النهضة الإسلامية المعاصرة
أولًا: الجذور التاريخية للنهضة الإسلامية
-
(١)
تمتد النهضة الإسلامية الحديثة تاريخيًّا إلى الإصلاح الديني في القرن الماضي، بل ويمتد عند البعض إلى القرن الثامن الهجري، إلى ابن تيمية وتلميذه ابن القيم حتى محمد بن عبد الوهَّاب في القرن الحادي عشر. وتصل إلى مدرسة الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب والكواكبي وعبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس والبشير الإبراهيمي. وقد تحول البعض منها إلى حركات اجتماعية وسياسية مثل: المهدية، والسنوسية، ورابطة علماء المسلمين بالجزائر. نجح البعض في تأسيس دول إسلامية مستقلة مثل محمد بن عبد الوهَّاب، بينما لم يقدر البعض الآخر على ذلك بالرغم من أثره البالغ على الحركات الوطنية التي انتسبت إليها مثل المهدية. وانقطع فريق ثالث عن التواصل وظل رائدًا في مرحلة الرواد مثل الكواكبي.
-
(٢)
ومنذ هزيمة العرب في يونيو ١٩٦٧م بدأت مظاهر العودة إلى الإسلام تأخذ شكلًا فعليًّا في حياة الناس وممارستهم اليومية. كانت الدعوة قائمة باستمرار على مختلِف العصور وفي أعماق الشعور الإسلامي، ولكنها لم تظهر إلى السطح إلا بعد الهزيمة كمؤشر فعلي على صحة هذه الدعوة وعلى توقيتها. وقد ظهر ذلك على جميع المستويات: القيادة السياسية، والمؤسسات الدينية، والثقافية الشعبية في صورتين:
- (أ)
أن البعد عن الله هو السبب الأول في الهزيمة.
- (ب)
أن العودة إلى الإيمان هو الطريق إلى النصر.
- (أ)
-
(٣)
وقد استرعت هذه الحركة انتباه المسلمين وغير المسلمين منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران ١٣٩٩ﻫ/١٩٧٩م، وتحدث العالم الغربي عن صحوة الإسلام، يقظة الإسلام، الإحياء الإسلامي، الأصولية الإسلامية. وصاحَب ذلك في شتى أرجاء العالم الإسلامي، وخاصة في مصر، ظهور الجماعات الإسلامية كظاهرة في حرم الجامعات. واندلعت الحرب العراقية الإيرانية، وظهرت الاضطرابات في الحرم المكي … إلخ، كل ذلك ليحول الحركة الإسلامية من مجرد إصلاح ديني إلى تغيير شامل في نظم الحكم وثورة على الأوضاع القائمة.
ثانيًا: المظاهر المختلفة للنهضة الإسلامية
- (١)
الجماعات الإسلامية ونشاطها في كل أنحاء العالم الإسلامي، وعلى اختلاف أسمائها: الجماعة الإسلامية، الحركة الإسلامية، النهضة الإسلامية، الدعوة الإسلامية، الإصلاح الإسلامي … إلخ. ونظرًا لقدرتها على التنظيم، وفي مواجهة تنظيمات سياسية بيروقراطية حكومية فإنها تبدو نشطة وحاضرة في الشارع وبين الجماهير، وكأنها تعمل بين أهليها وفي وطنها.
- (٢)
الشعائرية، مثل الزي، وخاصة الحجاب والنقاب، وفصل الطلبة عن الطالبات، وعدم السلام بالأيدي بين الرجال والنساء … إلخ.
- (٣)
كثرة بناء المساجد، والأذان بمكبرات الصوت، وإقامة الصلوات داخل الكليات، وتخصيص أماكن للصلاة للطلبة والطالبات، وإيقاف الأعمال الجارية أثناء أداء الفرائض، وتحول المساجد إلى دور للمناسبات وعيادات طبية، ومدارس للتعليم، وفصول للتقوية.
- (٤)
نشر كتب التراث، ورواج الكتب الدينية، وكثرة المعارض الإسلامية، ومسابقات حفظ القرآن، وتبادل المصاحف كهدايا، وتعليق الآيات القرآنية وكتابتها على قطع البلاستيك وتعليقها في العربات.
- (٥)
انتشار المَجلات الدينية، وتأسيس الجرائد الدينية الملحقة بالجرائد الأسبوعية، وتخصيص صفحات للفكر الديني.
- (٦)
كثرة البرامج الدينية في أجهزة الإعلام مثل: العلم والإيمان – المصحف المفسر – الهدى والنور، والإعلان عن الصلوات أثناء البرامج الترفيهية، والتواشيح الدينية، والبداية بالقرآن والختام به.
- (٧)
المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وتكوين اللجان في مجلس الشعب لهذا الغرض، والمعركة حول قانون الأحوال الشخصية، والصراع بين الدينية والعلمانية … إلخ.
- (٨)
ظهور الطائفية واشتدادها إلى درجة الحرب الأهلية في لبنان، والتوتر الطائفي في صعيد مصر، وازدواجية الولاء الديني والوطني في كثير من أنحاء الوطن العربي في سوريا والعراق والخليج العربي.
- (٩)
الغزل بين القومية والإسلام، ومحاولة أنصار التيار القومي أخذ الإسلام في الاعتبار كثقافة وحضارة وهُوية قومية. فالإسلام عروبي أُنزل للعرب وبلغة العرب ولتوحيد العرب.
- (١٠)
كثرة المؤتمرات والأبحاث حول: الهُوية والتغريب، الأصالة والمعاصرة، التراث والتجديد، حيث يبرز الدين كعنصر رئيسي في الإشكال.
- (١١)
ظهور التزمت الديني الفكري في إعادة تحريم «الفتوحات المكية» لابن عربي، وإعادة تكفير طه حسين «في الشعر الجاهلي»، ومصادرة كل كتاب به فكر ديني مستنير، وتحريم كل مَجلة بها نقد للأوضاع القائمة.
- (١٢)
ظهور البنوك الإسلامية والانفتاح الاقتصادي على الغرب وشركات توظيف الأموال، فالتزمت الفكري يقابله انفتاح اقتصادي وكأن الأول غطاء الثاني وتشريع له.
ثالثًا: العوامل التي ساعدت على ظهور النهضة الإسلامية
- (١) فشل الاتجاهات العلمانية في التحديث، مما جعل الجماهير تعود إلى ذاتها بعد أن سئمت وضع نفسها كتجارِب لمذاهب الآخرين. وأشهرها ثلاثة:
- (أ)
الليبرالية العلمانية الغربية التي ارتبطت في إحدى لحظاتها بالحركة الوطنية، فقد انتهت إلى التغريب والقضاء على الهُوية والولاء للآخر.
- (ب)
الاشتراكية العربية أو القومية العربية التي سادت إبان الثورات العربية الأخيرة. وبالرغم من إنجازاتها الضخمة من أجل التحرير الوطني والاستقلال الاقتصادي إلا أنها جاءت كبديل عن الحركة الإسلامية، وقامت باستبعاد هذا المنافس الشرعي الخطير من الحياة السياسية، وظل على الهامش أو في السجون في مصر وسوريا والعراق.
- (جـ)
الماركسية في أفغانستان واليمن الديمقراطية، أو في تحالف مع حزب البعث في سوريا والعراق، وحصارها من جماهير الشعب ومن ثقافته الوطنية.
- (أ)
- (٢)
التحدي للآخر وهو الغرب ضد محاولاته لتشويه الحضارة الإسلامية بعد أن استعمر العالم الإسلامي ثم انحسر عنه. ويبعث على هذا التحدي صورة الإسلام في الاستشراق وفي علوم الأنثروبولوجيا الثقافية.
- (٣)
قدرات الشعوب على أخذ مصائرها بأيديها، بدليل ثوراتها الأخيرة ونجاحها في التحرر من الاستعمار، ثم اندلاع الثورة الإسلامية الكبرى في إيران، ويقظة الجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا، وانتشار الحركات والأحزاب الإسلامية النشطة في ربوع العالم الإسلامي.
- (٤)
المحافظة التقليدية كنتاج تاريخي مستمر منذ القرن الخامس حتى الآن، وعلى مدى ألف عام، حيث ازدوجت الأشعرية بالتصوف، أيديولوجية السلطة وأيديولوجية الطاعة، مما يجعل الدين الوعاء الطبيعي للحركات الفكرية والسياسية.
رابعًا: خصوصيات الحركات الإسلامية
بالرغم من وجود تيار عام يجمع بين كل حركات النهضة الإسلامية المعاصرة، إلا أن كل قُطر إسلامي له خصوصيته التي تجعله متميزًا عن القُطر الآخر. ويمكن التمييز بين أربعة مناطق رئيسية:
-
(١)
مصر والسودان والصومال، وتتميز هذه المنطقة بالآتي:
- (أ)
تراث ليبرالي طويل واتصال بالغرب على مدى عدة أجيال.
- (ب)
ظهور حركات إسلامية قوية ونشطة مثل الإخوان المسلمين.
- (جـ)
الناصرية فيها قوية خاصة في مصر، حصيلة الثورة الحديثة.
- (د)
رفض العنف، والاتجاه نحو التغيير السلمي، وفشل محاولات التغيير بالعنف.
- (هـ)
نشاط الحركة الشيوعية خاصة في السودان، والتحام الشيوعيين بالحركات الوطنية.
- (و)
انتشار الطرق الصوفية بين عامة الناس كعنصر استقطاب رئيسي.
- (أ)
-
(٢)
الشام (سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين) والعراق. وتتميز هذه المنطقة الشمالية من شبه الجزيرة العربية بالآتي:
- (أ)
ظهور القومية العربية كمنافس للإسلام، مما يسبب أحيانًا لدى السكان ولاءً مزدوِجًا أو محاولة للاختيار أو التوفيق.
- (ب)
اشتداد العلمانية نظرًا لارتباط المنطقة بالغرب الحديث منذ مدة طويلة.
- (جـ)
وجود كثير من المسيحيين، خاصة في لبنان، مما يجعل الولاء للعروبة بديلًا مطروحًا باستمرار عن الهُوية الإسلامية.
- (د)
خطورة الطائفية، خاصة في لبنان وسوريا والعراق، مما يؤدي أحيانًا إلى الحرب الأهلية.
- (أ)
-
(٣)
المغرب العربي (ليبيا، تونس، الجزائر، المغرب، موريتانيا) ويمتاز بالآتي:
- (أ)
اتحاد الإسلام بالوطنية، كما هو الحال في تونس والجزائر والمغرب، وغياب القومية كعنصر متوسط بين الإسلام والوطنية.
- (ب)
تحول الإسلام إلى أسلوب حياة، ونمط حضارة، وثقافة وفن، كما هو واضح في العمارة العربية والموسيقى الأندلسية.
- (جـ)
الارتباط بالمشرق عند جماهير الشعب، بالرغم من ارتباط بعض المثقفين بالغرب، مما يسبب خُلفًا بين الجماهير والقادة.
- (د)
ظهور بعض النعرات العِرقية بين البربر، خاصة في الجزائر والمغرب.
- (هـ)
وجود الدولة القوية على مدى التاريخ، خاصة في المغرب.
- (و)
ارتباط الإسلام بالطبيعة والحياة، خاصة في المغرب، أكثر من ارتباطه بالحلال والحرام كما هو الحال في المشرق.
- (ز)
عشق الثقافة الشرقية واللهجات الشرقية، خاصة المصرية، والتتلمذ على أيدي أساتذة المشرق. فلا توجد حركة مشرقية إلا ولها ارتداداتها في المغرب.
- (أ)
-
(٤)
شبه الجزيرة العربية: وتمتاز بالآتي:
- (أ)
القبلية العشائرية، وعدم وجود عَلاقات اجتماعية إلا من خلال القبيلة.
- (ب)
اجتماع الثروة النفطية مع المحافظة الدينية جعل الإسلام يُستعمل كأكبر مشرع وحارس للاستيلاء على الثروة.
- (جـ)
مخاطر الثورة العربية أولًا ثم الثورة الإسلامية ثانيًا جعل النظم السياسية تمثل أداة قهر دفاعًا عن نفسها.
- (د)
مخاطر الوهَّابية الجديدة في الداخل التي ترى البون الشاسع بين آراء محمد بن عبد الوهَّاب وما يجري حاليًّا في الحجاز.
- (هـ)
وجود بعض أنظمة أكثر ليبرالية وانفتاحًا على أطراف شبه الجزيرة في الشمال (الكويت) والشرق (البحرين وعمان) والجنوب (اليمن) مما يجعل الوسط التقليدي محاطًا بأطراف أكثر التصاقًا بالحداثة.
- (و)
وجود الحرم الشريف في مكة وموطن ميلاد الرسول وذكريات الصحابة يجعل الحجاز قبلة للمسلمين جميعًا، ويعطيها نوعًا من الزعامة الدينية.
- (ز)
وجودها وسط الصحراء جعلها أقل تعرضًا للحداثة وأكثر ارتباطًا بالتقليد.
- (ﺣ)
نظرًا للثروة النفطية والحكم القبلي، تركزت الثروات في أيدي العائلة الحاكمة التي يُضرب بها المثل في الغنى والترف والإسراف، في نفس الوقت الذي يموت فيه الآلاف من المسلمين جوعًا وقحطًا في تشاد وغيرها من المناطق الصحراوية.
- (أ)
هذه الخصوصيات تُؤخذ في الاعتبار عند وصف الحركات الإسلامية المعاصرة كتيار عام حتى يظهر الجدل بين الخاص والعام.
هذا مجرد تخطيط عام في حاجة إلى توثيق، وإطار شامل يحتاج إلى ملء الفراغات بالبحث العلمي الرصين والمسح الاجتماعي الدقيق.