الفصل السابع والعشرون

حياة ابن دراج

كان أبو عمر أحمد بن درّاج القسطلي المتوفى سنة ٤٢١ للهجرة من كبار الشعراء، وكان بصقُع الأندلس كالمتنبي بصقُع الشام، كما قال صاحب اليتيمة، وكان له ديوان شعر في جزأين، كما ذكر صاحب وفيات الأعيان، وكان يجيد النثر، كما نص صاحب الذخيرة، ولكن الزمان لم يترك لنا ما نعرف به صدق ما قاله في وصفه مؤرخو الآداب، فقد ضاع ديوان شعره١، وضاعت رسائله البليغة، ولم يبق من آثار فضله إلا بقايا ضئيلة لا تكفي في الإبانة عن منزلته في عالم البيان.

ولنذكر أولًا ما قاله المؤرخون في وصفِه، ثم ننتقل إلى وصف نثره وشعره بقدر ما تسمح به الشواهد والأمثال.

قال ابن بسام في الذخيرة: «كان أبو عمر القسطلي في وقته لسان الجزيرة شاعرًا وأولًا حين عدّ معاصريه من شعرائها، وآخر حامل لوائها، وبَهجة أرضها وسمائها وأسوَة كُتابها وشعرائها … به بُدئ ذكر الجميل وخُتم، حَل اسمه من الأماني محل الأنس، وأحد من تضاءلت الأول عن جلالة قدره، وكانت الشام والعراق خطر ذكره، وقد أحرى الثعالبي طرفًا من أمره، وأغرب بلمع من شعره»، ثم قال: «وإنما ذكرته هنا وإن كان من شعراء ابن أبي عامر؛ لأنه تراحت أيامه، وأغضى عنه حمامه، حتى أخرجته المحّن، وسالت به تلك الفتن».

والقارئ يرى في عبارة ابن بسام شيئًا من اللبس والغموض، وهذا يرجع إلى سببين: أولهما أن كتاب الذخيرة مُنّي بالمسخ والتحريف، ولا يزال إلى الآن مخطوطًا يجده الباحث في دار الكتب المصرية، وثانيهما أن ابن بسام يؤثر السجع، والسجع قيدٌ يضطر الكاتب إلى التعثر، فتظهر في عباراته آثار الضعف والاضطراب.

وقال أبو حيان: «أبو عمر القسطلي سابق حلبة الشعراء العامريين، وخاتمة محاسن أهل الأندلس أجمعين، كان ممن طَوحت بهم تلك الفتنة الشنعاء، واضطرته إلى النجعة، فاستقر ملوك الأندلس أجمعين، يهز كلَّا بمدحه، ويستعينه على نكبته وليس منهم من يصغي له، أو يحفظ ما أضيع من حقه، وأرخص من عقله وهو يخبطهم بمقوّله٢ فيصمّون عنه، إلى أن أناخ بساحة المنذر بن يحيى أمير سرقطسة، فألقى عصا سيره عندما بوأه، ورحب به وأوسع قراه، ولم يزل عنده وعند ابنه بعده».
وقال ابن فضل الله، كما ذكر صاحب معاهد التنصيص بعد ذكر قصيدة ابن دراج التي عارض بها أبا نواس:

ومن وقف على هذه القصيدة وقصيدة أبي نواس عرف فضل قائلها على مَن تقدم، وشهد له بأنه سبق وإن تأخر، وجزم بأن الرجال معادن، ولم يَشُك أن الخواطر موارد لا تنزح، وأن الأفكار مصابيح لا تطفأ، وأن الأفهام مَرَاءٍ لا تتناهى صورها، وأن العقول سحائب لا ينفد مطرها، وعلم أن المعاني غير متناهية، والفضائل غير متوارية، وأن أم الليالي ولود، وأن الفضل في كل حين مشهود، وأن هذا الشاعر في قصيدته هذه التي عارض بها أبا نواس، لم يّدع له عارضًا يُسْتَمطر، ولا عارضةً تُذكَر. وإنه لحقيق أن ينشد:

وإنِّي وَإِنْ كُنْتُ الأخِيرَ زَمَانُهُ
لآتٍ بِمَا لم تَسْتَطِعْهُ الأوَائِل

وكذلك كانوا يرون في ابن دراج شاعرًا مفلقًا يبخل بمثله الزمان، ولكن عدوان الحوادث على آثاره الأدبية حال بيننا وبين التثبت من صدق ما حكم به المتقدمون.

شيء من نثره

يغلب السجع في نثر ابن دراج، ويجد فيه القارئ شيئًا من مستملح التشبيه، ولنذكر القطعة الآتية على سبيل التمثيل:

حاش لله أن أستشف المسيل قبل جموحه، وأستكره الدر قبل حفوله، أو أتعامى عن سراج المعذرة، وأغفل عن الأدب الباهر في نظرة إلى ميسرة … ولكن.

ماذا تقُول لِأفَراخٍ بِذِي مرخ
حُمْرِ الحَوَاصِل لا مَاءٌ ولا شَجَرُ
ما أَوضحَ العُذر لِي لو أَنَّهم عَذَروا
وأجمَل الصَّبر بِي لو أَنَّهم صَبرُوا
لكِنَّهُم صَغُروا عَن أزمَةٍ كَبُرَت
فَمَا اعتِذَارِي عَمَّن عُذرُه الصِّغَرُ

وقد قلبت لهم ظهر مجن الأمور، وميزت بين الميسور والمعسور، فما وجدت أحسن بدءًا، ولا أحمد عودًا مما أذن الله لعباده الذين أعمرهم أرضه، وسخّر لهم بحره وبره، أن يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه، وحيث نتقلّب ففي كرمك، وأين نأمن ففي حَرَمِك، وحيث توحشنا دعوتك ولا تعدمنا نعمتك، فمن ملكك إلى ملكك، ومن يمينك إلى شمالك.

وفي كتاب الذخيرة عدة قطع على هذا الأسلوب، وإن كنت أرتاب في نصوصها لما في ذلك الكتاب من التحريف.

شيء من شعره

نعود فنذكر أن الدهر ضنّ علينا بآثار هذا الشاعر المجيد، فليرضَ القارئ بما نختاره من تلك القصائد التي أثبتها صاحب اليتيمة، أحسن الله له الجزاء، وإنا لنستجيد قوله في لوعة الشوق:

وَحشِيَّة اللَّفظ هَل يُؤذَى قَتيلُكم
دَمِي مُضَاع وَجَاني ذَاكِ عيَناك
إنِّي أرَاكِ بَقَتل النَّفسِ حَاذِقةً فديتك
قُولِي فَدّيتٌك مَن بِالقَتل أوصَاك
مَالِي ولِلبَرق أستَسقِيه مِن ظَمِأ
هَيهَات لا رِيَّ إِلَّا مِن ثَنَايَاك
لَولَا الضُّلوع لَظَلَّ القَلب نحوَكمُ
ضَعِي بِعينِك فَوقَ القَلب يُمنَاك
أْصلَيتِنِي لَوْعَة الهِجْرَان ظَالِمة
رُحمَاك مِن لَوعَة الهِجْرَان رُحمَاك

ونستجيد قوله في وصف السفن تشق عباب المحيط:

إلَيك شَحَنَّا الفُلَكَ تَهوِي كَأنَّها
وَقَد ذُعِرَت عَن مَغِرب الشَّمسِ غِربَانُ
عَلَى لُجَجٍ خُضْرٍ إذَا هَبَّت الصَّبَا
تَرَامَى بِنا فيهَا ثَبِيرٌ وَثَهلان
وَإن سَكَنَت عَنَّا الرَّيَاح جَرَى بِنَا
زَفِيرٌ إلَى الأحِبَّة حَنَّانُ
يَقُلنَ وَمَوَجُ البَحْر وَالهَمِّ والدُّجَى
تَمُوج بِنَا فِيهَا عُيُونٌ وَآذَان
ألا هَلْ إلَى الدُّنيَا مَعَادٌ وهَل لنَا
سِوَى البَحْر قَبرٌ أو سِوَى الماء أكفَانُ
وَهَبْنا رَأينَا مَعْلَم الأرضِ هل لنَا
مِن الأرْض مَأوىً أو مِنَ الإِنسِ عرْفَانُ
هَوَت أُمَّهُم مَاذا هَوَت بِرجَالِهِم
إلى نَازِح الآفَاقِ سُفْنٌ وَأظعَانُ
كَوَاكِبُ إلَّا أنَّ أفْلَاكَ سَيْرِهَا
زِمَامٌ وَرَحْلٌ أو شِرَاعٌ وَسُكّانُ

وفي هذه القصيدة يقول في شكوى الزمان، وتوديع الأحباب:

وإنَّ بِلَادًا أخْرَجَتني لَعَاطِّلٌ
وإنَّ زَمَانَا خَان عَهدِي لَخوَّانُ
سَلَامٌ عَلى الإخوَانَ تَسْلِيم آيِسٍ
وَسَقْيًا لِدَهرٍ كَان لِي فِيه إِخوَانُ
فَلا مُؤنِسٌ إلَّا شَهِيقٌ وَزَفرَةٌ
ولا مُسعِدٌ إلَّا دُمُوع وأجفَانُ
وَمَا كَان ذَاك البَيّنُ بَينَ أحِبّةٍ
وَلَكِنْ قُلُوبٌ فَارَقَتْهُنَّ أَبدَانُ

وما أوجَع ما يقول:

فَيا عَجَبًا لِلصَّبْر مِنَّا كَأنَّنا
لَهم غَيرُ مَنْ كُنا وَهُم غَيرُ مَن كَانوا
مَضَى عَيشُهُم بَعْدي وَعَيشِي بَعدَهُم
كَأنِّي قَد خُنتُ الوَفَاءَ وقَد خَانوا

ومن مختار القصيد قوله:

لَكَ الله بِالنَّصْرِ العَزِيزِ كَفيلُ
أَجَدَّ مُقامٌ أَم أَجَدَّ رَحيلُ
هُوَ الفَتحُ أَمَّا يَومُهُ فَمُعَجَّلٌ
إلَيكَ وَأَمَّا صُنعُهُ فَجَزِيلُ
وآيَاتُ نَصرٍ مَا تَزَالُ وَلَمْ تَزَلْ
بِهنَّ عَمَاياتُ الضَّلالِ تَزولُ
سُيوفٌ تنُيرُ الحَقَّ أنَّى انْتَضَيْتَها
وَخَيلٌ يَجولُ النَصرُ حَيْثُ تَجولُ
أَلا فِي سَبِيلِ اللهِ غَزوُكَ مَن غَوى
وَضَلَّ بِهِ فِي النَّاكثينَ سَبِيلُ
لئِنْ صَدِئَتْ أَلبابُ قَومٍ بِمَكرِهِمْ
فَسَيفُ الهُدَى فِي رَاحَتَيْكَ صَقِيلُ
وَإِنْ يَحْيَ فِيهم مَكْرُ جَالُوتَ جَدِّهِمْ
فَأَحجَارُ دَاودٍ لَدَيْكَ مُثُولُ
خَفِيفٌ عَلَى ظَهرِ الجَوَاد إِذَا عَدَا
وَلكِن عَلَى صَدْرِ الكَمِيِّ ثَقيلُ
وَجَردَاءَ لَمْ تَبخَل يَدَاها بِغَايَةٍ ولا
كَرُّهَا نَحو الطَّعَان بَخيلُ
لَها مِن خَوَافي لَقْوَةِ الجَوِّ أَرْبَعٌ
وَكَشحَانِ مِن ظَبِي الفَلا وَتَلِيلُ
وَبيضٌ تَرَكْنَ الشِّرْكَ فِي كُل مُنْتَأىً
فُلُولًا وَمَا أَزرَى بِهِنَّ فُلُولُ
تَمُورُ دِمَاءُ الكُفرِ فِي شَفَراتِها
وَيَرجِعُ عَنها الطَّرْفُ وَهوَ كِليلُ
وَأَسمَرَ ظَمآنِ الكُعُوبِ كَأَنَّمَا
بِهِنَّ إِلَى شُرْبِ الدِّمَاءِ غَليلُ
إِذا مَا هَوَى لِلطَّعْنِ أَيقَنْتَ أَنَّه
بِصَرف الرَّدَى نَحْو النُّفُوس رَسُولُ

وفيها يقول:

كَتائبُ عِزُّ النصرِ فِي جَنَبَاتِها
وكُلُّ عَزِيزٍ يمَّمَتْه ذليلُ
يَسَيِرُ بِهَا فِي البرِّ والبَحرِ قَائدٌ
يَسِيرٌ عَلَيْهِ الخَطْبُ وَهْوَ جَلِيلُ
إِذا انْشَقَّ لَيْلُ الحَربِ عَن صُبْحِ وَجْهِهِ
فَقَد حَانَ مِن يَومِ الضَّلاَلِ أَفُولُ

وله قصيدة عينية بديعة نوهت بها الذخيرة، ولكنها لم تسلم من التحريف، نختار منها قوله:

فَمَا تَجَاوَزْتُ قَرْنَ اللَّيْل مُعتَسِفًا
إِلّا وقَرن رَخيم الدَّلِّ بَارِعُهُ
تَحِيَّتي مِنه تَقبيلٌ ومُعتَنَقٌ
يَشُدُّنِي غُلُّهُ فِيهِ وجَامعُهُ
لَم أخلَعِ الدِّرْعَ إِلّا حِينَ شَقَّقَهُ
عَن صفَحِ صَدريَ مَا تَحوي مَدَارِعُهُ
ولا تَوَقَّيتُ سَهْمًا مِنْ لَواحِظِهِ
يُذيبُ سَيفِي وَفِي قَلبي مَواقِعُهُ
غُصْنٌ تَجَرَّعَ أَندَاءَ الغَمَام فَمَا
يُطوَّقُ الدُّرَّ إِلّا وَهْو جَازِعُهُ
يَميسُ سُكْرًا وسُكرُ الدَّلِّ عَاطِفُهُ
وَتَارَةً وانثِنَاءُ الوَشْيِ لاذِعُه
فَبِتُّ تَحْتَ رِوَاقِ اللَّيلِ ثَانِيَهُ
والشَوْقُ ثَالِثُنا والوَصْلُ رَابعُهُ
والسِّحْرُ مِن لَفظٍ يُنَازِعُني
والمِسكُ يَعبقُ مِن كَأْسٍ أُنَازِعُهُ
رَاحًا يَمُدُّ سَنَاهَا نُورُ رَاحتِهِ
لَولا النُّهى لجَرَتْ فِيهَا أَصَابعُهُ
كَأَنَّما ذَاب فِيهَا وَرْدُ وَجْنتِه
وَشجَّهَا رِيقُه المعْسُول مَائِعُهُ
جَنَى حَيَاةٍ دَنتْ مِنِّي مَطَاعِمُهُ
مِن بَعدِ مَا قَدْ نَأتْ عنِّي مطامِعُهُ
قَدْ أَنهَبَ المِسْكَ والكَافُورَ خازِنُهُ
وأرخِصُ الوَرْدَ والتُّفاحَ بَائِعُهُ
فيا ظَلامَ نُجومِ اللَّيْلِ إِذْ حُرِمَتْ
بَدْرَ السماءِ وَفِي حِجري مَضَاجِعُهُ
ويا حَنِينَ ظِبَاءِ القَفْرِ إذ فَقدَتْ
غَزَالَهُنَّ وَفي رَوْضِي مَرَاتِعُهُ

رائية ابن دراج

وأشهر قصائد ابن دراج رائيته في مدح المنصور بن أبي عامر، التي عارض بها رائية أبي نواس في مدح الخصيب، وقد ضن الدهر علينا أيضًا بهذه القصيدة، فلم تبق منها إلا قطع مبعثرة هنا وهناك٣، وقد راجعت كل ما وصلت إليه من تاريخ الأندلس، وسألت كل من أعرف أنه شغُل بتاريخ الأدب في تلك البلاد، ثم لم أظفر بمطلع هذه القصيدة، وإنما يبدءون بقوله:
ألَم تعلَمِي أنَّ الثَوَاء هُو التَّوَى
وأنَّ بُيُوتَ العَاجِزِينَ قُبُورُ
ومن البعيد أن يكون هذا البيت هو المطلع، إذ يبعد أن لا يضع الشاعر مقدمة لهذا الحوار٤.

ولنأخذ في الموازنة فنذكر أن قول أبي نواس:

تَقُولُ التي مِن بَيتهَا خَفَّ مَرْكبَي:
عَزِيزٌ عَلينَا أن نَرَاكَ تَسِيرُ
أمَا دُونَ مِصْرٍ للِغنَى مُتَطَلّبٌ؟
بَلَى إنّ أسْبابَ الغِنَى لَكَثيرُ
فَقُلتُ لَها واستَعجَلَتْها بَوَادِرٌ
جَرتْ فَجَرى مِن جَرْيِهِنَّ عبَيرُ:
ذَرِيني أكَثّرْ حَاسِدِيكِ بِرِحْلَة
إلى بَلَدٍ فِيه الخَصِيبُ أميرُ

هذه القطعة دون قول ابن دراج:

ألَم تعلَمِي أنَّ الثَوَاء هُو التَّوَى
وأنَّ بُيُوتَ العَاجِزِينَ قُبُورُ
وأنَّ خَطِيرَات المَهَالِك ضُمَّنٌ
لِرَاكِبِهَا أنَّ الجَزَاءَ خَطِير
تُخَوِّفُني طُول السِّفَار وإِنَّه
بِتَقبِيل كَفِّ العَامِرِيّ جَدِير
ذَرِيني أَرِد مَاء المَفَاوِزِ آجِنًا
إلى حَيْثُ مَاء المَكْرُمَات نَمِير

وقد بلغ ابن دراج ذروة البلاغة، وبذ أبا نواس وبَرَعَه، بقوله في توديع زوجه ووليده:

ولَمَّا تَدانَت لِلوَدَاع وَقَد هَفَا
بِصَبْرِي مِنْهَا أَنَّةٌ وَزَفير
تُنَاشِدُني عَهْد المَوَدّة وَالْهَوى
وَفي المَهْد مَبْغُوم النِّدَاء صغير
عَييٌّ بِمَرجُوع الخِطَاب وَلحْظُه
بِمَوقع أهْوَاء النُّفُوِس خَبِير
تَبَوَّأ مَمْنُوع القُلُوبِ وَمُهِّدَت
لَه أَذْرُعٌ مَحْفُوفَة وَنُحُور
عَصَيْت شَفِيع النَّفْس فيه وَقَادَني
رَوَاح لِتَدْآبِ السُّرَى وبُكُور
وَطَار جَنَاح البَيْنِ بِي وَهَفَت بِهَا
جَوَانِح مِن ذُعْرِ الفِرَاقِ تَطِير
لَئنْ وَدَّعَت مِني غَيُورًا فَإِنَّني
عَلَى عَزْمَتِي مِن شَجوِها لَغَيْور

ولا لوم على أبي نواس في أن خلت قصيدته من مثل هذا الموقف الحزين، إذ لم يترك ببغداد زوجة ينازعه إليها الوفاء، ولا طفلًا تعطفه إليه نوازع الشوق ولواعج الحنين.

وأحب أن لا يفوت القارئ ترجيع هذا البيت:

تُنَاشِدُني عَهْد المَوَدّة وَالْهَوى
وَفي المَهْد مَبْغُوم النِّدَاء صغير

وكلمة «مبغوم النداء» كلمة مختارة بارعة المدلول، وقوله:

عَييٌّ بِمَرجُوع الخِطَاب وَلحْظُه
بِمَوقع أهْوَاء النُّفُوِس خَبِير

بيت نادر المثال، وقوله:

تَبَوَّأ مَمْنُوع القُلُوبِ وَمُهِّدَت
لَه أَذْرُعٌ مَحْفُوفَة وَنُحُور

من أرق ما صور به الحنان، وما أوجع ما يقول:

عَصَيْت شَفِيع النَّفْس فيه وَقَادَني
رَوَاح لِتَدْآبِ السُّرَى وبُكُور
وَطَار جَنَاح البَيْنِ بِي وَهَفَت بِهَا
جَوَانِح مِن ذُعْرِ الفِرَاقِ تَطِير

وانظر تصوير الحزم بقوله:

لَئنْ وَدَّعَت مِني غَيُورًا فَإِنَّني
عَلَى عَزْمَتِي مِن شَجوِها لَغَيْور

وقول أبي نواس:

ولَمّا أتَتْ فُسْطاطَ مِصْرٍ أجارَهَا
على رَكبِهَا أن لا تَزَالَ مُجِيرُ
مِن القَوْمِ بَسّامٌ كأنَّ جَبِينَهُ
سَنَا الفَجْرِ يَسْري ضَوءه ويُنيِرُ
زَهَا بالخَصِيبِ السّيْفُ والرُّمحُ في الوَغَى
وفي السِّلْمِ يَزْهُو مِنْبَرٌ وسَرِيرُ
جَوَّادٌ إذَا الأيْدِي كَفَفْنَ عَن النَّدَى
ومِن دونِ عَوْرَاتِ النَّسَاءِ غَيُورُ
لَهُ سَلَفٌ في الأعجَمِين كَأنَّهُمْ
إذَا اسْتُؤذِنُوا يَوْمَ السَّلامِ بدُورُ

في هذه القطعة سلاسة وجلاء، وهي أروع من قول ابن دراج:

تَلاقَت عَلَيه مِن تَمِيمٍ ويَعْرُبِ
شُمُوسٌ تَلَالَا في العُلَا وَبُدُورُ
مِن الحِميَريْنَ الذِين أكُفُّهُم
سَحَائِبُ تَهْمِي بِالنَّدَى وبُحُورُ
هُمو صَدَّقُوا بِالوَحْي حِينَ أتَاهُمُ
وَمَا النَّاسُ إلّا عَابِدٌ وكَفُور
مَنَاقب يَعيَا الوَصْف عَن كُنْه قَدْرِها
وَيَرْجِع عَنْهَا الوَهْم وَهْو حَسِير
أَلا كُلُّ مَدْحِ عَنْ نَدَاك مُقَصِّرٌ
وَكُلٌ رَجَاءٍ في سِوَاكَ غُرُور

ونحن حين نقابل هذه القطعة بكلمة أبي نواس نرى التكلف ظاهرًا في أبيات ابن دراج، وليتأمل القارئ قوله:

مَنَاقب يَعيَا الوَصْف عَن كُنْه قَدْرِها
وَيَرْجِع عَنْهَا الوَهْم وَهْو حَسِير

فهو ظاهر الغُلُو، واضح التكلف، أما قوله:

هُمو صَدَّقُوا بِالوَحْي حِينَ أتَاهُمُ
وَمَا النَّاسُ إلّا عَابِدٌ وكَفُور

فهو بيت ضعيف.

وقد وصف أبو نواس رحلته إلى مصر وصفًا لا قيمة له، أما ابن دراج فقد أجاد الوصف حين قال:

وَلوْ شَاهَدَتنِي وَالهَوَاجِر تَلْتَظِي
عَلَيَّ وَرَقرَاق السَّرَاب يَمُور
أسَلِّط حَرِّ الهَاجِرَات إذَا سَطَا
عَلَى حُرِّ وَجْهِي وَالأَصيل هَجِير
وأَسْتَنْشق النَّكْبَاء وَهْي لَوَاقِح
وأَسْتَمطِئ الرَمْضَاءَ وَهْي تَفُور
وَللمَوْت في عَيْن الجَبَان تَلَوُّنٌ
وَلِلذُّعْرِ في سَمْع الجَرِيء صَفِير
وَلَو شّاهَدتنِي وَالسُّرَى جُلُّ عَزْمَتي
وَجَرْسي لِجِنَّان الفَلاَة سَمير
وَأَعْتَسِف المَوْمَاة في غَسَق الدُّجَى
وَلِلأسْد في غِيل الغِيَاض زَئِير
أَميرٌ عَلَى غُول التَّنَائِف مَالَه
إِذَا رِيعَ إلا المَشْرَفِي وَزِير
وَقَدْ خَيَّلَتْ طُرْق المَجَرّة أّنَّهَا
عَلَى مَفَرِق اللّيْل الّبهِيم قَتِير
وَدَارَت نُجُوم القْطُبِ حَتى كَأَنَّهَا
كئوسُ طَليّ والَى بِهِن مُدِير
لَقَد أَيْقَنَت أَنَّ المُنَى طَوْعَ هِمَّتِي
وَأَنِّي بِعَطْفِ العَامِريُّ جَدِير
وهذا شعر جَزلٌ رصين، ومن المحزن أن السياق يدلنا على أن هذه القطعة الوصفية ضاع منها شيءٌ كثير٥.

•••

وقد انفرد ابن دراج بالإجادة في وصف هيبة اللقاء حين قال:

وَلَما تَوَافَوا لِلسَّلاَم وَرُفِّعَت
عَن الشَّمْسِ في أُفْقِ الشُّرْوق سُتُور
وَقَد قَاَم مِن زُرْق الْأَسِنَّة دونَه
صُفُوف ومِن بِيضِ السُّيْوف سُطُور
رَأَوْا طَاعَةَ الرَّحْمن كَيْف اعتِزَازُهَا
وَآيَات صُنْع الله كَيْف تُنِير
وَكيْف اسْتَوى بِالبِرِّ والبَحرِ مَجْلِسٌ
وَقَام بِعِبء الرَّاسِيَاتِ سَرِير
فَسَارُوا عِجَالاُ والقُلُوب خَوَافِقٌ
وَأَدْنُوا بِطَاء والنَّوَاظِر صُور
يَقُولون والإِجْلَال يُخْرِس أَلسُنا
وَحَازت عُيُونٌ مِنهُمُ وصُدْور
لَقَد حَاطَ أَعْلَام الهُدى بِكَ حَائِطٌ
وَقَدَّر فِيكَ المَكْرُمات قَدير

وهذه الصورة الشعرية تراءت للشاعر بفضل قول البحتري في هيبة اللقاء:

وَلَمَّا قَضّوا صّدْر السَّلاَم تَهَافْتُوا
عَلى يَدِ بسَّامٍ سجيّنُه البذْلُ
إِذَا شَرَعوا في خُطبَةٍ قَطَعَتهُمُو
جَلاَلَة طلق الوَجْه جَانُبه سهُل
إذا نَكَّسَوا أبْصَارَهُم مِن مَهَابةٍ
وَمَالوا بِلَحظٍ خِلت أنَهُمو قُبْل
نَصَبتَ لَهُم طَرفًا حَديدًا وَمَنطِقًا
سَديدًا وَرَأيًا مِثْل ما انتُضِي النَّصْل
فَمَا بَرِحْوا حَتَّى تَعَاطَتْ أكْفُهْم
قِرَاكَ ولا ضِغْنٌ لَدَيْهم ولا ذحل
بِك التأمَ الشَّعبُ الَّذي كَانَ بَينَهُم
عَلى حين بُعْدٍ مِنْه واجْتَمَع الشَّمل

وأبيات البحتري في هيبة اللقاء انتهبها كثير من الشعراء. وأذكر أن فقيد الشباب عبد الحليم المصري قدم إلينا قصيدة لنشرها في جريدة الأفكار سنة ١٩٢٠م في مدح الملك فؤاد، فوجهت نظره إلى ما انتهب من معاني البحتري، فغضب، ولم يصلح بيننا إلا الصديق عبد العزيز دعبيس.

١  سيرى القارئ في هامش مقبل أن الديوان لم يضع.
٢  المقول: اللسان.
٣  أصبحت القصيدة كلها تحت يدنا، وعرفنا أن الديوان لم يضع، فهو في مخطوط خزانة المؤرخ الكبير النقيب مولاي عبد الرحمن بن زيدان من أمراء البيت الملكي في المغرب، وقد تفضل السيد محمد بن عباس القباج، فأرسل لنا الرائية كاملة، فله منا أطيب الثناء.
٤  هذا هو المطلع:
دعي عزمات المستضام تسير
فتنجد في عرض الفلا وتغور
لعل بما اشجاك من لوعة النوى
يعز ذليل أو يفك أسير
٥  أشرت من قبل إلى أن هذه القصيدة صارت كلها تحت يدي بفضل صديقنا القباج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤