الفصل الرابع

حجرة

جولي – غلام
جولي : انتهى كل شيء. لقد ارتعشوا أمامه. سيقتلونه خوفًا منه. اذهب! أعرف أنني رأيته لآخر مرة. قُل له إنني لا أستطيع أن أراه وهو في هذه الحال. (تُعطيه خصلة شعر) خُذ. أعطِه هذه الخصلة، وقُل له إنه لن يذهب وحده إلى هناك، هو يفهم ما أريد، ثم عُد بسرعة لأقرأ نظراته في عينَيك.

شارع

دوما – مواطن
المواطن : كيف يمكن الحكم بالإعدام على كل هذا العدد من الأبرياء بعد استجواب كهذا؟
دوما : هذا في الواقع شيءٌ غير عادي، ولكن رجال الثورة لديهم إحساس لا يوجد عند غيرهم من الناس، وهذا الإحساس لا يخدعهم أبدًا.
المواطن : إنه إحساس النمر. أنت متزوج؟
دوما : سأصبح عمَّا قريب زوجًا سابقًا.
المواطن : إذن فالخبر صحيح؟
دوما : ستقضي محكمة الثورة بطلاقنا، وستفرِّق المقصلة بيننا على المائدة والفراش.
المواطن : أنت متوحش.
دوما : يا أبله! هل أنت مُعجَب ببروتوس؟
المواطن : من كل قلبي.
دوما : هل يتحتم أن يكون المرء قنصلًا رومانيًّا وأن يغطِّي رأسه بالتوجا١ لكي يقدِّم حبيبه ضحية إلى الوطن؟ سوف أمسح عيني بكُمِّ بذلتي الرسمية الحمراء. هذا هو كل الفرق.
المواطن : شيءٌ مُفزِع!
دوما : اذهب. إنك لا تفهمني!

(ينصرفان.)

في الكونسييرجيري

(لاكروا وهيرو راقدَين على سرير، دانتون وكاميل على سرير آخر.)

لاكروا : طالت شعورنا وأظفارنا إلى حدٍّ مُخجِل.
هيرو : احترِس قليلًا. إنك تعطس في وجهي وتملؤه رملًا!
لاكروا : وأنت أيضًا يا عزيزي، لا تدُس على قدمي، فأصابعي متورِّمة!
هيرو : وأنت تُعاني كذلك من الحشرات.
لاكروا : آه لو استطعت أن أتخلص من الديدان!
هيرو : والآن، أتمنى لك نومًا هادئًا! إن المكان ضيِّق، وعلينا أن ننظر كيف يتسع لنا. لا تخدشني بأظافرك وأنا نائم! هكذا! لا تشدَّ الكفن هكذا؛ فالدنيا برد!
دانتون : أجل يا كاميل، غدًا نصبح أحذية بالية، يقذفون بها في حجر الأرض٢ المتسولة.
كاميل : أو جلد الثيران الذي تصنع منه الملائكةُ الشباشبَ التي تتخبط بها فوق الأرض، كما يقول أفلاطون. آه يا حبيبتي لوسيل! هذا هو مصيرنا!
دانتون : اهدأ يا ولدي!
كاميل : وهل أقدر؟ أتعتقد يا دانتون أنني أقدر على هذا؟ لا يمكنهم أن يضعوا أيديهم عليها! إن نور الجمال الذي يتدفق من جسدها العذب لن ينطفئ، والأرض لن تجرؤ أن تطمرها تحت التراب، بل سوف تجعل من نفسها قبوًا يحيط بها، وبخار القبر سيلمع كالندى على رموشها، والبِلَّور سيتألق كالأزهار حول أعضائها، والينابيع الصافية ستهمس في أذنَيها وهي نائمة.
دانتون : نَم يا ولدي! نَم!
كاميل : اسمع يا دانتون، من التعاسة أن يُفرَض علينا الموت، ثم إنه لا يفيد في شيء. لا زالت لديَّ الرغبة في أن أسرق النظرات الأخيرة من عينَي الحياة الجميلتَين. أريد أن تظل عيناي مفتوحتَين.
دانتون : ستضطر أن تفتحهما على كل حال؛ فإن شمشون لا يغمض عينَي أحد. النوم أرحم. نَم يا ولدي! نَم!
كاميل : لوسيل! قبلاتك تُداعب شفتيَّ كالخيال. كل قبلة تصبح حلمًا تضمه عيناي بشدة.
دانتون : ألا تريد الساعة أن تهدأ؟ إن كل دقة تضيِّق الجدران عليَّ شيئًا فشيئًا حتى تصبح خانقة كالتابوت. عندما كنت طفلًا قرأت حكاية كهذه، ووقف شعري كالجبل. نعم! عندما كنت طفلًا! أكان شيئًا يستحق العناء أن أتغذَّى وأكبر وأتدفَّأ. كل هذا الجهد من أجل حفار القبور! يُخيَّل لي الآن كأنني أشم رائحتي. يا جسدي العزيز! أريد أن أسدَّ أنفي وأتصوَّرك امرأة رقصت كثيرًا، فتصبَّب منها العرق وصعدت رائحتها الكريهة، وأريد أن أداعبك وأهمس لك بأشياء عجيبة. كم تعوَّدنا أن نقضي الوقت معًا ونتسلى أكثر مما نفعل الآن. غدًا ستكون كمانًا مكسورًا، ماتت الألحان عليه. غدًا ستصبح زجاجة فارغة نفد ما فيها من نبيذ، غير أنني لم اسكر منه، وسأذهب إلى فراشي وأنا يقظُ الحواس. ما أسعدَ الذين لا يزال في قدرتهم أن ينتشوا بالخمر! غدًا ستكون سروالًا باليًا، يُلقى بك في دولاب الملابس، وتفترسك العُثة، وتُنتِن رائحتك كما تشاء!
آه! كل هذا لا نفع منه! أجل! من التعاسة أن يُفرَض الموت على الإنسان. الموت يهزأ بالميلاد، وعندما نموت نعود عرايا عاجزين كالولدان الصغار. صحيحٌ أنهم يلفُّوننا في الكفن، ولكن ما الفائدة؟ ربما نتأوه في اللحد كما تأوَّهنا في المهد.
كاميل : لقد نام (وهو ينحني عليه). الحلم يُداعب أجفانه. لا، لا أريد أن أمسح حبات الندى الذهبية عن عينَيه. (ينهض واقفًا ويتجه إلى النافذة) لن أذهب وحدي. أشكرك يا جولي! ومع ذلك فقد كنت أفضِّل أن أموت ميتةً أخرى بلا جهد أو عناء، كما يسقط النجم أو يخمد نغم أو يقتل إنسان نفسه من القُبَل، يدفن شعاعٌ نفسه في المياه الصافية النجوم منثورة في الليل كأنها دموع متألقة، لا بد أن تكون العين التي تترقرق منها حزينة حزنًا لا يُوصَف.
كاميل : آه! (يقف في فراشه ويتلمس السقف.)
دانتون : ماذا بك يا كاميل؟
كاميل : آه! آه!
دانتون (يهزُّه بشدة) : أتريد أن تُسقِط السقف علينا؟
كاميل : آه! أنت! أنت! أمسكني! تكلَّم!
دانتون : كل أعضائك تهتز. العَرق يتصبَّب على جبينك.
كاميل : هذا أنت، وهذا أنا، هذه يدي! نعم نعم! الآن تذكَّرت. آه يا دانتون! لقد كان شيئًا مُفزِعًا.
دانتون : وما هو إذن؟
كاميل : كنت أرقد بين الحلم واليقظة، اختفى السقف، وتدلَّى القمر، واقترب مني حتى أمسكت يدي به. هبط سقف السماء بكل أضوائه، اصطدمت به، تحسَّست النجوم، تخبَّطت كالغريق تحت السقف الثلجي. كان شيئًا مُفزِعًا يا دانتون!
دانتون : إن المصباح يُلقي ضوءه الدائري على السقف. ربما كان هذا هو الذي رأيته.
كاميل : ليكن ما يكون! إن أهون شيء يمكن أن يُفقِدنا القليل من العقل الذي بقي لنا. لقد شدَّني الجنون من شعري. (يقف) لا أريد أن أنام، لا أريد أن أُجَن.

(يمدُّ يده إلى كتاب.)

دانتون : ما هذا؟
كاميل : خواطر الليل.
دانتون : أتريد أن تموت قبل الموت؟ أما أنا فسأقرأ في العذراء الطاهرة،٣ لا أريد أن أغادر الحياة كما لو كنت أتسلل من كرسي الصلاة، بل كما لو كنت أتسلل من فراش راهبة رحيمة. إن الحياة عاهرة، ترتكب الفحشاء مع العالم كله.

ميدان أمام الكونسييرجيري

سجَّان – سائقان ومعهما العربات – نساء
السجان : مَن الذي دعاك أن تسوق العربة إلى هنا؟
السائق ١ : أن لا أدَّعى سوقيا.٤ هذا اسم غريب.
السجان : يا غبي! مَن الذي عيَّنك لهذا؟
السائق ١ : أنا لم آخذ أي تعيين، اللهم إلا عشرة «سو»٥ عن كل رأس.
السائق ٢ : يريد الوغد أن يقطع عيشي.
السائق ١ : وهل تُسمِّي هذا عيشًا؟ (مشيرًا إلى نوافذ المساجين) إنه أكل الدود.
السائق ٢ : أطفالي أيضًا ديدان، وهم يريدون نصيبهم. آه! إن صنعتنا ساءت مع أننا من أحسن السائقين.
السائق ١ : وكيف هذا؟
السائق ٢ : من هو أحسن سائق؟
السائق ١ : هو الذي يقطع أبعد مسافة، ويسير بأقصى سرعة.
السائق ٢ : والآن يا حمار، هل هناك من يقطع مسافةً أبعد ممَّن يبعد بركابه عن العالم؟ وهل هناك مَن يسير أسرع ممن يقطع المسافة في ربع ساعة؟ إنها ربع ساعة بالضبط من هنا إلى ميدان الثورة.
السجان : أسرِعوا يا أوغاد! اقترِبوا من البوابة. أفسِحنَ المكان يا بنات!
السائق ١ : لا تُغيِّرنَ أماكنكن. لا يجب أن يلفَّ الإنسان ويدور حول البنت، بل يجب أن يقتحمها.
السائق ٢ : أجل، هذا رأيي أنا أيضًا، يمكنك أن تنفذ بالعربة والخيول، وستجد السكة معبَّدة، ولكن إذا أردت أن تنفد بجلدك، فيجب أن تفرض الحجر الصحي. (يتقدمان بعرباتهما.)
السائق الثاني (للنساء) : فيم تُبحلِقن هكذا؟
امرأة : ننتظر زبائن قديمة.
السائق الثاني : هل تحسبن عربتي ماخورًا؟ إنها عربة نظيفة، نقلت المَلِك وكل سادة باريس الكبار إلى المائدة.
لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على حجر تحت نافذة المساجين) : كاميل! كاميل!
(يظهر كاميل في النافذة) اسمع يا كاميل! أنت تُضحِكني بهذا الرداء الطويل الضخم والقناع الحديدي على وجهك. ألا تستطيع أن تنحني؟ أين ذراعاك؟ أريد أن أصيدك، يا عصفوري العزيز. (تغنِّي):
نجمان في السماء
أبهى من القمر؛
فواحدٌ يُضيء
نافذة الحبيب،
وواحدٌ يُنير
أمام بابه.
تعالَ، تعالَ يا صديقي! اطلع على السلالم بهدوء؛ فهم جميعًا نائمون. القمر يُساعدني من مدة طويلة على الانتظار، ولكن لا يمكنك أن تدخل من الباب؛ فهذه الملابس فظيعة. هذا مزاحٌ سخيف، لا بد أن تضع له حدًّا! ولكنك لا تتحرك. لماذا لا تتكلم؟ إنك تُخيفني.
اسمع. الناس يقولون: لا بد أن تموت، ويكشِّرون وجوههم. تموت! يجب أن أضحك على هذه الوجوه. الموت! ما معنى هذه الكلمة؟ قُل لي ما معناها يا كاميل؟ الموت! أريد أن أفكر. ها هو! ها هو! أريد أن أجري وراءه. تعالَ يا صديقي الحبيب، ساعِدني على صيده! تعالَ! تعالَ! (تجري.)
كاميل (ينادي) : لوسيل! لوسيل!

الكونسييرجيري

كاميل – فيليبو – لاكروا – هيرو

(دانتون يُطلُّ من نافذة تكشف الحجرة المجاورة.)

دانتون : أنت الآن هادئ يا فابر.
صوت (من الداخل) : في النزع الأخير.
دانتون : هل تعلم أيضًا، ماذا ستفعل الآن؟
الصوت : ماذا؟
دانتون : ما فعلته الديدان٦ طول حياتك.
كاميل (لنفسه) : كان الجنون يُطلُّ من عينَيهما. كثيرون جنَوا من قبل. هذا حلم العالم. هل نملك تغييره؟ إنا نغسل أيدينا، وهذا هو الأفضل أيضًا.
دانتون : سأترك كل شيء في اضطراب فظيع. لا أحد يفهم شيئًا عن الحكم. ربما ينفعهم أن أترك عاهراتي لروبسبيير، وسيقاني لكوتون.
لاكروا : كان ينبغي علينا أن نجعل من الحرية عاهرة!
دانتون : وما جدوى هذا أيضًا؟ إن الحرية والعاهرة هما أعم الأشياء تحت الشمس، وسوف تفجُر الآن وتزني في فراش محامي أرا،٧ ولكني أعتقد أنها ستلعب معه دور كليتامنيسترا.٨ سأعطيه مهلة لن تزيد عن ستة أشهر، وسأشدُّه معي.
كاميل (لنفسه) : فلتوفِّقها السماء إلى فكرة ثابتة مريحة. إن الأفكار الثابتة العامة التي يُسمُّونها العقل السليم مملةٌ إلى حدٍّ فظيع. أسعَدُ إنسان هو ذلك الذي تصوَّر أنه الأب والابن والروح القدس.
لاكروا : سيهتف الحمير عندما نمرُّ بهم قائلين: تحيا الجمهورية!
دانتون : وأي شيء في هذا؟ ليقذف طوفان الثورة جثثنا حيث يشاء، فسوف يستطيع الناس دائمًا أن ينقِّبوا عن عظامنا ويقطعوا بها رقاب جميع الملوك.
هرو : نعم، إن وُجد شمشون يعرف كيف يستخدم فكوكنا.
دانتون : إنهم أشقاء قابيل.
لاكروا : لا شيء يُثبِت أن روبسبيير كنيرون٩ مثل أنه لم يتلطف أبدًا مع كاميل، كما فعل قبل القبض عليه بيومين. أليس كذلك يا كاميل؟
كاميل : وماذا يهمُّني من هذا؟ (لنفسه) يا له من طفل ساحر ولدته للجنون! لماذا يتحتَّم عليَّ الآن أن أذهب؟ ألم يكن من الممكن أن نضحك معه ونُهدهِده ونقبِّله معًا؟!
دانتون : عندما يأتي اليوم الذي يفتح فيه التاريخ قبوره، فسوف يختنق الاستبداد دائمًا من رائحة جثثنا.
هيرو : لقد صعدت روائحنا النتنة بما فيه الكفاية في أثناء حياتنا. إنها عبارات للأجيال المُقبِلة، أليس كذلك يا دانتون؟ وهي في الواقع لا تعنينا في شيء.
كاميل : إنه يضع تكشيرة على وجهه، كأنه يريد أن يتحجر ليكتشفه الأثريون في العصور المُقبِلة! أهو شيءٌ يستحقُّ العناء أن يتكلف الإنسان الكلام ويصبغ وجهه باللون الأحمر ويتكلم بنبرة مهذَّبة؟ علينا أن ننزع الأقنعة يومًا عن وجوهنا، ولن نرى عندئذٍ — كما لو كُنا في حجرة كل جدرانها مرايا — إلا رءوس الخِراف١٠ العتيقة العاطلة من الأسنان التي لا تتغير في أي مكان لا أكثر من ذلك ولا أقل. إن الفروق بيننا ليست كبيرة بقدر ما تتصور؛ فنحن جميعًا أوغاد وملائكة، أغبياء وعباقرة، وكل هذا في وقتٍ واحد. وهذه الأشياء الأربعة تجد مكانًا يكفيها في الجسد الواحد، فهي ليست بالاتساع بقدر ما نتخيل. إن الجميع ينامون ويهضمون ويُنجِبون الأطفال، وكل ما عدا ذلك فهو متنوعات على لحن واحد. ما حاجتنا إذن أن نقف على أطراف أصابعنا ونضع سحنةً ملفَّقة على وجوهنا، ونتظاهر بأننا نستحيي من بعضنا البعض؟ لقد أكلنا جميعًا على نفس المائدة حتى مرضنا وأُصبنا بالمغص، فما الذي يدعوكم أن تضعوا الفوط أمام وجوهكم؟ اصرخوا وصيحوا كما ينبغي لكم! لا تضعوا سحنة الفضيلة والظرف والبطولة والعبقرية على وجوهكم، فنحن نعرف بعضنا حق المعرفة، وفِّروا هذا الجهد على أنفسكم!
هيرو : أجل يا كاميل، نريد أن نجلس بجانب بعضنا البعض ونصرخ، وليس هناك أغبى من أن يُطبِق الإنسان شفتَيه بينما يُضنيه الألم. لقد صرخ الإغريق وصرخت الآلهة، أما الرومان والرواقيون فقد تظاهروا بالبطولة.
دانتون : كان هؤلاء وأولئك أبيقوريين على حدٍّ سواء. لقد وجدوا راحتهم في الشعور بالاعتداد بالنفس. لا بأس من أن يرتدي الإنسان ثوبه الفضفاض،١١ ويتلفت حوله ليرى إن كان يُلقي خلفه ظلًّا طويلًا. ما جدوى أن نتزيَّن؟ وما الفرق بين أن نضع على عورتنا أوراق الغار أو أكاليل الورد أو ورق العنب أو نكشف الشيء القبيح ونترك الكلاب تلعقه؟
فيليبو : يا أصدقائي! ليس من الضروري أن يرتفع الإنسان فوق الأرض لكيلا يرى شيئًا من أضوائها المضطربة المرتعشة، ويملأ عينه من بعض الخطوط الإلهية الرائعة. هناك آذان ينسكب فيها الصراخ والعويل الذي يُصمُّ آذاننا كأنه لحنٌ مُنسجِم.
دانتون : ولكننا نحن الموسيقيين المساكينُ، وأجسامنا هي الآلات، ألمْ توجد الأنغام البشعة التي يخبطونها عليها إلا لكي تصعد شيئًا فشيئًا إلى الآذان السماوية؛ لكي تخمد شيئًا فشيئًا ثم تموت هناك؟
هيرو : هل نحن كالخنازير الصغيرة التي يجلدونها حتى الموت؛ لكي يكون لحمها ألذَّ طعمًا على موائد الملوك والأمراء؟
دانتون : أم نحن كالأطفال الذين يشويهم هذا الجبَّار الرهيب١٢ بين ذراعَيه، ويُدغدِغهم بأشعة الضوء؛ لكي يسرَّ الآلهة بضحكاتهم؟
كاميل : وهل الأثير بعيونه الذهبية طبقٌ مملوء بالشبوط الذهبي موضوع على مائدة الآلهة المباركين، فيضحك الآلهة المبارَكون إلى الأبد، وتموت الأسماك إلى الأبد، ويفرح الآلهة فرحًا أبديًّا بهذا الصراع الدموي المتنوِّع الألوان؟
دانتون : العالم هو العماء، والعدم هو الإله الذي يُناسب الكون.

(يدخل السجَّان.)

السجان : سادتي، العربات واقفة أمام الباب، يمكنكم أن تمضوا الآن.
فيليبو : تصبحون على خير يا أصدقاء! فلنسحب اللحاف الكبير علينا ونحن مُطمئنُّون، اللحاف الذي تتوقف تحته كل القلوب وتُغمَض كل العيون.

(يُعانقون بعضهم.)

هيرو (يتأبط ذراع كاميل) : افرح يا كاميل؛ فستكون ليلتنا جميلة. السُّحب معلَّقة على صفحة المساء كأنها الأوليمب الذي انطفأ بريقه، فتراءت فيه خيالات الآلهة شاحبةً محزونة.

(يخرجون.)

حجرة

جولي : كان الشعب يجري في الأزقة. هدأ الآن كل شيء، لا أريد منه أن ينتظرني لحظةً واحدة (تخرج زجاجة) تعالَ يا أحبَّ الكهنة، يا من يقول «آمين» فنذهب إلى الفراش. (تتجه إلى النافذة) ما أجملَ الوداع! لم يبقَ إلا أن أُغلِق الباب ورائي.

(تشرب من الزجاجة.)

ليتني أقف هكذا إلى الأبد! الشمس غابت. كان نورها يسقط على وجه الأرض فيجعل مَلامحه حادَّة، ولكن وجهها الآن هادئٌ وجادٌّ كوجه إنسان يحتضر. ما أجملَ ضوءَ المساء وهو يعبث بجبهتها وخدَّيها! إن لونها يشحب شيئًا فشيئًا فتغوص كالجثة في بحر الأثير. ألن تمتد إليها ذراع فتشدُّها من خصلات شعرها الذهبي، وتُخرِجها من الماء وتُواريها للتراب؟
أنا أمشي في خطوات هادئة. لن أقبِّلها حتى لا يُوقِظها من نعاسها نفسٌ ولا تنهيدة. نامي! نامي! (تموت.)

ميدان الثورة

(تصل العربات إلى ميدان الثورة وتقف أمام المقصلة. رجال ونساء يُغنُّون ويرقصون على أغنية الثورة. المساجين يُنشِدون النشيد الوطني «المرسيلييز».)

امرأة (تحمل أطفالًا على ذراعها وصدرها) : أفسِحوا مكانًا! أفسِحوا مكانًا! الأطفال يصرخون من الجوع.١٣ لا بد أن يتفرجوا حتى يسكتوا! أفسِحوا مكانًا!
امرأة : ها! دانتون! تستطيع الآن أن تفجر مع الديدان.
امرأة : وأنت يا هيرو! سأصنع من شعرك الجميل باروكة.
هيرو : أنا لا أملك الأشجار التي تكفي لجبل فينوس الأجرد.١٤
كاميل : أيتها العجائز الملاعين! سوف تصرخن عن قريب: «أيتها الجبال، اسقُطنَ فوقنا!»
امرأة : ليسقط الجبل١٥ فوقكم! أنتم الذين سقطتم تحته.
دانتون (لكاميل) : اهدأ يا ولدي! لقد بحَّ صوتك من الصياح.
كاميل (يعطي للسائق بعض النقود) : خُذ يا خارون١٦ العجوز أجرة عربتك. طبق لا بأس به! سادتي! أُحبُّ أن أكون أول من يبدأ الوجبة! هذه مأدبةٌ كلاسيكية. إننا نرقد في أماكننا ونسكب بعض الدماء تكريمًا للآلهة. الوداع يا دانتون!

(يصعد إلى المقصلة. المساجين يتبعونه واحدًا بعد الآخر. دانتون آخرهم.)

لاكروا (للشعب) : لقد قتلتمونا يوم فقدتم عقلكم، وسوف تقتلونهم يوم تستردونه.
أصوات : سمعنا هذا من قبل. يا لَلمَلل!
لاكروا : ستُكسَر رقاب الطغاة فوق قبورنا.
هيرو (لدانتون) : إنه يحسب جثته مزبلة الثورة.
فيليبو (وهو على المقصلة) : إنني أسامحكم، وأرجو ألا تكون ساعة موتكم أمرَّ من ساعتي.
هيرو : كنت أتوقع هذا! إنه لا يستطيع أن ينسى أن يمدَّ يده في صدره؛ ليرى الناس أن ملابسه الداخلية نظيفة.
فابر : وداعًا يا دانتون! إنني أموت مرتَين.
دانتون : وداعًا يا صديقي! المقصلة خيرُ طبيب.
هيرو (يريد أن يُعانق دانتون) : آه يا دانتون! لقد أصبحت عاجزًا عن إخراج نكتة واحدة! لقد آن الأوان. (يدفعه أحد الجلَّادين بعنف.)
دانتون (للجلَّاد) : أتريد أن تكون أقسى من الموت؟ أتستطيع أن تمنع رءوسنا من تقبيل بعضها في قاع السلة؟!

شارع

لوسيل : كأن الأمر جد. أريد أن أفكِّر. بدأت أفهم شيئًا كهذا. الموت! الموت! كل شيء من حقه أن يعيش، كل شيء؛ البعوضة، والعصفور. ولماذا لا يعيش هو أيضًا؟ كان يجب أن يتوقف تيار الحياة، لو انسكبت قطرة دم واحدة. كان يجب أن تُجرَح الأرض من طعنة واحدة. كل شيء يتحرك؛ الساعات تدور، النواقيس تدق، الناس يمشون، الماء يجري. وكل شيء يسير حتى يصل إلى هناك، إلى هناك. لا، لا يجب أن يحدث ذلك. لا، سأجلس على الأرض وأصرخ حتى يتوقف كل شيء من الرعب. يتوقف كل شيء. لا يتحرك شيء.

(تجلس على الأرض وتغطِّي عينَيها وتصرخ صرخة مُفجِعة. تنهض واقفةً بعد فترة صمت.)

لا فائدة! كل شيء كما هو؛ البيوت، الأزقة، الريح تهبُّ، السُّحب تمرُّ. علينا أن نتحمل هذا العذاب.

(بعض النسوة يظهرن قادماتٍ من الزقاق.)

المرأة الأولى : هيرو! يا له مِن رجلٍ فتَّان!
المرأة الثانية : عندما رأيته في عيد الدستور واقفًا تحت قوس النصر، قلت لنفسي سيكون منظره تحت المقصلة عجيبًا. كانت مجرد فكرة خطرت على بالي.
المرأة الثالثة : نعم، يجب أن نرى الناس في كل الظروف، رائعٌ أن يصبح الموت شيئًا علنيًّا.

(تخرُجن.)

لوسيل : يا حبيبي كاميل، أين أجدك الآن؟

ميدان الثورة

(جلَّادان مشغولان بالعمل في تنظيف المقصلة.)

الجلَّاد الأول (يقف فوق المقصلة ويغنِّي) :
وحين أعود لبيتي
يبدو القمر جميلًا.
الجلاد الثاني : هيه! هل أوشكت أن تنتهي؟
الجلَّاد الأول : حالًا، حالًا. (يغنِّي):
ويُضيء القمر لجدِّي،
فيراني من نافذته،
ويقول بصوتٍ عالٍ:
ولدي، هل عُدت أخيرًا
للبيت من الماخور؟
هكذا! ناوِلني سترتي!

(ينصرفان وهما يغنِّيان.)

وحين أعود لبيتي
يبدو القمر جميلًا.
لوسيل (تظهر على المسرح وتجلس على درجات المقصلة) : ها أنا ذا أجلس على حجرك، يا مَلاك الموت الرحيم. (تغنِّي):
الموت جلَّاد،
وسيفه ظامي.
أنت أيها المهد الجميل، يا من هدهدت حبيبي كاميل لينام، وخنقته تحت أنفاس زهورك. أنت يا ناقوس الموت، يا من غنَّيت له بلسانك العذب حتى دخل القبر.

(تغني):

ويحصد الآلاف
بالمنجل الدامي.

(تظهر دورية من الحُراس.)

مواطن : هه! مَن هناك؟!
لوسيل (تفكِّر قليلًا وكأنها تصمِّم على قرار ثم تهتف فجأة) : عاش الملك!
مواطن : باسم الجمهورية! (يحيط بها الحُراس ويقتادونها.)
١  رداءٌ روماني قديم (انظر التعليق السابق في المشهد الخامس من الفصل الأول).
٢  لعلها إشارة إلى أن الرجال يُضنُون أنفسهم لتنعُّم النساء، وهي شكوى أزلية!
٣  La Pucelle ملحمة فولتير عن جان دارك التي لم تُعالج الموضوع بما يستحقه من الاحترام.
٤  هنا تلاعب بالألفاظ لا يمكن نقله إلا على وجه التقريب، وهو يذكِّرنا ببعض مشاهد من «هاملت» وبخاصة مشهد المقبرة.
٥  عملة فرنسية رخيصة من النحاس.
٦  تلاعبٌ بالكلمة الفرنسية Vers التي تفيد بيتًا من الشعر كما تفيد الدولة (Ver).
٧  هو روبسبيير كما تقدم.
٨  هي زوجة أجاممنون الذي قتلته بالاشتراك مع عشيقها إيجسترس؛ مما جعل ابنها أورست ينتقم منها ويقتلها.
٩  قيصر روماني (٥٤–٦٨) أمر بقتل شقيقه وأمه وزوجته ومربِّيه.
١٠  كناية عن الغباء.
١١  يستخدم المؤلف هنا كلمة «توجا»، وهو الثوب الروماني الطويل الذي سبقت الإشارة إليه.
١٢  يستخدم المؤلف هنا كلمة «ذراعَي مولوخ»، ومولوخ إلهٌ سامٍ قديم أصبح علمًا على النَّهم الدائم إلى كل أنواع الأضاحي والقرابين.
١٣  إشارة عميقة إلى أن الشعب الجائع لا يشبع من الدماء المُراقة.
١٤  اسمٌ يُطلَق على عدة جبال في مُقاطَعتَي تورنجن وهسن بألمانيا. تقول الخرافة إن ربة الحب فينوس تسكنها. والمقصود هنا إشارة إلى جزء مِن جسد هذه المرأة الفاسدة لا تكفي خصلات شعره لتغطيته.
١٥  الجبل هنا إشارة إلى سُلطة اليعاقبة التي راح ضحيتَها هؤلاء المساجين.
١٦  ملاح عجوز، تقول الأساطير اليونانية إنه يعبُر بأرواح الموتى إلى شاطئ العالم الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤