منازل الجحيم الصغيرة

١٩٦٤-١٩٦٥م
سان سلفادور – مكسيكو – براج
(في عام ١٩٧٠م، نشرت دار نشر OCNOS ببرشلونة تحت عنوان منازل الجحيم الصغيرة، مُختارات موجزَة من قصائد المؤلِّف، تنتمِي في أغلبها إلى ديواني دور المهان والحانة … ولم تنشُر قصائد منازل الجحيم الصغيرة ككتاب مُستقل بعض قصائد القسم الأول («الغبش») ظهرَت أولًا في الشهادات.)

(١) غبش العام

منتصف العمر

تنقضي سنواتُ الأسلوب المتوثِّب.
تنقضي السنوات التي تُنطَقُ فيها
كلمات مُعينة باحتقار:
الصنوبرات، الهرب، السوداوية، مثلًا.
تحمل عطشك أمام المرآة،
وتتساقط فوقك الأشواك:
لليقين رائحة عطنة،
أنتَ في النهاية السيد المُهذب الوحيد؛
الذي خشيتَ أن تكونَه، الذي أبعدتَهُ
من جانبك ببعض التهكُّم.
كنسيٌّ وصموت، إذا شاءوا،
أقلُّ ميلًا إلى الدموع، أشدُّ صلابة،
مِثل خبز الربِّ الطيب
بقدْر ما يبتعِد عن الفرن.

أوراق شجر

أوراق شجر ساقطة.
نِصالٌ بكماء لعدوانٍ رهيف.
ليس الخريف مَن يهزمكنَّ
أنتنَّ تلتهمنَ التربة،
تصنعن الطيور من لحمكنَّ الذهبي،
تحرقنَ فمَ الجليد
الذي سيموتُ بعدها يكسوه الدخان والفقاقيع.
نعتقِد أنَّنا نطأكنَّ،
وأنتنَّ في الحقيقة من تتحمَّلنَ
قامتنا البائسة.
لذا نكرهكنَّ كثيرًا مثلما نكرَه أبطالنا:
وعامًا بعد عامٍ نسلمكنَّ للحريق.
لكن، أي إساءةٍ بالغة يَعني لنا الربيع!

ها أنتِ ترَين كيف …

ها أنتِ ترين كيف مِن كلِّ ما توقَّعتِ
أمس في لقاءات الكلية
أصبحتِ فحسْب الحبَّ الكبيرَ للمَنفيِّ.
أنتِ التي كنتِ ستذهبين مع أُمراء
الحفل إلى أوروبا وكنتِ ستَرِثين
ثلاثةً أو أربعةً مُبجَّلين عجائز.
أنتِ ذات السيارة المحسودة وبذلة الجلد الفوَّاحة،
أنتِ ذات الأساور الفضية الضخمة.
لكن قبل كل شيءٍ أنت ذات أجمل عينَين
في كل امتداد المدينة.
ها أنتِ الآن نائمة
بين ذراعَي الوحيد البائس.
أرى الصليب الصغير اللامع على صدرك،
وصورة ماركس على الحائط،
وأعتقد أن الحياة رغم كلِّ شيءٍ بالِغة الجمال.

أذكُر حين كنتُ أتحدَّثُ عن ليسا

سرتُ يومًا في شوارع فيينا،
فقيرًا كالصيف، كحقيبةٍ ضخمة بين أُخرَيات
حتى شارع الأمير إيوجين
فوق أرصفةٍ حكيمة تحت الإعلانات،
كتفي بكتِف واجهات المحلات،
نابتًا لأوروبا مثل كتلةِ طينٍ نائية،
جلبها أحد السيَّاح بهمَّة
من حجِّه الأخير.
حرك تشايكوفسكي مشاعري مثل إعجاز
(واضح أنني كنتُ بالِغ الحُمق والارتياح)
واستشعرتُ في كلِّ بابٍ طاهرٍ
شيئًا بمقدوره أن يَخفق راياتِ ترَفي.
الشيء الوحيد الذي يُصالحني الآن مع ذلك اليوم الحمضي
هو ذكرى شحَّاذٍ عجوزٍ نظر إليَّ وأنا أمرُّ
كما ينظُرُ إلى طفلٍ عارٍ،
وكان قد فاجأني قبلَها بلحظات
بأن نطق بصوتٍ عالٍ اسمَكِ.

الذاكرة

هكذا كانت أمسيات صِبانا الباكر؛
كنا نستمِع إلى «الأوراق الميتة» وMy Foolish Heart
أو «دون كلامٍ في فندق الميناء،»
وكان لك اسمٌ واضح
يرنُّ رنينًا جميلًا جدًّا بصوتٍ خفيض،
وكنتُ أومن بآلهة آبائي القدماء،
وأحكي لك أكاذيب حلوة،
عن الحياة في البلاد البعيدة التي زُرتُها.
في ليالي السبت،
كنا نتمشَّى لمسافاتٍ طويلة فوق الرمل الرطب،
حافِيَين مُتشابكَي الأيدي في صمتٍ عميقٍ
لا يقطعه سوى الصيادِين في زوارِقِهم المُضاءة،
وهم يتمنَّون لنا السعادة صائحين.
بعدَها نعود إلى كوخ بيلي،
ونتناول كأسًا من الكونياك أمام اللهب،
ونحن جالسان على سجادة لورسات الصغيرة.
وبعدها أُقبِّل شَعرَكِ المحلول،
وأبدأ في التجوال فوق جسدكِ بهاتَين اليدَين الخبيرتَين
اللتين لم ترتعِشا قطُّ في الحُب أو في المعركة.
كان عُريكِ يبزُغ في ليلة المَخدع الصغيرة
من اللهب بين الأشياء الخشبية،
تحت المصباح المتهالك،
مثل زهرةٍ غريبة تحمِل كل الأمنيات،
ليُفحِمني دائمًا بالدهشة،
ويدعوني إلى اكتشافاتٍ جديدة.
وكان نَفَسُكِ ونَفَسي نهرَين متجاورَين،
وجلدُكِ وجلدي أرضَين ليس بينهما حدود،
وأنا فيكِ كالإعصار يلمس جذر البراكين،
وأنتِ لي كالزقاق المطير
أمام ضوء الشروق.
وتأتي لحظة لا تكونين فيها سوى البحر
البحر وحدَه بأسماكه وملحِه،
أمام عَطَشي بأسراره الحمراء المرجانية.
وكنتُ أشربُكِ بسخاءِ المُتَضَائل،
مرةً أخرى سرُّ كلِّ المياهِ مُجتَمِعةً
في الثقب الصغير الذي يحفرُه الطفلُ في الرمل.
أوَّاه يا حبي فها قد حانت بعد سنواتٍ قليلة الساعةُ
التي يبدأ فيها وجهك في الوهَن،
وتزداد ذاكرتي فراغًا منكِ.
كان اسمُكِ صغيرًا ويَظهرُ في إحدى أغنيات
ذلك الزمن.

(٢) منازل الجحيم الصغيرة

حذارِ

من قبلُ كنَّا نضحك كثيرًا،
والآن أودُّ أن أترُك الكلمات تسقُط
مثل مطرٍ مِن ارتفاعٍ ضخم.
ربما كان البردُ يجعلنا أعداءً،
لكنني أُقسم أن أنيابَه تبحثُ عن آخَرين.
أعترفُ أيضًا بتشوُّشاتٍ مُعينة،
لكنني واثق أنَّ مِن الأسوأ الهرب
أو الصمت.
لن تكون الكلمة وحدَها
ما يجب أن يُنقِذنا.
دعوني أحاول عزل الجمال
(رغم أن ذلك يبدو فظيعًا.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥