وراء العامود

بكافيتريا الفندق الكبير لُذتُ فرارًا من حَرٍّ يتأجَّج في الشوارع. ما أجملَ الجوَّ المُكيَّف عقب احتراق وعرق! وثمَّة مكانٌ خالٍ وراء عامودٍ ضخم مُطَّعم بالمرايا والأصداف الملونة، فأسلمتُ نفسي لمقعدٍ ليِّن. يكاد يخلو المكان، سوى ذلك الركن الغربي تتهادی منه ضحكاتٌ رزينة وروائح السيجار. لمحتُهم من ناحية العامود جالسين حول مائدةٍ معدنية اصطفَّت فوقها أقداح المرطِّبات. عَرفتُهم رغم أنني لم أرَهُم من قبلُ، يدُل عليهم مَظهرُهم الرائع، وسماتٌ مشتركة كاللغد الممتلئ والسيجار والنظرات الهابطة من علٍ. ورغم طفرة الزمن فهم يتنادَونَ بسعادتكَ ومعاليك، وانعقَد فوق هاماتهم نصرٌ مؤكَّد. تجول عيناي في أرجاء المكان تابعة الفتيات ذوات السُّترات الحمر وهنَّ يؤدِّين الخدمة، ثم يرجعن إلى الركن، فوضَح لي هذه المرة أن صاحبي «الأستاذ» مُندسٌّ بينهم كأنه أحدهم. يقينًا هو ليس منهم، ولكنه حائزٌ لرضاهم، يكتب إذا كتَب في حياء، متناولًا طرائف الشرق والغرب، ولكنه عند الحديث يضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب، فما من طائفة إلا وتظُنه وليُّها. أراهن على أنَّه يروي نكتة، صوتُه غير مسموع وإشاراتُه دالَّة، وهم يُصْغون باهتمام، ثم تتهادى الضحكات الرزينة. هُم في حاجة إليه، وهو في حاجة إليهم. ابتسمتُ لكثرةِ ما تذكَّرتُ. تلك الليالي الحافلة بالكلام والسمر. إنَّه الآن يُنافق. يقوِّض أبنية ليُداهِن أحلامهم. أنا أيضًا أجلس في مجلسي الرطيب لأحلُم. النوم العميق يجد في الأحلام مفتاح الفرج. أمَّا في مجالسنا المرحة فقد استحَق الأستاذ لقب مؤرِّخ العصر ومُفشي الأسرار. لكنه صادق معنا وإلا، كانت تلك الأقدار التي تُحيط بنا. إنَّه يُحِيل الشائعات إلى حقائقَ بمشاهداته وأسانيده وأخباره. مؤرخٌ خبيرٌ بالصفقات والسلب والنهب. بل لعلَّه في أعماقه متمرد أو ثائر، ولكنه يؤثر السَّلامة والرِّبح. إنَّه يعلم أنَّ ذلك الرَّكبَ غاصٌّ بالموبقات، ولكنَّه آثر أن يتعلَّق بذيله ولو على كُرْه. في مجالسنا فقط ينطلق على سَجيَّته ويُكفِّر بالكلام عن سلوكه. يسألُه أحدُنا: حتى متى تمضي الأمور هكذا؟

فيقول بحماسٍ عابر وحقیقي: حتى تلفظَ السلبية أنفاسها.

– لكنَّنا شهدنا أكثر من ثورة؟

فيقول ضاحكًا: لي عمةٌ لم يُشفَ کبدُها من أوجاعه حتى أجرت به ثلاثَ جراحات!

وأمُد بصري نحو ركنهم وعاصفةٌ تموج في صدري، ألا يفكِّرون في العواقب؟ أم هو قدَر يحمل الجميع إلى غايةٍ مرسومة؟ وأتسلَّى بالنَّظر في قعر فنجان القهوة الفارغ، كأنما أشوف البخت. أری رسمًا في راسب التنوة يُشبه القاطرة. أتذكَّر ما يُقال عادة: «أمامك سكَّة سفر!» ورأيتُ الركن يتحوَّل إلى حجرةٍ هادئة للتدخين معزولةٍ تمامًا عن الفندق مُغْلقة الباب، والسَّادة هائمون بين الاسترخاء والسمر، ولكن الباب فُتح، وانسَلَّ منه شابٌّ غريب، أغلَق الباب، ولَّاه ظهره، وتَوجَّه نحوهم في توتُّر وتَحدٍّ. نحيلٌ طویل ذو سروالٍ رمادي وقمیصٍ غامق اللون، معروقُ الوجه شاحبُه، زائغُ البصر. ترتفع نحوه الأبصار مُسْتطلعة، ويسود صمتٌ داهم. لا أحد من السَّادة يعرفه أو ينتظره، لعله جاء لمقابلة الأستاذ، المهم ألا تطُولَ الزيارة. يَدُسُّ الشابُّ يده في جيب سرواله ثم يُسدِّد نحوهم مُسدَّسًا، يقول: حذارِ .. أي حركة ستجر وراءها الموت.

حلَّقتْ فيه العين، أيُّ مفاجأة؟ كفوا عن التدخين. مجنون؟ ما أكثَر المجانين في هذه الأيام! لكنَّ الحياة ليست باللعب. وتساءل أحدُهم: أي شيءٍ بيننا وبينك؟!

فهتفتُ: كثير .. كثير .. للأسف ليس في المسدس ما يكفي من رصاص.

فقال الرجل بحرارة: لماذا؟ تمهَّل وفكِّر .. أنتَ تُهدِر حياتكَ وأنتَ في عز الشباب.

– حیاتی مُهدَرة .. الحياة مهدَرة.

استَحوذَ عليهم رعبٌ شديد وقال صوتٌ متهدِّج: فكِّر أنكَ قد تَقتُل بريئًا.

صاح بعصبية: يا أوغاد .. يا أوغاد.

ووجَّه الشاب بصره نحو الأستاذ وسأله: ألا يستحقُّون الموت؟

فخرج الأستاذ من جلده وقال: إنهم يستحقُّون الموت، ولكنَّكَ لا تستحقُّه!

فتساءل مُتهكِّمًا: متَى حظِيتْ حياتي بكل ذلك الاهتمام؟

ثم واصَل بإصرارٍ نهائي: ما دمتُ لا أستطيع أن أقتلكم جميعًا، فسأقتُل أشدَّکم إجرامًا.

اعتقَد كلُّ واحدٍ منهم أن حياته انقضَت.

على غير توقُّع من أحدٍ حوَّل مسدَّسه نحو الأستاذ، وأطلَق النار.

•••

شعرتُ بإعياء، أشعلتُ سيجارة. ألقيتُ على الرُّكن نظرةً من جديد. الضحك لا يتوقف ولا السمر، ولا الأحلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤