نصوص وقصائد شخصية جدًّا

١٩٦٢–١٩٦٥م
هافانا – سان سلفادور
(أُدرِجت بعض هذه النصوص في مجلد الطبعة الأولى من الشهادات. وتُدرَج هنا مع تعديلات لاحقة.)

I

الحياة غير المُجدية

«… ويجب أن نحياها بحيث لا نشعر بألمٍ مُعذِّبٍ بسبب السنين المُنقضية عبثًا.»

شريان الرقبة ذاك أخذ يُضايقني مرةً أخرى منذ طلوع النهار. الجرح اتسع، هذا أكيد. ذلك راجع لا بدَّ إلى الكراهية التي وجَّهوا إليَّ بها طعنة المطواة. لكن لا يمكنني أن أشكو في الحقيقة. طبعًا، لو أمكن القضاء على تلك الديدان البيضاء التي تُعشِّش تحت أظافري، لمضى كلُّ شيءٍ بصورة أفضل. إذن العيون في هذه الظلمة لن تكون لها ضرورة، أقول، هذه العيون التي كانت عيوني حتى الأسبوع الماضي على الأقل، أعني … مفهوم بالنسبة لي أنني سيتوجَّب عليَّ غدًا أن أبدأ التذكُّر. سبعة وعشرون عامًا والذاكرة البِكر في وظيفتها الجديدة لتوجيه اللوم، ما زالت تتمطَّى.

II

طفولة
(مدرسة سان خوسيه الصباحية)
وحينها كنتُ أحمل ببغاء إلى العذراء بينما يُدوِّي الأرغن. «هذا تخنُّث — قال أ. أ. — مع وجود سان إجناثيو دي لويولا الذي خاطر حقًّا بخصيتَيه في الحرب وفضلًا عن ذلك أسَّس الفرقة أمام إصرار زميله ذاك الذي يُكرِّر له في كلِّ الساعات المقدسة»: «ماذا يُفيدك أن تكسب العالم، إذا خسرتَ روحك؟» كان أ. أ. نصف أناركي. قادرًا على زرع القنابل وخلافه. للملوك والرؤساء.

III

أ. أ.
كان لي صديق صغير يُدعى أ. أ. ولمَّا كنَّا نذهب إلى نفس المدرسة (مدرسة سانتا تيريسيتا للطفل يسوع، للآنسات جونثالبو)، وقُمنا سويًّا بالمناولة الأولي ونحيا في نفس الحي (وبشكلٍ أو بآخر، كان أبوانا قد هجرا أُمَّينا إلى الأبد، فتحوَّلَتا، منذ ذلك الحين، بقوة الظروف، إلى قديستَين وبطلتَين — علاوة على كونهما كادحتَين لا تكلَّان —)، كنَّا نلتقي يوميًّا لعمل الواجبات المدرسية، استظهار أغنيات طفولية «الفأر ذو الأسنان القوية – الزرافة ذات الشال – والفيل الصغير – من يدِه إلي أمه» أو تلك الأغنية بالفرنسية التي تُشبه بالتقريب «بتيتون دي فوا – كي سابيه موفرسابيه موشوريه – آلا ميستر فليت، إلخ.» petitón de vuá – que sabé muférsabe mushuré – a la mister flite, etcétera وتخيُّل مع أخذ ملاحظات مكتوبة عن الاحتمالات، أيُّ نوعٍ من العلاقات الغامِضة على المستوى الشخصي جعلت من المُمكن أن ينشأ من زواج القديس يوسف والعذراء المُقدسة، الطفل الرب (الذي بدا لنا مُنفِّرًا تمامًا في ذلك الحين بسبب تجاعيد شعره المبالَغ فيها التي يُمثلونه بها وبسبب وجهه وجه العانس البدينة — هذا مفهوم لم نكن نتعامَل معه في تلك الحقبة، لكنه اتَّضح مع مرور الأعوام — وبطنه دون سُرَّة، وهو توجُّه لا يتعارض مطلقًا مع التقاليد الثقافية السلفادورية التي استطاعت أن تترك لنا مقطعًا جميلًا بهذا المعنى: «وُلد طفل/أجمل من الشمس/أفخاذ من الأفوكادو/كرش وطبلة»). كم كنَّا نكرَه، يا إلهي المُقدس، كيكي سولير، الذي كان أكبر منَّا بعامٍ كامل ويمر بين الحين والحين ليُبلغنا أنباء مقلقةً في مجال ظمئِنا. «لا تكونا أبلهَين — كان يقول — يُولَد الأطفال حين يضع الأبُ الحمامة في مؤخرة الأم. ثم يقطعها الأبُ بسكِّين مغلي. تصنع الأم هكذا فتذهب الحمامة إلى الداخل وهناك يتشكَّل الطفل. لذا يجب أن نُحب آباءنا كثيرًا لأن قطعهم للحمامة يجعلها في أهمية دجاجة. رغم أنها تنمو من جديد.» كم عبَدني أ. أ. حين اكتشفتُ وجود ووظيفة الإسبرماتوزويد في كراسة ملاحظات تمريض تخصُّ أُمي. عندها أراد أ. أ. أن نعقد حلفًا بالدم بأن نقطع طرف إبهامَينا بصخرةٍ حادة، كما فعل تيم ماكوي مع الهندي خيرونيمو. ومِن ذلك الحين، في أغلب المرَّات، نُحاول إتْباع «الكل للواحد والعكس بالمشقلب» للفرسان الثلاثة، لكن يجب أن أعترف أننا أيضًا كانت لنا لحظاتنا الأحادية الميل. فمثلًا، مرت فترة كان فيها أ. أ. يأخذ كراساتي وكُتبي فور أن أغفل، ويرسم في أية صفحة داخلية إمضاءَه في ذلك الحين «ذ. ذئب» L-Lobo، الأمر الذي كان يُزعجني جدًّا ويجعلني أُطلق ضده، واحدةً أو أكثر من الكلمات القبيحة العشرة التي أعرفها. أعني: caca كاكا، junene مؤخرة، marica مُخنث، qué-te-import ماذا يُهمك، cométe un huevo en torta كل بيضة في ساندوتش، tu nana أُمك، cipote cabro عيل، خروف، إسبرماتوزويد، guilo-mac-guilo جيلو-ماك-جيلو، وgimi-uan-foc جيمي-وان-فوك.١ كان لصديقي الصغير حاجبان غريبان، شيء يُشبه الرمز التقليدي الذي يُشير لنا به الرسَّامون الأكاديميون الكسالى أن نورسًا أو طائر نوءٍ على وشك أن يختفي وراء الأفق؛ وشفتان شديدتا الامتلاء لا أجرؤ على تسميتِهما مُنتفختَين لأنني أكره تعبيرات التخنُّث الإسبانية وكتِفان مُبطَّطان أكسباه من جوِّ القسوة السائدة في المدرسة اللقب الحاسم «كوكاكولا»، وفوق كل شيء، فخذان قيِّمان لفتاةٍ خلاسية مثَّلَا مشكلةً خطيرة لطفولته التي كان يرغب، قبل كل شيءٍ، أن تكون صاعقة وعنيفة. وفضلًا عن ذلك، كان يصنع أكثر الرسوم التي أتذكَّرها إفزاعًا بصورةٍ مبهجة. أودُّ أن أعلن بوقار هذه الليلة، أنني أتحسَّر في أعمق أعماق قلبي على عدم الاحتفاظ بكراسةٍ واحدة من كراساته لذلك الحين، فأنا واثق من كونها ذات قيمةٍ هائلة كأشياء نادرة وجميلة في أية سوقٍ فنية جادة ومعقولة. لا شاجال ولا هندي مُلفلف، كما يقال في السلفادور! وحين أصبحنا في المدرسة الثانوية — يملؤني بهجةً الاعترافُ أن ذلك كان بعد سنواتٍ كثيرة — صنعنا أ. أ. وأنا نسخةً حمقاء من نشيد مدرسة سان خوسيه النهارية؛ ونشيدًا خاصًّا بنجاحنا كطلبةٍ يختصر صيحة الحرب أمام الخطيبات اللاتي كنَّ يهجُرننا في العادة لكوننا مُفرطَين في إصرارنا على الجسد (مصاغًا بألفاظٍ ما كان الرهبان الأشدُّ خيالًا في عربدة العصور الوسطى بقادِرين على توقُّعها)؛ وثلاثة عشر نشيدَ سكارى تستهدِف التنوُّع بلا نهاية حسب مكان الصخب؛ ومجموعة صيحات تشجيع للقاءات كرة السلة بين المدارس الأشد أهميةً بالنسبة للمراهق السلفادوري المُتوسط من الحربَين العالميتَين (وأشد خطورةً، بالتأكيد)؛ وبعض القصائد للعِلم وللأم؛ وعدد لا يحصى من المؤلَّفات الوصفية التي قُرئت في مادة الأدب التي درسها المُوقر ألفونسو دي ماريا لانداريتش، المُلقَّب تابون Tapón [قصير/قزعة]؛ ودراما شعرية فظيعة — مشحونة، رغم كل شيء، بلمساتٍ قوية من البراءة والإخلاص — ضد أحد زملائنا الطلاب المدعو تيكولوتي [الخلاسي]، الذي بلغ مرتبة أمير المدرسة وفيما بعد، في الحياة بالفعل (ربما أعاقه ذلك التباهي المراتبي، اليسوعي بشكلٍ مُميَّز) وصل إلى قاضي الشرطة في سان سلفادور؛ ومشروع مِن ورقةٍ واحدة، لم يبلُغ حدَّ الطبع هنَّأنا فيه بابتهاج الشعب السلفادوري بمناسبة قيامِه بإضرام النار في الكاتدرائية المتروبوليتانية، رغم نجاة السيد رئيس الأساقفة — لسوء الحظ، كما قُلنا.

سيكون مُثيرًا للاهتمام جدًّا في الحقيقة أن نتحقَّق مما كان يمكن أن نصنعه أ. أ. وأنا، اللذان صمدنا معًا، فوق ذلك، لرُعب انفجار عشِّ دبابير طنَّان عند أقدامِنا؛ ولنوبات الحنَق الوحشية لذلك الشرطي العجوزِ المُنحلِّ الذي يشنُّ حملات اعتقالٍ في كامبو دي مارتي والذي أطلقنا عليه لقب «رحلة الماء» بسبب التواتُر غير المعقول للاعتقالات التي يُجريها؛ ومتاعب سباق دراجاتٍ بثلاث عجلاتٍ هابطين المنحدر؛ وإنكار الذات المتبادل في الحب المتزامِن تجاه نونا، الصبيَّة الشقراء بسحنة وريث بريطاني ستنمو بعدها كثيرًا (أعني السحنة) وتكتسب مظهر شاطئٍ فسيح من الرخام ما زلنا نُفتش فيه عبثًا عن آثار حرارة أو شفقة؛ ماذا كان يُمكن أن نصنع، أُكرِّر، لو كانت الحياة قد أتاحت لنا في هذا العمر القرب الدائم، ونحن نعلم، خيرًا أو شرًّا، أن ثمَّة الكثير من الألم بين أزهار العالم والكثير من السكاكين اليتيمة في الأشجار، والكثير من الأفاعي التي يجِب قتلُها والكثير من الدموع التي تطلُب مجرد كتِف صديق، والكثير من البرد الذي يُثير فينا العطش لنظرةٍ شقيقة كي نُحس بأنه ما زال بمقدورنا أن نُخرج للشمس قلبَنا المجلود. مجرد التفكير في ذلك يُصالحني مع شهر مايو. ويجِب أن أتبيَّن لماذا.

IV

شقيقتي

شقيقتي لها عينان مذهولتان. حين أشعرُ في المحطات الخضراء للحافلات بأن الوحشة تُطوِّقني بملائكتها المُحطمة، أتذكَّر الضوء الفاتر لقلبها وأعرف أن ثمَّة شخصًا، بالغ القرب، وأنها مهمومة لأنني قد أبلغ سنَّ السخرية (وهو حين يحزن المرء بسبب الموت) أو أشواق العَمى (وهو حين يتخلَّى المرء بشكلٍ لا يلين عن عقيدة الموت). وهي طفلة، قامت شقيقتي برواقية بواجبها الفظيع في خنق عرائسها، باحثةً بعدَها عن أزهارٍ ذابلة لمقابرها في شوارع المدينة التي كانت من نصيبها. فيما بعد كان لشقيقتي خُطَّاب، وصديقات حارسات، ومُساعدون روحانيون، وأساتذة علوم سياسية، وانغماسات، وتراجيديات صغيرة ونوبات سأم خفيفة. وذات يومٍ أصبحت شيوعيةً، ودخلت منذ ذلك الحين في صفوف المُختارين العظام والمُستنيرين اليومِيِّين، حسب ما تقول بطاقة العضوية الحمراء التي أعطَوها لها، وهناك تبقى، كما أعتقد. بعاداتها الريفية التي تُبعدها عني أحيانًا، بأكاذيها الرائعة وإيمانها النادر غير المُحدَّد بالشكوك الكبرى التي يجب أن نُحبَّها نحن الذين نستيقظ بغتةً على الأبدية برمَّتها. يُثير مشاعري أن أراها تقتفي أثر الحضارات المُقدَّسة، تكتشف عبَّاد الشمس الضخم للميادين التي يجتاحها الشعب، وتقول ليس - ذلك - سيِّئًا - على - الإطلاق مشيرةً إلى الجريمة التي يتجاهلها شخص في الوقت المناسب، في مكانٍ ما من العالم.

VI

مقارنة أمريكا الوسطى

في نيكاراجوا ثمَّة بحيرة ضخمة ذات ماءٍ عذب وأسماك قرش كذلك. ورئيس جمهورية نيكاراجوا هو ابن رئيس جمهورية نيكاراجوا. ثمَّة إذن في تقاليد نيكاراجوا، رئيس جمهورية نيكاراجوا الأب ورئيس جمهورية نيكاراجوا الابن. ويتميز المواطنون النيكاراجويُّون بأنَّ الحِجاب الحاجز لديهم، أي دعامات الحجاب الحاجز، باللون الأزرق، والرئة اليُمنى خضراء. ولذا تُجرى جراحة الصدر والتشريح تحت القسَم بالحفاظ على السرِّ ولا يُسمح بوجود الجراحين الأجانب في البلد. وفيما عدا ذلك يتطابق النيكاراجويون مع السلفادوريين، الذين يتميَّزون، عن بقية البشر، كما هو معروف، بعدم امتلاكهم لصمام بوَّاب نهاية المعدة وقابليتهم الشديدة للكحول، إلى حدِّ أن زجاجات الخلِّ في بلدِنا تُباع وعليها بطاقة تحمل جُمجمة وتُباع فاترة.

VII

قريب

أتذكر الأمر كأنه حدث الآن للتوِّ. كان يتسلَّى في كرسي المشلول بتقليب عينِه التالِفة — المعروقة — كأنه يُعضعِضُها بنَهَم وبطءٍ بجفنَيه. منذ زمنٍ كان قد كفَّ عن السمنة. لكنه كان حينَها يعاني من عملية — جسمانية، أقول — للانطمار. للتقوقُع في قذارة أحشائه. كل ما فيه — الجزء الأعلى من ساقَيه والصدر، والرأس ذاته — بدا أنه يتَّجِه، يتهاوى نحو مركز بطنِه الضائع بين المعاطف الشديدة القذارة. وفي تلك اللحظات طرقت حبيبتُه القديمة — ليونا — باب منزلنا. كانت الساعة السابعة، أو نحوها من صباحٍ حارٍّ جعل الغُرَف الحديثة الاستيقاظ تكتسب طعم الدخان. كنتُ أنا نفسي مَن فَتَح، مُبتهجًا باستهلال النهار بفتح باب. قالت ليونا: موجود …؟ وحين أصبَحَتْ أمام جدِّي، نظر إليها هو بعينِه السليمة وسال لُعابه قليلًا. بعدَها ظلَّ ينظُر إليَّ بأعظم تعبيرٍ عن الكراهية يُمكنني تذكُّر أنني تأمَّلتُه في حياتي. فقد كنتُ بجوار ليونا — التي كانت تتنفَّس بصعوبة ولا ترى سواه بحبٍّ لا مُتناهٍ انطلاقًا من حدَبته التي بدت أبديةً — بصدري العريض العاري، المُشابه، حسب ما تقول لي بيجي، لتمثالٍ نصفي لذلك الإله المُثير المتدلِّي في الواجهة الضخمة ﻟ «باريس-فولكان». لو كنتُ … — بدأ جدِّي يقول. ثم مات.

X

أنا والأرقام

هناك أشخاص لا مُبالون يعتقدون أنه عند ضرب كمية في واحدٍ تظل على حالها؛ أنه لا يحدُث شيء، كما يُقال، ولا يتعلق الأمر سوى بتبديدٍ أحمق للوقت، مثلما حين ينظر المرء في المرآة. وفي الحقيقة، عند ضرب كمية في واحدٍ يفترضُ ذلك لها رفع التدهور في حسابها لنفسها للحظةٍ، في تقديرها الذاتي الكُلي، بعدم اكتساب لا إمكانية التقدُّم أو الازدياد، كما يُمكن أن يحدث في الحالة السعيدة للرفع إلى التربيع، ولا إمكانية التناقُص والنُّحول، التي يمكن أن تحدُث في الاحتمال المشئوم لعملية طرح أو قسمة. الأمر الفظيع هو عندما لا تتجاوز الكمية خمسَ وحدات. بالنسبة لواحدة من ثلاث، مثلًا، سيكون الوضع ببساطة صادمًا، بلا رحمة، ولن تتعافى منه مُطلقًا، مثلما حدث مع مُديرين مُعيَّنين لشركات دبغ جلود حين كانوا أطفالًا أصابتهم تعاسة أن يَشهدوا فعلًا بشعًا: جريمة قتل، إجهاض، حريق في غرفة اللعب. لذا فإنني — وليقولوا فيما بعد أنني يُلاحَظ عليَّ اللامسئولية واللامبالاة فور أن أتجاوز الناصية البعيدة! — ظللتُ دائمًا أكِنُّ احترامًا وتقديرًا كبيرَين للأرقام، فمنذ خروجي من المدرسة قررتُ أن أترُكها في سلامٍ بقية حياتي.

XI

خطَّة

في بلدي لا توجَد جرائم كافية. مع الجوع الموجودِ ومع اقتصار استهلاك المُخدرات على المَصرفيين وزوجاتهم وأبنائهم، فإن كمية الجرائم تافهة في الحقيقة، مُثيرة للسخرية. لكن من المأمول أن تنجح الحكومة الجديدة في أن تُحفِّز، بشكل يبعث الأمل على الأقل، الاقتراف الدائم والمُمنهج للاغتيالات والهجمات والاغتصابات. وقد وصل إلى البلدِ قاتِل في الثامنة والعشرين، هو ابن غير شرعي لهمينجواي (نعم نعم لإرنست همينجواي، أعرف) ليُدير حملةً قومية بهذا المعنى. القتل أو اغتصاب عذراء من الطبقة الوسطى سيُكافأ بمجوهرات ونقود. أما قتل امرأةٍ عجوز فسيُصنَّف كواجبٍ ولا يتضمَّن مكافأة. وبالنسبة لحالة الطفولة — بسبب العدد — سيكون المَيل إلى تشجيع الانتحار، بالنظر إلى المُناقشات الأولية بهذا الشأن. وحسب خطة لوبث همينجواي — طبعًا مع ضمان نشر أساليب العنف الجديدة في كلِّ الأراضي القومية — فخلال أقل مِن عامَين سيكون بلدي مثاليًّا للزواج وإنجاب الأطفال، وكذلك لبدء البذار المُكثف لأصنافٍ جديدة مُعدَّلة مداريًّا مِن القمح.

XV

اعترافات
كان أعظم أحبابي في الحياة هم: أمي (مِن سن العامين ونصف حتى الآن)؛ مربِّيتي خينوبيبا (من سن العام ونصف حتى حوالي الثمانية أعوام، كما أفترض، حين ماتت، بفعل إيذاء اليتم القاسي اليافع والسرطان)؛ كرة القدم والعذراء مريم (من سن الحادية عشرة حتى الخمسة عشر عامًا) فتاة اسمُها جلاديس (من سن الخامسة عشرة حتى الخامسة عشرة وتسعة أشهر حين صادقَت على قرارها القديم بالزواج بآخَر، وهو ميل يتَّسم بانتهازية اليمين التي كنت قد حاربتها منذ تعارفنا)، البلياردو — لا لعبة الأهداف بل البوول — مجموع تلامذة دفعتي في مدرسة سان خوسيه الصباحية، البيرة ونوع من المحار الأسود المُسمَّى في السلفادور «قواقع الجحش» (من سن الخامسة عشرة وتسعة أشهُر حتى العشرين عامًا)، رغم أنَّني يَجِب أن أُبدي تحفُّظَين دائمَين: يظل موجودًا في روحي ستة وسبعون بالمائة من رفاق دفعتي الصباحية، ولا شكَّ في أنني، بالمنظور الذي يُذهِّب الحنين (أكتُب هذا في كاسكي بوديوفيتشي) أحبُّ حاليًّا، أكثر من أي وقتٍ مضى، بيأسٍ أصيل، قواقع الجحش؛ زوجتي، وأبنائي الثلاثة (في عراكٍ خلال بعض الوقت مع البلياردو، والبيرة، والقواقع، لكنهم، مُنتصرون بشكلٍ حاسم، إلى الآن وإلى الأبد)؛ الثورة والمفهوم المجرَّد للشيوعية (أيضًا في عراكٍ مع الغراميَّات السابقة، المُتعاركة في ذاتها، بين سن الثامنة عشرة والثالثة والعشرين عامًا (كما تعرف الشرطة) انضممتُ إلى الحزب الشيوعي في سنِّ الثانية والعشرين، لكنني أذكُر أنني سمحتُ لنفسي بنحو ثمانية أشهر بين اليوتوبيا، والحلم، وراحة الروح المسيحية)؛ فتاةٌ اسمها سيسيليا والشِّعر (من سنِّ الثالثة والعشرين حتى اليوم) وعاود العراكَ ضدَّهم المفهومُ العيني الذي لديَّ الآن عن الثورة والذي يُشبه كثيرًا ذلك الذي يتجسَّد في الثورة الكوبية (منذ سن السابعة والعشرين عامًا المُكتملِين في كوبا بالتأكيد). أعرف أنني كان يجِب أن أتحدَّث أيضًا عن أحبابي الذين يحملون اسم دالتون: أبي وشقيقتي. لكن، إلى أي مدًى كانا شيئًا آخر بخِلافي؟ إذا قُرئ كل ما سبق بعناية، يمكن أن يُفهم بوضوح أن أكثر مَن أحببتُه في الحياة هو أنا نفسي. لا أعترض على تلك النتيجة التي لا ترحم، كلمة شرف. وأكثر مِن ذلك: أعتقد أن كلَّ أحبابي أولئك يُمكنهم أن يشعُروا بالإطراء لأنَّ من أحبَّهم بكل تلك الكثافة كان أنانيًّا عظيمًا، ربما كان واحدًا من أعظمهم في هذا القرن المسكوني.

XVI

نقد للطبعة الأولى من كتابي دورُ المُهان (بتوقيع الاسم المُستعار «مشاهد» غير منشور حتى تاريخه، بفضل الحميَّة المناهضة للشيوعية للدون نابوليون بييرا التاميرانو، المدير المالك لصحيفة إل دياريو دي أوي، في سان سلفادور حيث كان النقد سيُنشر، لكن المدير المالك المذكور وجدَه تقريظيًّا بصورة خطيرة).

تلقَّينا كتاب القصائد دور المُهان، للمُنشد السلفادوري روكي دالتون جارثيا. ونعرِف مقدَّمًا بالرقة الرشيقة للأعمال السابقة لدالتون، كنَّا حذِرين. فقبل فتح الكتاب (الذي يحمل نقشًا لشخصٍ يُدعى ف. بلتران) غسلنا أيدِينا بصابون لايفبوي، وغسلنا أسناننا بالفرشاة وأجرَينا مضمضةً خفيفة حتى البلعوم (فنحن دائمًا نقرأ الشعر بصوتٍ عالٍ)، واضِعين لأنفسِنا تاليًا في كل ركنٍ للعين (بهدف تجنُّب الصدمة التي تحدُث حين تنطلِق من القطارة المُعلَّقة كسيف ديموقليس نحو حدقة العين المسكينة المفزوعة) نقطتَين من المُطهِّر المُنعش. وهكذا بإحساسٍ مُبرَّرٍ بالتطهُّر، أضأنا الأباجورة التي تتسيَّد ليالي طاولة الكتابة، مُتأهِّبين لقَطع الأوراق المُلتصقة بسكين أوراقٍ مِن العاج (نتذكَّر، عند إمعان التفكير الآن، أننا لم نعقِّمها بصورةٍ ملائمة) وللاشتباك، بشجاعة جهاز هضمي يعرف بقُرب فخذة خنزير على الفحم، مع المادة الوفيرة لهذا العنوان الجديد الذي يُثري قوائم الكتب التي ليست شديدة الازدهار في السلفادور. هذه العملية الأخيرة (الاشتباك بشجاعة) جاءت في أسرع وقتٍ وأسهله لِما جعلتنا استعداداتُنا نتوقَّعه: لم يكن لمجلَّد دالتون صفحات مُلتصقة، نتيجةً — كما نفهم — لضرورة توفير الورق الموجود في ظلِّ نظام كاسترو، مُموِّل الطبعة المذكورة آنفًا.

ما زال المؤلِّف شابًّا جدًّا. ورغم أننا لا نعرفه شخصيًّا، كما نعرفه، وهذا ملحوظ في القصيدة التقديمية، التي لا يبلُغ فيها الظلُّ البهي لكيبيدو حدَّ الانطفاء، في الشكل الذي قد يكون مرغوبًا، تلك الومضة العدائية للَّامسئولية المرحة تقريبًا التي يروق ﻟ angry young men الكريول أن يرفعوها كرايةِ تباهٍ ضدَّ حس النظام الجدير لدَينا بالتقدير والبالِغ الكلفة. لا نتنبَّأ، إذا شِئنا الحقيقة، بمستقبلٍ مثمرٍ لدور المُهان ولا لمؤلِّفه. فبشكلٍ مُستقل عن الوقاحات والأشياء الأخرى الأسوأ — التي توقَّعها بالفعل القانون الجنائي القائم — التي تنتشِر في صفحات الكتاب، ثمَّة ذوق سقيم دائم وضياع للمنظور التناغُمي يبلغ …
١  ترجمات الشتائم هنا تقريبية ومُخفَّفة: كاكا caca: تشير إلى البراز، مؤخرة junene: تشير إلى فتحة الشرج، مُخنث marica، ماذا يُهمك qué-te-importa: ربما تشير إلى أنك من السوء بحيث لم يعد يُهمك شيء، كل بيضة في ساندوتش cométe un huevo en torta: للإشارة إلى تداعِيات كلمة بيضة التي تعني أيضًا الخصية وتدخل في تركيب عدد هائلٍ من الشتائم، أُمَّك: شتيمة بالأم، عيِّل، خروف، إسبرماتوزويد، جيلو-ماك-جيلو guilo-mac-guilo: سليمة مُستغلقة تمامًا، وgimi-uan-foc جيمي-وان-فوك: جيف مي وان فاك، للإشارة إلى كلمة fuck الإنجليزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥