فرخ البط القبيح

كانت الأجواء جميلة في القرية؛ إذ كان الوقت فصلَ الصيف، وكانت حقولُ القمح بلون الذهب، وكان الشوفان أخضر، فيما كُدِّس القشُّ في أكوام هائلة في المروج الخضراء. وأخذ طائر اللقلق يتبختر وسطها بساقَيه الطويلتَين الحمراوَين، وهو يُثرثِر بكلامٍ باللغة المصرية، وهي اللغة التي تعلمها من أمه.

أحاطت بالمروج وحقول الذرة من كل ناحية غابة كثيفة، وفي منتصف الغابة كانت تُوجَد بحيرة عميقة. حقًّا، كانت الأجواء جميلة ومبهجة في القرية.

وفي منطقة مشمسة كان يوجد بيت ريفي قديم جميل تُحيط به قنوات عميقة من كل النواحي؛ وكان ينمو من جدران البيت حتى حافة المياه نباتاتُ أرقطيون ضخمة، بالغة الارتفاع، حتى إنه من الممكن لطفلٍ صغير أن يقف أسفل أطولِها منتصِب القامة. كانت المنطقة مقفِرة كما لو كانت واقعةً في قلب غابة كثيفة.

في هذا الملاذ الآمن جلسَت بطة على عشها، في انتظار أن يفقس بيضها؛ إلا أن السعادة التي كانت قد أحست بها في البداية كادت تختفي؛ إذ بدأت تراها مهمة شاقة؛ فقد استغرق الصغار وقتًا طويلًا جدًّا في الخروج من البيض، وهي قلَّما يأتيها زوار. فقد كانت البطات الأخريات يُفضِّلن السباحة في القنوات على تسلُّق الضفاف الزلِقة والجلوس أسفلَ أوراق الأرقطيون للتسامر معها، فاستطال عليها كثيرًا الجلوس وحدها.

مع ذلك، فقست بيضة في نهاية المطاف، وسرعان ما تبعتها أخرى، وخرج من كل بيضة كائنٌ حي رفع رأسه وصاح: «بيب، بيب.»

قالت الأم: «كاك، كاك»؛ فحاول الجميع أن يصيحوا هكذا أيضًا، بقدر ما استطاعوا، وهم ينظرون حولهم في كل اتجاه إلى الأوراق الخضراء الطويلة. وسمحت لهم أمُّهم بالنظر حولهم كما يحلو لهم؛ لأن اللون الأخضر مفيد للعين.

حين وجد الصغار أن لديهم مساحةً أكبر كثيرًا عن التي كانت داخل البيضة قالوا: «يا له من عالم كبير حقًّا!»

قالت الأم: «هل تعتقدون أن هذا هو العالم بأسره؟ انتظروا حتى ترَوا الحديقة. إنها أوسعُ من ذلك حتى إنها تمتد حتى حقل الراعي، رغم أنني لم أغامر بالذهاب بعيدًا هكذا قط. هل خرجتم جميعًا؟» وواصلَت الكلام وقد نهضت لتنظر: «لا، ليس كلكم؛ يا للدهشة، فأكبر بيضة ما زالت هنا. ترى حتى متى سيستمر هذا الأمر؛ فقد كدتُ بحق أسأم منه.» لكنها جلسَت مرة أخرى رغم ذلك.

صاحت بطة عجوز جاءت لزيارتها: «حسنًا، كيف حالكِ اليوم؟»

قالت الأم الحانية، التي كانت راقدة بلا حَراك على عشها: «إحدى البيضات تستغرق وقتًا طويلًا لتفقس. فقشرتها صُلبة ولا تنشرخ. لكن انظري للآخرين. أليس لديَّ أسرة جميلة؟ أليست أجمل فراخ بط صغار رأيتها على الإطلاق؟ إنهم يشبهون أباهم؛ عديم النفع! فهو لا يأتي ليراني قط.»

قالت البطة العجوز: «دعيني أرَ البيضة التي لم تفقس. إنني متأكدة أنها بيضة دجاج حبشي. فقد حدث لي نفس الشيء ذات مرة، ويا للمشاكل التي سببها لي، فالصغار يخافون من الماء. أخذتُ أصيح وأنق لكن دون جدوى. دعيني أُلقِ عليها نظرة. نعم، إنني على صواب؛ أُقسم إنها بيضة دجاج حبشي؛ فلتعملي بنصيحتي ولتتركيها في مكانها. اذهبي إلى المياه وعلِّمي الصغار الآخرين السباحة.»

قالت الأم: «أعتقد أنني سأمكث لبعض الوقت. فقد رقدت كثيرًا، ولن يفرق يوم أو يومان.»

قالت البطة العجوز وهي تنهض: «حسنًا جدًّا، كما تريدين.» ثم رحلت.

•••

أخيرًا فقست البيضة الكبيرة، وصاح الطائر الأخير: «بيب، بيب»، وهو يزحف خارجًا من البيضة. كم كان كبيرًا وقبيحًا! أخذت البطة الأم تُحدق فيه وهي لا تدري فيمَ تُفكر. ثم قالت: «هذا فرخ بط ضخمٌ حقًّا، ولا يُشبِه أيًّا من الآخرين مطلقًا. ترى هل سيصير دجاجًا حبشيًّا. حسنًا، سنرى حين نذهب إلى المياه؛ فلا بد أن ينزل المياه، حتى إن كنت سأُضطر إلى دفعه إليها بنفسي.»

في اليوم التالي كان الجو لطيفًا. وأشرقت الشمس ساطعة على أوراق الأرقطيون الخضراء، فأخذت البطة الأمُّ أسرتها كلها إلى البركة وقفزت فيها فتناثرت المياه. وصاحت: «كاك، كاك!» فقفز البط الصغير واحدًا تلو الآخر. غطست رءوسهم تحت المياه، لكنهم أخرجوها مرة أخرى في الحال وعاموا بشكل بديع للغاية، وأرجلهم تجدف تحتهم بمنتهى اليُسر؛ فقد كانت أرجلهم تتحرك من تلقاء نفسها؛ وكان الفرخ القبيح ذو الريش الرمادي في الماء أيضًا، يسبح معهم.

قالت الأم: «أوه، إنه ليس دجاجًا حبشيًّا. انظروا كيف يستخدم رجلَيه جيدًا، وكيف يشد عوده! إنه صغيري، وليس قبيحًا جدًّا على كل حال، إن نظرتم إليه بالطريقة الصحيحة. كاك، كاك! تعالوا معي الآن. سوف آخذكم لمجتمع الكبار وأعرفكم على المزرعة، لكن لا بد أن تظلوا قريبين مني وإلا داستكم الأقدام؛ واحترسوا من القط بشكل خاص.»

حين بلَغوا فِناء المزرعة، كان هناك أعمالُ شَغْب مؤسفة؛ إذ كانت عائلتان تتعاركان على رأس سمكة أنقليس، والتي خطفها القط في النهاية. قالت البطة الأم وهي تحك منقارها؛ فهي نفسُها كانت ترغب في رأس الأنقليس: «انظروا يا أطفال، هذا هو حال الحياة. هيا الآن، فلتعتمدوا على أرجلكم، ودعوني أرَ كيف تُحسِنون التصرف. لا بد أن تحنوا رءوسكم بلطف لتلك البطة العجوز هناك؛ فهي الأرفع نسبًا بينهم جميعًا ولديها عرق إسباني؛ ولذلك هي موسرة الحال. ألا ترون قطعة القماش الحمراء الملفوفة حول ساقها؟ إنها علامة على منزلة كبرى وشرف كبير بين البط؛ إنها دليل على أن على الجميع الحرصَ على الانتباه لها، وأنه على كلٍّ من الإنسان والحيوان احترامها. هيا الآن، لا تقبضوا أصابعكم؛ البط الصغير المهذَّب يقف مباعدًا بين قدمَيه، تمامًا مثل أبيه وأمه، بهذه الطريقة؛ والآن أحنوا رقابكم وقولوا: «كاك»!»

فعل البط الصغير ما أُمِروا به، لكن البط الآخر ظلوا يُحدقون، وقالوا: «انظروا، ها هي فراخ أخرى؛ كأن المكان لم يَضِق بنا بالفعل! ويا للهول، يا له من كائن غريب الشكل الذي بينهم؛ إننا لا نريده هنا!» ثم طار أحدهم وعضه في رقبته.

قالت الأم: «دعه وشأنه؛ إنه لا يسبب أي أذًى.»

قال ذكر البط الشرير: «نعم، لكنه كبير وقبيح جدًّا. إنه مخيف للغاية. ولذلك لا بد من طرده. القليل من العض سيفي بالغرض.»

قالت البطة العجوز ذات القماشة الملفوفة حول ساقها: «الصغار الآخرون شكلهم جميل جدًّا، كلهم ما عدا ذلك. أتمنى أن تستطيع أمه أن تُلطف من شكله بعض الشيء؛ فهو دميم حقًّا.»

أجابت الأم: «هذا مستحيل يا صاحبة السمو. إنه ليس حسن الشكل، لكنه حسن الطباع للغاية ويَسبح مثل الآخرين بل أفضل منهم. أعتقد أنه سيصير جميلًا حين يكبر، وربما أصغر حجمًا. لقد مكث طويلًا جدًّا في البيضة؛ ولهذا لم يتكون شكله على النحو الصحيح.» ثم ربتت على رقبته ومسدَت ريشه، وهي تقول: «إنه ذكر؛ لذا ليس لشكله أهمية كبيرة. أعتقد أنه سيكون قويًّا حين يكبر وقادرًا على العناية بنفسه.»

قالت البطة العجوز: «البط الصغير الآخر جميل بالقدر الكافي. والآن فلتتصرَّفوا كأنكم في منزلكم، وإن عثرتم على رأس أنقليس فلتأتوني به.»

وهكذا مضَوا مطمئنين؛ لكن فرخ البط المسكين الذي كان آخر من خرج من بيضته بعد الجميع وكان يبدو قبيحًا جدًّا، عضَّته وزجرته وسخرت منه كل الطيور الداجنة، وليس البط فقط.

figure

قال الجميع: «إنه كبير جدًّا»؛ أما الديك الرومي، الذي وُلِد بشويكات في رِجلَيه وكان يتخيل نفسه إمبراطورًا بحق، فقد انتفخ مثل سفينة ناشرةٍ كلَّ أشرعتها وهاجم فرخ البط. كان رأسه قد احمرَّ غضبًا تمامًا، حتى إن الصغير المسكين لم يعلم أين يذهب، وكان بائسًا جدًّا؛ لأنه كان قبيحًا لدرجة أن كل مَن في فناء المزرعة سخر منه.

وتوالت الأيام، وساء الحال أكثر فأكثر. كان الجميع ينبذ الفرخ الدميم؛ حتى أشقاؤه وشقيقاته كانوا قاسين معه ويقولون له: «أوه، يا لك من مخلوق دميم، ليت القط يمسك بك!» وحتى أمه سُمِعَت وهي تقول إنها تتمنى لو أنه لم يُولَد قط. وكان البط ينقره، والدجاج يضربه، والفتاة التي تُطعم الطيور الداجنة كانت تدفعه بقدمَيها. لذلك هرب في النهاية، فأخاف الطيور الصغيرة التي عند سياج الأشجار وهو يطير فوق الأوتاد. وقال: «إنهم خائفون لأنني قبيح جدًّا.» لذلك ظل يطير مبتعدًا، حتى وصل إلى مستنقع كبير يسكنه بط بري. وهناك مكث الليلة بطولها، وهو يشعر بأسًى شديد.

في الصباح، حين ارتفع البط البري في السماء، راحوا يُحدقون في رفيقهم الجديد. ثم قالوا جميعًا، وهم يلتفون حوله: «من أي أنواع البط أنت؟»

فانحنى لهم وكان لطيفًا معهم قدر استطاعته، ولكنه لم يُجِب عن سؤالهم. قال البط البري: «إنك قبيح للغاية، لكن هذا لا يهم ما دمت لن تتزوج واحدة من أسرتنا.»

يا للمسكين! فهو لم يكن يُفكر في الزواج؛ إنما كل ما أراده السماح بالجلوس بين نباتات الأسل والشرب من ماء المستنقع. وبعد أن مر عليه يومان في المستنقع، جاء اثنان من الإوزِّ البري، أو بالأحرى أفراخ الإوز، فلم يكونا قد خرجا من البيضة منذ وقت طويل، وهذا مما يُفسِّر وقاحتهما. قال أحدهما لفرخ البط: «اسمع يا صديقي، إنك قبيح جدًّا حتى إننا أحببناك للغاية. هلا أتيت معنا وصِرت من الطيور المهاجرة؟ يوجد مستنقَع آخر على مَقرُبة من هنا، يوجد فيه بعض الإوز البري، كلهم غير متزوجين. إنها فرصة لك لتحصل على زوجة. فقد يحالفك الحظ رغم قبحك.»

ثم دوَّى في الهواء صوت «طاخ، طاخ»، وسقط ذكرا الإوز البري صريعَين بين نباتات الأسل، وتلونت المياه بلون الدم. تردد الصوت «طاخ طاخ» في جميع الأرجاء، وقامت أسراب بأسرها من الإوز البري من بين النباتات.

ظل الصوت يأتي من كل اتجاه، فقد أحاط الصيادون بالمستنقع، حتى إن بعضهم جلسوا على فروع الأشجار، المطلة على نباتات الأسل. ارتفع دخان البنادق الأزرق مثل السحب فوق الأشجار الداكنة، وبينما هو يطفو بعيدًا فوق المياه، قفز عددٌ من كلاب الصيد بين النباتات، التي انثنت تحتها أينما ذهبت. كم أرعبت فرخ البط المسكين! فقد أدار رأسه ليُخبئه أسفل جناحه، وفي نفس اللحظة مر كلب ضخم مريع قريبًا جدًّا منه. كان فكَّاه منفرجَين، ولسانه متدليًا من فمه، وعيناه تلمعان لمعانًا مخيفًا. وقد دسَّ أنفه مقتربًا من فرخ البط، كاشفًا عن أسنانه الحادة، ثم دخل في الماء، محدثًا رذاذًا كبيرًا، دون أن يمسه.

تنهد فرخ البط وقال: «أوه، كم أنا ممتن لقبحي الشديد؛ فحتى الكلاب تأبى أن تعضني!»

هكذا جلس في سكون تام، والطلقات تخترق النباتات، وبندقية تلو الأخرى تُطلِق الرصاص فوقه. ولم تهدأ الأجواء قبل ساعة متأخرة من اليوم، لكن حتى آنذاك لم يجرؤ الصغير المسكين على الحركة. إذ انتظر ساعاتٍ في صمت، ثم نظر حوله بحذر قبل أن يفر مسرعًا من المستنقع بأقصى ما استطاع من سرعة. جرى عابرًا حقلًا ومرجًا حتى قامت عاصفة، استطاع أن يسير خلالها بمشقة شديدة.

مع اقتراب المساء وصل إلى كوخ صغير رديء بدا على وشك الانهيار، وبدا أنه لم يبقَ قائمًا إلا لأنه لم يستطع أن يُقرر الجانب الذي سيسقط عليه أولًا. ظلت العاصفة تهب عاتية حتى إن فرخ البط لم يقوَ على التقدم أكثر من ذلك. جلس قريبًا من الكوخ، ثم لاحظ أن الباب لم يكن مغلقًا تمامًا؛ لأن إحدى مفصلاته قد انخلعت. لذلك كان ثمة فتحةٌ ضيقة قرب أسفل الباب تكفي ليتسلل منها، وهو ما فعله في هدوء شديد، وهكذا حصل على مأوًى من أجل المبيت. كان يعيش في هذا الكوخ امرأة وقط ودجاجة. القط الذي كانت تناديه سيدته: «ولدي الصغير»، كان له حظوة كبيرة لديها؛ فقد كان يستطيع أن يُقوس ظهره، ويُخرخر، بل كان يستطيع حتى أن يُطلِق شررًا من فرائه إن رُبت عليه بطريقة خاطئة. أما الدجاجة فقد كان لديها ساقان قصيرتان جدًّا، لذا كانت تُدعى «تشيكي القصيرة». وكانت تضع بيضًا جيدًا، وكانت سيدتها تحبها كأنها طفلتها. في الصباح اكتشفوا الزائر الغريب؛ فأخذ القط يُخرخر والدجاجة تُقوق.

قالت السيدة العجوز وهي تجول بنظرها في أنحاء الحجرة: «لماذا هذه الضجة؟» إلا أن نظرها لم يكن قويًّا؛ لذلك حين رأت فرخ البط اعتقدت أنه لا بد أن يكون بطة سمينة ضلت الطريق. هتفت قائلة: «أوه، يا لها من غنيمة! أرجو ألا يكون ذكرًا، فساعتها سأحصل على بعض بيض البط. لا بد أن أتريث.»

هكذا سُمح لفرخ البط بالبقاء ثلاثة أسابيع على سبيل التجربة؛ لكن لم يكن هناك بيض.

كان القط هو سيد المنزل، وكانت الدجاجة هي سيدته؛ وكانا دائمًا يقولان: «نحن والعالم»، إذ كانا يعتقدان أنهما نصف العالم، بل إلى حد كبير نصفه الأفضل كذلك. وكان فرخ البط يعتقد أنه من الممكن أن يكون للآخرين رأيٌ مختلف حول الأمر، لكن الدجاجة لم تكن تُلقي بالًا لمثل تلك الشكوك.

سألته الدجاجة: «هل تستطيع أن تبيض؟» فأجابها قائلًا: «لا.» فقالت: «فلتتحلَّ بالصمت إذن.» وسأله القط: «هل تستطيع أن تُقوس ظهرك أو تُخرخر أو تُطلق شررًا؟» فقال: «لا.» قال القط: «إذن ليس من حقك أن تُعبر عن رأيك حين يتحدث أشخاص حكماء.» هكذا جلس فرخ البط في ركن، شاعرًا بحزن شديد؛ لكن حين دخل ضوء الشمس والهواء المنعش الحجرة من الباب المفتوح، بدأ يُراوده شوق شديد للسباحة، فلم يستطع كتمانه.

قالت الدجاجة: «يا لها من فكرة سخيفة! ليس لديك شيء آخر لتفعله؛ لذلك لديك خيالات حمقاء. لو كنت تستطيع الخرخرة أو وضع البيض، لكانت ستزول.»

قال فرخ البط: «لكن السباحة في الماء ممتعة جدًّا، ومن المنعش جدًّا أن تشعر بالماء وهي تَغمرك وأنت تغوص إلى الأعماق.»

قالت الدجاجة: «ممتعة حقًّا! لا بد أنها نوع غريب من المتعة. ويحي، لا بد أنك مجنون! فلتسأل القط؛ فهو أمهر الحيوانات التي عرفتها؛ اسأله إن كان يود السباحة في الماء، أو الغوص فيها؛ فأنا لن أتحدث عن رأيي الخاص. فلتسأل سيدتنا، السيدة العجوز؛ فليس هناك في العالم من هو أذكى منها. هل تعتقد أنها قد تستمتع بالسباحة والسماح للماء بأن يغمر رأسها؟»

قال فرخ البط: «أعتقد أنكم لا تفهمونني.»

«لا نفهمك؟ ترى من يستطيع أن يفهمك؟ هل تعتقد أنك أذكى من القط أو السيدة العجوز، ناهيك عني أنا؟ لا تتخيل مثل تلك الترَّهات أيها الصغير، واشكر حسن حظك على ما لاقيته من حسن استقبال هنا. ألست في مكان دافئ وصحبة يمكنك أن تتعلم منها شيئًا؟ إلا أنك ثرثار، وصحبتك ليست بالمقبولة. صدقني؛ فأنا لا أتكلم إلا من أجل مصلحتك. قد يكون فيما أُخبرك به حقائقُ قاسية، لكن ذلك دليل على صداقتي. لذلك أنصحك بأن تبيض وتتعلم أن تُخرخر بأسرع ما يمكن.»

قال فرخ البط: «أعتقد أنني لا بد أن أخرج إلى العالم مجددًا.»

قالت الدجاجة: «أجل، فلتفعل.» هكذا ترك فرخ البط الكوخ وسرعان ما وجد ماءً أمكنه السباحة والغوص فيه، إلا أن كل الحيوانات الأخرى تحاشَته بسبب منظره الدميم.

وجاء الخريف، وتلونت أوراق الأشجار في الغابة باللونَين البرتقالي والذهبي؛ وحين أقبل الشتاء، الْتقطَتها الرياح حين سقطت ودارت بها في الهواء البارد. وانخفض السحاب في السماء، مثقلًا بالبَرَد وندف الثلج، ووقف الغراب بين عيدان الخيزران، ينعق: «كروك، كروك.» إن النظر إليه كفيل أن يجعل الجسد يرتجف بردًا. أصاب كل هذا فرخ البط الصغير المسكين بغم شديد.

ذات مساء، بينما كانت الشمس تغرب بين السحب الوضيئة، خرج سِرب كبير من الطيور الجميلة من بين الشجيرات. لم يكن فرخ البط قد رأى مثيلًا لها من قبل. كانت بجعات؛ وكانت تلوي أعناقها الجميلة، بينما يلمع ريشها الناعم بلون أبيض مبهر. كانت تُردد صيحة فريدة وهي تمد أجنحتها البديعة وتطير بعيدًا عن هذه المناطق الباردة إلى بلاد أكثر دفئًا وراء البحر. بينما كانت ترتفع أكثر فأكثر في الهواء، اعترى فرخَ البط الصغير القبيح شعورٌ غريب إذ يشاهدها. أخذ يدور في الماء مثل العجلة، واشرأبَّ بعنقه تجاهها، وأطلق صيحة غريبة جدًّا حتى إنها أفزعته هو شخصيًّا. هل يمكنه أن ينسى أبدًا تلك الطيور الجميلة الهانئة؟! وحين غابت أخيرًا عن نظره، غاص تحت الماء وخرج مرة أخرى وهو في قمة الإثارة. لم يكن يعرف أسماء هذه الطيور ولا إلى أين طارت، لكنه أحس تجاهها بمشاعر لم يُحِسَّ بها تجاه أي طيور أخرى في العالم.

إنه لم يشعر بالغيرة من هذه المخلوقات الجميلة؛ فلم يخطر له مطلقًا أن يتمنى لو كان جميلًا مثلها. لقد كان هذا المخلوق الدميم المسكين سيعيش راضيًا حتى مع البط، لو كانوا فقط أحسنوا معاملته وشجعوه.

ازدادت برودة الشتاء أكثر فأكثر؛ وكان يُضطَر إلى السباحة في الماء ليمنعه من التجمد، لكن في كل ليلة كانت المساحة التي يسبح فيها تضيق أكثر فأكثر. في نهاية المطاف تجمد الماء بشدة حتى إن الجليد كان يُطقطق وهو يتحرك في الماء، وكان على فرخ البط أن يجدف بساقَيه بقدر ما يستطيع، ليمنع المساحة من التقلص. لكن حل به الإنهاك في النهاية، فرقد بلا حَراك عاجزًا، وقد تجمد في مكانه في الجليد.

في الصباح الباكر رأى فلاحٌ أثناء عبوره في الجوار ما جرى. فحطم الجليد بحذائه الخشبي وحمل فرخ البط معه إلى المنزل لزوجته. أعاد الدفءُ الحياةَ إلى المخلوق الصغير المسكين؛ لكن حين أراد الأطفال اللعب معه، اعتقد فرخ البط أنهم سيمسونه بأذًى، لذا هب مفزوعًا، وطار مصطدمًا بوعاء الحليب، فتناثر الحليب في أنحاء الغرفة. صفقت السيدة بكفَّيها، مما أثار فزعه أكثر؛ فطار أولًا إلى برميل الزبد، ثم وعاء الطحين وخرج منه ثانيةً. يا للحالة التي كان فيها! راحت السيدة تصرخ وتضربه بالمساكة؛ وأخذ الأطفال يضحكون ويصرخون ويتعثرون بعضهم ببعض في محاولاتهم للإمساك به، لكنه هرب لحسن الحظ. فقد كان الباب مفتوحًا؛ واستطاع المخلوق المسكين بمشقة التسلل بين الشجيرات والاستلقاء في تعب شديد على الثلج الذي سقط حديثًا.

سيكون من المثير لبالغ الحزن أن أسرد كل البؤس وألوان الحرمان التي عاناها فرخ البط الصغير المسكين خلال الشتاء القاسي؛ لكنه حين انتهى وجد نفسه مستلقيًا ذات صباح في مستنقع بين نباتات الأسل، حيث شعر بأشعة الشمس الدافئة وسمع شدو القنبرة، ورأى مظاهر الربيع البهيِّ تُحيط به من كل ناحية.

حينها، شعر الطائر الصغير أن جناحَيه قويان، وهو يُرفرف بهما ويرتفع عاليًا في الهواء. وظلا يحملانه متقدمًا حتى وجد نفسه في حديقة كبيرة قبل حتى أن يُدرك حقًّا كيف حدث هذا. كانت أشجار التفاح كاملةَ النضج، فيما أنزلت أشجار البيلسان العطرة فروعها الخضراء الطويلة إلى الجدول، الذي أحاط بمرج منبسط. بدا كل شيء خلَّابًا في رونق أوائل الربيع. جاءت ثلاث بجعات بيض جميلاتٌ من أجمة قريبة، يُسمع لريشها حفيفٌ بينما تعوم في خفة في المياه الرائقة. رأى فرخ البط هذه الطيور الجميلة فانتابه حزن غريب أكثر من أي وقت مضى.

صاح فرخ البط: «سوف أطير إلى هذه الطيور العظيمة، وسوف تفتك بي لتجرُّئي على الاقتراب منها رغم قبحي. لكن هذا لا يهم؛ فمن الأفضل أن أقتل بأيديها عن أن ينقرني البط، أو يضربني الدجاج، أو تدفعني بقدمَيها الفتاة التي تُطعم الدواجن، أو أتضوَّر جوعًا في الشتاء.»

figure

ثم طار إلى الماء وسبَح متجهًا إلى البجعات البديعات، التي ما أن لمحت الطائر الغريب حتى أسرعت لملاقاته بأجنحة ممدودة.

قال الطائر المسكين: «فلتقتلوني»، ثم أحنى رأسه لسطح الماء وانتظر الموت.

لكن ما الذي رآه في صفحة الماء الصافي تحته؟ رأى صورته. لم يعد طائرًا رماديًّا داكنًا، قبيحًا وكريهَ المنظر، وإنما ذكر بجع رشيق وجميل.

ليست هناك مشكلة في أن يُولَد الطائر في عش بط في فِناء مزرعة ما دام خرج من بيضة بجعة. الآن شعر بسعادة لما عاناه من حزن ومتاعب؛ لأنه منحه القدرة على أن يستمتع أكثر بكل البهجة والسعادة التي حوله؛ فقد راحت البجعات الكبيرات يسبحن حول الوافد الجديد وتربت على عنقه بمناقيرها، على سبيل الترحيب.

بعد قليل جاء إلى الحديقة بعض الأطفال الصغار، وألقَوا بخبز وكعك في الماء.

صاح أصغرهم: «انظروا، يوجد طائر جديد.» وكان الباقون مسرورين، وجرَوْا إلى أبيهم وأمهم، وهم يرقصون ويصفقون ويصيحون في مرح: «هناك بجعة أخرى جاءت؛ لقد جاء طائر جديد.»

ثم ألقوا بمزيد من الخبز والكعك في الماء وقالوا: «الطائر الجديد هو أجملهم جميعًا؛ إنه صغير ومليح للغاية.» وأحنت البجعات الكبيرة رءوسها له.

حينها، شعر بخجل شديد وأخفى رأسه أسفل جناحه، إذ لم يدرِ ماذا يفعل؛ فقد كان سعيدًا للغاية، إلا أنه لم يشعر بالزهو على الإطلاق. كان قد تعرض للاضطهاد والاحتقار لقبحه، والآن سمعهم يقولون إنه الأجمل بين كل الطيور. حتى شجرة البيلسان انحنت بفروعها في الماء أمامه، وسطعت الشمس دافئة ومتوهجة. ثم نفض ريشه، وقوَّس عنقه الرفيع، وصاح فرحًا، من أعماق قلبه: «لم أحلم قط بمثل هذه السعادة حين كنت فرخ البط القبيح المذموم.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤