بيت المستشار

أعرف بيوتَ الشارع كلَّها. هي من الخارج واضحةٌ مميزة، كالوجوه البشرية، ومن الدَّاخل فهي غير محجوبة عنَّا، ولا مُوصدة في وجوهنا. نذهبُ ونجيء ونلعب بين صفَّين منها، وبحكم حداثة سنِّنا فُتحتْ لنا أبوابها دون حرج، رأينا الحريم، عشقنا من بعيدٍ البناتِ الصغيرات، ونَعِمنا بقُبلات الهوانم. إلا هذا البيت الذي يُطِلُّ مباشرةً على شارع العباسية، بطابقه الواحد الكبير، وحديقته المحيطة بأركانه، ونوافذه المغلَقة غالبًا، أو تُفتح إحداها دون أن يلُوح فيها إنسي. وتسأل بيتُ من هذا؟ فتسمع أنه بيتُ المستشار، لا أذكر أنني رأيتُه، ولا رأيتُ أحدًا من ذويه. تُری أهو وحيد، أهو صاحب أُسرة؟ وفهمنا بطريقةٍ ما أنَّ رجال القضاء من طينةٍ أخرى غير طينة البشر؛ فبحُكْم عَملِهم الخطير لا يختلطون بالناس، ولا يتردَّدون على المقاهي، ولا يقيمون وزنًا للجيرة. والحقُّ أن البيت وصاحبه وما عُرف عنه ملأ نفوسنا هيبةً ورهبةً للقضاء ورجاله، فاعتبرناهم نوعًا خاصًّا ممتازًا، يحتل منزلةً خاصة فوق البشر. وصاحبَنا ذلك الشعورُ ونما مع الزمن، حتى صارت كلمة المستشار تُعادِل في درجتها الأمير، أو الوزير، أو الزَّعيم، أو تتفوَّق عليها جميعًا. ويومًا قال لنا صديقنا سليمان: أختي هيام خُطبتْ.

فباركنا له، وتذكَّرنا البنت الصغيرة التي مُنعتْ من اللعب معنا منذ سنوات. آية في الجمال، وصورة طِبق الأصل من أمها الشركسية، فأحيانًا كنا نلمحها في السيارة الكبيرة التي تحملها إلى مدرسة سان جوزيف. وتساءل صديقنا: أتعرفون من يكون خَطِيبُها؟

فلم نُحِر جوابًا؛ فقال بفخار: المستشار!

وبدَهشةٍ قلنا: صاحب البيت إياه؟

– دون غيره.

– ما عُمره؟

– ليس شابًّا، يماثل بابا في السن تقريبًّا.

– وشكلُه؟

– نحيف، قصير القامة، غليظ الشارب، أَشيَب الشعر، وذو نظارةٍ کحلية.

– ووالدُكَ وافَق طبعًا؟

– طبعًا، ولكن أختي لم تُوافِق.

ولم نُخفِ دهشتَنا فقال: أخيرًا أذعنتُ لمشيئة بابا وماما.

حسدناه على الخط الذي خصَّ به. سیألف صديقنا المستشار، وسيألفه المستشار، وسيفتحُ له البيتُ الغامضُ أبوابَه، ولكن صورة المستشار اهتزَّت بعض الشيء في وجداني. ها هو يخرجُ من عزلته المقدَّسة، ويسعى إلى بيت صديقنا الذي لا يختلف عن بيت أي واحدٍ منا، ويتودَّد إلى أبيه الموظَّف الصغير مثل أبي، ويطلُب منه القرب مُبتسمًا في حياء وأدب، بل رفضَته العروس أوَّل الأمر؛ فلم يُعجبها سِنه ولا منظره. وإذن فهو بَشرٌ مثلنا، يجري عليه ما يجري علينا، وإن يكن في سلطته أن يرسل أيًّا منا إلى المشنقة. ورأيناه بأعيُننا يوم كَتْب الكتاب، وهو في الغاية من الأناقة والوقار. ولأول مرة تسيل جدران البيت الغامض بالأنوار، ويجيء المدعوُّون أشكالًا وألوانًا، ولأول مرة تلعلع الزغاريد، ويترامى إلينا صوت صالح عبد الحي وهو يغرد «افرض حبيبك هجر» فترتفع آهاتُ الاستحسان من حناجر حرَّرتْها الخمر من حيائها. واهتزَّت الصورة مرةً أخرى، فقلتُ إنَّ المستشار عريس لا يختلف عن بقية العرسان، يضحك ويشرب ويطرب، وتخيَّلتُه في مخدع الزفاف مثل كل الرجال. سيُضطَر مع الزمن إلى التعامُل مع زوجته كما يتعامل مع نصوص القانون المُقدَّسة، فيُذعن لمشيئتها ويُغضي عن نزواتها. وحدثَت ثورة في كيان البيت، فُتحَت نوافذه نهارًا لتستقبل الهواء والنور، وأضاءت ليلًا لتُرحِّب بالزوار من الجنسَين، وكثيرًا ما تظهر هيام في النافذة لتتشمَّس، أو تجلس في الشرفة. وكان يجلس معها في العصاري فرأيناه، في الجلباب والروب. أو تحملها الفورد إلى نزهة أو زيارة. ولكن الاستقرار لم يدُم طويلًا؛ حمل إلينا الهمس أنَّ هيام رجعَت إلى بيت أبيها غاضبة مُعلنةً تمرُّدَها، ولكن المستشار لحق بها مُصرًّا على الصُّلح. قال سليمان: لاطفَها بكل حيلة حتى رقَّ قلبي له.

– واستأنفَا حياتهما الزوجية كما كانت.

وتساءلنا: إذا كانت هذه هي البداية فكيف تكون النهاية؟

ولم تكن تملك من التَّجارب إلا ما تمدُّنا به السينما، فتخايلَت لأعيننا المأساة، قبل أن تقع.

واهتزَّت الصورة الاهتزازة الأخيرة، بتُّ أرثي للرجل الذي ألِفتُ يومًا أن أرمقَ بیته بإجلال، لا يكون إلا لأماكن العبادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤