عناصر القومية اليونانية

كان من العوامل التي مكَّنت اليونان من المحافظة على جنسهم أمام الخطر العثماني الذي أحدق بهم فيما بين منتصف القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر؛ الصفاتُ التي تميَّزوا بها من تعليم وذكاء وثروة وخبرة سياسية، اقتبسها اليونان على مرِّ القرون، وما جاء القرن الثامن عشر حتى كان اليونانيون، قد احتلوا مركزًا هامًّا تميَّزوا به على باقي الشعوب الأوروبية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية.

فمن الوجهة الدينية كان للبطريركية اليونانية مركزُ السيادة الدينية على جميع الكنائس الأرثوذكسية بالإمبراطورية العثمانية، وفي الشئون التجارية كان لليونان المركزُ الأكبرُ بين الشعوب الخاضعة للسلطان؛ لأن معظم تجارة الإمبراطورية العثمانية كانت تنقل في سفن يونانية تسيرها أيدٍ يونانية، وكانت هذه السفن تعبر جميع البحار العثمانية من بحر الأرخبيل إلى آسيا الصغرى، والشرق الأدنى إلى أودسا والبحر الأسود، بل إن بعضها فعلًا كان يمخُر الجزء الغربي من البحر الأبيض.

وقد جمع اليونان بسبب التجارة ثروةً طائلة، جعلتهم أغنى شعوب الإمبراطورية العثمانية، ومكَّنتهم من كسب نفوذ عظيم في الإمبراطورية، ومن «شراء» عدة وظائف إدارية وسياسية هامة، كان من بينها وظيفة حكام الأقاليم الدانيوبية.

وكان اليونان يمتازون كذلك على سائر شعوب السلطان بالذكاء والتنوُّر العقلي والتعليم؛ مما ساعدهم على الاستفادة من ظروف الإمبراطورية العثمانية، فمثلًا في القرن السابع عشر اكتسح غرب أوروبا تيار قوي من البيروقراطية في الإدارة (خصوصًا فرنسا)، ولما وصل هذا التيار للإمبراطورية العثمانية، وضع الأخوان أحمد ومصطفى كوبرلي نظامًا إداريًّا «بيروقراطيًّا» مركزه القسطنطينية، ولكن تنفيذ المشروع كان يحتاج لرجالٍ متعلمين يملئُون الوظائف المتعددة، ولم يجد الأخوان كوبرلي من بين شعوب السلطان من هم أكفأ من اليونان سكان جزائر بحر الأرخبيل لملء هذه الوظائف، فكان هذا بداية شغل اليونان لعدَّة وظائف إدارية هامة بالإمبراطورية العثمانية، ومنها: وظيفة ترجمان الباب العالي وتَرْجُمان الأسطول.

كذلك معظم أعمال الإدارة والسكرتارية المتعلقة بالشئون الخارجية، كانت في يد اليونان الذين عمدوا إلى ملء الوظائف الثانوية من أبناء جنسهم، وكانت نتيجة ذلك أن زاد نفوذ اليونان في جهاز الإدارة السياسية العثمانية.

كذلك تميز اليونان بالذكاء والدهاء والمقدرة على الاستفادة من الظروف، وتجلَّى ذلك في استفادة الفلاحين اليونان من الظروف المحيطة بحكومة القسطنطينية، ومن ضعف الرئاسات العثمانية الحربية الإقطاعية ببلاد اليونان، حتى تمكنوا من تحرير أنفسهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا من نَيِّر هؤلاء الأمراء الإقطاعيين.

وكذلك كانت حالة الفلاح اليوناني في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ أحسن بكثير من حالة نظيره في ألمانيا وبولندا، وبعض أجزاء إيطاليا والنمسا والمجر والروسيا، تدل على ذلك المقارنات التي عقدها السائحون في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر؛ حيث قرروا أن الفلاح اليوناني يتمتَّع بحريةٍ اقتصادية واجتماعية، وبثروةٍ أكبر من الفلاحين في سائر تلك الجهات.

كل هذه العوامل مجتمعة أدَّتْ في القرن الثامن عشر، وخصوصًا نصفه الثاني، إلى قيام طبقة من البورجوازية Bourgeoisie كان لقيامها أهمية خاصة؛ لأنها بمثابة السلسلة الفقرية لما ظهر فيما بعد على شكل ثورة القومية اليونانية، كما أنها كانت من العوامل التي نبَّهت اليونانيين إلى قوميتهم، وساعدت على تحسين سمعة اليونان، ونشر النفوذ والدعوة اليونانية في خارج اليونان، كما أنها كانت الطبقة التي أمدَّت اليونان بزعماء قادوا النهضة الفكرية والعلمية بها في أواخر القرن الثامن عشر، وقوَّاد قادوا الحركة القومية اليونانية بعد قيام الثورة.

وقد بلغ من نفوذ اليونان في الجزء الجنوبي الشرقي من أوروبا، أن علي باشا حاكم يانينا الذي نجح في إقامة سيادة لنفسه على الأدرياتيك، وأجبر السلطان على أن يمنح ابنيه باشويتين: باشوية تساليا والبلوبونيز، والذي كان ألبانيًّا في الأصل، لم يجد بدًّا من الانتفاع بالأيدي اليونانية والذكاء اليوناني في إدارة ولايته، فما لبثت شئون ولايته أن اصطبغت بتقاليد يونانية، وأخذ يشرف عليها يونانيون كما بدأت تتعامل باللغة اليونانية.

هذه هي الحالة التي كان عليها شعب اليونان في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، حالة رغد ورفاهية؛ ولذلك فقد كان من التناقض أن يهبَّ اليونانيون الأغنياء الذين جنوا كل هذه الفوائد من الحكم العثماني، وكان لهم كل هذا النفوذ في وجه العثمانيين ويقومون ضدهم بثورة.

figure
الطريق الصاعد نحو الأكروبول.

ولكن يمكن البحث عن تعليل لذلك بين العوامل النفسية التي تتخلَّل الثورات؛ فقد ثبت أن الشعب المستعبَد (بفتح الباء)، لا يثور في وجه الشعب الذي يحكمه؛ بسبب سوء الإدارة أو استبداد الحاكمين فقط، بل يحدث في كثيرٍ من الأحيان أن يكون الدافع إلى الثورة هو الرغد والرفاهية، كما يكون الدافع أحيانًا هو الاضطهاد والقسوة، فإن الرفاهية تتيح الفرصة والوقت للقيام بالثورة، كما أن الثروة تهيِّئ السبل لتنفيذ الثورة.

كما أن الظلم نفسه لا يؤدي إلى الثورة، بل الشعور بالظلم هو الذي يؤدي إليها، وقد ظهر ذلك جليًّا في الثورة الفرنسية.

لذلك فإن الرغد أو الرخاء والمركز الذي احتلَّه اليونان في شبه جزيرة البلقان، من الوجهة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، علاوة على إحياء الوعي القومي والشعور بتقاليد وتاريخ اليونان القديمة، كل ذلك كان له أكبر الأثر في التمهيد لحركة الاستقلال، بل لقد حدث في أوائل القرن التاسع عشر أن بدأ بعض زعماء اليونان ومفكريهم ينادي بإحياء الإمبراطورية البيزنطية على أساس السيادة اليونانية، لا بمجرد الاستقلال، وكانوا يرمون بذلك إلى القضاء على النفوذ العثماني في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، واستبداله بنفوذ يوناني في إمبراطورية يونانية.

ويلاحظ أن هناك عدة عوامل هي التي ساعدت على إحياء «الشعور القومي»، وفي مقدمتها أثر الثورة الفرنسية على عقول اليونان؛ فقد كان الشعور القومي باليونان مستمرًّا في النمو طوال القرن الثامن عشر، فلما جاءت الثورة الفرنسية ساعدت على تزكيته.

كما أن مساعيَ ومؤامرات روسيا في بلاد اليونان كان لها أثر فعال، فقد استفادت روسيا من علاقاتها باليونان؛ لإثارة اليونان ضد العثمانيين.

وكانت هناك روابط دينية وروابط اقتصادية بين البلدين؛ إذ كانت التجارة بين اليونان وموانئ روسيا بالبحر الأسود سببًا في تعارف الدولتين، وربطت مستقبل اليونان بروسيا، وفي عام ١٧٨٣م عقدت روسيا مع السلطان معاهدة تجارية، أرغمت فيها السلطان على منح اليونان الخاضعين لسيادته حق التجارة في ظل العلم الروسي؛ ولذلك كان طبيعيًّا أن يتطلع اليونان إلى مناصرة روسيا لتحريرها حين تحين الفرصة؛ بسبب ضعف تركيا وشعور اليونان بهذا الضعف.

ومن الأسباب التي ساعدت على إحياء الشعور بالقومية اليونانية النهضة الفكرية الأوروبية؛ فإن هذه النهضة التي ظهرت بوضوح في أواخر القرن الثامن عشر، لم تكن كما صورها بعض الكتاب نهضة فجائية، بل كانت نتيجة لمقدماتٍ ونزعات سابقة، وترجع هذه النزعات إلى عهد احتلال البندقية لشبه جزيرة المورة من سنة ١٦٨٤ إلى سنة ١٧١٤م، فقد استفاد اليونان من البندقيين، وانتشرت نزعة تدعو للتنوُّر والتثقُّف، استمرَّت من ذلك الوقت وأبرزت مفكرين من أمثال: ريجاس Rhegas في القرن الثامن عشر، وكان من أهم المفكرين اليونان الذين لهم الفضل في إحياء التفكير والوعي القومي بين اليونان؛ كورياس Koraes (من ١٧٤٨ إلى سنة ١٨٣٣م) الذي أخرج عدة ذخائر من آداب اليونان القديمة، وأعدَّ لها مقدمات باليونانية الدارجة، وقد عمد في مقدماته إلى تنقية اللغة اليونانية من الشوائب التي دخلت عليها، كما أنه اتخذ من هذه المقدمات وسيلة للقيام بدعاية سياسية وقومية.

هذا المجهود الذي قام به المفكرون القوميون وخصوصًا كورياس كان خطوة واسعة في سبيل حركة الإحياء اللغوي، الذي نجح في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر، في تنقية اللغة اليونانية الدارجة من النفوذ الأجنبي، وقد كانت اللغة جانبًا هامًّا من جوانب الحركة القومية النامية في اليونان، ولكن حركة الإحياء الفكرية لم تقتصر على إحياء اللغة، بل كانت حركة عامة شملت جميع النواحي الفكرية عند اليونان، حتى إن السائحين الذين زاروا اليونان في أواخر القرن الثامن عشر دهشوا لتقدُّم اليونان الفكري؛ حيث وجدوا بينهم عددًا كبيرًا من الأطباء الذين تلقَّوْا علومهم بإيطاليا وفرنسا، وعددًا وافرًا ممن درسوا العلوم المختلفة في جامعات أوروبا، بل إن التجار أنفسهم كانوا قد ارتقوا بأساليبهم التجارية، حتى أصبحوا يتبعون في معاملاتهم أرقى الطرق، وكان لهم وكلاء وبيوت تجارية تمثلهم في عدة أنحاء من القارة، من أودسا في الجنوب إلى هامبورج على بحر الشمال.

هذه الحركة لم تكن إلا نهضة فكرية عظيمة، تعكس في العقول صورة اليونان، الذين قامت على أكتافهم عصور اليونان الذهبية في التاريخ القديم، وهذه في الحقيقة هي أهمية النهضة الفكرية؛ لأنها أوجدت لدى اليونانيين وعيًا قوميًّا، وملأتهم فخرًا بمجدهم القديم، فأيقنوا بضرورة التحرُّر من الحكم العثماني. وكانت الفرصة سانحة إذ ذاك؛ بسبب ضعف العثمانيين، ومبادئ الثورة الفرنسية تنير الأفق، فمن الطبيعي أن تصطبغ الحركة الفكرية بصبغةٍ قومية، وأن توجه ضد العثمانيين، وأن تستهدف استقلال اليونان القومي، وهكذا لم تكن النهضة الفكرية في بلاد اليونان إلا الجانب الروحي للحركة القومية اليونانية.

أما النهضة المادية فكانت نتيجة لنزعة استمرت طوال القرن الثامن عشر؛ لأن الفلاحين بعد تحرير أنفسهم من الأرستقراطية العثمانية الإقطاعية تمكنوا من تحسين حالتهم اجتماعيًّا واقتصاديًّا، كما أن التجار عملوا على ازدهار تجارتهم، فجمعوا ثروات طائلة.

وشهدت السنين الأخيرة من القرن الثامن عشر والأولى من القرن التاسع عشر، نشاطًا ملحوظًا للتجارة اليونانية؛ بسبب الأحدث التي اجتاحت أوروبا خلال حكم نابليون الذي قاطع تجارة بريطانيا، كما أن بريطانيا من جانبها فرضت ضد نابليون وحلفائه حصارًا بحريًّا، فلم تعد تسمح بالتجول في البحر الأبيض، إلا للسفن التي تحمل العلم العثماني، ولم يترك اليونان هذه الفرصة تمر دون الإفادة منها.

وهكذا قامت ببلاد اليونان وجزائرها نهضة تجارية، كانت أشبه في عظمتها بما كانت عليه اليونان في عهد «هللينا» القديمة، وقد شبه المؤرخ توينبي هذه النهضة التجارية التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر بنهضة الجزر اليونانية القديمة، وأهلها الذين تمكنوا من صد الفرس عن بلادهم.

وكما كانت النهضة الفكرية هي الجانب الروحي للقومية اليونانية، كذلك كان الرخاء المادي الذي ظهر في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، هو الجانب المادي للحركة القومية اليونانية.

figure
معبد «الأرختيون» في أثينا.
وبفضل هذه العوامل مضافًا إليها المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، تهيَّأَت الظروف لاندلاع الثورة اليونانية، وكان أوضح أثر للثورة الفرنسية في عقول اليونان الجمعيات السرية التي تكونت في ذلك الوقت، وأهمها فيليكي هيتاريا Pnilike Hetaria.

وقد أنشأ هذه الجمعية أربعة من تجار اليونان في أودسا عام ١٨١٤م، وأخذ عدد أعضائها في النمو باستمرار، حتى قدر عدد أعضائها بما لا يقل عن ٢٠٠٠٠٠ عضو، وكان البوليس الروسي يشجِّعهم على عقد اجتماعاتهم، ولم يكن غرض هذه الجمعية في أول الأمر مجرد استقلال اليونان، بل كان طرد العثمانيين من إمبراطوريتهم وإحياء الإمبراطورية البيزنطية تحت سيادة اليونان، ومهما قيل في أثر هذه الجمعية فقد عملت، على أي حال، على إثارة الشعور اليوناني ضد العثمانيين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤