جزيرة العرب
(١) عرب الجنوب
في سياق الألف الأول قبل الميلاد ظهرت في بلاد العرب الجنوبية «اليمن وحضرموت» حضارة راقية وممالك قوية ذات نُظم إدارية وسياسية متطورة أهمها: سبأ ومعين وقتبان وحضرموت. وقد كانت هذه الممالك مراكز هامة للاتصال التجاري بين المحيط الهندي ومناطق شرقي المتوسط. وعلى الرغم من أن هذه الحضارة كانت ذات طابع محلي، ولم يكن لها تأثير واسع على مجرى التاريخ كما هو حال الثقافة السامية والثقافة المصرية؛ فإنها قدمت إبداعاتها الخاصة المميزة في مجال الحكم والعمارة والفنون البصرية ونظم الري، وغيرها من منتجات الثقافات العليا. خلال القرون القليلة التالية للميلاد أخذت هذه الدول بالاختفاء عن المسرح السياسي، ومع زوال دولة حِمْيَر آخر هذه الدول، زالت الثقافة العربية الجنوبية، وحلَّت محلها الثقافة الإسلامية الصاعدة.
ترك لنا الجنوبيون مئاتٍ من النقوش الكتابية يعطينا بعضها معلومات مباشرة عن ديانتهم، ولكن قِصَر هذه النقوش وافتقادها إلى الموضوعات الميثولوجية والطقسية، واقتصارها في معظم الأحيان على ذكر أسماء الآلهة التي زاد عددها عن المائة دون مزيد من التفاصيل، جعل الجيل الأول من الباحثين في ثقافة اليمن في حيرة من أمرهم. فلقد عكفوا على دراسة وتحليل الأسماء من أجل التوصل إلى معرفة طبيعتها ووظائفها وعلاقاتها المتبادلة؛ فخرجوا بمجمع آلهة موسَّع لكل مملكة على حدة، يحتوي على عددٍ هائلٍ من الأسماء. ثم تبيَّن للجيل الثاني من الباحثين أن معظم هذه الأسماء لم يكن أسماء علم للآلهة، وإنما صفات لها وألقاب، وأن الإله الواحد قد يُطلَق عليه هذا اللقب هنا ولقبٌ آخر هناك. وكانت النتيجة التي توصَّل إليها العلَّامة هومِل، وتلقَى الآن موافقة واسعة، هي أن العرب الجنوبيين كان لهم مجمع آلهة واحد، ولم يكن لكل مملكة مجمعها الخاص، وما اختلاف الأسماء داخل كل مجمع إلا من قبيل اختلاف الألقاب عبر الزمان واختلاف المكان. وقد استقر رأي الباحثين على أن ديانة هؤلاء هي ديانة كوكبية، آلهتها الرئيسية هي الشمس والقمر والزهرة، وأن معظم الأسماء الواردة في النصوص هي صفات وألقاب لهذه الأجرام التي تشكِّل الثالوث الديني القومي لعرب الجنوب بجميع ممالكهم ومناطقهم، وعبر الزمن الذي عاشت فيه ثقافتهم. تشكِّل هذه الآلهة عائلةً واحدةً، يتخذ فيها القمر دور الأب، والشمس دور الأم، والزهرة دور الابن. فالقمر يجري مسرعًا لكي يلحق بالشمس التي تتهادى ببطء، ليجتمعا مرة في الشهر عندما يظهران معًا في وضح النهار ليدخلا مخدع الزوجية.
يقع الإله القمر في مركز الثالوث الإلهي، ومن أسمائه سين «سن إله القمر البابلي»، وورخ، وشهر فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قرآن كريم، ويُرمز إليه بالثور نظرًا للشبه بين قرنَيه والهلال. وهو أب، وعم، والرحمن، وحُكم (الحكيم)، وكهل (المتقدم بالسن) وحرم (القدوس)، وود (المحب)، والمقة. أما الشمس فقد دُعيَت نكرح وهو اسم غامض، ولكن بقية أسمائها تبدأ بلفظ ذات؛ فهي ذات صنتم، وذات صخرن، وذات رحبن، وذات بُعدن، وذات حميم، كما دُعيت بالاسم أثرة المشابِه لأثيرة أو عشيرة الأوغاريتية. وأما الزهرة فكانت هنا إلهًا مذكرًا لا مؤنثًا ويُدعى عثتر، كما في الأوغاريتية، ومن ألقابه عثتر شرقن، وذو قبض، وذو يحرق، وملك.
على أن ما يهمنا من هذه الآلهة بالنسبة لموضوعنا هو أنها لم تُصوَّر في رسوم أو تماثيل منحوتة، وكل المنحوتات التي وصلتنا من فنونهم تمثِّل ملوكًا وحكامًا وشخصيات دنيوية، أما الآلهة فقد رُمز لكل منها بشارة مقدسة؛ فكانت شارة القمر قوسَين مزدوجَين يتجهان نحو الأعلى، وشارة الشمس الدائرة، وشارة الزهرة نجمة، وقد يُرسم الهلال وحوله دائرة في تكوين واحد يدل على الشمس والقمر. ونحن هنا أمام عبادة لا أيقونية في أصفى أشكالها استغنت حتى عن النَّصب الحجري، أي أن تاريخ الدين هنا عاد إلى بداياته في العصر الحجري وبداية عصر الكتابة عندما كانت الشارة المقدسة هي بؤرة عبادات الإنسان.
(٢) عرب الشمال
تشكو ديانة العدنانيين (عرب الشمال) من انعدام الوثائق الخارجية وانعدام الوثائق المحلية المعاصرة لها، ولذلك فإن الباحث فيها مضطر إلى الاعتماد على المصادر العربية المتأخرة عن ظهور الإسلام بقرنَين على الأقل وأربعة على الأكثر، مثل كتاب الأصنام لابن الكلبي المُتوفَّى عام ٢١٩ﻫ، وكتاب أخبار مكة للأزرقي المُتوفَّى عام ٢٥٠ﻫ، إضافة إلى بعض الكتب الموسوعية مثل كتاب الملل والنحل للشهرستاني المُتوفَّى عام ٥٨٧ﻫ. والكامل في التاريخ لابن الأثير المُتوفَّى عام ٦٣٠ﻫ، وغيرها. كما احتوت كتب السيرة ومصنفات الشعر الجاهلي على معلومات متفرقة مفيدة.
يقول ابن الكلبي في هُبل: «وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وحولها، وكان أعظمها هبل، وكان فيما بلغني من عقيق أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك فجعلوا له يدًا من ذهب.» إن ما يلفت نظرنا في هذا الخبر هو إطلاق ابن الكلبي صفة الصنم على هبل ثم توكيده بعد ذلك على أنه على صورة إنسان، الأمر الذي يدل على أن الصنم قد يكون على هيئة إنسان أو على هيئة حجر. وجاء في أخبار مكة للأزرقي وفي سيرة ابن هشام أن عمرو بن لحي جاء بهُبل من موآب (بشرقي الأردن) ونصبه في جوف الكعبة على بئرٍ يُقال لها الأخشف، وأمر الناس بعبادته فكان أول صنم بمكة. ويقول ابن الكلبي عن صنم ود إنه كان تمثالَ رجل أعظم ما يكون من الرجال، نصبه بنو ود وبنو عامر الأجدار بوادي القرى بدومة الجندل، وعليه حُلتان، مؤتزر بواحدة ومرتدٍ الأخرى، وسيف تَقَلَّده وقوس تَنَكَّبه، وبين يدَيه حربة وجعبة فيها نِبال. والاسم ود في اللغة العربية يتضمن معنى الحب؛ فنقول وَدَّ فلان أي أحبه، ونقول بينهما ودٌّ أي بينهما محبة، ولذلك ربما كان هذا الإله مختصًّا بشئون الحب والعشق شأنه في ذلك شأن الإله اليوناني إيروس، لا سيما أن بعض الأعمال النحتية اليونانية تمثِّله على الصورة التي وصفها ابن الكلبي للإله ود.
وفيما عدا هذَين الصنمَين فإننا لا نستطيع التحدث بثقة عن أي صنم آخر ورد ذِكره في الأخبار باعتباره تمثالًا منحوتًا على هيئة بشرية. ويبدو الخلط بين الصنم والنَّصب الحجري بأوضح أشكاله في الأخبار التي وصلتنا عن العلامات التي تَرسم حدود المنطقة الحرام حول الكعبة، فبعض هذه الأخبار يقول إنها ٣٦٠ صنمًا، وبعضها الآخر يقول إنها ٣٦٠ حجرًا.
وكان الحجر يُنصَب في صدر مقام ديني مكشوف يُدعى بيتًا أو كعبة، وهو الشكل العربي للمرتفعة الكنعانية يقوم مقام المعبد الذي لم يعرفه عرب الشمال. فكان للعرب كعبات إلى جانب كعبة مكة، منها بيت اللات، وكعبة نجران، وكعبة شداد الأيادي، وكعبة غطفان، وبيت العزى، وبيت مناة، وبيت رضا، وهي على شكل بيتٍ مربعٍ أو مستطيل بلا سقف. وإذا كان لنا أن نقارن مع المقامات الدينية الصحراوية التي وصفنا بعضها؛ فإن ارتفاع جدران هذا البيت لم يكن يتجاوز المتر بكثير، وأمام الجدار المقابل للمدخل يُوضَع النَّصب الحجري، أما الصنم المنحوت على هيئة إنسان فمكانه المعابد الكبرى، ومن المستبعَد وجوده في المرتفعة. وقد تُزرع شجرة إلى جانب النَّصب الحجري، على ما تفيدنا الأخبار بخصوص بيت ذي الخُلصَة، وهي الممارسة الشائعة لدى الكنعانيين. أما بخصوص تسمية هذه المقامات الدينية بالكعبات؛ فإن الرأي الشائع يُرجع ذلك إلى هيئتها المعمارية، التي تتخذ شكل مكعب، وذلك استنادًا إلى هيئة كعبة مكة. ولكنني أرجح أن التسمية مشتقة من معنًى آخر لكلمة الكعبة، وهو المتَّجه والمقصد؛ فهي المحجة التي يقصدها عباد الإله ومهوى أفئدتهم. وسوف أقدم فيما يلي مسردًا بالآلهة التي عُبدَت من خلال رمزها الحجري، وأضع إشارة استفهام على بقية الآلهة دون ذكر أسمائها.
-
اللات: هي إلهة العرب الكبرى، ورأس
الثالوث الإلهي المؤنث الذي
يتألَّف من اللات «إيلات» والعزى
ومناة، ويعادل الثالوث الكنعاني
عشيرة وعناة وعثترة. وكان لها بيت
في مدينة الطائف سدنته من بني
ثقيف، يتصدَّره حجر مقدس أبيض مربع
الشكل يشبه الأحجار المقدسة
النبطية. ولم تكن عبادة اللات
وقفًا على قبيلة ثقيف بالطائف،
وإنما كانت قريش وسائر العرب
يعظِّمونها، ودخل اسمها في العديد
من أسماء العلم مثل تيم اللات
وعمرو اللات وزيد اللات. وقد
اختلفت المصادر العربية في أصل
الاسم ومصدره الاشتقاقي، ودبَّج
أصحابها في ذلك خرافات ساذجة غير
مقنِعة، وهم معذورون في ذلك لأن
الاسم لا اشتقاق له في العربية
لأنه من أصل كنعاني قديم، وفي
صيغته الأصلية يلفظ إيلة/إيلات وهي
صيغة التأنيث من اسم الإله الأعلى
إيل. وهذا ما أدركه الطبري بحسِّه
الصائب السليم عندما قال إن اسم
اللات هو مؤنث لفظ الجلالة
الله.
كما تختلف المصادر بشأن وظائف اللات ورمزها الكوكبي؛ فبينما يقول هيرودوتس اليوناني في تاريخه إنها كوكب الزهرة؛ فإن بعض الباحثين المحدَثين يرى فيها إلهة شمسية لأن خصائصها الشمسية واضحة لدى عرب الجنوب الذين دعوها ذات حميم أي التي تصدر الحُمم واللهب. فإذا كانت اللات هي الشمس؛ فإن العزى هي نجمة الصبح، ومناة هي نجمة المساء.
- العُزى: كانت إلهة معظَّمة لدى قريش، ولها بيت يقع في وادي الشامية الذي يتوسَّط بين مكة والطائف. وقد أورد الطبري في تفسيره أنها كانت على هيئة حجر أبيض، ويضيف ابن الكلبي إلى ذلك أن بيتها احتوى على ثلاث شجرات، وهذا يعني أننا هنا أمام مرتفعة، اجتمع فيها الرمز الحجري مع الرمز الشجري للإلهة. أما بخصوص الاسم فهو من العز أي القوة والمنعة، وعكسه الذل. نقول عزَّ الشخص أي برئ من الذل، وعلا وارتفع. وقد اشتُهرت بحبها للذبائح التي كانت تُراق على حجرها، وتُترَك لتسيل إلى فجوة قريبة تُدعى الغبغب. أما رمزها الكوكبي فهو نجمة الصبح التي يروي الكاتب الكلاسيكي نيلوس (٤١٠م) أن بعض القبائل العربية كانت تقدِّم لها القرابين بصورة وحشية لحظة ظهورها. ويروي إسحق الأنطاكي السرياني أن المنذر ملك الحيرة ضحَّى لها بابن الحارث ملك غسان عندما وقع بيده أسيرًا، كما ضحَّى لها بعددٍ من الراهبات كن متنسِّكات في أحد أديرة العراق. ونعرف من كتب السيرة أن قريش كانت تحارب تحت راية العزَّى، وفي غزوة أُحد قالوا للمسلمين قبل بدء المعركة: لنا العزَّى، ولا عزى لكم. فأجابهم المسلمون: الله مولانا ولا مولَى لكم؛ فهي والحالة هذه إلهة محارِبة تشبه عناة الكنعانية وعشتار البابلية.
- مَناة: كانت مَناة أقدم أصنام العرب وفق رواية ابن الكلبي، وكانت العرب تسمِّي عبد مناة وزيد مناة، أما صنمها فكان منصوبًا على ساحل البحر من ناحية المشلل بقديد بين مكة والمدينة، وكانت مكة والمدينة وما قاربهما من المواضع يعظِّمونه ويذبحون ويهدون إليه، ولم يكن أحد أشد إعظامًا له من الأوس والخزرج. أما الطبري فيقول في تفسيره إن مَناة هي الصخرة تُراق عليها الدماء، وفي عام الفتح أرسل النبي عليًّا إليها فهدمها. وأصل الاسم عند الطبري هو الدماء التي كانت تمنى عندها، ولكن الرأي الأصح هو أن الاسم مشتق من المَنية، فمناة، باعتبارها نجمة المساء كانت تمثِّل العتم والظلمة والعالم الأسفل. وورد في الأخبار أن عباد العُزَّى كانوا لا يرَون تمامًا لحَجِّهم إلى مكة إلا إذا أتَوا بيت العُزى بعد قضاء المناسك؛ فحلقوا رءوسهم لديه وأحرموا.
- إساف ونائلة: كان إساف ونائلة وفق رواية ابن الكلبي يافعَين قدِما حجاجًا من أرض اليمن، وكان إساف يتعشق نائلة في موطنهما؛ فدخلا الكعبة ووجدا غفلة من الناس ففسقا في البيت فمُسخا حجرَين، ثم أُخرجا فوُضعا خارج الكعبة، أحدهما بلصقها، والآخر في موضع زمزم ليتعظ بهما الناس؛ فلما طال مكثهما وعُبدت الأصنام عُبدا معها. وعلى الرغم من أن بعض الروايات تقول إنهما صنمان؛ فإنني أرجح أنهما كانا من الأنصاب الحجرية المنصوبة في فناء الكعبة على ما نجده في بعض المرتفعات الكنعانية.
- الصفا والمروة: الصفا والمروة تلَّتان غير بعيدتين عن المسجد الحرام، وكان السعي بينهما من شعائر الحج قبل الإسلام، وقد اتَّخذا اسمَيهما من حجرَين مقدسَين نُصبا عليهما منذ القدم، دُعي أحدهما صفا والآخر مروة. وكلمة الصفا أو الصفوان تعني في القواميس العربية الحجر العريض الأملس، أما المروة فهي الصخرة البيضاء. وقد أورد الأزرقي في كتاب أخبار مكة خرافة ساذجة عن وجودهما في مكانيهما تشبه خرافة إساف ونائلة؛ فقال إنهما رجل وامرأة فسقا في الكعبة فمُسخا حجرَين، وعندما جاء عمرو بن لحي بعبادة الأصنام من الشام وضع في مكانيهما صنمَين. وهذه القصة تؤكد رَيبتنا في معظم الأخبار التي وصلتنا عن عبادة الأصنام المنحوتة لدى عرب الشمال.
- ذو الخلصة: عُبد هذا الإله في صخرة منقوش عليها كهيئة التاج، وفق ابن الكلبي، وكانت بموضع تبالة بين مكة واليمن، أما الأزرقي فقال إنه بموضع ثروق قرب اليمن. وكانت صخرته في بيتٍ يحجُّون إليه لا سيما بطون قبيلة هوازن مثل كعب وكلاب وخثعم ودوس. ويبدو أن طقوس هذا الإله كانت تشتمل على رقصاتٍ مجونية تقوم بها النساء حول النَّصب الحجري؛ فقد ورد في مصنفات الحديث قول النبي: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليَّات (أرداف) نساء دوس حول ذي الخلصة.» كما يتحدث الأزرقي عن شجرة الخلصة المقدسة التي كانت في بيته، ونحن هنا مرة أخرى أمام شَبه واضح بالمرتفعة الكنعانية.
- سعد: كان، على رأي ابن الكلبي، صخرة طويلة منصوبة بساحل جدة، عبدتها كنانة وقضاعة وعك، وكانوا ينحرون عليها عتائرهم فتسيل الدماء وتلطخها، وقد ورد في السيرة أن الإبل كانت تنفر من رائحة الدماء عندما تقترب منها.
-
الفَلْس: كان على رواية ابن الكلبي
صنمًا لطيئ، وكان على هيئة أنف
(بروز صخري) أحمر في وسط جبلهم
الذي يُقال له أجا، كأنه تمثال
إنسان، وكانوا يعبدونه ويهدون إليه
ويعترون عنده عتائرهم، ولا يأتيه
خائف إلا أمِن عنده؛ فلم يزل الفلس
يُعبَد حتى ظهرت دعوة
النبي.
قائمة آلهة العرب طويلة، وعرضها ليس بذي فائدة لموضوعنا، كما أنها لا تعيننا على رسم صورة واضحة لمجمع الآلهة العربية وللمراتبية داخله. ولكن ما يبدو لدينا واضحًا من المصادر الإسلامية والجاهلية، هو أن العرب، على اختلاف قبائلهم وإيمانهم بآلهتهم المحلية، كانوا يؤمنون بإله أعلى خالق للسماء وما فيها، وللأرض وما عليها، هو رب الكعبة، التي كانت بيته الحرام في مكة، يحجُّون إليها كلَّ عام، وما الآلهة الأخرى سوى وسائلهم للتقرُّب إليه.
-
الله رب الكعبة: لقد أحجم المسلمون منذ صدر
الإسلام عن بحث مسألة شيوع عبادة
الله في جزيرة العرب قبل أن يبشِّر
به النبي إلهًا واحدًا للبشرية
جمعًا، وذلك حفاظًا على صورة الله
في الإسلام من الاختلاط بصورته في
الجاهلية. ولكن البحث الحديث عليه
أن يتجاوز هذا الموقف القديم
اقتداءً بالقرآن الكريم الذي قدَّم
لنا أوضح بيان عن معرفة الجاهليين
لله، وإعلائهم لشأنه فوق كل إله،
وهذا ما سنقوم به هنا معتمدين على
أخبارٍ متواترة، وعلى نصوص الشعر
الجاهلي، وعلى آياتٍ من الذكر
الحكيم.
لدينا أخبار متواترة على قِدَم عبادة الله في جزيرة العرب؛ فقد أورد الأزرقي رواية تكررت بتنويعاتٍ مختلفة في معجم البلدان لياقوت الحموي والسيرة لابن هشام، مفادها أن قريشًا لما أعادت بناء الكعبة بعد أن هدمها السيل قبل البعثة النبوية بسنواتٍ قليلة، نقضت أحجارها حتى وصلت إلى الأساس القديم؛ فوجدوا كتابةً بالسريانية تقول: أنا الله رب مكة الحرام، وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر.
ولدينا قصة في سيرة ابن هشام عن قدوم واحد من أشراف العرب على الرسول يسأله عن مسائل في الإسلام، تدل على أن الله الذي بشَّر به الرسول ليس إلا صورة منزَّهة عن إله الجاهلية. فكان مما سأله إياه: أُنشدك الله، إلهك وإله من قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولًا؟ قال: اللهم نعم.
كما أن النص القرآني حافل بالآيات التي تعقد صِلة بين مفهوم الله في الجاهلية ومفهومه في الإسلام، الذي أزال عن صورة الله ما تراكم عليها من رواسب الشِّرك والجهل، ومنها قوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: ٦١]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: ٩] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [الزخرف: ٨٧]، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون: ٨٤-٨٥]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [العنكبوت: ٦٣].ولكن عبادة الجاهلين لله ترافقت مع الشرك: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: ١٠٦]. ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: ١٢]. وهم في غيِّهم يقولون إنهم يعبدون تلك الآلهة من أجل شفاعتها لهم عند الله: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨]. مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر: ٣].هذا ويقدم لنا الشعر الجاهلي جملة من البراهين على إيمان العرب بالله كإله أعلى، ولكن لا كإله أوحد. وهذه نماذج منه:
ولعلَّ البيت الأخير لأوس بن حجر يلخِّص عقيدة الجاهليين بالله.
-
الكعبة والحجر الأسود: كانت مكة في العصر الجاهلي
بلدة متواضعة منسية لم يرِد ذكرها
في التاريخ، ولا نرى لها أثرًا على
الخرائط التي رسمها الجغرافيون
الكلاسيكيون؛ فبيوتها مبنية بالطين
ومسقوفة بأغصان النخيل، ولم يكن
فيها بِنية بارزة سوى الكعبة، ومع
ذلك فإن هذه البِنية البارزة لم
تكن سوى مقامٍ ديني متواضع من تلك
المقامات الصحراوية التي أشرنا إلى
بعضها في حديثنا عن العبادات
الصحراوية؛ فهي عبارة عن بناءٍ
مربع كان ارتفاع جدرانه وَفق ما
وردنا من الأخبار ٩ أذرع قبل أن
يهدمها السَّيل، أي نحو ٤ أمتار
وبدون سقف، وعندما أعيد ترميمها
بعد السَّيل زاد البنَّاءون في
ارتفاع جدرانها فبلغت ١٨ ذراعًا،
أي نحو ٩ أمتار، وزوَّدوها بسقف.
أما طول ضلع هذا المربع اعتمادًا
على المقاييس الحالية للبناء،
والتي لم تختلف كثيرًا عن مقاييسه
القديم؛ فيبلغ نحو ٧ أمتار، أي أن
المساحة الداخلية للبناء لم تتجاوز
الخمسين مترًا مربعًا، ولذلك فإن
الأخبار التي تفيدنا بأن عددًا من
أصنام القبائل كان منصوبًا داخل
الكعبة لا يُعوَّل عليها؛ لأن
المساحة الداخلية الضيقة لم تمكن
تسمح بوجودها.
يُضاف إلى ذلك أن كل كعبة من كعبات العرب كانت بيتًا لإله بعينه، لا بيتًا لعدة آلهة، وبالتالي لن نتوقع أن نجد فيها سوى رمز مقدس واحد، وربما اثنين على أعلى تقدير. وفي الكعبة التي كانت بيتًا لله، وُجد مثل هذا الرمز، وهو النَّصب الحجري المعروف بالحجر الأسود، والذي أفترض، اعتمادًا على المقارنة مع المقامات الدينية الصحراوية ومرتفعات الساميِّين، أنه كان منصوبًا عند الجدار المقابل للمدخل، وأمامه بلاطة حجرية تقوم بدور المذبح، وكان طوله لا يزيد عن نصف المتر، وَفق شهادة أحد مَن رأَوه عندما أعاده القرامطة إلى مكة. فإن كانت الكعبة هي بيت الله فإن حجرها هو حجر الله، وذلك أسوة بحجر اللات وحجر الخلصة، وغيرهما من آلهة العرب، أي أن قداسة الحجر الأسود تأتي من كونه الرمز المرئي لرب الكعبة.
وبداعي الأخبار والأحاديث النبوية التي تفيدنا بأن الحجر الأسود قد نزل من الجنة أو هبط من السماء؛ فقد شاع الرأي القائل بأنه لا بد أن يكون حجرًا نَيزكيًّا، وهذا ما لن نستطيع التأكُّد منه إذا لم يخضع الحجر للتحليل المخبري الذي يقودنا إلى معرفة مكوناته، ولذلك فإن الأقرب إلى المنطق أن يكون حجر الكعبة مجرد حجرٍ من الوسط الطبيعي، شأنه في ذلك شأن بقية أحجار آلهة العرب وآلهة الشعوب السامية الأخرى. أما متى ولماذا تم إخراج الحجر الأسود من مكانه داخل البيت ووضعه في كوة من الركن الشرقي، فمن المرجح أن ذلك جرى بعد أن أكَّد النبي قداسة الحجر قولًا وعملًا، وبعد أن توقفت الطقوس الوثنية في البيت، وكثر عدد الحجاج الذين يرغبون في لمس الحجر والتبرُّك به وربما تقبيله كما رُوي عن النبي أنه فعل، وذلك في القول المشهور لعمر بن الخطاب: «لو لم أرَ رسول الله يقبُّلك لما فعلت.» إذا كان هذا الاستنتاج صحيحًا فإن القصة الواردة في السيرة بخصوص إعادة بناء وترميم الكعبة وتكليف محمد وهو ما زال في سن الخامسة والعشرين بوضع الحجر في مكانه من الركن، هي مجرد قصة من قصص السيرة التي تهدف إلى رسم صورة الرجل الكامل للنبي قبل البعثة، ولا يمكن التعويل عليها.
ولكن إذا كانت الكعبة بيت الله، والحجر الأسود هو رمزه المرئي الذي تقام أمامه الطقوس، فما الذي يفعله صنم هُبل داخل الكعبة؟ وهل لدينا هنا إلهان معبودان لا إله واحد؟ في الإجابة عن هذا التساؤل أنا أقف إلى جانب جُرجي زيدان الذي لاحظ بحسِّه المبدع أن الاسم هُبل لا اشتقاق له في اللغة العربية، وهذا ما دعاه إلى ترجيح الأصل الكنعاني للاسم، والقول بأن الأصل فيه هو «بعل» الذي يعني السيد أو الرب، وكان لقبًا لإله العاصفة هدد، وهو يُسبَق عادة بأداة التعريف، وهي الهاء في كنعانية فلسطين ومنطقة شرقي الأردن التي جاء منها هذا الصنم، ويُلفَظ «هبعل»، وبإسقاط حرف العين من الاسم، كما فعل التدمريون والبابليون يغدو «هبل». وهذا يعني أن العرب الذين نصبوا صنم هبل في جوف الكعبة لم يقصدوا إضافة إله جديد إلى بيت الله، بل إلى نصب صور منحوتة له تحت لقب هبل، السيد أو الرب، وبذلك تعايشت العبادة اللاأيقونية مع العبادة الأيقونية في حيِّز واحد.
أخيرًا، يبقى سؤال في ذهن القارئ الذي تابعني عبر هذه الدراسة، يتطلَّب الإجابة وهو: كيف يتحوَّل حجر عادي تم اقتلاعه من وسطه الطبيعي إلى حجرٍ مقدس يحل فيه الإله كلما أراد عباده التواصل معه؟ وما الذي تغيَّر في الحجر بعد نقله إلى المقدس؟
مما لا شك فيه أن الحجر الخام الطبيعي كان يمر بطقوسٍ من شأنها أن تنقله من مجال الطبيعة إلى مجال المقدَّس، ودليلنا على ذلك ما وصلنا عن الثقافة البابلية والمصرية من وجود طقوسٍ تغيِّر من طبيعة الصنم، وتحوِّله من حجر أصم في ورشة النحَّات إلى مستقبِل للطاقة القُدسية في المعبد، وهذه الطقوس تُدعى بغسل فم الإله في بابل وبفتح فم الإله في مصر، ولدينا عنها شواهد نَصية، مثل النص البابلي التالي الذي أكتفي بترجمة قسمه الأول لإعطاء فكرة عن مضمونه.١«إذا عزمت على القيام بغسل فم إله تخيَّر يومًا مناسبًا، وقم بما يلي: في ورشة النحات جهِّز قدرَين من ماء مقدَّس، وضَع ستارة من قماش أحمر أمام الإله، وستارتَين من قماش أبيض عن جانبَيه، ثم جهِّز قربانًا لإيا ومردوخ وقربانًا لذلك الإله. ارفع يدك واقرأ ثلاث مرات تعويذة: «من الآن سوف تغدو في حضرة أبيك إيا.» بعد ذلك خذ بيد الإله، واجعله يسوق كبشًا، واقرأ ثلاث مرات تعويذة: «في قدومك من الغيضة.» انطلق من ورشة النحات رافعًا المشاعِل أمام الإله حتى تصل إلى النهر، وهناك أجلسه على حصيرة، واجعل وجهه نحو الشرق. انصب مظلة وقدِّم القرابين لإيا ومردوخ وذلك الإله … إلخ.» بعد ذلك يتابع الشرح الطَّقسي بقية الإجراءات الطويلة خلال مسيرة الإله في الطريق حتى وصوله إلى المعبد ونصبه في المكان المخصص له.
مثل هذه الشعائر لا بد وأنها كانت تُقام للنَّصب الحجري، ولكنها هنا أكثر بساطة، ومنها ما قام به يعقوب في سِفر التكوين عندما صبَّ زيتًا على الحجر الذي نصبه قبل أن يدعوه بيت إيل.
مراجع ديانة العرب
-
(١)
ابن الكلبي، كتاب الأصنام، تحقيق أحمد زكي، القاهرة، ١٩٦٥م.
-
(٢)
محمود سليم الحوت، الميثولوجيا عند العرب، دار النهار، بيروت، ١٩٧٠م.
-
(٣)
عبد المعين خان، الأساطير والخرافات عند العرب، دار الحداثة، بيروت، ١٩٨١م.
-
(٤)
د. عبد الغني زيتوني، الوثنية في الأدب الجاهلي، وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٨٧م.
-
(٥)
جُرجي زيدان، العرب قبل الإسلام، مطبعة الهلال، القاهرة، ١٩٠٨م.
-
(٦)
ويتليف نيلسون، التاريخ العربي القديم، ترجمة د. فؤاد حسنين علي، مكتبة النهضة، القاهرة، ١٩٥٨م.
-
(٧)
Adel Allouche: Arabian Religion, in: M. Eliade, ed., Encyclopedia of Religion, MacMillan, London, 1987.