الفصل الثامن والعشرون

بين صبري ومطران

١

نوازن في هذا البحث بين نونّيتين من شعر إسماعيل صبري وخليل مطران، ونرى من الخير أن نذكر طائفة من أخبار إسماعيل صبري وأشعاره، ونبدأ فنذكر أنه ولد في ١٦ فبرايل سنة ١٨٥٤، وتوفي في مطلع الربيع صباح ٢١ مارس سنة ١٩٢٣، وكان من رجال القانون، وآخر منصب تولاه هو منصب وكيل وزارة الحقانية.

كان صبري شاعرًا مجيدًا، ولكنه لم يكن من المكثرين، وقد وصل إلى أبعد حدود التفوق في المعاني الوجدانية، واتفق له أن يغّذَي الغناء حينًا من الزمان، وهو صاحب المّوال الذي كان يغنيه المطربون في أواخر السهرات:

الفَجر أهُو لاحْ قُومُوا يَا تُجَّارْ النُّوم
عَجَب تَنَامُوا وعَيْنِي ما تُشوف النُّوم
نَزَلت بَحْر المَحَبَّة أحسِب أنَّهُ عُوم
غَرقْت قالُوا جَميع النَّاس تسْتَاهِل
عِشْق الجَمَال غَنْدَرَه اليُومْ وغِيْر اليُومْ

وهو صاحب هذا الدور:

قَدَّكْ أمِير الأَغْصَان
منْ غير مُكَابِر
وَوَرْد خَدَّاك سُلْطَان
عَلَى الأزَاهِر
دَا الحُبّ كُلُّوا أَشجَان
يَا قَلْبِ حَاذِر
وَالصَّدّ وَيَّا الهِجْرَان
جَزَا المُخَاطِر
دور
يَا قَلبِ أدِنْتَ حَبِّيت
ورَجَعْت تِنْدَم
وَصَبَحت تِشْكِي مَا رِأيت
لَكْ حِدّ يِرحَم
صَدَّقْت قَولي وَرَأيتْ
ذُلَّ المُتَيَّم … …
يَامَا نَصَتَك وَنَهِيت
لَو كُنْت تفْهم
دور
أعْرض لحُسْنك أوْرَاق
وَاكْتُب وَدَوِّن
وَأَبَات صَرِيع الأَشوَاق
وَاكْتْب وَخَمِّن
دَا هَجْر وصَبَابِة وَفِرَاق
يَا رَبِّ هَوِّن
وَارْحَم قُلُوب العُشَّاقْ
دَا شيء يِجَنِّن
وللقارئ أن يلاحظ أن هذا من الشعر الملحُون، ولا يظهر حسنه إلا عند الغناء، وقد ظَلَّت هذه الأدوار على ألسنة الجماهير المصرية زمنًا غير قليل، وهي محفوظة في ألواح١.

ومضى صبري يَفتنُّ افتتانًا شائقًا في مغازلة الصباحة، وهو صاحب القصيدة المأثورة «تمثال جمال»، وفيها تظهر براعته في مناغاة الحسناء:

يا لِوَاءَ الحُسنِ أَحزابُ الهَوى
أَيقَظوا الفِتْنّةَ في ظلِّ اللِّواءِ
فَرَّفَتهُم في الهَوى ثَارَاتُهُم
فَاجمَعِي الأَمْرَ وَصُوني الأَبرِيَاء
إنَّ هذَا الحُسْنَ كَالمَاءِ الَّذي
فيهِ للْأَنفُسِ رِيٌّ وَشِفَاء
لا تَذُودِي بَعضَنَا عَن وِردهِ
دُونَ بَعْضٍ واعدِلِي بَيْن الظِّمَاء
أنتِ يَمُّ الحُسْنِ فِيهِ ازدَحَمَت
سُفُنُ الآمَالِ يُزجِيهَا الرَّجَاء
يَقذِفُ الشَّوقُ بِهَا في مَائجٍ
بَيْن لُجَّينِ عَنَاءٍ وَشَقَاء
شِدَّةٌ تَمضِي وَتَأتِي شِدَّةٌ
تَقتَفِيهَا شِدَّةٌ هَل مِن رَجَاء
سَاعِفي آمَالَ أنضَاءِ الهَوى
بِقبولٍ من سَجَاياكِ رُخَاء
وَتَجَلَي وَاجعَلي قَومَ الهَوى
تَحْتَ عَرش الشَّمسِ بِالحُكْم سَوَاء
أقبِلِي نَستَقبِل الدُّنْيَا ومَا
ضَمِنَته من مُعَدَّات الهَنَاء
واسفِري تِلكَ حُلًى مَا خُلِقَت
لِتُوَارَي بِلئَامٍ أو خِبَاء
واخطِري بَينَ النَّدَامَى يَحلِفوا
أنَّ رَوضًا رَاحَ في النَّادِي وَجَاء
وانطِقي يَنثُرِ إذا حَدَّثتِنَا
نَاثِرُ الدُّرِّ عَلَينَا ما نَشَاء
وَاِبسِمِي مَن كَان هذَا ثَغْرُهُ
يَملأ الدُّنيَا ابتِسَاما وازدِهَاء
لا تَخَافي شَطَطًا مِن أنفُسٍ
تَعثُرُ الصَّبوةُ فِيهَا بِالحَيَاء
رَاضَتِ النَخوةُ مِن أخلاَقِنا
وارتَضَى آدَابَنَا صِدْقُ الوَلاَء
فلَو امَتَدَّت أمَانِينا إِلَى
مَلَكٍ ما كَدَّرَت ذَاكَ الصَّفَاء
أنتِ رُوحَانِيَّةٌ لا تَدَّعِي
انَّ هذَا الشَّكل مِن طِينٍ ومَاء
وانزِعِي عَن جِسمِك الثَّوب يَبِن
لِلمَلَا تَكوِينُ سُكَّانِ السَّماء
وأَرِى الدُّنَيا جَنَاحَي مَلَكٍ
خَلفَ تِمثالٍ مَصوغٍ مِن ضِيَاء

وهو أيضًا صاحب الأبيات الحسان:

أَبُثُّكِ مَا بِي فَإن تَرحَمي
رَحِمتِ أَخَا لَوعَةٍ مَاتَ صّبَّا
وَأَشكُو النَّوَى مَا أَمَرَّ النَّوى
عَلَى هَائِمٍ إِن دَعَا الشَّوقُ لَبَّى
وَأِخشَى عَلَيكِ هُبُوبَ النَّسِيم
وَإن هُوَ مِن جَانِبِ الرَّوضِ هَبَّا
وَأَستَغفِرُ الله مِن بُرهَةٍ
مِنَ العُمرِ لَم تَلقَني فِيكِ صَبَّا
تَعَالَي نُجَدِّد زَمَانَ الهَنَاءِ
وَنَنهَب لَيَاليَهُ الغُرَّ نَهبَا
تَعَالي أَذُق بِكِ طَعْمَ السَّلام
وَحَسبِي وَحسْبُكِ مَا كانَ حَربَا

وهو الذي يقول:

تُمسِي تُذَكِّرُنَا الشَّبَابَ وَعهدَهُ
حَسنَاء مُرهَفَةُ القَوَامِ فَنَذْكُر
تَثِبُ القُلُوبُ إلى الرُّءوسِ إذَا بَدتْ
وَتُطِلُّ مِن حدقِ العُيونِ وَتنظُرُ

وهذا من وثبات الخيال.

وريحان هذا العصر أم كلثوم تغنِّي من شعره هذه الأبيات:

أَقصِر فُؤادي فَمَا الذِكرى بِنَافِعةٍ
ولا بِشَافِعَةٍ في رَدِّ مَا كَانَا
سَلا الفُؤَادُ الذَّي شَاطَرتَهُ زَمَنًا
حَملَ الصَّبابَةِ فَاخفِق وَحدَكَ الآنَا
هَلّا أخَذتَ لِهذَا اليَومِ أُهبَتَهُ
مِن قَبْلِ أَن تُصبِحُ الأَشوَاقُ أَشْجَانَا
لَهفِي عَلَيكَ قَضَيتَ العُمرَ مُقتَحِمًا
في الوَصْلِ نَارًا وفي الهِجْرانِ نِيرانا
وكانت داره بالمنيرة منتدى الأدباء والشعراء، وكانت له سهرات تفيض بالنمير العذب من الأدب الرفيع، وفي أواخر أيامه أمضّ المرض، فكانت زيارة الأدباء أحب إليه من عيادة الأطباء، وصفه الأستاذ أنطون الجميِّل فقال: «كان في عزلته يتطلع إلى أخبار الأدب كما يتطلع القائد الجريح إلى أخبار القتال٢».

وألهمته قسوة المرض قصيدة من الشعر الخالد الذي يصوّر آلام اليائس المحزون:

كَمْ سَاعَةٍ آلَمنِي مَسُّهَا
وَأَزعَجَتنِي يَدُهَا القَاسِيَه
فَتَّشْتُ فِيهَا جَاهِدًا لَم أَجِد
هُنَيهَةً وَاحِدةً صَافِيَه
وَكم سَقَتني المُرَّ أُخْتٌ لَها
فَرُحتُ أَشْكُوها إلَى التالِيَه
فَأَسْلَمَتني هذِه عَنْوَةً
لِساعَةٍ أُخرَى وَبِي مَا بِيَه
وَيْحَكَ يَا مِسْكِينُ هَل تَشْتَكِي
جَارِحَةَ الظُفْرِ إلَى ضَارِيَه
حَاذِر مِنَ السّاعات ويْلٌ لِمَن
يَأمنُ تِلْكَ الفِئَةَ الطَّاغِيَه
وَإن تَجِد مِن بَينِهَا سَاعَةً
جَعْبَتُهَا مِن غَصَصٍ خَالِيَه
فَالهُ بِهَا لَهْوَ الحَكِيم الَّذِي
لَم يُنْسِه حَاضِرُه مَاضِيَه
وَامرَح كَمَا يَمْرَحُ ذُو نَشوَةٍ
في قُلَّةٍ مِن تَحتِهَا الهَاوِيَه
فَهيَ وَإن بَشَّت وَإن دَاعَبَت
مُحتَالةٌ خَتّالَةٌ عَادِيَه
عِناقُهَا خَنْقٌ وَتَقبِيلُهَا
كَمَا تَعَضُّ الحَيَّةُ البَاغِيَه
هذَا هُو العَيشُ فَقُل لِلذِي
تَجرَحُهُ الساعةُ والثانِيَه
يا شاكيَ الساعاتِ أَسِمَع عَسَى
تُنجِيكَ مِنْهَا السَّاعَةُ القَاضِيَه

ولم يخل قلبه من سوء ظن بالناس، يدل على ذلك قصيدة (الفزع الأكبر) إذ يقول:

غَاضَ مَاءُ الحَيَاءِ مِن كُلِّ وَجهٍ
فَغَدَا كَالِحَ الجَوَانِبِ قَفْرا
وَتَفَشَّى العُقُوقُ في النَّاسِ حَتَّى
كَادَ رَدُّ السَّلاَمِ يُحسَبُ بِرًّا
أوجُهٌ مِثلَمَا نَثَرْتَ عَلَى الأَجْدَا
ثِ وردًا إِن هُنَّ أَبْدَين بِشْرا
وَشِفَاهٌ يَقُلْنَ أهلًا وَلَو أَدَّينَ
مَا فِي الحَشَا لمَا قُلنَ خَيرا
عَمْرَكَ اللهَ هلْ سَلَامُ وِدَادٍ
ذَاكَ أَم حَاوَلَ المُسَلِّمُ أمْرا

وفي هذه القصيدة يقول:

تَعِبَ الفَيلَسوفُ فِي النَّاسِ عَصرًا
وَتَوَلّى السَّرائِرَ الدِّينُ عَصرا
والوَرَى طَارِدٌ إزاءَ طَرِيدٍ
وَعُقَابٌ يُمسِى يُطَارِدُ صَقرا
وَجُيُوشٌ يُفُلُّ مِن بَعضِها البَعْـ
ـضُ وهُضْبٌ كُبرَى تُنَاطحُ صُغرَى
حَاذِرِي يا ذِئَابُ صَولَةَ أُسدٍ
مِنكِ أَقوَى نَابًا وأنفَذُ ظُفْرا
لا تَنَامِي يا أُسْدُ إنَّ ذِئَابًا
لَم تَنم مِن رَوَابِضِ الغَيلِ أَضرَى
عِبَرٌ كَلُّهَا اللَّيَالي ولكِن
أينَ مَن يَفتَحُ الكِتَابَ ويَقرَا

وما أحب أن يفوتني إثبات هذه الأبيات:

يا سَرْحَةً بِجِوَار المَاءِ نَاضِرةً
سَقَاكِ دَمعَي إِذا لم يُوفِ ساقيكِ
عَارٌ عَلَيكِ وَهَذا الظِّلُّ مُنتَشِرٌ
فَتكُ الهَجير بِمِثلي في نَواحيكِ
فمَن مُعِيري جَناحَي طائِرٍ غَرِدٍ
كَي أَقْطَعَ شَدوًا في أَعالِيكِ
فَلا أُنَفَّرَ عَن أَرضٍ غُرِسْتِ بِها
وَلا يَرِنُّ بِسَمْعِي غِيرُ وَاديكِ

وإنما أكثرنا من الشواهد؛ لأن شعر صبري لم يُجمَع في ديوان، فأحببنا أن يطلع على فرائده قراء هذا الكتاب، وقد حاول الأدباء غير مرة أن يجمعوا شعره ثم صرفتهم الشواغل عما يريدون، وكان صبري نفسه قليل الاهتمام بتدوين شعره وكان يسأل عن ذلك، فيجيب: وهبته للفناء!

٢

أما مطران فهو شاعر مدبع، وهو من المكثرين، وله وثبات لا ينهض بها إلا الفحول، وشعره مدوَّن نشرت منه المجموعة الأولى باسم — ديوان الخليل — وينتظر أن يُجمَع شعره كله في عدة أجزاء، وقد عرفنا مطران وصحبنا، وهو تحفة من تحف الذوق والوفاء، وله في النثر أسلوب مضمَّخ بالنفحات الشعرية، وهو رجل خصب الذهن، مثقف العقل، مرهف الإحساس. ومن خصائص مطران التلطف والترفق، فليس له في مصر عدو واحد، على قلة ما يتفق ذلك لأهل الأدب والبيان، وكان الناس يسمونه شاعر القطرين، فلما مات شوقي سمَّوه شاعر الأقطار العربية، مع أنه من أزهد الناس في الألقاب.

وقد تولى رياسة جمعية أبولَّلو في مصر بعد شوقي، وهي جمعية شعرية أثَّرت أبلغ تأثير في الشعر الحديث، ومن أقطاب هذه الجمعية الدكتور أحمد زكي أبو شادي والدكتور إبراهيم ناجي، وهما من أكثر الناس تغنيًا بالشعر بين أدباء هذا الجيل.

٣

نونية صبري

فرعون وقومه:

لا القَومُ قَوْمي وَلا الأَعْوانُ أَعَواني
إذا وَنَى يومَ تحْصيلِ العُلا وَانِي
وَلَسْتُ إن لَم تُؤَيِّدني فَراعِنَةٌ
مِنْكُم بِفِرعَون عالِي العَرشِ وَالشَّانِ
لا تَقْرَبوا النِّيلَ إِن لَم تَعْمَلوا عَمَلًا
فَمَاؤْهُ العَذْبُ لَم يُخْلَق لِكَسْلانِ
رِدُّوا المَجَرَّةَ كَدًّا دونَ مَورِدِهِ
أو فَاِطْلُبوا غَيْرَهُ رِيًّا لِظَمآنِ
وَاِبْنُوا كَمَا بَنَتِ الأَجْيالُ قَبلَكم
لَا تَترُكوا بَعْدَكَم فَخْرًا لإِنْسَانِ
أَمَرْتُكُم فَأَطِيعوا أَمْرَ رَبِّكُم
لا يَثْنِ مُسْتَمِعًا عَن طَاعَةٍ ثَاني
فَالمُلْكُ أَمْرٌ وَطاعاتٌ تُسابِقهُ
جَنْبًا لِجَنْبٍ إلَى غاياتِ إحْسانِ
لا تَترُكوا مُسْتَحِيلًا في اِسْتِحَالتِهِ
حَتَّى يُمِيطَ لَكُم عَن وَجْهِ إِمْكانِ

•••

مَقالَةٌ هَوَت مِن عَرْشِ قائِلِها
عَلى مَناكِبِ أَبْطالٍ وَشُجْعانِ
مَادَت لَها الْأَرْضُ مِنْ ذُعْرٍ وَدَانَ لَها
مَا في المُقَطَّمِ مِنْ صَخْرٍ وَصَوَّانِ
لَوْ غَيْرُ فِرعَونَ أَلْقاها عَلى ملإٍ
في غَيْرِ مِصْرَ لَعُدَّت حُلْمَ يَقْظانِ
لَكِنَّ فِرعَونَ إِن نادَى بها جَبَلًا
لَبَّت حِجارَتُه في قَبْضَةِ الْباني
وآزَرَتهُ جَماهيرٌ تَسِيلُ بِها
بِطاحُ وادٍ بِماضي القَومِ مَلْآنِ
يَبنونَ ما تَقِفُ الأَجْيالُ حائِرَةً
أمامَهُ بَيْن إعْجابٍ وَإذْعانِ
مِن كُلِّ ما لَم يَلِد فِكْرٌ وَلا فُتِحَت
عَلى نَظائِرِهِ في الكَوْنِ عَيْنانِ
وَيُشْبِهونَ إِذا طارُوا إلَى عَمَلٍ
جِنًّا تَطِيرُ بِأَمْرٍ مِنْ سُلَيْمَانِ
بِرًّا بِذي الأَمْرِ لا خَوْفًا وَلا طَمَعًا
لكِنَّهُم خُلِقُوا طُلّابَ إِتْقانِ

•••

أَهْرامُهُم تِلْك حَيِّ الفَنَّ مُتَّخِذًا
مِن الصُخورِ بُروجًا فَوْقَ كِيوانِ
قَدْ مَرَّ دَهْرٌ عَلَيْها وَهْيَ ساخِرَةٌ
بِما يُضَعْضَعُ مِن صَرْحٍ وَإِيوَانِ
لَم يَأخُذِ اللَّيْلُ مِنْها وَالنَهارُ سِوَى
ما يَأخُذُ النَّمْلُ مِن أَرْكانِ ثَهْلانِ٣
كَأنَّها — وَالعَوَادي في جَوانِبِها
صَرْعَى — بِناءُ شَياطِينٍ لِشَيْطانِ
جاءَتْ إِلَيْها وُفُودُ الأَرْضِ قاطِبَةً
تَسْعى اشتِياقًا إلى مَا خَلَّدَ الفاني
فَصَغَّرت كُلَّ مَوْجُودٍ ضَخَامَتُها
وَغَضَّ بُنْيانُها مِن كُلِّ بُنْيانِ
وَعادَ مُنْكِرُ فَضْلِ القَومِ مُعْتَرِفًا
يُثْنِي عَلَى القَوْمِ في سِرٍّ وَإِعْلانِ
تِلْكَ الهَياكِلُ في الأَمْصارِ شاهِدَةً
بِأَنَّهُم أهْلُ سَبْقٍ أَهْلُ إمْعانِ
وَأنَّ فِرعَونَ في حَولٍ وَمَقْدِرَةٍ
وَقوْمَ فِرعَونَ في الإِقْدامِ كُفؤانِ
إذا أَقامَ عَلَيْهِم شاهِدًا حَجَرٌ
في هَيكَلٍ قامَتِ الأُخْرَى بِبُرْهانِ
كَأنَّما هيَ وَالأَقْوامُ خاشِعَةٌ
أمامَها صُحُفٌ مِن عالمٍ ثاني
تَسْتَقبِلُ العَيْنَ في أَثْنائِها صُوَرٌ
فَصِيحةُ الرَّمْزِ دارَتْ حَوْلَ جُدْران
لَو أَنَّها أُعْطِيَت صَوْتًا لَكانَ لَه
صَدًى يُرَوِّعُ صُمَّ الإِنْسِ وَالجانِ

•••

أَيْنَ الأُلَى سَجَّلوا في الصَّخْرِ سِيرَتَهُم
وَصَغَّروا كُلَّ ذِي مُلْكٍ وَسُلْطان
بادوا وَبادَتْ عَلَى آثارِهِم دُوَلٌ
وَأدرِجوا طَيَّ أَخْبارٍ وَأكفانِ
وَخَلَّفُوا بَعْدَهُم حَرْبًا مُخَلَّدَةً
في الْكَوْنَ ما بَيْنَ أَحْجارٍ وَأَزْمانِ
وزُحْزِحُوا عَن بَقايَا مجدهم وَسَطا
عَلَيْهمُ العِلْمُ ذاكَ الجاهِلْ الجاني
وَيْلٌ لَهُ هَتَكَ الأَسْتَارَ مُقْتَحِمًا
جَلال أَكْرَمِ آثارٍ وأَعْيان
للْجَهْلُ أَرْجَحُ مِنْهُ في جَهَالّتِهِ
إِذا هُما وُزِنا يوْمًا بِميزانِ

٤

نونية مطران

قال، وقد رأى تمثال رمسيس الثاني في الأقصر:

أَكْبِرْ بِرَمْسِيسَ مَيْتاُ لاَ يُلِمُّ بِهِ
مَوْتٌ وَأَكْبِرْ بِهِ حَيًّا إِلَى الآنِ
لَوْلا تَمَاثِيلُهُ الأُخْرَى مُحَطَّمَةً
مَا جَالَ فِي ظَنِّ فَانٍ أَنَّهُ فَانِ
فِي مِصْرَ عَزَّ فِرْاعِينٌ فَمَا بَلَغُوا
بِها مَبالِغَهُ مِنْ رِفْعَةِ الشَّانِ
وَلَمْ يَتِمَّ لَهَا فِي غَيْرِ مُدَّتِهِ
مَا تَمَّ مِنْ فَضْلِ إِثْرَاءٍ وَعُمْرَانِ
تَخَيَّرَ الخُطَّةَ المُثْلَى لَهُ وَلَهَا
يَعْلُو فَتَعْلُو بِهِ وَالخَفْضُ لِلشَّانِي٤
مَا زَالَ بِالقَوْمِ حَتَّى صَار بَيْنَهُمُو
إِلهَ جُنْدٍ تُحَابِيهِ وَكُهَّانِ
وَرَبَّ سَائِمَةٍ بَلْهَاءَ هَائِمَةٍ
تَشْقَى وَتَهْوَاهُ فِي سِرٍّ وَإِعْلانِ
يَسُومُهَا كُلُّ خَسْفٍ وَهْيَ صَابِرَةٌ
لا صَبْرَ عَقْلٍ وَلَكِنْ صَبْرَ إِيمَانِ
إِنْ بَاتَ فِي حُجُبٍ بَاءَتْ إِلَى نُصُبٍ
يَلُوخُ مِنْهُ لَهَا مَعْبُودُهَا الجَانِي
فَبَجَّلَتْ تَحْتَ تَاجِ المُلْكِ مُدْمِيهَا
وَقَبَّلَتْ دَمَهَا فِي المَرْمَرِ القَانِي
مُخَلَّدًَا دُونَ مَنْ قَاموا برِفْعَتِهِ
مِنْ شُوسِ حَرْبٍ وَصُنَّاعٍ وَأَعْوَانِ٥
مُخَالِسًا ذِمَّةَ العَلْيَاءِ مُضْطَجِعًا
مِنْ مَهْدِ عِصْمَتِهَا فِي مَضْجَعِ الزَّانِي
بِحَيْثُ آبَ وَكُلُّ الفَخْرِ حِصَّتُهُ
وَلَمْ يَؤُبْ غَيْرُهُ إِلاَّ بِحِرْمَانِ
كَمْ رَاحَ جَمْعٌ فِدَى فَرْدٍ وَكَمْ بُذِلَتْ
فِي مُشْتَرَى سَيِّدٍ أَرْوَاحُ عُبْدَانِ

•••

كَلاَّ وَعِزَّتِهِ فِيما طَغَى وَبَغَى
وَذُلَّ مَنْ قَبِلَ الضِّيزَى بِإِذْعَانِ
هُمُ الَّذِينَ عَلَى عُسْرٍ بِمَطْلَبِهِ
قَدْ أَسْعَفُوهُ بِأَمْوَالٍ وَفِتْيَانِ
وَهُمُ عَلَى سَفَهٍ دَانُوا بِمَنْ نَصَبُوا
فَخَوَّلُوهُ مَدِينًا حَقَّ دَيَّانِ
فِيمَ الأُلَى صَنَعُوا أَنْصَابَهُ دَرَسَتْ
رُسُومُهُمْ مُنْذُ مَاتُوا رَهْنَ أَكْفَانِ
وَمَا لأَسْمَائِهِمْ دُونَ اسْمِهِ دُفِنَتْ
شُعْثًا مُنَكَّرَةً فِي رَمْسِ كِتمَانِ
لَيْتَ البِلادَ الَّتِي أَخْلاقُهَا رَسَبَتْ
يَعْلُو بِأَخْلاقِهَا تَيَّارُ طُغْيَانِ
أَلنَّارُ أَسْوَغُ وِرْدًا فِي مَجَالِ عُلًا
مِنْ بَارِدِ العَيْشِ فِي أَفْيَاءِ فَيْنَانِ
أَكْرِمْ بِذِي مَطْمَعٍ فِي جَنْبِ مَطْمَعِهِ
يَنْجُو الأَذِلاَّءُ مِنْ خَسْفٍ وَخُسْرَانِ
يَهُبُّ فِيهِمْ كَإِعْصَارٍ فَيَنْقُلُهُمْ
مِنْ خَفْضِ عَيْشٍ إِلَى هَيْجَاءِ مَيْدَانِ
بَعْضُ الطُّغَاةِ إِذَا جَلَّتْ إِسَاءَتُهُ
فَقَدْ يَكُونُ بِهِ نَفْعٌ لأَوْطَانِ
في كُلِّ مَفْخَرَةٍ تَسْمُو الشُّعُوبُ بِهَا
تَفْنَى جُمُوعٌ مُفَادَاةً لأُحْدَانِ
كَم فِي سَنَا الكَوْكَبِ الوَهَّاجِ مَهْلَكَةٌ
فِي كُلِّ لَمْحٍ لأَضْوَاءٍ وَأَلوَانِ
لَمْ تَرْقَ في حَقْبَةٍ مِصْرٌ كَمَا رَقِيَتْ
فِي عَصْرِهِ بَيْنَ أَمْصَارٍ وَبُلْدَانِ
لَمَّا رَمَتْ كُلَّ نَائِي الشَّوْطِ مُمْتَنِعٍ
بِسَابِقِينَ إِلَى الغَايَاتِ شُجْعَانِ
أَلا تَرَى فِي بَقَايَا الصَّرْحِ كَيْفَ مَضَوْا
بِأَوْجِهٍ بَادِيَاتِ البِشْرِ غُرَّانِ
وَكَيْفَ عَادُوا وَرَمْسِيسٌ مُقَدَّمُهُمْ
إِلَى الرُّبُوعِ بِأَوْسَاقٍ وَغِلْمَانِ
١  نريد بالألواح: أسطوانات الغناء.
٢  هذا معنى العبارة التي سمعناها من خطبة أنطون الجميل، وقد ضاق الوقت عن مراجعة الأصل، وأخشى أن أكون لونت العبارة بعض التلوين.
٣  نهلان: اسم جبل.
٤  الشانيء: هو المبعض، وفي القرآن: إن شانئك هو الأبتر».
٥  الشوس: جمع أشوس، وهو المتكبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤