الرجل الوحيد

أقدم إليكم نفسي. أنا إبليس. لا حاجة بي إلى مزيد، حکایتي معروفة لديكم من قديم. رسالتي في الحياة مشهورة كالشمس إلى يوم الدين. غَمرتْني الدهشة، ولفَّتني الحَيْرة مذ تناهى إليَّ أنه يُوجد رجلٌ شريف في بلدكم، رغم كل ما قيل ويُقال. وتفاديًا من سوء الفهم أُصارِحكم بأنَّه لا فضل لي ألبتة في تفجُّر طوفان الشر الذي أغرق الجميع. تكفَّلَت بذلك كله بدعٌ جديدة، لم تخطر ببالي قديمًا، وأنا أُذعِن لقدَري؛ فأتحدَّى ثم أستمهل. فعلَت هذه البدع في جيلٍ ما أعجز عن فعله في أجيال وأجيال. كان إغواء رجل أو امرأة يقتضيني بذل الجهد، وتجريب شتى الحِيَل. لكني شَهِدتُ الناس يندفعون بجنون نحو الهاوية، ويتساقطون جماعاتٍ وطوائف دون أن تنبِس شفتاي بكلمة، أو تندَّ عني حركة. انغمس الجميع في الوحل وأنا أنظر مبهوتًا مذهولًا، ضاربًا كفًّا على كَف. أعترف بأنه عهدٌ عظيم حقًّا، ونصرٌ مُبين بلا جدال، وكم تمنَّيْتُ أن أكون علَّته ومُحرِّكه وصاحبَ الفضل فيه، ما هذا الذي يجري؟ من أين جاء هذا الفساد كله؟ أعترف مرةً أخرى بأنَّ الزمن قد تغيَّر، وأنه يجيء كل يوم بالعجيب والمُبهر. عليَّ من الآن فصاعدًا أن أدرُس الاقتصاد والسياسية، وأتمرَّس بالخطابة والتصريحات، وأُلِّم بالعلوم والتكنولوجيا، والمقاولات، والعمولات، ووسائل الهروب إلى الخارج. يجبُ أن أُوسِّع من مجالي الثقافي وأغيِّر وسائلي العتيقة، وإلا غُلبتُ على أمري، وفقدتُ مُسوِّغ وجودي، وانطوى عصياني الخالد بلا ثمرة أو أثر. وإذ أنا على تلك الحال من الكآبة والحَيْرة أبلغَتْني العيون بأنَّه يُوجد رجل شريف في البلد. قالوا: اسمه محمد زین، مهنته قاضٍ، مَسكَنه رقم ١٥ بشارع زین العابدين.

وفي الحال راقَبتُه بعناية، مسكنه بيتٌ قديم لا يليق بوظيفته. نشأ فيه مع الأسرة، ثم بقي له وحده بعد رحيلِ مَن رحل، فاعتبَره سترًا من الله في زمن السُّكنى في المقابر والخيام، متزوج، له ابنٌ في الجامعة وابنٌ وابنةٌ في المرحلة الثانوية. يذهبُ إلى المحكمة مستقلًّا الباص، فيُغادِره قبل محطة المحكمة بمحطةٍ حتى لا يُرى، وهو يتملَّص من زحمة الركَّاب مُتأبِّطًا حقيبته. يفتتح الجلسة في میعادها المُعلَن عنه، ويتابع مناقشات النيابة والدفاع والشهود بعناية وتركيز عجيبَين. عدا ذلك فهو لا يكاد يُغادر بيته إلا حين الضرورة، ليواصل دراسة القضايا من ناحية، وتوفيرًا للإنفاق من ناحيةٍ أخرى. بث روح العمل والتقشُّف في أولاده، فلا يتميَّزون بشيء عن أولاد الفقراء. عمومًا البيت تُغلِّفه البساطة القصوى في مظهره وملبسه وطعامه. وزوجته تتصبَّر في امتعاض، وتُروِّح عن نفسها بالتشكِّي حينًا، وبلَعنِ الزمن حينًا آخر، لكنه يقول لها: مُرتَّبي كلُّه بين يديكِ، لا أستطيع أن أُحوِّل المعادن الخسيسة إلى ذهب، ولا أسأل عن الغلاء الضاري، وأخيرًا فإنني أعيش في رحاب الله، وأصون ذاتي عن التلَف حتى النفَس الأخير.

رجلٌ كبير ومسكين معًا. تُحدِق به المُغريات من كل جانب كالماء والهواء. إن عز عليَّ الاقتحام فأمامي الزَّوجة والأبناء، ثم إنها أسرةٌ واعية تمامًا بما يدور حولها. إليكَ حديثًا دار على انفراد بين الرجل وامرأته؛ تقول: أي أرض هذه الأرض؟! أيُكتب علينا كل هذا العَناء لا لشيء إلا لأننا شرفاء!

فيقول بحزمٍ قاطع: هذا نصيب الشرفاء في الزمن الجهنَّمي.

– الجميع لصوص، أنتَ تعرف ذلك جيدًّا.

– أي نعم، الجميع لصوص.

– والنهاية؟

– لا أملك إلا الصبر.

إنه اعتراض على ما يجري، واحتجاج على الشرف في آنٍ. الابنة نفسها تسمع الكثير، وتقرأ الصحيفة، وتقف طويلًا أمام الحوادث. تتساءل: هل يتيسَّر الزواج في هذه الظروف القاسية؟ لن يتعذَّر عليَّ أن أسوق إليها شابًّا غاويًا، أو زميلةً ذات خبرة بالشقق المفروشة. ولكنَّ الشابَّين يقفان على حافة التمرُّد: اللصوص آمنون، يعبثون فوق القانون، القانون مسكين ولا يُطبَّق إلا على المساكين.

– الأبواب مُفتَّحة لأبنائهم، ولهم وحدهم الفُرص الطيِّبة.

– ولنا المعاناة والكلمات الكاذبة المعسولة.

– أبونا رجل شريف، وقاضٍ شريف أضعف من مجرمٍ غني.

سُررتُ بما سمعتُ، وتحفَّزتُ للعمل. كل شيء يتم في دنیاي في ثوانٍ، وبدَت مهمَّتي غاية في السهولة. استحسنتُ أن أتجاوز الرَّجل إلى أبنائه. على من يريد أن يقتحم حصنًا، أن يبحث عن موضع ضعفٍ في سوره. في هذا ضمانٌ لمأساةٍ أفجع وأشد. واندلَعتْ في قلبي النشوة التي تسبق العمل، لكنها ارتطَمتْ بشيءٍ ما. يا للسرعة ويا للغرابة! شيءٌ ما كرائحةٍ مجهولة المصدر. تراجعَت النشوة كالموجة المتقهقرة عن الساحل وسقطت في الفتور؛ فُتورٌ كأنه الإحباط، وكأنما أخجل من نفسي لأول مرة في تاريخي العريق. تردَّدتُ ولم أكن أتردَّد أبدًا، أحجَمتُ ولم أكن أُحجم أبدًا، ما لذَّتي في معركة، النَّصر فيها جالب للسخرية والهزيمة مُحقِّقة للعار؟ كلا يا إبليس، ما هو بالفتور فقط ولكنه الزُّهد. لم أُصادِف تجربةً كهذه من قبلُ. سأتركُكَ يا سيد محمد لشأنكَ وظروفكَ أنتَ وأسرتكَ المُعذَّبة، لستَ سعيدًا فتُحسد ولا أنت متحدٍّ فتُستفَز. لا أحد يُحبكَ. لا أحد يعطفُ عليك. يُضمِرون لك الشر، ويُبيِّتون لك أسوأ النوايا. إني تاركُكَ، سأُتابع أخباركَ من بعيد. ستظلُّ في حياتي نقطةً سوداء، وإذا سُئلتُ يومًا عنكَ أَجبتَ: هذا الرجل زهَّد إبليسَ في القيام بواجبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤