الفصل السادس والثلاثون

معارضات أبي نواس

نعقد هذا الفصل للنظر في معارضات أبي نواس، ونريد بهذه المعارضات ما وقع له من المناقضات مع معاصريه، وما أبدع الشعراء من بعض في معارضة قصائده المشهورات، وهذا وذاك يدلان أبلغ الدلالة على سيطرة العبقرية النواسية على أخيلة الشعراء.

ومن الكلام الجيد في تقويم المعارضات الشعرية ما قاله الدكتور أحمد زكي أبو شادي في الجزء الثاني من مجلة (أدبي):

ليس تعمد معارضة الشعر من الفن الصحيح في شيء، بل هو محض صناعة، والشعر قبل كل شيء عاطفة فكرية عميقة الجذور، لا بهرج سطحي زائف، وقد نقرأ عن بعض الشعراء الممتازين أنه حاول محاكاة شاعر آخر بقصيدة معينة، ولكن الحقيقة أنه تأثر بموسيقاه أو بموضوع القصيدة، فأثار ذلك نفسه الشاعرة، مثال ذلك معارضات البارودي للشعراء المتقدمين، ومعارضة كيتس لسبنسر، وقد كانت تلك المعارضة أو تجربة شعرية لكيتس، فإن تلك المعارضات هي نتيجة الإعجاب بالآثار السابقة، وأثر وحيها في النفس.

ومعنى هذا الكلام أن الشاعر الموهوب لا يتصنع القول حين يعارض شاعرًا، وإنما تنفجر المعاني من نبع القلب، وذا كلام عرفنا صحته حين وازنَّا بين المعارضات، فمن العسير أن نتصور الشاعر مستعبدًا لمن يعارضه، وإن تأثر خطواته في الوزن والقافية والموضوع، والمعارضة في صميمها هي تلاقي روحين وائتلاف قلبين، أو اصطدام نفسين، واقتتال عبقريتين.

فمن المعارضات التي وقعت بائتلاف الذوق والقلب ما وقع بين أبي نواس والخرّاز، فإن أبا نواس لما قال:

يا رِيمْ هَاتِ الدّواة والْقلما
أَكتُبُ شَوْقي إِلى الَّذي ظَلَما
مَنْ صَارَ لا يعْرف الْوصالَ وقدْ
زاد فؤادي في حُبّه ونما
غَضْبانَ قَد عَزَّني هواهُ وَلَو
يَسْأَلُ مِمّا غَضِبْتَ ما عَلِما
فَلَيْسَ يَنْفَكُّ مِنهُ عاشِقُهُ
في جَمعْ عُذرٍ منْ غَيْرِ ما اِجتَرَما
لَو نَظَرَتْ عَيْنُهُ إِلى حَجَرٍ
وَلَّدَ فيهِ فُتورُها سَقَما
أَظَلُّ يَقْظانَ فِي تَذَكُّرِهِ
حَتّى إِذا نِمتُ كانَ لي حُلُما

لما قال أبو نواس هذه الأبيات عارضه الخرّاز، فقال:

إنْ باح قَلْبي فَطالمَا كتما
ما باح حبي جفاهُ منْ ظلما
وَكيْفَ يَقَوى على الجفاء فتًى
قدْ مات أوْ كاد أوْ أرادهُ وما
أشْكُّ أنّ الهوَى سَيَقْتْلني
مِن غيْر سيْفٍ ولا يُريق دما
كيْف احْتِيالي لِشادنٍ غَنِجٍ
أصْبح بعْد الوصال قدْ صرما
ما قُلْتُ لمَّا عَلا الصُّدودُ به:
يا ريمُ هات الدّواة والقلما
لكِنْ سَفَحْتُ الدُّموع مِن حزنٍ
لمّا تمادى الصُّدودُ ثُمّ نما
إنَّ الرَسولَ الَّذي أَتاك بما
أتاك عنْي قدْ حرّف الكلما

وأبيات أبي نواس من الشعر الكريم، وهي من المطمع الممتنع، وفيها ومضات من السحر المبين، وأي غزل أرق وأظرف من هذا البيت الذي يعد من أدق ما قيل في تلوّن الملاح:

غَضْبانَ قَد عَزَّني هواهُ وَلَو
يَسْأَلُ مِمّا غَضِبْتَ ما عَلِما

وقوله في فتك العيون:

لَو نَظَرَتْ عَيْنُهُ إِلى حَجَرٍ
وَلَّدَ فيهِ فُتورُها سَقَما

وقوله في أخذ الهوى بأحلام المحب:

أَظَلُّ يَقْظانَ فِي تَذَكُّرِهِ
حَتّى إِذا نِمتُ كانَ لي حُلُما

أما أبيان الخرّاز فهي من الشعر المقبول، وليست من الشعر الجيد، وقد ربط فيها بعض المعاني ببعض على طريقة لم تألفها الأذواق العربية، ولولا أنها قيلت في معارضة أبي نواس لما نقلها راوية، ولا حفظها كتاب.

ومن المعارضة التي جرت مجرى المطارحة ما وقع بين أبي نواس وبين العباس بن الأحنف، وكان بين هذين الشاعرين مودة قوية أساسها تبادل الثقة والإعجاب. والحق أن أباس نواس والعباس كانا يقبسان من شعلة واحدة، فقد جمع بينهما العزل والظرف، وصفاء الروح، بالرغم من اختلاف المذهبين، فقد كان أبو نواس متلونًا في الحب يتنقل من فنن إلى فنن، على حين كان ابن الأحنف قد وقف قلبه على هوى واحد، هو محبوبته فوز التي خلد اسمها على الزمان.

حدث حمزة الأصفهاني قال: اجتمع أبو نواس مع العباس بن الأحنف في مجلس فقام عباس لحاجة، فسئل أبو نواس عن رأيه فيه وفي شعره فقال: هو أرقى من الوهم، وأنفذ من الفهم، وأمضى من السهم، ثم عاد عباس وقام أبو نواس كذلك فسئل عنه عباس، وعن رأيه فيه وفي شعره، فقال: إنه لأقر للعين من وصل بعد هجر، ووفاء بعد غدر، وإنجاز وعد بعد يأس. فلما صارا إلى النبيذ أعلم كل واحد منهما قول الآخر فيه، فقال أبو نواس:

إذا ارْتَدْت فَتى الكاسِ
فَلا تَعْدِلْ بِعَبَّاسِ

فقال العباس:

إذا نازَعْتَ صَفْوَ الكاسِ يَوْمًا
أخا ثِقَةٍ فمِثْلَ أبي نُواسِ
فَتىً يَشْتَدُّ حَبْلُ الودِّ مِنْهُ
إذا ما خُلَّةٌ رَنَّت لناسِ

فتناول أبو نواس قدحًا وقال:

أبا الفَضْلِ اشْربن ذا الْكا
سَ إنَّي شَارِبٌ كاسي

فقال العباس:

نَعَم يا أوْحَدَ النَّاسِ
عَلى العَيْنَيْنِ والرَّاسِ

فقال أبو نواس:

فَقَد حَفَّ لَنا المَجْلـ
ـسُ بالنَّسْرين والآسِ

فقال العباس:

وَإخْوانٍ بَهاليلٍ
سَراةٍ سادَةِ النَّاسِ

فقال أبو نواس:

وَخَودٍ لَذَّةٍ المَسْمو
عِ مِنْلِ الغُصْنِ الكاسي

فقال العباس:

وَقَد ألبَسَهَا الرَّحْمـ
ـنُ مِنْ أحْسَنِ إلباسِ

فقال أبو نواس:

فَقَد زِينَتْ بإكْليلٍ
يَواقِيتٍ عَلى الرَّاسِ

فقال العباس:

فَلا تَحْبِسْ أخي كَأسًا
فَإنِّي غَيْرُ حبَّاسِ

قال الأصفهاني: فكأن ما نُسي من معارضتهما أكثر مما حفظ.

ويذكرنا بهذه المطارحة ما وقع بين إسماعيل صبري وخليل مطران، فقد مشى يومًا صبري باشا بأحد شوارع القاهرة، فرأى مطران يشرب الصهباء على قارعة الطريق فقال صبري باشا: يا مطران، لا يليق بمثلك أن يشرب تحت أبصار الناس، فابتدره مطران، وقال:

وَهَل يَضيرُ المَجْدَ أن أشْرَبا
وَأجْعَلَ الحانَةَ لي مَلْعَبا

فطرب صبري باشا، وقال:

وأن يراني كُلُّ مَنْ مَرَّ بي
وَسْطَ الدَّياجي حامِلًا كَوْكَبا

كذلك حدثنا الأستاذ إبراهيم الدباغ، فلما لقيت الشاعر مطران سألته عن القصة، فقال: كان يقع لنا من ذلك شيء كثير، أما أنتم يا شعراء هذا العصر، فقد بددت الشواغل أحلامكم، ولم يبق لكم من روعة المطارحة نصيب … وقد صدق مطران!

واتفق يومًا أن لقي مسلم بن الوليد رسولًا لأبي نواس يحمل رقعة إلى عنان، وفيها هذه الأبيات:

لا تَأمَنِنَّ عَلَى سِرِّي وَسِرَّكُمُ
غَيري وغيرك أوْطَيَّ القَرَاطيسِ
أو طَيْرَ فَيْروذَج١ إنِّي سَأبْعَثُهُ
قَدْ كانَ صاحبَ تَأليفٍ وتَدْسيسِ
وَكان هَمَّ سُلَيْمانٌ ليَذْبَحَهُ
لولا قَيادَتُهُ في أَمْرِ بَلْقيسِ

فأخذ مسلم الرقعة من الرسول وخرقها فانصرف الرسول إلى أبي نواس فأخبره بما صنع مسلم برقعته، فقال أبو نواس:

لَمْ يَقْوَ عنْدي عَلَى تَخْريقِ قِرْطاسي
إلا فَتًى قَلْبُهُ من صَخْرَةٍ قاسي
إنَّ القَراطيسً في قَلْبي بِمَنْزِلَةٍ
كَمَوضعِ السَّمْع والعَيْنَيْن والرَّاسِ
لَولا القَراطَيسُ ماتَ العاشِقونَ مَعًا
هذا بِغَمٍّ وَهذاكُمْ بِوَسْواسِ
فَلَيْتَ أنَّ إِمامَ النَّاسِ سَلَّطَني
فَلَمْ أدَعْ خارِقًا فيهِمْ لِقِرْطاسِ
حَتَّى أصَبِّحَهُ مَن حَيْثُ مَأمَنُهُ
كَأسًا مِنَ المَوْتِ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ حاسي
ما أعْجَبَ الحارِقَ القِرْطاسَ أقَرَأهُ
يَأسًا فَحَرَّقَهُ مَن حَيْرَةِ الياسِ
ماذا عَلَيْكَ إذا أَحْبَبْتَ كاتِبَهُ
ما كانَ في بَطْنِهِ يا أحْمَقَ النَّاسِ
أليسَ قَدْ مَشَقَتْ فيهِ أنامِلُهُ
وجَازَ أقْلامُهُ فيها بِأنْفاسِ

وبلغت هذه الأبيات مسلمًا فعارضه فقال:

يا مَنْ يَلُومُ عَلى تَخْريقِ قِرْطاسِ
كَمْ مَرَّ مِثْلُكَ في الدُّنْيا عَلى راسي
الحَزْمُ تَخْريقُهُ إن كُنْتَ ذا حَذَرٍ
وإنَّما الحَزْمُ سوءُ الظَّنِّ بِالنَّاسِ
فَشُقَّ قِرْطاسَ مَنْ تهوَى صيانَتَهُ
فَرُبَّ مُفْتَضحٍ في خَطِّ قِرْطاسِ
إذا أتَاكَ وَقَدْ أدَّى أمانَتَهُ
فاجْعَلْ كَرَامَتَهُ في بَطْنِ أرْماسِ
وشُقَّ قِرْطاسَ مَنْ تَهوَى وكًنْ فَطِنًا
كَمْ ضُيِّعَ السِّرُّ في حِفْظٍ لِقِرْطاسِ

فأجابه أبو نواس:

ماذا أرَدْتَ إلى تَخْريقِ قِرْطاسي
هَل كانَ عِنْدَكَ في القَرْطاسِ مِنْ باسِ؟
سَبَبْتَ كاتِبَهُ مِنْ غْيرِ ما سَبَبٍ
هَلْ كانَ فيهِ سِوَى شَكْوَى إلى ناسي؟
كتَبْتُ أشْكو بِليَّاتي فساءّكُمو
ما يَذْكُرُ النَّاسُ مِنْ شَوْقٍ إلى النَّاسِ

وهذه المعارضة تبدو تافهة لمن ينظر فيها وهو خالي الذهن من ألوان الحياة لذلك العهد، ولكن الذين سايروا تطور التقاليد الأدبية يرون مسألة الرسائل الغرامية كانت يومًا من المشكلات، حتى صح لمثل أبي محمد بن حزم أن يعقد لها فصلًا في طوق الحمامة، ولو كانت هذه المسألة من التوافه لما اهتم بها ذلك الإمام الجليل.

والحق أن تاريخ الأدب عرضة للطمس إذا حكمنا فيه ذوق الناس في هذا العصر، فأهل هذا الزمان يتصنعون الوقار، ويتكلفون الاحتشام، وتبدو منهم بدوات تنقلهم إلى عوالم لا تعرف المجون مع أن حياتهم في صميمها ملوثة بعيب أشنع من المجون، وهو الرياء.

ولكن مهلًا. من الذي يحكم بأن من العبث أن يكون للرسائل الغرامية أدب يحرص عليه مثل مسلم بن الوليد؟ ألسنا نرى في أيامنا هذه كيف تقدم الرسائل الغرامية إلى المحاكم لتكون من أقوى الأسانيد، وتثبت بها حقوق تصل أحيانًا إلى المواريث؟

إن النفس الإنسانية تظل مجهولة ما لم تكشف عنها الصغائر في حيوات الناس، وأكثر من ترون من العظماء هم أطفال في عالم الحب، وقد تكون تلك الطفولة هي أساس العظمة عند من يفقهون.

ألم تر كيف كان فيكتور هوجو يتكلف الحب ليعرف بعض ما يجهل من أسرار القلوب؟

ألم ترك كيف كان جوته يتكلف الحب ليعرف المستور من خلائق النساء؟

ليس العلم كل العلم أن ترعى في بيتك طائفة من الحشرات لتعرف كيف تصح، وكيف تمرض، وكيف تحس، وكيف تعقل، وكيف تحيا، وكيف تموت. ليس هذا كل العلم، وإن ضاعت فيه أعمار وبددت في سبيله أموال، وأنشئت من أجله معاهد وكليات. للعلم ميادين أعلى وأشرف، هي ميادين السرائر والقلوب، وهي ميادين لا يعرفها غير الشعراء.

١  هو الهدهد بالفارسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤