الفصل الرابع والثلاثون

بين شوقي وابن زيدون

١

نحن مقبلون في هذا البحث على وادٍ ظليل من أودية البيان: مقبلون على الموازنة بين نونية شوقي، ونونية ابن زيدون، مقبلون على مصافحة شاعرين من أهل العبقرية، ومراجعة قصيدتين شغلت أحداهما الناس تسعة قرون، وشغفت الثانية ألوف القلوب.

وابن زيدون صاحب النونية، شخصية تمتاز بميزة ظاهرة، فهو رجل خلقته الدسائس في الحب والملك، ولا يمكن أن تعرف فضل الشر إلا إذا تمثلنا مصير ابن زيدون، فالدسائس من ألوان الشر الوضيع، ولا يعتصم بالدسائس إلا الضعاف العجزة من صغار الناس، ولكن الدسائس تعود بالنفع والخير في أكثر الأحيان، فلولا الدسائس في الحب والملك لما تفجرت عبقرية ابن زيدون، ولا رأى العالم تلك الأقباس الخالدة التي تَسْطع من أدبه الرفيع.

ومن عجائب ما يقع في الحياة أن تكون المنازل الأدبية العالية من نصيب من أصيبوا بالحرمان في دنيا الحب والمجد، فالرجل حين يُحرم تتفجر عبقريته ويسيطر على الدنيا سيطرة أدبية تعوض عليه ما ضاع من نعيم الراحة الروحية والدنيوية، والمجد الأدبي متاعٌ ليس بالقليل، وهو جدير بأن يوضع في الميزان ولا يغض من قيمة هذه الغنيمة ما نعرف ويعرف الناس من أن العبقريين لا يُحسون أثر عذا العوض، ولا يرضون عن زمانهم، وإن بلغت شهرتهم آفاق السماء، هذا لا يغض من قيمة تلك الغنيمة، فقد يظهر بعد حين أن الأرواح تأنس أنسًا مكتوبًا بظفرها في عالم الفكر والبيان.

وقد شاءت المقادير أن تخص ابن زيدون بنفحة فريدة ببليتين لا يبتلى بهما رجل كريم إلا عرف كيف يكون العز والذل، والشهد والعلقم، والنعيم والجحيم.

أما البلية الأولى فهي الحب، وأما البلية الثانية فهي المجد، وبين الحب والمجد أخطار ومصاعب تهد العزائم وتدق الأعناق.

ولا يهمنا في هذا المقام أن نشير إلى منزلة ابن زيدون الوزير، وإنما يهمنا أن نشير إلى منزلة ابن زيدون العاشق، فالوزارة منصب غادر ينتقل من يد إلى يد، كما ينتقل القرش المثقوب من جيب إلى جيب، أما الحب فنفحة روحانية لا يعْبق طيبها إلا في كرام القلوب.

الحب هو الذي فجر العبقرية في صدر ابن زيدون، ولكن أيّ حب؟ لقد كان ذلك الرجل يحب امرأة خطيرة تجمع بين الحسن والذكاء.

والحسن منحة إلهية يرزقها الله إلى من يشاء، وهو خليقٌ بأن يصنع ما يصنع فيُعز ويذل، ويرفع ويضع، ويكرم ويهين، ولكن الحسن وحده لا يأسر القلوب، وإنما يسيطر ويستطيل حين تجد رقيقًا من خفة الروح ومن لطف الذكاء.

كان ابن زيدون يحب امرأة جميلة ذكية على جانب من حلاوة الشمائل ولطف الوجدان، وهذا النوع نادر الوجود، والمرأة حين تُمنح الجمال والذكاء تحارب بسيفين مرهفين، وتحول الدنيا إلى مآتم وأفراح، والشاعر الذي يحب امرأة جميلة ذكية يصبح إحساسه كالوقود الذي يٌقدّم إلى النار، ومن قلب العاشق الحساس وذكاء المرأة الجميلة تقوم دنيا الشعر الجميل.

أعرفتم الآن كيف نبغ ابن زيدون؟

إن لم تعرفوه فاسمعوا هذه الزفرة، وهو يتشوق إلى تلك المحبوبة التي ملكت قلبه، واستأثرت بنهاه:

هَلْ رَاكِبٌ ذاهِبٌ عَنْهُمْ يُحَيِّيني
إذْ لا كِتابَ يُوافيني فيُحْيِيني
قَدْ مِتُّ إلاّ ذَمَاءً فيَّ يُمْسِكُهُ
أنّ الفُؤَادَ بِلُقْياهُمْ يِرَجّيني
مَا سَرَّحَ الدَّمْعَ مِن عَيْني وأطْلَقَهُ
إلاّ اعْتيادُ أَسىً في القَلْبِ مَسْجونِ
صَبْرًا لَعَلَّ الَّذي بِالبُعْدِ أَمْرَضَني
بِالقُرْبِ يَوْمًا يُداوِيني فيَشْفيني
كَيْفَ اصْطِباري وَفي كانونَ فارَقَنِي
قَلْبِي وهَا نَحْنُ في أعْقابِ تَشْرِينِ
شَخْصٌ يُذَكّرُني فاهُ وَغُرَّتَهُ
شَمْسُ النَّهارِ وأنْفَاسُ الرِّياحينِ
لئنْ عَطشْتُ إلى ذاكَ الرُّضَابِ لكَمْ
قَدْ بَاتَ مِنْهُ يُسَقّيني فَيُرْوِيني
وَإنْ أفاضَ دُمُوعي نَوْحُ باكِيَة
فَكَمْ أرَاهُ يُغْنِّيني فَيُشْجيني
وإنْ بَعْدْتُ وأضْنَتنْي الهمومُ لَقَد
عَهِدْتُهُ وَهْوَ يُدْنيني فيُسْليني
أوْ حَلَّ عَقْدَ عَزائْي نأيُهُ فَلَكَمْ
حَلَلْتُ عَنْ خَصْرِهِ عَقْدَ الثَّمانينِ
يا حُسْنَ إشْرَاقِ ساعاتِ الدُّنُوّ بدَتْ
كَواكِبًا في لَيالي بُعْدِهِ الجُونِ
واللهِ ما فارقُوني باخْتَيارِهِمُ
وَإنْمَا الدَّهْرُ بالمَكْرُوهِ يَرْمِيني
وما تَبَدّلْتُ حُبًّا غَيرَ حُبِّهمِ
إذًا تَبَدّلْتُ دِينَ الكُفْرِ مِنْ دِيني
أفْدِي الحَبيبَ الذي لوْ كَانَ مُقْتَدِرًا
لَكانَ بِالنَّفْسِ وَالأهْلِينَ يَفْدِيني
ولنسارع فنذكر أن هذه المحبوبة هي ولّادة بنت المستكفي التي يقول فيها ابن خاقان:

كانت من الأدب والظرف، وتَتْييم المِسْمع والطَّرف، بحيث تختلس القلوب والألباب، وتعيد الشيب إلى أخلاق الشباب.

كانت ولّادة فاتنة الجمال، وكانت أديبة تنظم الشعر البارع، وتدرك أسرار الكلام البليغ. والشاعر الذي يهوى فتاة أديبة ينعم مرتين، ينعم بالحب، وينعم بالشعر، والشعر لا يقوى وينضج إلا إذا عرف المحب أنه يوجّه أنغامه إلى أذن تسمع وقلب يذوق.

وإليكم هذا القصيد في خطاب تلكم الأديبة الحسناء:

إِنِّي ذَكَرْتُكِ بَالزَّهْراءِ مُشْتاقا
والأفقُ طَلْقٌ، ومَرْأى الأرْض قَدْ راقَا
وَلِلنَّسيمِ اعْتِلالٌ في أصائِلِهِ
كَأنَّهُ رَقّ لي فاعْتَلّ إشْفَاقَا
والرَّوْضُ عَن مَائِه الفِضِّيّ مُبْتَسِمٌ
كَما شَقَقْتَ عَنِ اللَّبّاتِ أطْواقَا
يَوْمٌ كَأيَّامِ لَذَّاتٍ لَنَا انْصَرَمتْ
بِتْنَا لَها حينَ نامَ الدّهْرُ سُرّاقَا
نَلْهُو بِما يَسْتَميلُ العَيْنَ مِن زَهرٍ
جالَ النّدَى فيهِ حَتَّى مالَ أعْناقَا
كَأنّ أعْيُنَهُ إذْ عايَنَتْ أرَقى
بَكَتْ لِما بي فَجالَ الدَّمعُ رَقَرَاقَا
وَرْدٌ تألَّقَ في ضاحِي مَنابِتِهِ
فازْدادَ مِنهُ الضُّحَى في العْينِ إشْراقَا
سَرَى يُنافِحُهُ نَيْلُوفَرٌ عبقٌ
وَسْنَانُ نَبّهَ مِنْهُ الصُّبْحُ أحْدَاقَا
كُلٌّ يَهيجُ لنَا ذِكْرَى تَشَوّقِنَا
إليكِ لَم يَعْدُ عنْها الصّدْرُ أن ضاقَا
لا سَكَّنَ اللهُ قَلْبًا عَنَّ ذِكْرَكُمُ
فَلَم يَطِرْ بجَناحِ الشّوقِ خفّاقَا
لوْ شاء حَمْلي نَسيمُ الصُّبْحِ حينَ سَرَى
وافاكُمُ بِفَتى أضْناهُ ما لاقَى
لوْ كَانَ وَفّى المُنَى في جَمعِنَا بِكمُ
لَكانَ مِنْ أَكْرمِ الأيّامِ أخْلاقَا
كانَ التَّجاري بِمَحْضِ الوُدِّ مِنْ زَمَن
مَيْدانَ أنْسٍ جَرَيْنَا فيهِ أطْلاقَا
فالآنَ أحْمَدَ ما كُنَّا (لِعَهْدِكُمُ)
سَلَوْتُمُ وَبَقِينَا نَحْنُ عشّاقَا

٢

لا يمكن أن يتسع الحديث لتفصيل غرام ابن زيدون، وإنما أردنا أن نمهد لتلك النونية البديعة التي نفحنا بها ذلك الغرام الطريف.

ونونية ابن زيدون هذه قصيدة نادرة يحفظها جميع الأدباء في جميع البلاد العربية، وهي في الشعر العربي تذكر بليالي موسِّيه في الشعر الفرنسي، فكما أن الفرنسيين جميعًا يعرفون ليالي موسِّيه، فالعرب يعرفون جميعًا نونية ابن زيدون، فإن كان في القراء من يجعل هذه القصيدة فليعرف واجبه نحو لغته وقوميته، فإنه لا يليق بشاب مثقف أن يجعل نونية ابن زيدون التي سارت مسير الأمثال.

وقد يكون في القراء من يقول: إنها قصيدة في الحب، وما هو الحب؟

والمجال لا يتسع مع الأسف لبيان خطر الحب الذي لا يعرف غير قلوب الفحول من الرجال، وإنما نشير إلى أن رواية الأدب الحق الذي يصدر عن صدق المشاعر والقلوب، هي في ذاتها متعة ذوقية لا يصدف عنها إلا الغافلون.

وإلى آذانكم وقلوبكم نسوق هذه القصيدة العصماء١:
أضْحَى التَّنائي بَديلًا مِنْ تَدانِينَا
وَنَابَ عَنْ طيبِ لُقْيانَا تَجافينَا
ألاّ وَقَدْ حانَ صُبحُ البَيْنِ صَبَّحَنا
حَيْنٌ فَقَامَ بِنَا لِلحَيْنِ نَاعيِنَا
مَنْ مُبْلِغُ المُلْبِسِينا بِانِتِزاحِهمُ
حُزْنًا مَعَ الدَّهرِ لا يَبْلَى ويُبْلينَا
أّنْ الزَّمانَ الَّذي ما زالَ يُضْحِكُنا
أَنْا بِقُرْبهمُ قدْ عاد يُبْكينا
غَيْظَ العِدا مِنْ تَساقِينا الهَوَى فدَعَوْا
بِأنْ نَغَصَّ فَقالَ الدّهْرً: آمينَا
فَانْحَلّ ما كانَ مَعْقُودًا بأَنْفُسِنَا
وَانْبَتّ ما كانَ مَوْصُولًا بأيْدِينَا
وَقَدْ نَكُونُ وَمَا يُخْشَى تَفَرّقُنا
فاليومَ نَحْنُ ومَا يُرْجى تَلاقينَا

•••

يا لْيتَ شِعْرِي وَلم نُعْتِبْ أعاديَكُم
هَلْ نَالَ حَظًّا مِنْ العُتبَى أعادينَا
لَم نَعْتَقَدْ بَعْدَكُمْ إلاّ الوَفاء لكُمْ
رَأيًا ولَمْ نَتَقلّدْ غَيرَهُ دِينَا
ما حَقَّنا أن تُقِرُّوا عَيْنَ ذي حَسَدٍ
بِنا ولا أن تَسُرّوا كاشِحًا فِينَا
كُنّا نَرَى اليَأسَ تُسْلِينا عَوَارِضُه
وَقَدْ يَئِسْنَا فَمَا لليأسِ يُغْرِينَا
بِنْتُم وَبِنّا فَما ابتَلّتْ جَوَانِحُنَا
شَوْقًا إلَيكُمْ وَلا جَفّتْ مآقِينَا
نَكادُ حِينَ تُنَاجِيكُمْ ضَمائرُنا
يَقْضي علَينا الأسَى لَوْلا تأسّينَا
حَالَتْ لِفقدِكُمُ أيّامُنا فغَدَتْ
سُودًا وكانتْ بكُمْ بِيضًا لَيَالِينَا
إذْ جانِبُ العَيشِ طَلْقٌ مِنْ تألُّفِنا
وَمَرْبَعُ اللّهْوِ صَافٍ مِنْ تَصَافِينَا
وَإذْ هَصَرْنَا فُنُونَ الوصل دانيةً
قُطُوفُهُ فَجَنَيْنَا مِنْهُ ما شِينَا
ليُسْقَ عَهْدُكُمُ عَهْدُ السُّرُورِ فَما
كُنْتُمْ لأروَاحِنَا إلاّ رَياحينَ‍ا
لا تَحْسَبُوا نَأيَكُمْ عَنّا يُغيّرُنا
إذْ طالَما غَيّرَ النّأيُ المُحِبّينَا
وَاللهِ مَا طَلَبَتْ أرْواحْنَا بَدَلًا
مِنْكُمْ وَلا انصرَفتْ عنكمْ أمانينَا
يا سارِيَ البَرْقِ غادِ القصْرَ فَاسِّقِ به
مَنْ كانَ صِرْف الهَوى وَالوُدَّ يَسقينَا
وَاسألْ هُنالِكَ هَلْ عَنَّى تَذكُّرُنا
إلْفًا تذكُّرُهُ أمْسَى يُعنّينَا
وَيَا نَسيمَ الصَّبَا بلِّغْ تَحيّتَنَا
مَنْ لَوْ عَلى البُعْدِ حَيّا كان يُحيِينا
فَهَلْ أرى الدّهْرَ يقْضينا مُساعفَة
مِنْهُ وإنْ لم يكُنْ غبًّا تقاضِينَا

•••

رَبيبُ مُلْكٍ كَأنّ اللهَ أنْشَأهُ
مِسْكًا وَقَدّرَ إنْشاءَ الوَرَى طِينَا
أوْ صَاغَهُ وَرِقًا مَحْضًا وَتَوّجهُ
مِنْ نَاصِعِ التّبْرِ إبْداعًا وتَحْسِينَا
إذَا تَأوّدَ آدَتْهُ رَفاهِيّة
تُومُ العُقُودِ وَأدمتَهُ البُرَى لِينَا
كانتْ لَهُ الشّمسُ ظَئرًا في أكِلّته
بَلْ ما تَجَلّى لها إلاّ أحايِينَا
كأنّما أثبتَتْ في صَحْنِ وجْنتِهِ
زُهْرُ الكَوَاكِبِ تَعْوِيذًا وَتَزَيِينَا
ما ضَرّ أنْ لَمْ نَكُنْ أكْفَاءَهُ شرَفَا
وَفي المَوَدَّة كَافٍ مِنْ تَكَافِينَا

•••

يا رَوْضَة طالَما أجْنَتْ لَوَاحِظَنَا
وَرْدًا جَلاهُ الصِّبا غضًّا وَنَسْرِينَا
ويَا حَيَاةً تَمَلّيْنَا بِزَهْرَتِهَا
مُنىًّ ضُروبَا وَلَذّاتٍ أفانينَا
ويَا نَعِيمًا خَطَرْنَا مِنْ غَضَارَتِهِ
في وَشْيِ نُعْمَى سَحَبنا ذَيْلَه حينَا
لَسْنا نُسَمِّيكِ إجْلالًا وَتَكْرِمَة
فَقَدْرُكِ المُعْتَلي عَنْ ذاكِ يُغْنِينَا
إذا انفرَدْتِ وَما شُورِكْتِ في صِفَةٍ
فَحَسْبُنا الوَصْفُ إيضَاحًا وتبْيينَا

•••

يا جَنَّة الخُلْدِ أُبْدِلْنا بِسَلْسَلِها
والكَوْثَرِ العَذْبِ زَقّومًا وَغِسْلينَا
كأنّنَا لَمْ نَبِتْ والوَصْلُ ثالِثُنَا
وَالسَّعْدُ قَدْ غَضَّ مِنْ أجْفانِ وَاشينَا
سِرّانِ في خاطِرِ الظُّلْماءِ يَكتُمُنا
حَتَّى يَكادَ لِسانُ الصُّبْحِ يُفْشينَا
لا غَرْوَ في أنْ ذَكَرْنا الحُبًّ حينَ نهتْ
عَنْهُ النُّهَى وَتَرَكْنا الصَّبْرَ ناسِينَا
إنّا قَرَأنا الأسَىَ يَوْمَ النَّوَىَ سُورَا
مَكْتوبَةً وَأخَذْنَا الصّبرَ تَلْقِينَا
أمَّا هَواكِ فَلَمْ نَعْدِلْ بمَنْهَلِهِ
شُرْبًا وَإنْ كانَ يُرْوِينَا فيُظمِينَا
لمْ نَجْفُ أفْقَ جَمالٍ أنْتِ كَوكبُهُ
سَالِينَ عَنْهُ وَلَم نَهْجُرْهُ قالِينَا
وَلا اخْتِيارًا تَجَنّبْناهُ عَنْ كَثَبٍ
لكِنْ عَدَتْنَا عَلَى كُرْهٍ عَوَادِينَا
نأسَى عَليْكِ إذا حُثَّتْ مُشَعْشَعَة
فِينا الشَّمُولُ وغنَّانَا مُغنّينَا
لا أكْؤسُ الرَّاحِ تُبْدي مِنْ شَمَائِلِنَا
سِيّما ارْتياحٍ وَلا الأوْتارُ تُلْهِينَا
دْومي عَلَى العَهْدِ ما دُمْنا مُحافِظَةً
فَالحُرُّ مَنْ دانَ إنْصافًا كَمَا دينَا
فَما اسْتَعَضْنا خَليلًا مِنْكِ يَحْبِسُنا
وَلا اسْتَفَدْنا حَبِيبًا عَنْكِ يُثْنينَا
وَلَوْ صَبَا نَحْوَنَا مِنْ عُلوِ مَطْلَعِه
بَدْرُ الدُّجَى لَمْ يَكًنْ حاشاكِ يًصْبِينَا
أَبْلِي وَفَاءً وَإنْ لَمْ تَبْذُلي صِلَةَ
فَالطَّيْفُ يُقْنِعُنَا وَالذِّكرُ يَكْفِينَا
وَفي الجَوَابِ مَتَاعٌ إنْ شَفَعْتِ بهِ
بِيضَ الأيادي الَّتي ما زِلْتِ تُولينَا

تلكم هي النونية التي شغلت الناس تسعة قرون.

ومن الظلم للحق أن نحكم بأن ابن زيدون وقف هواه على تلك الحسناء، هيهات فلن يمكن أن يكون لمثله هوى واحد، وكيف وهو رجل طامح القلب، مُرهف الإحساس.

ولكن التاريخ لم يتحدث إلا عن تلك المليحة الحسناء، ولو أنه دوّن جميع ما طاف بقلب ذلك العاشق لحدثنا عمن قال فيه ابن زيدون هذه الأبيات:

وَدَّع الصَّبْرَ مُحِبٌّ وَدَّعكْ
ذائِعٌ مِن سِرِّهِ ما اِستَودَعَك
يَقرَعُ السِنَّ عَلى أَن لَم يَكُن
زادَ في تِلكَ الخُطا إِذ شَيَّعَك
يا أَخا البَدرِ سَناءً وَسَنًا
حَفِظَ اللهُ زَمانًا أَطلَعَك
إِن يَطُل بَعدَكَ لَيلي فَلَكَم
بِتُّ أَشكو قِصَرَ اللَيلِ مَعَك
١  رأينا أن نسوق هذه النونية كاملة؛ لأنها في غرض واحد لا يظهر جماله إلا وهي مؤلفة الشمل ولا كذلك نونية شوقي، فإنها مختلفة الأغراض، وستكشف الموازنة عن تنقل شوقي من فن إلى فن ونفاذه من مسلك إلى مسلك؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤