الخنافس

أول ما تردَّدتِ الشكوى في المنزل رقم ٤، ومنه انتقلت إلى رقم ۹، ثم إلى رقم ۲۲. ولم يكن يمضي أسبوع حتى انخرط الحي كله في ترديد الشکوى. يعثر شخص على خُنفساء، ساكنة أو مُتحركة، فيهرسها دون مبالاة. في اليوم التالي يرى اثنتَين ورُبَّما ثلاثًا. ما هذا الوافد الجديد؟ بل تُصبح ظاهرة تُثير الضيق والحَيرة، ويشملها السمَر في المقاهي.

– لا خوف منها، ولكن لِمَ تظهَر بكثرة على غير عادة؟

– ولا تَنسَوا ما يُقال من أنها تجذب وراءها العقرب.

تواصَلَ القتل بلا هوادة، سَهرَتْ أعين الرِّعاية حول الأطفال والصغار، وباتتِ الخنافس الشُّغل الشاغل والحديث الغالب. واستَمر تكاثُرها، وانتشَر الخوف منها ومن العقارب. ورجع بيَّاعٌ جوَّال ذات مساءٍ وقال: إنهم يُحطِّمون الأحجار فوق الجبل بالديناميت، ومن الجبل تنهالُ علينا هجرات سكان الجبل بادئةً بالخنافس.

ثم واصَل بعد لحظة صمت: وتتبعُها بعد حينٍ العقارب والحيَّات!

إنه قضاء يتحدى الحي، ولا بُدَّ من دفاعٍ من نوعٍ ما. واتجهَتِ الآمال أوَّل ما اتجهَت نحو المحافظة. وفي الحي موظَّفون ومُتعلِّمون، فما علينا إلا أن نجسَّ النبض، والله المُستعان. لكن الشكوى لقِيَت من المحافظة استخفافًا وسخرية، أتريدون أن تُعطِّلوا المصلحة العامَّة خوفًا من خنفساء؟! أمَّا ما يُقال عن العقارب فما هو إلا خُرافةٌ من خرافات الأولين. هذا والخنافس تتكاثَر والقتل يستفحل حتى حلف الحلَّاق أن جثث الخنافس جاوزت بالأمس المائة في مسکنه. وفازت غرف النوم بعنايةٍ مركَّزة، وعُرِّضَت للتفتيش الدقيق الحشيات والأغطية والوسائد، فما يحتمل أحد أن يستيقظ من نومه على زحفِ خنفساء فوق جبينه أو اندساسها بين شفتَيه، وقال رجل: لولا أزمة المساكن ما بقيتُ هنا يومًا واحدًا.

وقال آخر: سُكْنى المقابر أفضل وآمن.

وراجت تجارة المبيدات، وانهالت الاستشارات علی الصيادلة، أمَّا جموع الخنافس فلم تتوقَّف أو يَعترِها ضعف، وانتشَر لونها في مواقع فصبغَتها بالسواد، إضافة إلى الرائحة الكريهة، وعندما تجيء العقارب فقُل علينا السلام. وحَلَّ اكتئابٌ عام كأنَّه غُبارٌ تحمله الخماسين، فقد الناس المرح، واشتدَّت حساسيتهم لأقل سبب، يتشاجرون حتى مع أنفسهم، وفي البيوت توتَّرتِ الأعصاب، وتعدَّدتْ أسباب النِّزاع، وكثُر الحلِف بالطلاق، وضُربَ الصِّغار لأتفه الفعال. وكل شخصٍ قال إنَّ العقارب آتية لا ريب فيها. يا إلهي، ما سر البلاء؟ أهو الديناميت؟! أهو سوء النية؟ أهو غضب الله؟ ولكن ما جدوى التخبُّط بين الفروض، وها هو دینامیت الحكومة لا يسكت دقيقةً واحدة؟ الحكومة وراء الخنافس، وراء العقارب، لا تُعاني مثلنا، ولا تُبالي بنا، تُقيم في الأحياء الآمنة بعيدًا عن الديناميت والجبل، وتترکُنا لمصيرنا. أي حياة هذه؟ لا عمل لنا إلا قتل الخنافس في ضجر وقرف، وشحنُ الصفائح بالجثث عملٌ أثقل، والتخلُّص منها أمرٌ مُحيِّر. كأننا لم نُخلَق إلا من أجل مقاومة الخنافس. واقترح رجلٌ فاضل أن يُنقَل ميدان المعركة إلى الخلاء الفاصل بين سفح الجبل ومشارف المساكن. وتحمَّس كثيرون للفكرة، فانطلقوا إلى الخلاء حاملين العِصِي وانقضُّوا على الجموع الزَّاحفة بهمة وتصميم، وتواصَلَ العمل حتى هبوط العتمة، ولكن ذلك كله لم يُقلِّل من انتشار الخنافس في البيوت، ولا خفَّف من مخاوف النِّساء والأطفال، بل راحت الخنافس تتسلَّل إلى الطرقات والمقاهي والدكاكين، ويُعثر عليها مَرَّاتٍ في قوارير الخل والزيت والمرطِّبات أو مدفونة في حشو العيش والطعمية. الحياة ضجر وقرف وترقُّب لخوفٍ داهم. ودعا قومٌ للهجرة وليكُن ما يكون. وحرَّض آخرون على قتال طُغاة الديناميت. وقال وليٌّ صالح إنه لا نجاة لنا إلا بالبخور. وسعی من سعى إلى الهجرة، وخطَّط من خطَّط للقتال. ومال كثيرون لفكرة البخور لسهولتها وسحرها. والبخور متوفِّر والمبخرة جاهزة، ولكن الولي اشترط الطُّهر والنَّقاء فيمن يقوم بالتبخير وإلا رُفعَت اللعنة، وحلَّت العقارب والحيات مكان الخنافس. وكُلَّما عُرض الأمر على رجلٍ مشهود له بالطِّيبة جفل وقال الكمال لله وحده. وبدا أسهل الحلول وكأنه أصعبها. حتى جيء بطفل في الرَّابعة من عالم البراءة، فطوَّقوا وسطه بعِلاقة المِبْخرة النُّحاسية، وحملَه أبوه فطاف بالبيوت والأماكن. وکف النَّاسُ عن المقاومة أملًا في البخور، ولكن الخنافس تكاثَرتْ لدرجة تعذَّرتْ معها المقاومة. وهجر الناسُ بيوتَهم إلى الطرقات، وهم في کربٍ ما بعدَه كرب، وانهالَت الاتهامات على البخور والولي، وحتى الطفل لم ينجُ من تُهمةٍ تُناسِبه. واختلطَت الأمور وذُهل النَّاس عن الحقيقة، وازدادوا ذهولًا والأيام تمر. ولا أحد من المُعاصرين يدري كيف انكشفَت الغُمة وتلاشى الكابوس. أجل، قد رجع الناس إلى المساكن، ورجعَت المساكن إلى الناس، ولكن كيف؟ يهمس قوم إنها الهجرة. ويُشيد آخرون بقتال الأبطال. ويتغَنى فريقٌ بشذا البخور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤