روكي الأصعب مراسًا

تبدو العودة إلى روكي دالتون الآن بمثابة استحضارٍ لمَوتى لا يهدءون في قبورهم. فحياته وشِعره وموته التراجيدي تنتمي جميعًا لزمنٍ يبدو نائيًا: ذروة الحرب الباردة بين مُعسكرَين مُتناحرين يقتسمان العالم، ذروة حركات التحرُّر الوطني والصراع الأيديولوجي والكفاح المسلح، والشعر والسياسة كوجهَين لتغيير العالم ضِمن نطاق آخِر موجات الحشود الجماهيرية الضخمة للقرن العشرين.

يبدو ذلك الزمن نائيًا ونحن في الأعماق السحيقة لسيطرة الرأسمالية المتوحِّشة على أقدار العالم، خصوصًا بعد هزيمة الحركات الجماهيرية الكبرى في مطالع القرن الحادي والعشرين.

لكن آمال البشر لا تموتُ بل تتجدَّد في قاع المِحَن. تتحقق، فيما يبدو، نبوءة دالتون أن «الموتى يصبحون كل يومٍ أصعب مراسًا». فما زالت أحلامُ العدل والحرية والحق في الحياة الكريمة تجتذب أعدادًا متزايدةً من البشر رغم تضاؤل سيطرتهم على مسار حياتهم. لن يريد الناس اليوم بالتأكيد العودة إلى أساليب أو مفاهيم ذلك العصر بعد أن تجاوزناه، لكنَّ وجدانَنا يستعيد المشاعر والخلجات التي ينقلها شِعرُه وتمنح الحياة ثراءً وازدهارًا استثنائِيَّين.

وُلد روكي دالتون في العاصمة سان سلفادور عام ١٩٣٥م لأبٍ ميسور ينحدِر من سلالة أشقياء الغرب الأمريكي. هجر أُمَّه ولم يعترِف ببنوَّته حتى بلغ السابعة عشرة، رغم أنه ظلَّ يدفع مصاريف دراسته لرغبته في أن يتلقَّى الصبي تعليمًا كاثوليكيًّا. وبعد المدرسة اليسوعية في سان سلفادور، أرسله إلى سانتياجو دي تشيلي ليدرس في الجامعة الكاثوليكية. درس الفتى القانون والأنثروبولوجيا في تشيلي والمكسيك وعقد صداقاتٍ مع اليساريين واندفع يافعًا للانضمام إلى الحزب الشيوعي للسلفادور، عام ١٩٥٧م، ليُقاوم قمع حكمٍ عسكري يُكرِّس ملكية البلد بأسره لبضع عائلاتٍ محلية وبضع شركاتٍ أمريكية. سُجن مراتٍ عديدة ونُفي وكان بين من أنشئوا الجيش الثوري للشعب ERP لخوض غمار الكفاح المُسلَّح. بعد أن أقام في كوبا وجاب المنافي عاد إلى بلدِه سرًّا ليُقاتل أواخر عام ١٩٧٤م لكنه لقي مصرعَه ولم يُكمل الأربعين في العاشر من مايو ١٩٧٥م على يد زملاء له في جبهة FMLN اتَّهموه، للتعمية، بالعمالة لكلٍّ مِن المخابرات المركزية الأمريكية وكوبا في نفس الوقت. واستغرق الأمر نحو عقدَين لينتزِع ابنه اعتراف المسئولين عن قتلِه بالحقيقة عام ١٩٩٣م. اعترف أحد أعضاء المحكمة الثورية التي أدانته، لابنه، أن ذلك كان فعلًا من أفعال عدم النُّضج الشخصي، والعاطفي، والأيديولوجي. وأقرَّ بأن دالتون كان ضحيةً للجهل، والتآمُر، والدوجمائية.
هكذا كانت السياسة عنصرًا حاسمًا وباترًا في حياته. كانت الخيط الذي يربط حياته وشِعره، وكذلك الجهل والدوجمائية اللذان يضعان نهاية للاثنَين. وقد شدَّد هو ذاته على ارتباط حياته بالثورة والشعر في إهداء ديوانه «الحانة وأماكن أخرى»: «عزيزي خورخي: لقد وصلتُ إلى الثورة عن طريق الشعر. سيكون بإمكانك أن تصِل (إذا شئت، إذا أحسستَ بالحاجة لذلك) إلى الشعر عن طريق الثورة، ولك بذلك ميزة. لكن تذكَّر، أنك لو كنتَ قد وجدتَ ذات مرة دافعًا خاصًّا للابتهاج بصُحبتي في النضال، فبعض الفضل في ذلك يعود أيضًا إلى الشعر.» شكَّلت السياسة عصب رؤيته للعالم، لكنَّ ذلك لم يعنِ تبنِّيه للصيغة الرسمية الضيِّقة للإبداع التي سُميت بالواقعية الاشتراكية، بل جمع بين معرفةٍ عميقة بتراث الشعر المكتوب بالإسبانية وبين إنجازات الشعر المُضاد والسوريالية. كان يرى أن الثورة قصيدة حُب، والشاعر سلوك أخلاقي. كل إبداع ثورة، وكل ثورة فعلُ إبداع يسعى إلى الرقي بالحياة، والتكريس السياسي هو ببساطة تكريسٌ للحياة.
الثورة هي حقًّا أول ما يتبادر إلى الذهن عند ذِكر اسمه، لكنها لا تُلخِّص، وحدَها، حشد التداعِيات المُترابطة التي يستحضرها هذا الاسم من مواهب وملَكات. فالسياسي المؤمِن إلى حدِّ حمل السلاح هو شاعر وكاتب مُتدفِّق الموهبة مُتعدِّد الوجوه، يُعَد أحد أهم شعراء أمريكا الوسطى، (فاز بجائزة أمريكا الوسطى للشعر من جامعة السلفادور أعوام ١٩٥٦م، و١٩٥٨م، و١٩٥٩م، وبجائزة دار الأمريكتين بهافانا عن ديوان «الحانة وأماكن أخرى» عام ١٩٦٩م)، وإنسان جيَّاش بالعاطفة والمرح، وصديقٌ سخي ودود مُندفع للقاء الحياة التي تقلَّبت به كما لم تفعل بأحدٍ من مُعاصريه إلى حدِّ أن يُصبح مثالًا للقُبح.
كان يضحك حين يحكي أنه الشاعر الأمريكي اللاتيني الوحيد الذي أفلت من فصيلة إعدام لأن زلزالًا حطَّم جدار السجن الذي كان مُحتجزًا فيه، وسجَّل ذلك في روايته الشاعر البائس الذي كنتُه التي نُشرت بعد وفاته. قبلها كان قالب طوبٍ قد حطَّم أنفَه في مراهقته نتيجة خلافٍ على احتساب ضربة جزاءٍ في مباراة كرة قدم. وأصابت طوبةٌ عينَه، وأصابت زجاجة رأسَه من زوجٍ يشُكُّ. ونال علقةً من عُصبة رعاع في براج، وتعثَّر بالسلاح ليُجهِز على ما تبقَّى من وجهه في كوبا، قبل أن يعود إلى بلاده ليُحارب لإيمانه بنظرية البؤرة الثورية المُسلحة التي انخرط فيها مع ريجي دوبريه وطبَّقها التشي جيفارا في بوليفيا.
وفي هذه الأثناء كان قد صنع مئات العلاقات الحميمية مع أصدقاء وصديقات في أركان المعمورة، ونشر دستةً من الدواوين والأعمال النثرية والدراسات، وشارك في أعمال دار الأمريكتَين في هافانا وعمل مُحررًا لمجلة مشكلات السِّلم والاشتراكية في براج. وبعد عودته الأخيرة إلى بلاده أصدر القصائد السرية تحت أسماءٍ مُستعارة لخمسة شعراء بينهم امرأة، ليُراجِع من خلالها آراءه وتحيُّزاته الذكورية التي كانت رائجةً بين مُناضلي ذلك الزمن. فقد كان حسُّه بالحياة والنضال يُتيح له السخرية من نفسه والحفر تحت السطح ليكشِف أصعب مناطق الخبرة الإنسانية، ليلمِسها بعُمق، ويستكشفها، ويُبرزها بطريقةٍ مفيدة وجميلة. كان ينتمي إلى جيلٍ من شعراء أمريكا الوسطى — بينهم الجواتيماليَّان أوتو-رينيه كاستييو وأرجيلس مورالس والنيكاراجويَّان ريكاردو مورالس وليونيل روجاما، والسلفادوري مانليو أرجيتا — يجمع عملهم بين شاعرية تنبُّؤية وسياسة تنبُّؤية.

وتجمع النصوص الحالية بين قصائد قليلة مأخوذة من مختاراتٍ ثنائية اللغة بنفس العنوان أصدرَتْها دار فرنسوا ماسبيرو في باريس فَور موت الشاعر عام ١٩٧٥م:

Les morts sont de jour en jour plus indociles. Traduit de l’espagnol par Franchita Gonzalez Battle. François Maspero, Paris, 1975.
وبين أخرى مأخوذة من مختارات وافية بعنوان «أشعار مختارة» أصدرتها عام ١٩٨٩م في هافانا دار الفن والأدب:
Poesía escogida, Roque Dalton. Editorial arte y literatura. Ciudad de la Havana, 1989.

وهذه الطبعة أعدَّها دالتون ذاته عام ١٩٧٣م، وراجع فيها نصوص وتبويب كل دواوينه السابقة ونتيجةً لذلك ربما تكون بعض القصائد قد تزحزحت عن أماكنها في الطبعات السابقة. واختتم تقديمَه لها بأن قال: «ما تريد في العمق أن تقوله هذه القصائد عند طبعِها في مجموعٍ هو: هكذا رأى الشاعرُ في طريقِه الحب، والنضال، وحماقة البورجوازية، الميثولوجيا الرقيقة لآبائه، شكوكه الخاصة، السجون، قُرب الموت، الرهافات المفهومية للنضال الأيديولوجي، الحوار، البلد المُستلَب، المتعة، الدموع، الأمل الحديدي. رؤية متعددة، متنوعة، لكنها دائمًا منحازة، لن تكتسِب معناها الأصيل إلَّا في قلب النضال العمَلي من أجل تحرير شعوبنا.

هذه هي الدراما البديعة لكلِّ الشعراء الثوريين لأمريكا اللاتينية. هذه هي الدراما البديعة للشعر الأمريكي اللاتيني الحقيقي لأيامنا.»

مع الاستعانة بمجموعة ثالثة ثُنائية اللغة بعنوان:

Poemas clandestinos/Clandestine Poems, Roque Dalton; a translation Project of the Roque Dalton Brigade, translation by Jack Hirschman, Edited by Barbara Paschke and Eric Weaver, Introduction by Margaret Randall, Solidarity Publications.
Copyright 1986 by Solidarity Educational Publications, Inc. P.O. Box 40874. San Francisco, CA 94140.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥