الفصل الثامن والثلاثون

أقطاب الموازين

١

رأى القارئ طائفة من الآراء في نقد الشعر والموازنة بين الشعراء، وهي آراء ذاتية لمؤلف هذا الكتاب.

فمن الخير أن نضيف إلى هذه الطبعة فصلًا نبّين به فضل من سبقونا إلى الموازنة بين الشعراء، وأظهر أولئك الباحثين رجلان: أحدهما من رجال القرن الرابع، وثانيهما من رجال القرن الرابع عشر.
  • أما الأول: فهو أبو الحسن الآمدي صاحب كتاب «الموازنة بين الطائيين: أبي تمام والبحتري»، وهو باحث عظيم فصّلت الكلام عليه تفصيلًا في الجزء الثاني من كتاب «النثر الفني١» فليرجع إليه القارئ إن شاء، فمن تبديد الوقت أن أعيد هنا ما فصلته هناك.
  • وأما الثاني: فهو أستاذي، وصاحب الفضل عليّ: المغفور له الشيخ محمد المهدي بك، وكان أديبًا نادر المثال، ولكن لم ينشر له شيء، وقد فصّلت آراءه الأدبية في الجزء الأول من كتاب «البدائع٢»، ولكن بقي مجالٌ للقول في ذلك الباحث الجليل، فإني لم أكتب عنه في «البدائع» إلا الصور الرائعة من أسلوبه في الدرس، ومذهبه في الحياة الاجتماعية، وهنا أستطيع أن أبين كيف كان يوازن بين الشعراء، وأستطيع أن أنشر إحدى موازناته في هذا الكتاب؛ لأن آثاره مع الأسف لن تنشر أبدًا، ولن يفرغ تلاميذه من شواغل دنياهم حتى يقدموا لذكراه ما يجب من الوفاء، كان الشيخ المهدي يوازن في دروسه بين الكتاب والخطباء والشعراء، وكان يوازن بين العصور الأدبية.
أما موازناته بين الشعراء فكانت كثيرة جدًّا، وأظهرها الموازنة بين زهير والأعشى٣، وأما موازناته بين الخطباء فأذكر منها قوله في الموازنة بين قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، وهو يقول:
الموازنة بينهما من جهات:
  • الجهة الأولى: الموضوع، ونرى أن موضوع قُس لا يكاد يتخطى الموعظة بالموت، وتوجيه الناس إلى توحيد الله، ونبذ ما هم عليه من عبادة الأصنام، وأما أكثم فإنه يزيد عن هذا نصح قومه في مسائل الدنيا، ونصح ذريته، وتوجيههم إلى طرق الخير مفصلة.
  • الجهة الثانية: العبارة، والفرق فيها بينهما ظاهر، فإن عبارة قسّ عبارة البديهة، وإن كانت مسجوعة، فهي العبارة الصالحة للدهماء، وهي بمقام الخطبة أليق: لسهولتها، ووضوح معناها، وأخذ بعضها بحجز بعض في طريق المقصد الذي يريده، وهي تكاد تكون مغسولة من الأمثال والحكم.

    وأما عبارة أكثم فهي عبارة منتقاة يكثر فيها المجاز والكناية والأمثال والحكم، فهي مجموعة مختارات جيدة تكاد تكون عديمة النظير؛ فهي أشبه بكلام الحكماء، ولا غرو فقد كان أكثم حكيمًا محكمًا عالمًا بالأنساب، وقد أثر عنه ما قال في آخر حياته وهو خلاصة تجاربه، فعبارته في نظر عشاق المعاني والبلاغة والإيجاز أعلى، وعبارة قس في نظر الخطباء وأهل الدعوة أليق وأبلغ، وإن شئت قلت: عبارة قس أخطب، وعبارة أكثم أحكم.

  • الجهة الثالثة: المعاني — والفرق بينهما جَليٌ أيضًا، فإن معاني قس عامة قليلة، نظرية، ليس فيها توليد، ولا كذلك معاني أكثم: فإنك تجدها كثيرة مفصلة في ضروب عدة، وكلاهما يكرر المعنى ويرادف، وهذا شأن الخطباء: إذا أرادو تَثبيت ما يدعون إليه.
  • الجهة الرابعة: حال الخطيبين — فإن قسًا كان يخطب للعرب كافةً وهو راكبٌ حَمَله، ويشير بيده وبالمخصرة، ويفصل الكلام ﺑ (أما بعد) وينقلب في البلاد لهذا، حتى طار ذكره واشتهر في الخافقين قَدره؛ وكان من أمره أن ذكره النبي وقرظه.

    وأما الثاني فقد كان يخطب قومه، ويتحرى العقلاء منهم، ويقول: «لا تحضروني سفيهًا»، ولم يؤثر عنه ما أثر عن قس في موقفه ولباسه، واستعداده — فيما أعلم — من هذه الجهة أعرق في الخطابة.

  • الجهة الخامسة: أن قسًا كان يقول الأشعار من روح خطبته سهلة متقَبلةً تنحفظ إذا لم يحفظ الكلام، وكان أكثم يستعين بالأمثال لحمالها وقصرها، وبالرائع من الحكمة كذلك، ولا يخفى أن الشعر البين السهل إنما هو للدهماء، وهو أليق بمقام الخطابة، وأن الأمثال الحكيمة التي تحتاج إلى رويّة في فهمها إنما هي للخاصة، وهي لا تفيد إلا في الخطب الخاصة، وعلى هذا يكون قس أخطب، وأكثم أحكم، وكذلك لم تكن هنالك غرابة في شهرة قس بالخطابة، مع أن كلام أكثم فيها أبلغ في نظر الحكماء، ومن يتعشقون الجزل الموجز الدقيق المعنى، الرصين المبنى.

ثم أشار الأستاذ رحمه الله إلى أنه كان يود أن يقارن بين الكلام المشترك، ولكنه لم يجد من الوشاهد ما يروي الغلة، فاكتفى بالحكم بأن الأول كان يتكلم عن سجية، وأن الثاني كان يتفنن ويدقق ويحكم، وكذلك كان لكل منهما منزع وطريق.

٢

وأما موازناته بين العصور الأدبية فهي كثيرة جدًّا، وليس تحت يدي الآن إلا كلمة قصيرة عن بيان حال الشعر في زمن البعثة، والخلافة الراشدة. قال:

إذا أردنا أن نتعرف حال الشعر في صدر الإسلام وجب علينا أن نلمح ما كان له من المكانة قبل ذلك، ثم نكشف عن مكانته الثانية؛ لتتجلى صورتاه في المكانتين، ويعرف شأنه في الزمانين، فنقول:

كان الشعر في الجاهلية يسير مع السيف في الدفاع عن الأعراض والأحساب والذود عن البَيْضة، فكما يغير الفارس برمحه وحسامه، يُغير الشاعر بقافيته وإنشاده، فإذا فت السيف في الأعضاء، فتّ الشعر في القلوب، وإذا أصانب النبال بنبله الجسوم، أصاب الشاعر بكلماته النفوس بتخذيل الأعداء، وتحميس الأولياء، فإذا نظرنا إليه بعد الإسلام من هذه الجهة وجدناه مائلًا فيها لم يتزحزح عنها.

فقد روي أن النبي قال ليلة وهو في بعض أسفاره: أين حسان بن ثابت؟ فقال حسان: لَبْيك يا رسول الله وسَعْديك. قال: أحْد، فجعل ينشد ويُصغي إليه، فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى فرغ من نشيده، فقال : لهذا أشدّ عليهم من وقع النبل.

وقد كان حسان ينافح عنه، ويشجع قومه، ويخذل عدوه.

وقد بلغ من أمر حسان أن بنى له النبي منبرًا في مسجده ينشد عليه الشعر.

وكذلك القول في عبد الله بن رَوَاحَة الذي شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها إلا الفتح، ومات في غزوة مؤتة، فقد كان النبي يرتجز بعض رجزه في تلك الغزوة، وهو قوله حينما أصيبت إصبعه:

هَلْ أنْتِ إلّا إصْبَعٌ دِمِيتِ
وَفِي سَبِيلِ اللهِ مَا لَقِيتَ
‏ ‏يَا نَفْس إِنْ لَا تُقْتَلِي تَمُوتِي
‏ ‏هَذِي حِيَاض الْمَوْت قَدْ صَلِيت
‏ ‏وَمَا تَمَنَّيْت فَقَدْ لَقِيتِ
‏إِنْ تَفْعَلِي فِعْلهمَا هُدِيت٤

وكذلك الشأن في كعب بن مالك الأنصاري، الذي كان يعارض ابن الزِّبَعْرى من شعراء المشركين، ويدافع مدافعة من ملأ قلبه اليقين، ومنه قوله في قصيد طويل ذكره ابن هشام في سيرته في يوم الخندق:

وَمَوَاعظٍ مِنْ رَبِّنَا نَهْدي بِهَا
بِلسانِ أزْهَرَ طِيِّبِ الأَثْوابِ
عُرِضَتْ عَلَيْنا فَاشْتَهَيْنا ذكْرَهَا
منْ بَعْد ما عُرِضَتْ عَلَى الأحْزابِ
حكَمًا يَرَاهَا المُجْرِمونَ بِزَعْمِهمْ
حَرَجًا وَيَفْهَمُها أولو الألْبابِ
جاءَتْ سَخينَةً كَيْ تُغالِبَ رَبَّها
وَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالبُ الغَلَّابِ

مراده بسخينة قريش؛ لأنها كانت تأكلها، وهي حساء من دقيق، والأمثلة من هذا النوع مستفيضة.

فإذا نظرنا إليه من ناحية أنه كان يجاز عليه في الجاهلية وجدناه في صدر الإسلام كذلك بيد أن كثيرًا من الشعراء رغبوا عن الجوائز إلى ثواب الهل، وكثر في كلامهم ذكر الجنة وما أعدّ الله لعباده من النعيم المقيم، فأما الجوائز في الإسلام فقد بدأ بها رسول الله فإنه أعطى كعب بن زهير بردته حينما جاءه تائبًا بعد أن هجاه وأنشد بين يديه في مسجده قصيدته التي مطلعها:

بانَت سُعادُ فَقَلبي اليَومَ مَتبولُ
مُتَيَّمٌ إِثرَها لَم يُفدَ مَكبولُ

يقول فيها بعد أن تغزل ما شاء في سعاد على عادة الشعر الجاهلي، يذكر حيرته من ذنبه وانصراف الأخلَّاء عنه وتأميله العفو:

وَقالَ كُلُّ خَليلٍ كُنتُ آمُلُهُ:
لا أُلهِيَنَّكَ إِنّي عَنكَ مَشغولُ
فَقُلتُ خَلّوا سبيلي لا أَبَا لَكُمُو
فَكُلُّ ما قَدَّرَ الرَحمَنُ مَفعولُ
أُنبِئتُ أَنَّ رَسولَ اللهِ أَوعَدَني
وَالعَفُوُ عِندَ رَسولِ اللهِ مَأمولُ
مَهلًا هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الـ
قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وَتَرَّتِيلُ
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم
أذنب وإن كثرت فيَّ الأقاويل

وكذلك حبا قُرة بن هُبيرة وكساء بُرديْن وحمله على فرس بعد أن أسلم وهو من الشعراء، فقال يذكر ذلك في قصيدة طويلة ويمدحه:

حَبَاها رَسولُ الله إِذْ نَزَلَتْ بِه
وأمْكَنَهَا منْ نائلٍ غَيْر مُفْنَد
فَماَ حَمَلْت من ناقَةٍ فَوقَ رَحْلها
أبَرَّ وَأوْفى ذمَّةٌ منْ مُحمَّدِ
وأكْسَى لبُرد الحالِ قَبلْ ابْتذاله
وأعْطَى لرأس السّابح المتجرّد٥

فإن قال قائل: إن هذا العطاء للتألف لا للشعر، قلنا له: ومن التألف أن يعطى الشاعر وهو ما نريد في مقالنا هذا.

وإن نظرنا إليه في الجاهلية فوجدناهم يكبرونه ويرفعون درجته عن المنثور، ويبالغون في إعظام شأنه إلى حد أن ينسبوه إلى الجن، وإن كثيرًا منه في نظرهم من فوق القدرة الإنسانية لما وجدوه من هز أنفسهم إلى الكرم، والدلالة على محاسن الشيم، وذكر الأيام والمشاهد والمفاخر في أسلوب ساحر، إلى غير ذلك، فإنا نجده في الإسلام لم ينزل كثيرًا عن هذه المنزلة، ولم يغض منه أن النبي ما عُلم الشعر وما ينبغي له إلا بمقدار ما تقضي أميته من الكتابة، فكما لا يقول قائل بفضيلة الأمية للناس؛ لأن الرسول كان أميًّا، لا يقول قائل بفضيلة الجهالة في الشعر؛ لأن الرسول لم يعلمه؛ ولهذا أكثر الحض على تعلمه واستماعه وروايته على شريطة أن يكون في الحث على فضيلة، أو ذم رذيلة، فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يقول له:

مُرْ مَنْ قبلك يتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.

ولقد كانت عائشة رضي الله عنها كثيرة الرواية للشعر، وكان مما ترويه جميع شعر لبيد.

وقد روى الحسن بن رشيق القيرواني أن أعرابيًّا وقف على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك، فإن أنت قضيتها حمدت الله تعالى وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله تعالى وعذرتك، فقال عليّ: خطّ حاجتك في الأرض، فإني أرى النصر عليك. فكتب الأعرابي على الأرض: إني فقير، فقال عليّ: يا قنبر: ادفع له حلّتي الفلانية، فلما أخذها مثل بين يديه فقال:

كَسَوْتَي حُلَّةً تَبْلَى مَحَاسنُهَا
فَسَوْف أكْسوكَ منْ حُسْن الثَّنا حُللا
إنَّ الثَّناءَ لَيُحْيي ذكْرَ صاحبِه
كَالْغَيّثِ يُحْيي نَدَاهُ السَّهْل والجَبلا
لا تَزْهَد الدَّهْرَ في عُرْفٍ بدأتَ بِه
فَكُلُّ عَبْدٍ سَيُجْزَى بِالَّذي فَعَلا

فقال عليّ: يا قنبر أعطه خمسين دينارًا، أما الحلة فلمسألتك، وأما الدنانير فلأدبك.

فأنت تراه أعطاه لأدبه كما قال بعد أن أعطاه لفقره، لما وجده في شعره من شكر النعمة، وتمحيض النصيحة، والترغيب في الآجل.

هذا وقد قال الشعر ورواه آل البيت النبوي الكريم.

ولى من بني عبد المطلب رجالًا ونساء من لم يقل الشعر حاشا رسول الله، وناهيك بالعباس فقد كان شاعرًا مجيدًا وله شعر مأثور معدود في الطبقة العالية، من ذلك قوله يوم حنين:

ألا هَلْ أتَى عِرْسِي مَكَرِّي وَمَوْقِفي
بِوادي حُنَيْنٍ وَالأَسِنَّةُ تُشْرَعُ
وَقَولي إِذا ما النَفسُ جاشَت لَها قَدي
وَهامٌ تَدَهْدَى وَالسَّواعِدُ تُقْطَعُ
وَكَيفَ رَدَدتُ الخَيْلَ وَهيَ مُغيرَةٌ
بِزَوْراءَ تُعْطي بِاليَدَينْ وَتَمنَعُ٦

وكذلك كان الخلفاء الراشدون والجلة من الصحابة والتابعين.

وكانوا يتغنون به ولهم في ذلك أخبار طويلة، فمن ذلك ما رواه السائب بن يزيد: بينما نحن مع عبد الرحمن بن عوف في طريق إذ قال لرباح بن المغترف: غنِّنا، فقال له عمر بن الخطاب: فإن كنت آخذًا فعليك بشعر ضرار بن الخطاب (وضرار هذا من أجلاء الصحابة، فارس مغوار، وشاعر مفلق مقدم على ابن الزبعرى فهو أشعر قريش) ومن شعره:

يَا نَبِيَّ الْهُدَى إِلَيْكَ لَجَا حَيْـ
ـرَى قُرَيْشٍ وَلاتَ حِينَ لَجَاءِ
حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ سَعَةُ الأَرْ
ضِ وَعَادَاهُمُ إِلَهُ السَّمَاءِ
وَالْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانُ٧ عَلَى الْقَوْ
مِ وَنُودُوا بِالصَّيْلَمِ الصَّلْعَاءِ٨
أَنَّ سَعْدًا يُرِيدُ قَاصِمَةَ الظَّهْـ
رِ بِأَهْلِ الْحُجُونِ وَالْبَطْحَاءِ
فَانْهَيَنْهُ فَإِنَّهُ أَسَدُ الأُسْـ
ـدِ لَدَى الْغَابِ وَالِغٌ فِي الدِّمَاءِ
أَنَّهُ مُطْرِقٌ يُدِيرُ لَنَا الأَمْـ
ـرَ سُكُوتًا كَالْحَيَّةِ الصَّمَّاءِ٩

وقد كان ضرار قالها يوم فتح مكة يسترحم رسول الله على قومه وأراد بسعد: سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي، وقد كانت راية رسول الله يوم الفتح بيده. فإن نظرنا إليه من جهة أنه يستشفع في حقن الدماء، فقد كان الأمر في الإسلام على ما كان عليه في الجاهلية كما رأيت في هذا الحديث.

وإن كان من جهة الاستغاثة والنجدة فكذلك وهو في الإسلام أشد أثرًا منه في الجاهلية لما داخله من المعطفات الدينية.

فقد روى سعيد بن المسيب أن عمرو بن سليم الخزاعي وفد على رسول الله وكانت خزاعة حلفاء له فلما كانت الهدنة بينه وبين قريش أغاروا على حي من خزاعة يقال لهم: بنو كعب فقتلوا فيهم، وأخذوا أموالهم فاستنجد بالنبي وأنشده بين يديه:

يَا رَبِّ إنِّي نَاشدٌ مُحَمَّدا
حِلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا١٠
نّحْنُ وَلَدْنَاهُمْ فَكَانُوا وَلَدَا
ثُمّتَ أَسْلَمْنَا فَلَمْ نَنْزِعْ يَدَا
إنّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوك الْمَوْعِدَا
وَنَقَضُوا مِيثَاقَك الْمُوَكّدَا
وَنَصَبُوا لِي فِيكَ دَاءً رُصَّدَا
وبَيّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجّدًا
وَقَتَلُونَا رُكّعًا وَسُجّدَا
وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتُ أَدْعُو أَحَدَا
وَهُمْ أَذَلّ وَأَقَلّ عَدَدَا
فَانْصُرْ هَدَاكَ اللهُ نَصْرًا أَبَدَا
وَادْعُ عِبَادَ اللهِ يَأْتُوا مَدَدَا
فِيهِمْ رَسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرّدَا
إنْ سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ تَرَبّدَا١١
فِي فَيْلَقٍ كَالْبَحْرِ يَجْرِي مُزْبِدًا

فدمعت عينا رسول الله وخرج بمن معه لنصرهم. فإذا نظرنا إليه من ناحية ثلم الأعراض والفخر بما لا يحل كالخمر والميسر، فإن الإسلام أثر في الشعر من هذه الجهة أثرًا صالحًا، فقد كان الرسول وأصحابه يعاقبون الهّجائين عقابًا صارمًا، حتى إنهم أهدروا دم ناس من الشعراء كانوا يصدون عن سبيل الله، ويظاهرون أعداءهم عليهم، فأما غيرهم فقد كان عقابهم التعزير بالحبس ونحوه كما فعل عمر بالحطيئة حتى كثرت أشعاره في الاسترحام والتوبة، وكان من استرحامه قوله:

مَاذَا تَقُولُ لِأَفْرَاخٍ بِذي مَرَخٍ
زُغْبِ الحَواصلِ لا مَاءٌ ولا شَجَرُ
ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
فاغْفِرْ عَلَيْكَ سَلامُ الله يا عُمَرُ

ولهذا كان الشعر في صدر الإسلام أنزه منه قبله، وإن لم يسلم من عيوب الجاهلية سلامة تامة.

فأما النظر من حيث جودة السبك وغزارة المعنى، وتشخيصه، فهو في صدر الإسلام أعلى منه قبله على الجملة إذا نظرت في مجموع ما ورد في العصرين؛ لأن العصر الثاني غزر معناه بالكتاب والسنة، وما وصل إلى الأمة من آثار الأمم الأخرى، ومال كثير من الشعراء إلى وضوح المقصد خصوصًا منهم الشعراء العشاق، وشعراء الحكم والأمثال. فأما من جهة المتانة، وصفاء العربية، فإن الجاهلية ما زالوا أصحاب هذين.

وأما من حيث الموضوعات فهي في الإسلام أوسع منها في الجاهلية خصوصًا الموضوعات الدينية. هذا، ولا يفوتنا أن نبين أن ناسًا تنسكوا وزهدوا في الشعر، وزهدوا فيه الناس، أخذًا بظاهر ما جاء في الكتاب العزيز من قوله تعالى: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. وبما ورد من الأخبار في ذم الشعر، ولم يفطنوا أن هذا محمول على الشعر الضار كالهجو والغزل فيما لا يباح، وكإثارة الأحقاد به وغير ذلك مما لا يجوز أن يؤدى لا بنثر ولا بنظم، وقد تغالى بعضهم حتى ظن أن رواية الشعر في رمضان ينقض الوضوء، فكان ابن عباس وابن سيرين ينهيان الناس عن ذلك، وقد قيل لسعيد بن المسيب: إن قومًا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكًا أعجميًّا، ولكن هذه الحالة لم تلبث أن زالت في عصر بني آمية.

وملخص الفوارق:
  • أن الجائزة عليه في الإسلام دونها في الجاهلية.

  • أن درجته في الإسلام دون درجته في الجاهلية؛ لأن الكتاب زاحمه.

  • أنه في الإسلام أنزه منه في الجاهلية.

  • أنه في الإسلام أعلى من جهة غزارة المادة، وتشخيص المعنى.

  • أنه في الإسلام أوسع موضوعًا.

  • أنه في الإسلام دون الجاهلية في المتانة.

  • أنه في الإسلام دون الجاهلية في صفاء العربية.

  • أن الرغبة فيه في صدر الإسلام دونها في الجاهلية.

  • فأما من جهة النجدة به فهو في الإسلام أظهر.

وهذه الفروق كلها متقاربة لا يكاد يميزها إلا كثير الاطلاع المتذوق لكلام العرب.

هذا وقد لاحظت أن أكثر تلاميذ الشيخ المهدي أولعوا بالموازنات الشعرية، فقد نشر الأستاذ الشيخ عباس الجمل بحثًا في الموازنة بين أبي تمام وشوقي، وهي نزعة وصلت إليه من ذلك الباحث العظيم. والأستاذ الشيخ عباس الجمل من أظهر تلاميذ المهدي، ومن الذين يستظهرون أكثر نوادره الأدبية، وقد حضرته منذ أشهر وهو يلقي محاضرة في جمعية الاقتصاد السياسي فرأيت إشاراته ونبراته صورة جديدة من الشيخ المهدي، وإن لم يفطن لذلك. والأستاذ العظيم هو الذي يطبع تلاميذه بطابعه فيكونون خلفاءه في عالم الفكر والبيان.

١  انظر الصفحات ٨٢–٩٣.
٢  انظر الطبعة الثانية ج ١ ص ١–١٨.
٣  عندي صورة من هذه الموازنة.
٤  يريد صاحبيه اللذين استشهدا قبله، وهما: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب.
٥  هو الحصان.
٦  لعلها تعطي السهام، وتمنع العدو.
٧  البطان: حزام يجعل تحت بطن البعير وهو مثل في بلوغ الأمر شدته.
٨  أي الداهية الشديدة.
٩  أي التي لا تقبل الرقية.
١٠  الأتلد: صفة للحلف، ومعناه القديم.
١١  تربد: تغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤