًا أود أن أنوِّه بفضل أحد كبار الدارسين لفن بُشنر، وهو أستاذي الدكتور جرهارت باومان الذي أصدر كتابًا هامًّا عن مسرحه.

١  ياكوب ميخائيل رينهولد لنس (١٧٥١–١٧٩٢م) يُعَد بحياته المضطربة وأدبه مِن أهم ممثِّلي حركة «العصف والاندفاع»، التي استمرت في الأدب الألماني من حوالَي سنة ١٧٦٧م إلى سنة ١٧٨٥م، وكانت — كما يوحي اسمها — ردَّ فعل للنزعة للعقلية لحركة التنوير، وتحريرًا للعاطفة الجيَّاشة والعبقرية الخلَّاقة. تميَّز إنتاجه بالواقعية والثورة على الشكل المسرحي التقليدي والاهتمام بالنقد الاجتماعي، وأثَّر تأثيرًا كبيرًا على بشنر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤