دور المُهان

١٩٦١–١٩٦٥م
مكسيكو – هافانا – سان سلفادور – براج

(طبعة أولى مُجتزأة: دار الأمريكتَين، هافانا، ١٩٦٢م.)

إهداءات

إلى أُمي، صانعة التضحية، إلى وينال دالتون، الأسطورة الحميمة. إلى زوجتي، شريكة القلب. إلى خينوبيبا، الرقة الميتة.

إليكِ، يا مَن لن أحتمل نظرتك.

إلى ميجيل مارمول، الذي أعدم بالرصاص ويتمتَّع بصحةٍ جيدة.

إلى الدكتور إلياس ناندينو.

إلى رجل البوليس الذي ألقى إليَّ خمسةً وعشرين سنتافو من خلال القضبان لأشتريَ لنفسي سجائر ضد اليأس.

إلى توماس جييرمو لوبث، زميل الجامعة الذي استجوَبَني بكراهيةٍ في الليالي الباردة لاحتجازي في مقرِّ البوليس القومي.

إلى الجنرال مانويل أليمان مانثانارس: من أجل التوصُّل إلى عقوبات قاسية ضدي، قام بأفضل تقريظٍ لحياتي، مبالَغ فيه جدًّا، في الحقيقة.

لقد لكمتُموني صافعين
باليد القاسية وجهي
(العاري والطاهر
مثل زهرة يُشرِق فيها
الربيع.)
لقد سجنتموني أكثر،
بعيونكم الحانقة،
وقلبي يموتُ من البرد،
تحت شلال الكراهية.
لقد احتقرتُم حُبِّي،
سخِرتُم من هديته الصغيرة الحيية،
دون أن توَدُّوا فهمَ متاهاتِ
رقتي.
والآن حان دوري؛
دورُ المُهان الصامتِ أعوامًا
رغم الصرخات.
فاصمتوا.
اصمتوا،
وأنصتوا.

(١) الندوب

القرار

(خوارث إي بالديراس، ٢١:٣٠ مساءً)
وحتى لو لم يكن القلب ذلك الحيوان المُتوثب الذي كنَّا نتوقَّعه،
فإنه يكفي كي نشربَ بشغفٍ الحبَّ والسكاكين التي تحوطنا.
كلُّ المدينة الهائلة تجد نفسها سجينةً في هذه الناصية،
التي تُشبِه عينًا ضخمة تنفتح
إلى حيث تطلبُ اللانهاية هدنةً من عطَش البشر،
للذهاب إلى مدًى أبعد.
لقد أنقذتُ شارتي اللامعة:
فأنا أُنكر النشوة وأُمجِّد الهدوء المُرَّ؛
أعني أنني بابتسامةٍ صغيرة، وبالبذلة القديمة النظيفة، سأقبلُ
كلَّ المَيتات التي تخصُّني.
حتى مَيْتات تلك النساء ذوات العيون المُتدفِّقة اللواتي تركتُهنَّ
غارقاتٍ في الصمت،
تتحسَّسن بأيديهنَّ المالِحة من الدموع، روحهنَّ التي
سحقتُها بأظلافي الجميلة.
لقد تقرَّر كلُّ شيءٍ. آه يا للعِنادِ
الذي تسقط به في الحياة حِكايتي المُسرعة،
بحيث لا تعود ثمَّة ضرورةٌ للفتور الأخوي،
فصل الرقَّةِ في هذا العام الليلي، ذي الاثنتي عشرة ساعة.
ورغم ذلك — يا للرغبات الخائنة! — فصوبَ تلك المحاولات
الحلوة تنفلتُ ابتسامتي مِثل حمامةٍ خضراء ناضرة.
ومِن جديدٍ يُمكنكم أن تُسمُّوني الأخَ البائسَ الرفيق المُمزق البائس،
الشاكر ككلبٍ مِن أجل خُبز كل ليلة.
آه مِن الموت: اقذفوا — ماذا يُهم — سنانيركم العميقة.
اقذفوا حتى الحياة، إذا شئتُم، مِثل انهيارٍ جليدي تالٍ
فالقبول يَعني الوجود وقد قبلتُ كلَّ شيء،
كلَّ شيء.
حتى ذلك الذي لا تَوَدُّون نُطقه خوفًا من التواطؤ
القاتل دومًا بفتوره العنيد.

وطني بعيد

بعيد عن العالم، بعيد
عن النظام الطبيعي للكلمات؛ بعيد.
على مبعدة اثني عشر ألف كيلومتر،
من حيث يكون الحديد بيتًا للإنسان وينمو،
مثل زهرة نادرة تعشق السُّحب،
بعيد عن الأقحوان، عن جناح البطريق الناعم،
عن البحار المُظلمة التي تُلعَن من البرد؛
بعيد، بعيد جدًّا عن حيث يكونُ منتصف الليل مسكونًا،
وتُملي علينا الآلةُ صوتَها الآمِر،
بعيد أيضًا عن حيث تخلَّف الأمل،
عن حيثُ يُولَد النحيب ميتًا أو ينتحِر،
قبل أن تخنقه النفايات،
بعيدٌ عن حيث تكرَهُ الطيور،
عن حيث تُحدِّثك عن الحُب ذئاب نتِنة وتدعوك
إلى فراشٍ من العاج؛
بعيدٌ عن حيثُ تتآمَر الحدائق ضد جمالها،
بالسكاكين التي يمنحها لها الدخان،
بعيد،
بعيد،
بعيد عن حيث يكون الهواء زجاجةً رمادية ضخمة؛
عن حيث يقدِّمُ الجميع فقاعات صابون بشِعة،
ويشرب ملائكةٌ فاسقون، مع أطفالٍ وقِحين،
سُمَّ الرِّدَّة ضدَّ كل شروقٍ ممكن.
بعيدٌ عن غمغمة الأقنعة؛
بعيدٌ عن حيث لا تُعمي العاريات بضوء جلدهن.
بعيدٌ عن راحة القيء.
بعيدٌ عن حسِّية البانتوميم،
عن التيار الدفين لِلَعَناته التي بلا قرار.
بعيد، بعيد بصورةٍ فظيعة،
عن حيث تجوب الشوارع حيواناتٌ خرافية من الحرير،
عن حيث ترتجف الغابات مهزومةً وتهرُب.
عن حيث يكون لكلِّ مفتاحٍ باب ينتظِره مؤرَّقًا؛
عن حيثُ تنبتُ عمياءَ موسيقى الذهب،
وتنبح طليقةً قطعانُ الكوبالت.
بعيدٌ، بعيد بصورة قاطعة،
عن حيث يموتُ الشهيد رجمًا بالسخرية،
ويكون القديس مهرجًا يظلُّ صامتًا.

التحدُّث بوضوح

مضى آخرُ النائحين
باحثًا عن عزاء المُهرجين.
(عاريًا يُمكنني أن أبقى في هذا الميدان الكبير،
الذي تُضيئُه توهُّجات السكون،
ما لم ترني عينٌ مُتطفلة.
آه هذا الهجران قاتل؛
إذ يبعث بردَه مِن ألسنة اللهب.)
أتمنَّى أن يأتي أحدٌ من جديد ليسمعني،
ويبكي معي حتى النهاية.
فربما جرُؤتُ عندئذٍ على جعْل الحقيقة أقلَّ مرارةً.

أرَق

السماء بُحيرة كبيرة، البحيرة
سماءٌ صغيرة.
(حتى الأحجار يُسمَع صراخُها في مُستشفى المجانين هذا،
والصنوبراتُ كأصابع ضخمةٍ خارجة من القبر،
تتلقَّى من القمر ظلالًا صلبةً؛
ظلالًا من الدخان الأسود والجرانيت
وددتُ لو أعود إلى السلفادور،
لكنني لا أدري، هل هو بلدٌ أحلم به؟
مجرد أمنية،
وليدة اللهب الأخضر لمرَضي.)
الأرَقُ شبكة حمراء أو بنفسجية،
بئرٌ بلا قاع،
لا يُضيئُها حتى الفجر ذاته.
صلْبٌ مُتأجِّج،
لا يكفُّ أبدًا عن الاحتراق.
هل كان ذلك جرسًا نائيًا،
أم القلب؟
من جديدٍ أصبحت الساعة
الرابعة صباحًا.

(٢) مناخ الوطن

أرى

أعتقد أنهم قد خدعونا بما يكفي.
لديَّ الآن مفتاح اللُّغز.
أعطاني إيَّاه الألَم بين ضحكاتِ ثمِلٍ،
بين بصقات سجَّانٍ ونظراتِ كلبٍ
هائج بلا رحمة.
كذلك أعرفُ ما يلي: سيكون من الصعب تعويد البشر
على ذلك العُري الذي يسقُط فيه مَن يملك الضوء.
سيكون من الصعب إقناعُهم بأن كلَّ ضحكةٍ حتى اليوم كانت ضد نفسِها،
بأن الأيدي الممدودة نحوَهم كانت كلُّها بأظافر قاسية.
(الجوُّ بارد بعض الشيء، لكن هذا أفضل؛
فقد انطفأتِ النيرانُ القاتلة،
تَورُّدُ الجلدِ في ذروة العربدة،
الأسطورة المحمومة التي تُولِّدها الخمر المُستقرَّة في الدماء،
أعشاش العنكبوت العنيدة في اللسان.)
سأنزع على الفور بعض الأستار الأخيرة.
أما الجروح
فسأتوَّلاها أنا.

ماريا

كانت تُسمَّى ماريا وكانت صديقةً للرب.
لكنَّني أتذكَّرها أفضل بنهدَيها،
وهما يجرحان خدِّي في الشروق
الفاتر
لأيَّام الأحد.

ماريَّا تيكون

أيام الأسطورة حين كنتِ تُحبينني دون أسئلة،
جعلتِ المدينة تكتسِب هيئةَ لُعبة.
وحين أترككِ في الليل كنتُ أعود إلى منزلي،
مثلما في صُوَر ميلاد المسيح، مرِحًا عبر شوارع مِن نشارة الخشب.
في المرآة المُرتجفة والكئيبة للبرك،
كنتُ أنظر إلى وجهي بجوار القمر،
وأبحث عن قُبلاتكِ، حتى لا تُضيءَ
أحلامَ الطيور الضائعة في وسادتي.
كان عسسٌ مِن صلصالٍ ودِيَكة من صفيحٍ
يسخرون منِّي في صمتٍ غامِزين، لا أدرى كيف، بعيونهم الساكنة.
وحتى النائمون، كانوا عند مروري يتناقَلون الأقاويل بحسَدٍ في غُرَفهم،
ويقولون إنكِ خطيبة يسوع الطفل.
بطحلبٍ مُنتزَع من حيث تُولَد منابع كولومبوس،
كانت حدائق الحلم تنتظرني بنضارتها الخضراء.
لكن حرارة أطراف أصابعكِ كانت طعنةً، بلغ من عُمقها
أنَّ بائع شطائر الذُّرة١ كان عند الشروق يغسلُ في حدَقَتيَّ
عينَه الضخمة العارية مثلما في وعاءَين من دمٍ.
بين أشجار مكسوة بورق زينةٍ من قلب الأزرق النيليِّ
كنتُ أقضي النهار الجديد مُنصِتًا إلى فرقة موسيقية من رؤساء الملائكة المُسنِّين،
يُشكِّلون بشعورهم القطنية أنهارًا جديدة في النسيم.
بعدها كنتُ أُقابلك مع الغسق
— بشجرته السامِقة من النار المُشتعلة حقًّا —
وألعقُ في يديكِ جلدَ حلوى اللوز،
وحولنا كانت الدُّمى ذات الخدود الزهرية
تشرب بيرتَها من اللقاح والدخان.
أواه، لكن بعد أشهُرٍ قليلة خَطَر لكِ أن تكبري وابتعدتِ عنِّي
بإيماءةٍ فظيعةٍ لشخصٍ بالِغ.
من حينِها استعادت المدينة بِدَورها حجمها المُعتاد.
وفي شوارعها الأسفلتية السوداء يضرب المواطنون بأيديهم
رُوحي، رُوح الصبيِّ الحزين الذي ما زال بحاجةٍ إلى اللعب.

أُحبُّك

كلَّ الأيام، تحت كلِّ طقس،
في كلِّ الأماكن أُحبِّك.
سرعان ما يبزغ الصباح في النوافذ،
وأستعيد نفسي وئيدًا من الفتور.
بماءٍ بارد أداوي جراح الخمر،
وأُحبك.
ما مِن خلافٍ مع أي شيءٍ ممَّا يحوطني،
لكنَّني ضدَّ كلِّ ما يَحوطني أُحبك.
أنغمِس في الحياة،
أتحسَّس كلماتٍ جديدةً، إيماءاتٍ غريبةً جديدة.
في شمس الشارع أُشهِرُ حُدودي المُهدَّمة.
أُحبك.
أعود إلى الوحدة وأُحبك.
الباقي كلُّه بلا طائل.
أُحبك.

عارية

أُحبُّ عُريَكِ
لأنَّ مسامكِ تَشرَبُني وأنتِ عارية،
كما يفعل الماء حين أغوصُ بين جدرانه.
عُريكِ يَهدمُ بحرارتِه الحدود،
يفتحُ كلَّ أبوابي حتى أحدِسَكِ،
يأخُذني مِن يدي مثل طفلٍ تائه
يريحُ فيكِ عُمرَه وأسئلته.
جلدُكِ العذبُ والمالح الذي أتنفَّسُه وأرشفه
يُصبحُ كوني، الإيمان الذي يُغذِّيني؛
المِصباح العطري الذي أرفعه في عمايَ
حين تعوي فيَّ الرغبات بجوار الظلال.
حين تتعرَّين لي بعينَين مُغمضتَين
تسَعُكِ كأسٌ قريبة مِن لساني،
تسَعُكِ يداي كالخُبز الضروري،
يسَعُك ما تحت جسدي الأكثر اكتمالًا من ظلِّه.
يومَ تموتين سأدفنُكِ عاريةً؛
حتى يكون اقتسامُكِ في الأرض عادلًا،
حتى يُمكنني أن أُقبِّل جِلدَكِ في الطرُق،
وأضفر في كلِّ نهرٍ شَعركِ المُشعَّث.
يوم تموتين سأدفنكِ عاريةً،
مثلما يومَ وُلدتِ مِن جديدٍ بين ساقيَّ.

(٣) من ثقب المفتاح

الهزيع الأخير من الليل

إذا عرفتِ أنَّني مِتُّ لا تنطقي باسمي؛
حتى لا يتوقَّف الموتُ والراحة.
صوتُكِ، جرس الحواس الخمس،
سيكون الفنار الخافِت الذي تُفتِّش عنه ظُلمتي.
إذا عرفتِ أنني متُّ أطلقي مقاطع غريبة.
انطقي زهرةً، نحلةً، دمعةً، خبزًا، إعصارًا.
لا تدَعي شفتَيكِ تَعثرانِ على حروفي الأحد عشر.٢
يُغالبني النوم، لقد أحببتُ، وكسبتُ الصمت.
لا تنطقي باسمي إذا عرفتِ أنني متُّ:
حتى لا يجيء بي صوتكِ من التُّربة الداكنة.
لا تنطقي باسمي، لا تنطقي باسمي،
إذا عرفتِ أنني متُّ لا تنطقي باسمي.

عجوز مع طفل

خائفةً ومحنيَّةً.
باحثةً عن آخِر أسرار الحياة
عند مستوى الخطوات.
بالتَّعب اللانهائي لعدم استطاعة محاولة
حتى بذل المجهود.
مُنطفئة بكامِلها بتلاعُبات الضوء.
ليس أمامها سوى نسيان الحاضر برمَّته.
تزداد ثقلًا كل يومٍ مُستخدمةً
حجَّةَ الارتجاف.
وهو ببذلة البحَّار دون شائبةٍ لا تزالُ،
مشغولًا بصورةٍ هائلة بكل الطيور التي تمرُّ.

ما قاله لي مَجنون

حكيتَ لي أنَّ أباك كان بحرًا صغيرًا.
أنَّ الملائكة مجموعة من الحمقى،
لكنهم في الليالي يُحدِثون الكثيرَ من الضرر بأظافرَ مِن ذيلِ الشهب.
حكيتَ لي أن المطر في بيتِك يُغرق،
وأن شقيقاتك تُخصين في غضبٍ أشجارَ اللوز.
حكيتَ لي أن الظامِئين هم الأمَل الكبير.
أن الصفير في الحدائق هو اعترافٌ بالعجز
عن استعادة خمْر الكلمات التي يقولُها المرء طفلًا.
حكيت لي أن المرأة السمينة مجهولة بالنسبة لك؛
ولذا تكره إيماءات ظهرِها.
حكيتَ لي أن الأفضل عدم الخروج إلى الشارع
لأنَّ مِن البلادة إيقاع ضحايا عند عمرٍ مُعين.
حكيتَ لي أنَّ ثمَّة شيئًا يُدعى ضوء،
من المُستحيل توضيحه بالأيدي.
حكيتَ لي أن الأشجار ليست الأعداء الأساسيين،
وأنه لا يجِب تصديق شيءٍ مما يقولونه على الجانب الآخر من القضبان.

الكلمات القبيحة

في حنجرة سكير ميت،
تبقى الكلمات التي احتقرَها الشعر.
أُنقذها أنا بأيدي شبَح.
أعني بأيدٍ ورِعة.
فكل ما هو ميِّت له الورع المصهور
لِخبرته الخاصة.
خلسةً أتركها لكُم:
سحناتها المُتَّسخة قبيحة تحت الْتماع المصابيح،
ولعابها يسيل فوق عُريها المشوَّه.
أسنانُها وجفونها مُنقبضة
في انتظار اللطمة.
أقولُ لكم أحبُّوها هي أيضًا. عاركوا الشعر
على صفاء حجره.
زوِّدوها بسيرةٍ لامعة.
نظِّفوا الحُمَّى من جبهتها،
وأحيطوها بانتعاشاتٍ هادئة؛
حتى تُشارك هي أيضًا في احتفالنا.

المسيح

اصلبوه، اصلبوه،
اصلبوه؛
لأنه في أنسبِ الأوقات
لم يَشنُق سادةَ الشرَه.
لأنه لم يطعن الرسول المُنتفخ.
لأنه وزَّع ماء التواضُع والحُب،
بدل الحمض النهائي
للتخريب.

كارل ماركس

بدءًا من عينَي الأسد تلتمِعان في عُمق لحيتك.
بدءًا من الرطوبة المُترِبة في المكتبات السيئة الإضاءة.
بدءًا من الذراعَين الحليبيَّتين لجيني دي وستفاليا.
بدءًا من زوابع البؤس في المنافي البطيئة والباردة.
بدءًا من نوبات الغضب في صالات التحرير الرينانية، تلك المليئة بالدخان.
بدءًا من الحُمَّى كعالَمٍ صغيرٍ من الضوء في ليالٍ بلا نهاية.
صحَّحتَ العمل الأعرج للرب.
أنت أيها المُذنب الكبير بالأمل.
أيها المسئول بين المسئولين
عن السعادة التي تواصِل سيرها.

الجار

له زوجة، أمْيَل إلى القبح.
له ابنان اقتلَعا عينَيه،
ويُطاردان القطط في الحي هذه الأيام.
يعمل، يقرأ كثيرًا، يُغني في الصباحات؛
يسأل عن صحَّة السيدات؛
صديق للخبز، وللخبَّاز؛
عادةً يشرب البيرة عند الظهيرة؛
يعرف كرة القدم جيدًا، يُحب البحر،
يودُّ لو امتلك سيارةً،
يحضر الحفلات الموسيقية، لدَيه كلب صغير،
عاش في باريس، كتب كتابا — أظنُّه
كان أشعارًا.
يشعر بالرضا عند رؤية الطيور،
يدفع حساباته عند نهاية الشهر،
ساعد في إصلاح برج جرْس الكنيسة …
هو الآن سجين في السجن …
فهو شيوعي أيضًا، كما يقولون …

مات ماريانو الموسيقي

حيث انتظر البيانو لم يعُد ثمة طيور؛
مجرد ذكريات غائمة عن رجفةٍ بلا اسم.
الآن يسقط التراب تمامًا؛
فلا يُصادف في طريقه القوام الأبنوسي.
لم يعُد بابُ الحديقة يُفتح.
أحيانًا أُفكِّرُ ألَّا تُعاني كثيرًا،
كالأرامل،
الغُرَفُ التي نترُكها حين نموت.
على الأقلِّ حين يكون المرء قد غنَّى،
أو عزف فيها موسيقى عذبة،
كما فعل ماريانو …

شاهِدُ قبر

ظهر يومًا كسائر الأيام،
كما يُفترَض.
في البداية اعتاد شُرب النبيذ برشفاتٍ مُتمهلة،
في آخر بارات ذلك الشاطئ الداكِن،
ناطقًا أسماء المخلوقات البحرية
بطريقةٍ تُثير الضحك،
ومنشدًا مواويل مُشوَّشة، لا يفهمها
أيٌّ مِن السكارى البائسين.
بعدها، بقِي هنا ببساطة،
مُتعرِّقًا وبالِغ الاحمرار تحت الشمس العنيدة.
تزوج عاهرةً داكنة — قديسة تعسة —
مُستهلًّا جيرةً طويلةً صامتة.
فيليبس أومانيون بعينَيه وذاكرته المُمتلِئِين بمَسقط رأسه أيرلندا.
مات أمس في الشارع، ويداه مُنقبضتان على صدرِه،
دون أن ينطق كلمةً.
دون أن يُنبِّهَ أحدًا،
كمن يدفع للحياة ثمنًا بخسًا.
أثناء دفنِه انقطعت الحبال،
وسقط التابوت فجأةً فقفز غطاء الصنوبر الخشِن.
ألقَت رفيقتُه — بشفتَين دون طلاء —
أول حفنةٍ من التربة في وجههِ مُباشرةً؛

من أجل تجفيفِ دموعك

كما يعود القاتل الخشِن إلى مكان الجريمة،
ليستوعِب البانوراما الأخيرة لقتيلِه.
كما يعود الربيع من حلقوم الشتاء،
وفي يده حياة زهرةٍ لم تكتمِل.
كما يعود كلبُ الأعمى بعد الضربة،
وعظامه مُنفتحة على ضوء كسرة.
كما يعود الليل بظلُماتِه الجديدة،
تاركًا النهار مكسورًا بحرابه الثلجية.
كما يعودُ أسوأُ ابنٍ ضالٍّ مِن الشوارع
إلى المائدة الهادئة والعبق العتيق.
جريحًا بأوسع الجِراح وأجدرها،
ظامئًا بأشدِّ عطشٍ وليد الرمال.
هكذا أعود إليكِ.

مَيِّتةٌ أخرى

كان شبابي برتقالة مُتدحرجة،
ذهبها الناضر تترصَّده الطيور،
تترصَّده رغباتكِ.
من الغرفة برائحة التراب الرطب،
المليئة بالظُّلمة والتُّحَف،
حيث يتسيَّد قطٌّ ضخم شرِس.
لكنكِ كنتِ عجوزًا عجوزًا،
يُخيفني جلدكِ،
وشفتكِ المُتدلِّية الملوَّنة بالبنفسجي.
ها أنتِ قد متِّ، أترَين؟
وأنا بدأ يَغزوني الشَّيب.

الوعود

ستكونين آخِر امرأةٍ في حياتي،
يا روز ماري بلانش كولومبين بَتَلات زهرةٍ قُطفت لتوِّها.
عيونُك العميقة تبلُغ حدَّ أن تَعمُر بالضوء
أعوامِيَ الباقيةَ لتتنبَّأ بيوم مَوتي.
(أفضلُ الوعودِ هي التي تُقال بحرارةٍ،
لتُنتَهك بعدَها بألَمٍ هائلٍ،
في ظلِّ كل أشكال الندم.)
ستكونين آخِر امرأةٍ في حياتي،
يا كريستينا الصغيرة …

الأمثال

حيث يضع الأقحوانُ أقدامَه،
لن تنبُت الطعنة.
الهواء الذي تخفقه أجنِحة الملائكة،
سيكون سُمًّا للمُلازمين.
أثَر الغزال على ضِفة النهر،
سيُنزِفُ الدمَ من ركبةِ المُهرب.
الوردة العمياء لأبطال الرماية.

مادريجال

كانت أجملَ مِن مصنعٍ تشيكوسلوفاكي
حين يُفكر المرء فيها،
بعد تعذيبٍ لأربع ساعاتٍ،
في الغُرَف الأكثر ضوءًا وتهوية
لمُعسكر الحرس القومي.

ما قاله لي أناركيٌّ مُراهق

(هذا المشروع ليس أصيلًا. نقلَه إليَّ إ. ب، الأسقف في أوقات فراغه، الذي تلقَّاه بدوره مِن شفتَي الأناركيِّ المُراهق الذي أذكُره، ومِهنته رسَّام بورتريهات.)

لا تقتلوا القساوسة أيَّتها الشعوب التي تستيقظ وتنتبِه
لأضخم خدعةٍ اشتَمَّها أيُّ عصر.
على العكس، حفِّزوا تربِيَتهم؛
اعلفوهم واحدًا واحدًا بتدقيق دءوب.
هكذا يُمكنكم أن تمضوا بعدَها مُمتطين قساوسة سمانًا إلى العمل
— فالبنزين يَميل دومًا إلى الارتفاع —
أن تتركوهم مَربوطِين على باب البار،
أن تقولوا — يا للسَّلف الحقير الذي أنجبكم —
إن سلفَكم مُتوثِّب أكثرَ مِن الضالِّين الآخرين.
أيام الآحاد سنأخُذ الأطفال إلى سباقاتِ القساوسة
— لعبة التسلية الوحيدة المسموحة —
التي سيتألَّق فيها سُلالة الدمِ النقيِّ للأساقفة.
سيوجَد قساوسة للجذب والجر، وقساوسة للخبَب، وقساوسة للتناسُل،
وتكون لاصطبلاتهم رائحةُ القداسة.
القساوسة بلا فائدة، سيُحنَّطون،
ويباعون كحِلياتِ صالون:
ويمكن للرأس الحليق أن يُفيد كمطفأة سجائر.
ختام

الأمر الفظيع

دموعي، حتى دموعي
تصلَّبَت.
أنا مَن آمنتُ بكلِّ شيء.
بكلِّ شخص.
أنا مَن كنتُ أطلب فقط قليلًا من الرقة،
ممَّا لا يُكلف شئيًا،
سوى القلب.
الآن فات الوقت.
الآن لا تكفي الرقَّة.
فقد جرَّبتُ طعم البارود.
١  بائع شطائر الذرة: ترجمة تقريبية لكلمة nixtamalero وتعني في المكسيك مَن يبيع ذرة نصف مَغلية لصنع الشطائر. وينهض الصانع عادةً عند الفجر ليغسل الذرة ويطحنها ليبيعها. ويُسمَّى باسم الصانع أول نجمٍ يظهر في الصباح في الوقت الذي ينهض فيه. (م)
٢  عدد حروف اسمِه بالإسبانية أحد عشر حرفًا، لكنه عشرة بالعربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥