عقلة الإصبع

كان هناك امرأة تتوق كثيرًا إلى أن تُرزَق بطفل صغير، فذهبت إلى ساحرة وقالت لها: «لشد ما أتمنى أن يصير لديَّ طفلٌ صغير. هل تستطيعين إخباري أين يمكنني أن أجد واحدًا؟»

قالت الساحرة: «أوه، ذلك أمر يسهل تدبره. ها هي حبة شعير، لكنها ليست من نفس النوع الذي ينمو في حقول المزارعين، والذي يأكله الدجاج. ضعيها في أصيص زرع وشاهدي ما سيحدث.»

قالت السيدة: «شكرًا»؛ وأعطت الساحرة اثنَي عشرَ شلنًا، وهو ما كان ثمن حبة الشعير. ثم ذهبت إلى المنزل وزرعتها، فأنبتت زهرة جميلة كبيرة، تُشبه التوليب بعض الشيء في شكلها، لكن أوراقها مضمومة بإحكام كما لو كانت لا تزال بُرعمًا.

قالت السيدة: «إنها زهرة جميلة.» وقبَّلَت البتلات الحمراء والذهبية اللون؛ وما إن فعلت هذا حتى تفتحت الزهرة، فرأت أنها كانت زهرة توليب بحق. لكن بداخل الزهرة، على الأسدية الخضراء المخملية، كانت تجلس فتاة صغيرة في غاية الرقة والحسن. كانت بالكاد في نصف طول إصبع الإبهام، فسمَّوها عُقلة الإصبع، لأنها كانت ضئيلة جدًّا.

دهنت قشرة جوز بألوان جميلة لتكون مهدًا لها؛ كانت فُرشتها من أوراق زهور البنفسج الزرقاء، والغطاء ورقة وردة. كانت تنام هناك ليلًا، أما في النهار فكانت تلهو على الطاولة، حيث وضعت لها زوجة الفلاح صحنًا مليئًا بالماء.

أحاط بهذا الصحن أكاليل من الزهور وُضِعت سيقانها في الماء، وطفا فيه ورقة توليب كبيرة لتكون بمثابة قارب للفتاة الصغيرة. لقد كانت تجلس فيها وتجدف من جانب إلى الآخر، بمجدافَين صُنِعا من شعر حصان أبيض. كان منظرًا غاية في البهاء. كانت عقلة الإصبع تستطيع أيضًا الغناء بصوت غاية في الرقة والعذوبة حتى إنه لم يُسمَع شبيهٌ لغنائها من قبل قط.

ذات ليلة بينما هي مستلقية في فراشها الجميل، تسللت ضِفدعة ضخمة قبيحة مبللة من خلال لوح زجاج مكسور في النافذة، وقفزت مباشرةً إلى الطاولة حيث كانت عقلة الإصبع نائمة متلحفة بغطائها من ورقة الورد.

قالت الضفدعة: «يا لها من زوجة صغيرة جميلة لابني!» وحملت قشرة الجوز حيث كانت عقلة الإصبع نائمة، وقفزت بها من النافذة إلى الحديقة.

كانت الضفدعة تعيش مع ابنها في مستنقع على أحد جوانب جدول عريض في الحديقة. وكان الابن أشدَّ قبحًا حتى من أمه؛ وحين رأى الفتاة الصغيرة الجميلة في فراشها الأنيق، لم يسَعْه سوى الصياح: «كرواك، كرواك، كرواك.»

قالت له الضفدعة: «لا ترفع صوتك هكذا وإلا أيقظتها، وساعتها ربما تهرب، فهي خفيفة مثل ريشة البجعة. سوف نضعها على واحدة من أوراق زنابق الماء بالخارج في الجدول؛ ستكون بمثابة جزيرة لها، فهي خفيفة وصغيرة جدًّا، وحينئذٍ لن تستطيع الفرار؛ وبينما هي هناك سنُسارع ونُجهز الحجرة الموجودة أسفل المستنقع، التي ستعيشان فيها حين تتزوجان.»

كان ينمو بعيدًا في الجدول عددٌ من زنابق الماء ذات أوراق خضراء عريضة وقد بدت طافية فوق سطح الماء. بدَت أكبر هذه الأوراق أبعد من الباقي، فسبحت إليها الضفدعة العجوز بقشرة الجوز، التي كانت عقلة الإصبع لا تزال نائمة فيها.

استيقظت المخلوقة الضئيلة في وقت مبكر جدًّا من الصباح وراحت تبكي بمرارة حيت اكتشفت أين كانت، حيث لم تستطع أن ترى سوى الماء يُحيط بالورقة الخضراء الكبيرة من كل جانب، ولا سبيل للوصول إلى البر.

في تلك الأثناء، كانت الضفدعة العجوز منهمِكة للغاية أسفل المستنقع، تُجهز حجرتها بنباتات الأسل والزهور البرية الصفراء، لتجعلها تبدو جميلة من أجل زوجة ابنها الجديدة. ثم خرجت لتسبح مع ابنها الدميم إلى الورقة التي كانت قد وضعت عليها عقلة الإصبع المسكينة. كانت تريد أن تُحضر الفراش الجميل حتى تضعه في حجرة العرس ليكون جاهزًا من أجلها. انحنت الضفدعة العجوز لها في الماء وقالت: «ها هو ولدي؛ سوف يكون زوجك، وسوف تعيشان معًا في سعادة في المستنقع القريب من الجدول.»

هنا لم يستطع ابنها أن يُعبِّر عن نفسه إلا بالصياح: كرواك، كرواك، كرواك. فأخذت الضفدعة الفراش الصغير الأنيق ورحلت به، تاركةً عقلة الإصبع وحدها تمامًا على الورقة الخضراء، حيث جلست وأجهشت بالبكاء. إذ لم تستطع أن تتحمل فكرة العيش مع الضفدعة العجوز والزواج من ابنها القبيح. كانت الأسماك الصغيرة السابحة تحت الماء قد رأت الضفدعة وسمعت ما قالته، فأخرجت رءوسها لأعلى من تحت الماء لترى الفتاة الصغيرة.

وبمجرد أن أبصرتها أدركَت أنها جميلة للغاية، فاغتاظت من فكرة اضطرارها إلى الذهاب والعيش مع الضفدعَين القبيحَين.

«لا، يجب عدم السماح بحدوث هذا!» فاجتمعت معًا في الماء، حول الساق الخضراء التي حملت الورقة التي كانت تقف عليها الفتاة الصغيرة، وراحت تقرضها بأسنانها من جذرها. فراحت الورقة تسير في الجدول، حاملة عقلة الإصبع بعيدًا عن البر.

أبحرت عقلة الإصبع مارةً بعدة بلدات، ورأتها الطيور الصغيرة على الشُّجيرات فشدَّت قائلة: «يا لها من كائن صغير وجميل!» وهكذا أبحرت بها الورقة بعيدًا أكثرَ فأكثر، حتى أخذتها إلى أراضٍ أخرى. ظلت فراشة بيضاء صغيرة رقيقة تُرفرف حولها باستمرار، وفي النهاية حطت على الورقة. لقد أُعجِبت بالفتاة الصغيرة التي كانت مسرورة؛ فلم يعد من الممكن الآن أن تستطيع الضفدعة الوصول إليها، وكانت البلدة التي أبحرت فيها جميلة، إذ ألقت الشمس بشعاعها على الماء حتى لمع كأنه ذهب سائل. خلعت عقلة الإصبع حزامها وربطت أحد طرَفَيه بالفراشة، وشدت طرفه الآخر على الورقة، التي أخذت حينذاك تنطلق أسرع كثيرًا عن ذي قبل، حاملة فوقها عقلة الإصبع.

بعد برهة طار خنفس كبير قريبًا منهما. وما أن وقعت عيناه عليها حتى أحكمَ مخالبه حول خصرها الرقيق وطار بها إلى إحدى الأشجار. أما الورقة الخضراء فانجرفت مع الجدول، وطارت معها الفراشة، فقد كانت مربوطة إليها ولم تستطع الإفلات.

أوه، كم استبدَّ الخوف بعقلة الإصبع حين طار بها الخنفس إلى الشجرة! لكنها كانت حزينة بوجه خاص على الفراشة البيضاء الجميلة التي ربطتها بالورقة؛ فهي إن لم تستطع تحرير نفسها فستموت جوعًا. إلا أن الخنفس لم يكترث لذلك الأمر البتة؛ فقد جلس بجانبها على ورقة شجر خضراء كبيرة، وأعطاها بعض العسل من الزهور لتتناوله، وأخبرها أنها في غاية الجمال، وإن لم تكن في جمال الخنافس على الإطلاق.

figure

بعد برهة من الوقت، جاءت كل الخنافس التي تعيش في الشجرة لتزور عقلة الإصبع. وأخذت تُحدق فيها، ورفعت الخنفسات الشابة قرونَ استشعارها وقالت: «ليس لديها سوى ساقَين! كم تبدو قبيحة!» وقالت إحداها: «ليس لديها قرون. وخصرها نحيل جدًّا. أف! إنها تشبه البشر.»

قالت كل الخنفسات: «أوه، إنها قبيحة.» صدَّق الخنفس الذي كان قد أتى بها كل الخنفسات الأخرى حين قالت إنها قبيحة. ولما لم يعد لديه شيء ليقوله لها، أخبرها أن بإمكانها الذهابَ حيث تريد. ثم طار بها هابطًا من الشجرة ووضعها على زهرة أُقحوان، وأبكاها الظن بأنها قبيحة حتى إن الخنافس رفضت أن تُخاطبها. لكنها كانت دائمًا أجمل المخلوقات التي قد تخطر على البال، وفي رقَّة ورهافة ورقة وردة بديعة.

ظلت عقلة الإصبع المسكينة طيلة الصيف وحيدة تمامًا في الغابة الفسيحة. ونسجت لنفسها فراشًا من الحشائش وعلَّقته أسفل ورقة شجر كبيرة، لِتقيَها من الأمطار. وكانت تتغذى بامتصاص العسل من الزهور وشرب الندى من أوراقها كل صباح.

مر الصيف والخريف على هذه الحال، ثم أقبل الشتاء؛ الشتاء البارد الطويل. كل الطيور التي كانت تشدو لها بعذوبة شديدة طارت بعيدًا، والأشجار والزهور ذبلت. ونبتة النفل الكبيرة التي كانت المظلة التي تعيش تحتها التفَّت حول نفسها وتقلَّصت؛ ولم يتبقَّ منها سوى ساقٍ صفراء ذابلة. شعرت عقلة الإصبع ببرد رهيب، فقد تمزقت ملابسها، وهي نفسها كانت في غاية الضعف والنحول حتى إنها كادت تتجمد حتى الموت. كذلك بدأت الثلوج تتساقط؛ وكانت ندف الثلج في سقوطها عليها مثل سقوط ملء مجرفة كاملة منه على أحدنا؛ فنحن طوالٌ وهي لا يتعدى طولها بوصة واحدة. تلفعت عقلة الإصبع بورقة شجر جافة، لكنها تشققت من المنتصف ولم تمنَحْها دفئًا، فراحت ترتعد من البرد.

كان يوجد بالقرب من الغابة التي تعيش فيها حقل ذرة كبير، إلا أن الذرة كانت قد حُصِدت منذ زمن طويل؛ لم يتبقَّ شيء سوى بقايا الحصاد الجرداء الجافة قائمة على الأرض المتجمدة. كان الخوض هناك يُشبه الخوض في غابة شاسعة.

أوه، كم كانت ترتجف من البرد! وأخيرًا وصلت إلى باب أحد فئران الحقول التي كانت لديها بيتٌ صغير أسفل بقايا حصاد الذرة. كانت الفأرة تعيش هناك في دفء وسكينة، وكان لديها حجرة كاملة مليئة بالذرة، ومطبخ، وحجرة طعام جميلة. وقفت عقلة الإصبع المسكينة أمام الباب، مثل شحاذة صغيرة، وطلبت جزءًا صغيرًا من حبة شعير؛ فقد ظلت بلا طعام طوال يومَين.

قالت فأرة الحقل، التي كانت فأرة عجوزًا طيبة حقًّا: «يا لكِ من صغيرة مسكينة! تفضلي إلى حجرتي الدافئة وتعشَّيْ معي.»

كانت مسرورة بوجود عقلة الإصبع، فقالت لها: «أرحب ببقائك معي طوال الشتاء أشد الترحيب إن أردتِ؛ لكن يجب أن تُحافظي على نظافة منزلي وترتيبه، وتحكي لي قصصًا؛ فإنني أحب سماعها للغاية.» وقد فعلت عقلة الإصبع كل ما طلبته منها فأرة الحقل، ووجدت هناك راحة شديدة.

قالت فأرة الحقل ذات يوم: «سوف يأتينا زائر قريبًا. إذ يزورني جاري مرةً كل أسبوع. إنه أيسرُ مني حالًا؛ فلديه حجرات فسيحة، ويرتدي معطفًا مخمليًّا أسود جميلًا. ليتك تحظين به زوجًا، فسوف يُحسِن إعالتك. لكنه كفيف، لذا لا بد أن تحكي له بعضًا من قصصك الممتعة.»

لم تشعر عقلة الإصبع بأي اهتمام تجاه هذا الجار، فقد كان خُلدًا. إلا أنه جاء للزيارة، متشحًا بمعطفه المخملي الأسود.

قالت فأرة الحقل: «إنه ثري جدًّا ومثقف، ومنزله أكبر من منزلي عشرين مرة.»

لا شك أنه كان ثريًّا ومثقفًا، لكنه كان دائمًا ما يتحدث عن الشمس والزهور الجميلة باستخفاف؛ لأنه لم يرَها قط. واضطُرَّت عقلة الإصبع إلى أن تُغنيَ له: «فلتطيري لمنزلك أيتها الدعسوقة»، والعديد من الأغنيات الأخرى الجميلة. وقد أُغرِم بها الخُلْد لأن صوتها شديد العذوبة؛ لكنه لم يَبُح بشيء، فقد كان شديد الحذر والحرص. كان الخُلد قد حفر منذ زمن قصير ممرًّا طويلًا تحت الأرض، يوصل بين مسكنه ومسكن فأرة الحقل، وقد سمح لها آنذاك بالسير فيه مع عقلة الإصبع متى أرادت. لكنه حذرهما كيلا تنزعجا من رؤية طائر نافقٍ كان مستلقيًا في الممر. كان الطائر كامل البنية، بمنقار وريش، ولا يمكن أن يكون قد مات منذ مدة طويلة. كان موجودًا حيث حفر الخلد النفقَ بالضبط. وضع الخلد في فمه قطعة من خشب ذي وميض، وقد أخذت تُضيء مثل النار في الظلام، ثم تقدمهما ليُنير لهما السبيل في الممر الطويل المعتم. وحين بلغوا المكان الذي ارتمى فيه الطائر الميت، دس الخلد أنفه العريض في السقف، حتى ينزاح التراب ويسطع نور النهار على الممر.

كان مطروحًا في منتصف الطريق طائر سنونو، ضُمَّ جَناحاه البديعان إلى جانبَيه، وانكمشت قدماه ورأسه تحت ريشه؛ كان جليًّا أن الطائر المسكين قد مات من البرد. اعترى عقلة الإصبع حزنٌ شديد لرؤية هذا المنظر، فقد كانت تحب الطيور الصغيرة حبًّا جمًّا؛ فقد ظلت طوال الصيف تشدو وتُغرد لها كأجمل ما يكون الشدو والتغريد. إلا أن الخلد أزاحه جانبًا برجلَيه المقوستَين وقال: «لن يُغنِّيَ بعد الآن. كم هو مؤسف أن تُولَد طائرًا صغيرًا! أشعر بامتنان أن أبنائي لن يكونوا طيورًا مطلقًا، فهي لا تفعل شيئًا سوى الصياح: «صوصو، صوصو»، ولا مفر من أن تموت دومًا جوعًا في الشتاء.»

قالت فأرة الحقل: «أجل، أنت على حق في قولك هذا كونك رجلًا فطنًا! فما فائدة تغريدها ما دامت — لا بد — تتضوَّر جوعًا أو تتجمَّد حتى الموت حين يأتي الشتاء؟ مع ذلك تظل الطيور سُلالة رفيعة جدًّا.»

لم تنبس عقلة الإصبع بكلمة، لكن حين أدار الاثنان الآخران ظهرهما للطائر، انحنت وأزاحت الريش الغضَّ الذي غطى رأسه، وقبلت جفنَيه المغمضَين. وقالت: «ربما هذا كان الطائر الذي شدا لي بصوته العذب في الصيف، وكم داخلَني السرور بهذا، يا عزيزي الطائر الجميل!»

سد الخلد الثقب الذي سطع منه ضوء النهار، ثم رافق السيدتَين للمنزل. لكن في الليل لم تستطع عقلة الإصبع النوم؛ فغادرت الفراش ونسجت بساطًا كبيرًا جميلًا من القش. ثم حملته إلى الطائر النافق وبسطته عليه، مع بعض زغب من زهور كانت قد وجدتها في حجرة فأرة الحقل. كان ناعمًا مثل الصوف، وقد نثرَت بعضًا منه على جانِبَي الطائر، حتى يرقد في دفء في الأرض الباردة.

قالت عقلة الإصبع: «الوداع أيها الطائر الصغير الجميل، الوداع. شكرًا على شَدْوك المبهج في الصيف، حين كانت الأشجار خضراء والشمس الدافئة تُشرق علينا.» ثم وضعت رأسها على صدر الطائر، لكنها فزعت، إذ بدا أن شيئًا ما داخل الطير يدق: «تك، تك.» كان هذا هو قلب الطائر؛ فلم يكن ميتًا حقًّا، وإنما تخدَّر جسده من البرد فحسب، وقد رده الدفء إلى الحياة. في الخريف تطير كل طيور السنونو راحلة إلى بلاد دافئة؛ لكن إن حدث وتباطأ أحدها، فالبرد يُحكِم قبضته عليه، ويتخلَّله ويسقط كأنه ميت، فيظل حيث سقط، وتُغطيه الثلوج الباردة.

ارتعدت عقلة الإصبع بشدة؛ فقد كانت خائفة جدًّا؛ لأن الطائر كان ضخمًا، أضخم منها بكثير (هي التي كان طولها لا يتعدى البوصة). إلا أنها تشجعت، ووضعت الصوف بكثافة أكثر على السنونو المسكين، ثم أخذت ورقة الشجر التي كانت تتدثَّر بها كغطاء وبسَطَتها فوق رأسه.

وفي الليلة التالية خرجَت متسلِّلة مرة أخرى لتراه. كان حيًّا، لكنْ ضعيفًا جدًّا؛ فلم يستطع إلا أن يفتح عينَيه لحظة ليرى عقلة الإصبع التي كانت واقفة بالقرب منه، حاملة قطعة من الخشب المتحلل في يدها، فلم يكن لديها مصباحٌ آخر. قال السنونو المريض: «شكرًا يا أيتها الفتاة الصغيرة الجميلة. لقد تدفأت جيدًا حتى إنني قريبًا ما سأستعيد عافيتي وأتمكن من التحليق مرة أخرى في أشعة الشمس الدافئة.»

قالت عقلة الإصبع: «مهلًا، الجو بارد بالخارج الآن؛ يوجد ثلوج وصقيع. فلتبقَ في فراشك الدافئ، وأنا سأعتني بك.»

أحضرت عقلة الإصبع للطائر بعض الماء في ورقة زهرة، وبعد أن شرب، أخبرها أن إحدى الشجيرات الشائكة جرَحت أحدَ جناحَيه فلم يستطع الطيران سريعًا كالآخرين، الذين ما لبثوا أن ابتعدوا في رحلتهم إلى البلاد الدافئة. وفي النهاية سقط على الأرض، ولم يتذكر شيئًا آخر، ولا كيف صار في المكان الذي وجدته فيه.

ظل طائر السنونو تحت الأرض طوال الشتاء، حيث اعتنت به عقلة الإصبع باهتمام وحب. ولم تُخبر سواء الخلد أو فأرة الحقل بأي شيء عنه، إذ لم يُحِبا طيور السنونو. وسريعًا جدًّا أقبل الربيع، وبعثت الشمس الدفء في الأرض. عندئذٍ ودَّع السنونو عقلة الإصبع، ففتحت الثقب الذي في السقف الذي كان الخلد قد صنعه. سطعت أشعة الشمس عليهما في بهاء شديد، فسألها السنونو إن كانت تود أن تذهب معه. قال لها إن بإمكانها الجلوسَ على ظهره، وسيطير بها بعيدًا إلى الغابات الخضراء. لكنها كانت تعلم أن فأرة الحقل ستحزن إن تركتها بتلك الطريقة، لذلك قالت: «لا، لا أستطيع.»

قال السنونو: «الوداع إذن، الوداع، يا أيتها الفتاة الصغيرة الحسناء الطيبة.» ثم انطلق طائرًا في ضوء الشمس.

•••

ظلت عقلة الإصبع تُلاحقه بعينَيها حتى اغرورقتا بالدموع؛ فقد كانت تُكِن للسنونو المسكين محبة بالغة.

غرد الطائر: «صوصو، صوصو» وهو ينطلق طائرًا صوب الغابات الخضراء، بينما شعرت عقلة الإصبع بحزن شديد. فلم يكن مسموحًا لها بالخروج إلى حيث أشعة الشمس الدافئة. وكانت الذرة المزروعة في الحقل أعلى منزل فأرة الحقل قد نبتت وارتفعت عاليًا في السماء وكوَّنت غابة كثيفة بالنسبة لعقلة الإصبع، التي لم يتعدَّ طولها بوصة واحدة.

figure

قالت فأرة الحقل: «سوف تتزوجين يا أيتها الصغيرة؛ فقد طلب جاري الزواج منكِ. يا له من حظ سعيد لطفلة مسكينة مثلكِ! الآن سنُجهز ملابس عرسك، التي لا بد أن تكون من الصوف والكتان. لن يُعوِزك شيء بالتأكيد حين تصيرين زوجة الخلد.»

كان على عقلة الإصبع أن تُدوِّر المغزل، وعينت فأرة الحقل أربعة عناكب كان عليها الغزل ليلًا ونهارًا. كان الخلد يزورها كل مساء وكان يتحدث باستمرار عن الوقت الذي سينتهي فيه الصيف. فحينئذٍ سيُحدد يوم زواجه من عقلة الإصبع؛ أما الآن فحرارة الشمس كانت شديدة لدرجة أنها ألهبت الأرض وجعلتها صلبة، مثل الحجر. وبمجرد أن ينتهي الصيف سيُقام العرس. إلا أن عقلة الإصبع لم تكن سعيدة على الإطلاق، فهي لم تُحِب الخلد المثير للضجر.

في كل صباح مع شروق الشمس، وكل مساء مع غروبها، كانت تخرج متسللة من الباب، وعندما كانت الرياح تهب فتباعد بين أكواز الذرة بحيث تتمكن من رؤية السماء الزرقاء، كانت تتأمل كم يبدو العالم بهيًّا ومشرقًا بالخارج، وتتمنى كثيرًا أن ترى صديقها العزيز، السنونو مرة أخرى. إلا أنه لم يرجع قط؛ فقد كان في هذا الوقت قد طار بعيدًا في الغابة الخضراء الجميلة.

حين أقبل الخريف كانت ملابس عقلة الإصبع قد صارت جاهزة، فقالت لها فأرة الحقل: «لا بد أن يُقام العرس خلال أربعة أسابيع.»

حينذاك أجهشت بالبكاء وقالت إنها لن تتزوج الخلد الكريه.

ردت عليها فأرة الحقل قائلة: «هراء. كفِّي عن المكابرة في الحال وإلا عضَضتكِ بأسناني البيضاء. إنه خلد وسيم جدًّا؛ الملكة نفسها لا ترتدي من المخمل والفراء ما يفوقه أناقة. كما أن مطابخه وأقبيته ممتلئة عن آخرها. يجدر بكِ أن تكوني في غاية الامتنان على هذا الحظ الحسن.»

وهكذا حُدد يوم العرس، الذي كان سيأخذها فيه الخلد لتعيش معه، عميقًا تحت الأرض، فلا ترى الشمس الدافئة مرة أخرى مطلقًا؛ لأنه لم يكن يُحبها. أثارت فكرة توديع الشمس الجميلة بالغ الحزن في نفس الفتاة المسكينة، ولما سمحت لها فأرة الحقل بالوقوف عند الباب، ذهبت في الحال لتراها مرة أخيرة.

هتفت عقلة الإصبع وهي تمد ذراعَيها ناحيتها: «الوداع أيتها الشمس المشرقة»، ثم مشت مسافة قصيرة من المنزل، إذ كانت الذرة قد حُصِدت، ولم يتبقَّ في الحقول سوى بقايا الحصاد الجافة. أعادت القول وهي تُطوق زهرة حمراء صغيرة نبتت بجانبها: «الوداع، الوداع. فلتُبلغي السنونو الصغير سلامي، إذا رأيتِه ثانيةً.»

وفجأةً ترددت زقزقةٌ فوق رأسها، وحين نظرت إلى أعلى كان السنونو نفسُه يُحلِّق قريبًا منها. وما أن لمح عقلة الإصبع حتى ابتهج، فأخبرته كم كانت غير راغبة في الزواج من الخلد الدميم، والعيش دائمًا أسفل الأرض، وعدم رؤية الشمس المشرقة مرة أخرى. وقد راحت تبكي وهي تخبره بهذا.

قال السنونو: «لقد أوشك الشتاء البارد على القدوم، وسوف أطير بعيدًا إلى بلاد أكثر دفئًا. فهل تأتين معي؟ يمكنكِ الجلوس على ظهري ولتشدِّي وثاقك عليه بحزامكِ. وحينئذٍ يمكننا الطيران بعيدًا عن الخلد الدميم ومنزله الكئيب، بعيدًا فوق الجبال، إلى بلادٍ أكثر دفئًا، حيث تُشرق الشمس أكثر وهجًا من هنا؛ حيث الصيف دائم، وحيث تتألق الزهور في جمال أكبر. فلتطيري معي يا عزيزتي الصغيرة؛ فقد أنقذتِ حياتي حين كنت راقدًا متجمدًا في ذلك الممر المظلم الموحش.»

قالت عقلة الإصبع: «حسنًا، سأذهب معك.» وجلست على ظهر الطائر واضعةً قدمَيها على جناحَيه المفرودَين، وربطت حزامها بواحدة من أقوى ريشه.

ارتفع السنونو في الهواء وطار فوق الغابة وأعلى البحر، عاليًا فوق أعلى الجبال، المكللة بثلوج لا تنتهي. كانت عقلة الإصبع ستتجمد في الهواء البارد، لكنها زحفت تحت ريش الطائر الدافئ، دون أن تُغطِّي رأسها الصغير، حتى يتسنى لها الاستمتاع بمشاهدة الأماكن الجميلة التي مرا فوقها. بعد وقت طويل وصلا إلى البلاد الدافئة، حيث تشرق الشمس ساطعة وتبدو السماء في مستوًى أعلى كثيرًا فوق الأرض. هنا كانت تنمو أصناف أرجوانية وخضراء وبيضاء من العنب على الأسيجة الشجرية وعلى جانب الطريق، ويتدلى الليمون والبرتقال من الأشجار في الحقول، ويعبق الهواء بروائح نبات الآس وزهور البرتقال. وكان يجري في الطرق الريفية أطفال حِسان، يلعبون مع فراشات زاهية كبيرة؛ وكلما طار السنونو أبعد فأبعد، بدا كل مكان أبهى وأبهى.

وأخيرًا أتيا بحيرة زرقاء، قام بجانبها قصرٌ من الرخام الأبيض المبهر، بُني في الأزمنة الغابرة، وقد ظللته أشجار ذات لون أخضر غاية في الدكانة. والتفَّت حول أعمدته السامقة الكروم، وكان في أعلاه العديدُ من أعشاش السنونو، وبينها بيت السنونو الذي حمل عقلة الإصبع.

قال السنونو: «هذا هو بيتي، لكن لن يكون من المناسب لكِ أن تعيشي هنا؛ فلن تشعري بالراحة. لا بد أن تختاري واحدة من هذه الزهور الجميلة، وسوف أهبط بكِ إليها، وبعد ذلك سوف تحصلين على كل ما قد تتمنَّينه ليُحقق لكِ السعادة.»

قالت: «سيسرني هذا.» وصفقت بيدَيها الصغيرَتين فرحًا.

كان على الأرض عمود رخامي ضخم، تكسر حين هوى ثلاث قطع. وقد نبت بين هذه القطع زهور بيضاء كبيرة في غاية الجمال، فطار السنونو هابطًا بعقلة الإصبع ووضعها على إحدى الأوراق العريضة. لكن كم اندهشت عقلة الإصبع حين رأت في منتصف الزهرة رجلًا صغيرًا ضئيلًا، شديد البياض والشفافية كأنه من بِلَّور! كان معتمرًا تاجًا ذهبيًّا، وبرز من كتفَيه جناحان رقيقان، ولم يكن يفوقها كثيرًا في الحجم. كان ملاك الزهرة؛ إذ يعيش في كل زهرة رجلٌ صغير وامرأة صغيرة، وكان هذا هو ملكهم جميعًا.

همست عقلة الإصبع للسنونو قائلة: «أوه، كم يبدو وسيمًا!»

في البداية ارتعب الأمير الصغير بشدة من الطائر، الذي كان بمثابة عملاق بالنسبة إلى مخلوق صغير رقيق مثله؛ لكنه سُرَّ حين رأى عقلة الإصبع واعتقد أنها أجمل فتاة صغيرة رآها على الإطلاق. خلع التاج عن رأسه ووضعه على رأسها، ثم سألها عن اسمها وإن كانت تُوافق على أن تكون زوجته والملكة على كل الزهور.

كان هذا قطعًا زوجًا من نوع مختلف جدًّا عن ابن الضفدعة، أو الخلد بفرائه ومخمله الأسود، ومِن ثَم فقد وافقت على الزواج من الأمير الوسيم. هنا تفتحت كل الزهور، وخرج من كل واحدة سيدة صغيرة أو سيد صغير، كلهم في غاية الجمال حتى إنهم ليُثيرون في النفس بهجة شديدة لدى رؤيتهم. وأتى كل منهم بهدية لعقلة الإصبع؛ لكن أفضل هدية كانت زوجين من الأجنحة الجميلة، كانت تعود إلى ذبابة بيضاء كبيرة، وقد ثبَّتوهما على كتفَي عقلة الإصبع، حتى تتمكن من الطيران من زهرة لأخرى.

سادت بعد ذلك فرحةٌ عارمة، وطُلب من السنونو، الذي كان جالسًا في عُشه فوقهم، أن يشدو بأغنية للعرس، وهو ما فعله كأفضلِ ما يستطيع؛ إلا أنه كان يشعر في أعماقه بحزن، فقد كان مولعًا بعقلة الإصبع للغاية وودَّ ألا يفترق عنها ثانيةً أبدًا.

قال لها ملاك الزهور: «يجب التوقف عن مناداتكِ بعقلة الإصبع. فهو اسم قبيح، وأنت في غاية الحسن. سوف نناديكِ مايا.»

قال السنونو بقلب مثقل: «الوداع، الوداع.» وهو يغادر البلاد الدافئة ليطير عائدًا إلى الدنمارك. فلديه هناك عشٌّ فوق نافذة منزل يعيش فيه كاتب قصص خيالية. كان السنونو يشدو: «صوصو، صوصو» ومن شدوه عرَفنا كل هذه القصة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤