بين أنقاض الأكروبول

أيتها الأكوام الخربة! إنك خالدة وإن ضعفت، عظيمة وإن هويت، فليجمد ذلك القلب الذي يشرف عليك ولا يخفق كما تخفق قلوب العشاق فوق قبور عشيقاتهم!

بيرون

أقام الإغريق الأكروبوليس منذ أكثر من ٢٠٠٠ سنة؛ تمجيدًا لذكرى انتصارهم على الفرس، وفتكهم بالقائد سركيس، وإحراق أسطوله البحري.

وقد ظل الأكروبول مقر الأدب ومهد الحكمة ومصدر التشريع خلال أجيالٍ طويلة، شعَّت من جوانبه عبقريات سوفوكليس وبوربيدس، وهيرودتس وفيدياس وغيرهم من أصحاب الأسماء الخالدة في سجل الفكر الإنساني، ومن بقيت تعاليمهم نبراسًا في الأدب والفن والرياضيات والفلسفة، إلى ما قبل عصر النهضة الأوروبية، شهد سقراط وهو يَتجرَّع السم تقديسًا للعلم، وضحية الدعوة إلى حرية التفكير، بعد أن طلب منه أصحاب السلطان أن يتنكر لأفكاره وتعاليمه، وادَّعَوْا أنه يُفسد عقول الشبان، ويمحو المعتقدات التي ورثوها عن الآباء والأجداد.

والأكروبوليس كلمة إغريقية قديمة مكونة من مقطعين: «أكرو» ومعناها البقعة المرتفعة من الأرض، و«بوليس» أي المدينة، وفي معنى آخر الدولة. وقد شيد في كل بلد باليونان أكروبول، ولكن أعظمها شأنًا بلا شك أكروبول أثينا.

وكان أهل «الأكروبوليس» أناسًا ذوي حكمة وفطنة، لهم رجاحة العقل، والإيمان بحياة ضمنت لتراثهم نعمة الخلود، فشرعوا للبشرية قوانينها، ووضعوا نظمها وتعاليمها، وكرَّسوا أنفسهم لخدمة الحق بعد أن اتخذوا شعارًا لهم «اعرف نفسك بنفسك»، وكان لهم مقام رفيع بين غيرهم من الأمم، فدَانَتْ لهم الشعوب بالطاعة، وأصبحوا أهل الغلبة والسيادة؛ لاعتقادهم أن العالم ألقى إليهم عبء تمدينه وحضارته، فظلوا قرونًا طويلة متحكمين في مصيره.

figure
«الأكروبول» يطل على مدينة أثينا.

وقد شيد الأكروبول في عصر بركليس — العصر الذهبي لأثينا — وشاد الملوك والأمراء والعظماء قصورهم ومعابد آلهتهم على مقربةٍ منه، فجددوا لأثينا شبابها وبعثوا الحياة في جوانبها، في حين توفر علماء الأكروبول على النهوض بحضارة راقية، مؤسَّسة على قواعد الطبيعة وخالية من كل شائبة، فلا تأثُّر بعقائد أنيقة ولا تقاليد مرعية.

وعلى هضبة الأكروبول أقيم معبد البارتنون لأثينا المدينة، وهو يعدُّ بحق أجمل مجهود للعبقرية الفنية، وقد شيَّده الملك بركليس، وكان يحوي فيما مضى التمثالَ الذي صنعه فيدياس من العاج والذهب الوهاج لأثينا، وإلى جانبه «معبد النصر مقصوص الجناح» أقامه ثسيوس لمينرفا إلهة الحكمة، وقد تخيل المثَّال أن النصر إذا قصت أجنحته ظل في حظيرتهم لا يمكنه أن يطير عنهم؛ شأن الطير الذي تريد الاحتفاظ به؛ ولذا أطلق عليه «معبد النصر مقصوص الجناح».

وفي الجانب الشرقي ترى الاستاديون — أو كما يسمُّونه باليونانية «الأرينا» — وهو ملعب عظيم كان الأثينيون يلهون فيه بسباق الجياد، ويمارس شبابهم في ساحته ألوانًا من البطولة الرياضية.

وفي هيكل الحكمة نصبت تماثيل فتيات كاريا الثلاث، وشيد في الأركتيوم رواق العذارى المسمى Karyae نسبة إلى مدينة كاريا التي اشتهرت فتياتها العذارى بالرقص المقدس؛ تحفُّ به المقاصير والعُمُد المرمرية المشرئبة نحو السماء، كأنها تسمو خلودًا فوق مظاهر فن المعمار الحديث.

وعند سفح الأكروبول أقيم ملعب ديونيسوس، وهو يعد أقدم مسرح للدراما في العالم؛ إذ كانت تمثل في ساحته روايات سوفوكليس ويوربيدس وأشيلوس، والمسرح بدون سقف؛ لأن جو أثينا أميل للحراة، فكان من الطبيعي أن يفضِّل الأثينيون الهواء الطلق، والملعب مقسَّم إلى ثلاث مدرجات، ومقاعده كلها حجرية على شكل نصف دائرة.

وكان الملعب ملكًا للدولة؛ فهي التي تديره وتتولى اختيار الروايات وعرضها، وتمنح النظَّارة من الحكام وغيرهم تصاريحَ دخول مجانية مصنوعة من المعدن أو العاج، وقد نقش عليها اسم صاحبها ورقم مقعده، ولا تزال بعض هذه التصاريح حتى اليوم بالمتحف الوطني.

وفي هذه المسارح كانت تقام أحيانًا مباريات بين الممثلين والمغنين، أما الحكم في هذه المباريات فكان الشعب، فإن كانت الرواية والتمثيل متقنًا صفق طالبًا إعادة التمثيل، وإذا كان رديئًا ضج وطالب بإخراج الممثلين، وإذا كان متوسطًا أخرج الناس طعامهم وشرابهم، وأخذوا يطعمون ويشربون ويتسامرون دون مبالاة بالتمثيل.

وأمام أطلال أحد المعابد تشهد جزءًا من الجدار الأثري الذي اجتمع إليه تلاميذ سقراط، يتآمرون على خطفه لعشرين قرنًا خلت، ولا يزال الزائر حتى اليوم، يتبيَّن كتابات تركية منقورة في الصخر.

ويبدو أن الأتراك عند حكمهم لليونان اتخذوا من الأكروبول مركزًا للقيادة الحربية، وحوَّلوا البارتنون إلى مسجد، والأركتيوم إلى حرم للقائد العسكري، فلما هاجم الفينيسيون الأتراك، أطلق مورسيني قنابله على الأكروبول، فنسف مستودعات البارود وشبت النيران في مخازن الذخيرة، وتهدمت الأبنية والعمد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤