الحانة وأماكن أخرى

١٩٦٦-١٩٦٧م
براج – هافانا

(طبعة أولى: دار الأمريكتَين، هافانا، ١٩٦٩م. جائزة دار الأمريكتَين، ١٩٦٩م.)

عزيزي خورخي

لقد وصلَت إلى الثورة عن طريق الشِّعر.
سيكون بإمكانك أن تصِل (إذا شئتَ، إذا شعرت بالحاجة لذلك) إلى الشِّعر عن طريق الثورة. ولك بذلك ميزة. لكن تَذكَّر أنك لو كنتَ قد وجدتَ ذات مرةٍ دافعًا خاصًّا للابتهاج بصُحبتي في النضال، فبعض الفضل في ذلك يعود أيضًا إلى الشِّعر.

(١) البلد

٢٧ عامًا

إنه لشيء خطير
أن يبلُغ المرء السابعة والعشرين.
إنه حقًّا لواحدٌ
مِن أخطر الأشياء؛
فحَول المرء يموتُ أصدقاء
الطفولة الغريقة،
ويبدأ المرءُ يشكُّ
في خلوده.

استراحة المُحارب

الموتى يُصبحون كلَّ يومٍ أصعبَ مراسًا.
من قبل كان أمرُهم سهلًا:
كنَّا نمنحهم ياقةً مُنشَّاةً أو زهرةً،
نلهج بأسمائهم في قائمة طويلة:
إنَّ ساحات الوطن،
إنَّ الظلال النبيلة،
إنَّ المرمر الوحشي.
كانت الجنَّةُ تُوقِّع في أعقاب الذاكرة،
وتمضي من جديدٍ إلى الطابور،
لتسير على إيقاع موسيقانا القديمة.
لكن مهلًا!
فالمَوتى
قد تغيَّروا منذُ ذلك الحين.
اليوم يتهكَّمون،
ويسألون.
يبدو لي أنهم يُدركون
أنهم تدريجيًّا، يُصبحون هم الأغلبية!

النقمة الكبرى

يا وطني أنتَ غير موجود؛
فلستَ سوى ظلٍّ سيئٍ لي،
كلمة للعدو صدَّقتُها.
من قبلُ اعتقدتُ فقط أنكَ بالغُ الصِّغَر،
بحيث لا تبلُغ في النهاية حدَّ أن يكون لك
شمالٌ وجنوب.
لكنني الآن أعرفُ أنكَ غير موجود.
كذلك يبدو أن أحدًا لا يحتاجك؛
فلا تُسمَعُ قطُّ أُمٌّ تتحدثُ عنك.
وهذا يُبْهجني،
لأنه يُثبِتُ أنَّني اخترعتُ لنفسي وطنًا،
ولو أدَّى بي ذلك إلى مستشفى المجانين.
إنني إذَن إلهٌ صغير على حسابك
(أود أن أقول: لأنني مَنفي عن الوطن،
فإنك وطن سابق.)١

روح الأمة

أيُّها الوطن المُبعثر: تسقُط
كقرصٍ من السُّمِّ في ساعاتي.
من أنتِ، أيتها البلاد المأهولة بالأسياد،
مثل الكلبة التي تهرُشُ بجوار نفس الأشجار
التي تبول عليها؟ مَن الذي تحمَّل رموزك،
إيماءاتكِ التي لِعذراء برائحة الماهوجني،
بينما تعرفين أنكِ قد أَغرقكِ لُعاب الفسق؟
مَن ذا الذي لم يسأم ضآلتك؟
مَن لا زلتِ تُقنعينَه بالضريبة والحراسة؟
ما اسمُك، نعم، أيَّتُها المُمزقة،
أأنتِ كلُّ الحظ المُعذَّب في البِرَكِ الموحِلة؟
من أنتِ،
سوى هذا القرد المُسلح والمُرقَّم.
راعي المفاتيح والكراهية، الذي يُضيء وجهي؟
لقد اكتفيتُ منكِ، يا أُمِّي
الجميلة النائمة، يا مَن تجعلين ليلَ السجون يفوح بالعطن:
الآن يتآكلني صدأ واجبات الحراسة
التي تجعل من الابن الصالح فارًّا،
من الطاووس المُختال مؤرَّقًا بائسًا،
من خُبز الربِّ مهاجمًا جائعًا.
الإصلاحية المركزية، أكتوبر ١٩٦٠م

مع اﻟ ٦٠ في المائة من السلفادوريين

بمائة وأربعين ألف دولار،
يُمكنك أن تهرش ظهرك،
بتمثال Bird in space، لبرانكوزي.
بسبعة عشر دولارًا فقط،
تتلقى لاثنَي عشر شهرًا،
مجلة فورتشون.
إذا كنت أدنى درجةً تكسب بالكاد
٥٥ دولارًا في العام:
تكون قيمة فنِّ النحت الحديث
مسألةً غير محسومة،
ومجلة فورتشون
تظهر فقط بالإنجليزية،
فلماذا إذن تُضايق نفسَكَ؟
فليستمر معك الربيع الأبدي، يا مواطن.
أبطال أمريكا الوسطى (الشباب) في كرة القدم!

منظمة الدول الأمريكية

رئيس بلدي
يُدعى يومًا بيومٍ الكولونيل فيديل سانشث إرناندث،
لكن الجنرال سوموثا، رئيس نيكاراجوا،
هو أيضًا رئيس بلدي.
والجنرال سترويسنر، رئيس الباراجواي،
هو أيضًا رئيس بلدي قليلًا، لكن أقل
من رئيس هندوراس أو بالأحرى،
الجنرال لوبث أربيانو، وأكثر من رئيس هايتي،
مسيو دوفالييه.
ورئيس الولايات المتحدة،
رئيس أكثر لبلدي،
من ذلك الذي، كما قلتُ، يدعى،
يومًا بيومٍ، الكولونيل سانشث إرناندث.

بحثًا عن المتاعب

أمطرَت ليلة أول اجتماعٍ لي في الخلية.
امتدحَت أربع أو خمس شخصياتٍ
من عالم جويا طريقَتي في التفصُّدِ عرقًا.
بدا أن الجميع هناك ينتابُهم سأم خفيف؛
ربما من الاضطهاد أو حتى التعذيب
الذي يحلمون به يوميًّا.
أظهر مؤسِّسو اتحاداتٍ وإضراباتٍ
بعضَ الحنَق وقالوا إنني يجِب
أن أختار اسمًا حركيًّا؛
أنَّني سيكون عليَّ أن أدفع خمسة بيسو شهريًّا،
أن موعدنا كلَّ أربعاء،
وكيف تمضي دراستي،
وأننا اليوم سنقرأ كتيبًا للينين،
وأنه ليس ضروريًّا أن أظلَّ أُردد كلمة رفيق.
حين خرجنا كان المَطر قد توقَّف،
وتشاجرَت معي أُمي لأنني عدتُ إلى المنزل متأخرًا.

(٣) البلد

قصائد السجن الأخير

I

السجن من جديد، فاكهة سوداء.

في شوارع وغُرف البشر، سيشكو شخص في هذه اللحظات من الحب، سيعزف موسيقى أو يقرأ أخبار معركةٍ تجري تحت ليل آسيا. وفي الأنهار، ستُغني الأسماك عدم تصديقها بشأن البحر، الحلم المستحيل، الهناءة المُفرطة. (أتحدث عن تلك الأسماك الزرقاء في الحقيقة المُسمَّاة السَّوسنات السوداء، التي يَستخلِص من أشواكها رجال عنيفون وسريعون عطورًا تدوم طويلًا.)

وفي أي مكانٍ، ستكون آخرُ الأشياء الغارقة أو المُعلقة سجينةً أقل منِّي.

(واضح، أن امتلاك قطعة قلم رصاص وورقة — والشِّعر — يُثبت أن مفهومًا كونيًّا فخورًا، وُلد ليُكتب بحروف كبيرة — الحقيقة، الرب، المجهول — قد غمرَني منذ يومٍ سعيد، وأنني لم أسقط — عند القيام به في هذا الجبِّ المُظلم — سوى في أيدي الفرصة، كي أُبرهن عليه كما يجب أمام البشر.

ورغم ذلك، كنتُ أفضِّلُ تمشيةً طيبة في الريف. ولو بدون كلب.)

٩ سبتمبر

IV

ليل

العمى: هو أول كلمة تخطُر على ذهنك.

V

العيد الوطني

اليوم كان العيد الوطني: استيقظتُ شِبه مُحطَّم فوق الأرض الرطبة الجارحة مِثل فم ذئبٍ ميت، بين الغازات المُسكِرة للأناشيد.

١٥ سبتمبر

VI

الصيف
أُحِسُّ بحروق
الصيف الذي ينمو:
(«أنا ميناءٌ ناءٍ»)
سموم الزواحف
تُنضِجُ قانونها السرِّي،
ويَثْقُلُ
دمُ الأشياء.
الحرَّاس يتحدَّثون عن النساء،
يُزَيِّتون غدَّاراتهم الداكنة،
يُغنُّون …
وأنا
أبدأ في الامتلاء بالقمل.
١٨ سبتمبر

VII

صحبتك
حين يسقط الليل، وفاترًا
يُقارِبني نوع مِن السلام،
فذكراكِ خُبز بذار، خيط باطني،
به تكون يداي الهادئتان
واقيِتَين لقلبي.
قد أقول لنفسي: ما جدوى الزبد، أو التراب
للأعمى البعيد؟
لكن وحشتكِ هي ما يعمُرُ لياليَّ،
ما لا يتركني وحيدًا، على وشْك الموت.
إننا بصورةٍ ما حشد صامت …

IX

خبرٌ سيئ في قصاصة صحيفة
اليوم حين يموتُ منِّي الأصدقاء،
تموت أسماؤهم فحسب.
كيف نأمُل من البئر العنيفة،
أن نُحيط بأكثر مِن حروف الطباعة،
وميض الاسودادات الرهيفة،
السهام التي تبلغ الذكريات الحميمة؟
وحدَه من يحيا خارج السجون،
يُمكنه أن يُكرم الجثث، أن يغتسل
من ألم موتاه بالعناقات،
أن يخدش بالأظافر والدموع شواهد القبور.
لكن ليس المساجين: نحن نُصفِّر فحسب،
حتى يُخرسَ الصدى الخبر.

X

إذنٌ للاغتسال
لم أفهم أبدًا ما تعنيه متاهة
حتى نَقَّبتُ، وجهًا لوجه مع صورتي
الجانبية، في المرآة الصباحية
التي أغسل بها التراب وأتجهَّز.
لأننا هنا أكثر ممَّا كنَّاه
على ضفة الشمس المُجنحة والسامية:
مُسربلون جيدًا بالدم والقضبان والجدران؛
أبناء محبوبون للصدأ والأبخرة والجرذان.

XI

بعض ضروب الحنين
امتياز مُتكلِّس هذا العناء الفخور،
لا تضحكوا.
أنا، مَن أحببتُ حتى عطشتُ للماء، للضوء القذر؛
أنا، مَن نسيتُ الأسماء لا صنوف الرطوبة،
يُمكن أن أموت الآن بحماسٍ مِن أجل كلمة العزاء الصغيرة لملاك،
من أجل العطايا الغنائية لخفَّاش حزين،
من أجل خُبز السِّحر الذي قد يقذفه لي ساحر
متخفٍّ في هيئة مُجرم سكران في الزنزانة المجاورة …
١٤ اكتوبر

XII

رقم ٣٥٧

ينقسم الحرَّاس إلى عدَّة مجموعات. مجموعة من يقذفون بالطوب الأرانب وهي تجري من الحديقة وزهرات الأقحوان في أفواهها، مثلًا. ومجموعة من يسيرون مُتقافزين أمام زنزانتي، صائحين بكلمات ريفية وناظِرين في ساعاتهم إلى زبد المطر. ومجموعة من يتبوَّلون عند الفجر في الموعد الذي يوقِظونني فيه (بضوء مصابيحهم يلعَق وجهي) ويقولون لي مُتجهِّمين إن الجو اليوم أشدُّ برودة. لكن لا ينتمي إلى أيٍّ من هذه المجموعات الجندي رقم ٣٥٧ الذي كان راعيًا وموسيقيًّا وأصبح الآن شرطيًّا بسبب انتقامٍ غير واضح على الإطلاق والذي (أعني رقم ٣٥٧) سيفصلونه نهاية هذا الشهر. كل هذا لأنه هرب ذات ليلةٍ وذهب لينام مع امرأته حتى التاسعة صباحًا، مستهزئًا بالتعليمات. منذ أيامٍ أهداني رقم ٣٥٧ سيجارةً. وأمس، بينما ينظرُ إليَّ وأنا أمضغ ورقة ينسون طويلة (أفلحتُ في جذبِها قُرب القضبان بعصًا ذات خُطَّاف صنعتُها بنفسي)، سألني عن كوبا. واليوم ألمح إلى أنَّني ربما استطعتُ كتابة قصيدةٍ صغيرة من أجله — تتحدَّث عن جبال تشالاتينانجو — ليحتفِظ بها كتذكارٍ بعد أن يقتلوني.

قصائد نثرية

الحكاية

كُتب في براج
صباح أن تعرَّفتُ على أبي
… ذلك الأبُ الذي لن أقول عنه شيئًا الذي لديَّ منه بالكاد تلك الطريقة في إمالة الرأس …
أراجون
أحسبُ أن عمري لا بد أن يكون حوالي ثلاث سنوات، وربما أقل قليلًا. ها أنا جالس على أرضٍ رطبة من السيراميك، بالبيجاما لأن مَعِدتي تؤلِمني بعض الشيء، ألعب بمشبكٍ له رأس امرأة، أقتلُ النمل وأدفنه بالكاد بالتراب الذي أُخرِجه من شقوق الأرضية. في العمق ثمَّة فناء بأشجارٍ ونباتات مُزهرة والهواء مُنعش متألِّق وصباحي له رائحةٌ لا تُنسى، عاودتُ التعرُّف عليه أحيانًا في أنحاء مختلفة من العالم بتنوُّع في المشاعر حسب المآزق الحاضرة في حياتي. أرى فيديليا، لا بيي la pille تُنظف بخرقةٍ مُتسخة اللوحاتِ على الحائط: نسخة من الأنجيلوس، ومناظر وطبيعة صامتة مطبوعة على ورقٍ ومُشتراة من محلِّ جولدتري ليبس. كانت لا بيي عجوزًا بالفعل رأسها أقل رماديةً مما بعد سنوات، لكنها، مع ذلك، رمادية، رمادية جدًّا، تحملُ بصبرٍ وجهها، وجه رجل، وجه رجلٍ في المقام الأول بسبب فتحتي الخيشوم الكبيرتَين وباستثناء المِنقار الصغير الذي تُشكِّله الشفة العُليا في ذروتها. عند ذلك يُطرَقُ الباب وتذهب لا بيي لتفتح، تاركةً المِنفضة على طاولة صغيرة ومُنظِّفةً التراب مِن يدَيها في مِئزرها الداكن الضخم. تفتح باب الغرفة المجاورة، التي تفتح على الشارع فأسمع صوتًا غريبًا لرجلٍ يسأل عن أُمي ولا بيي تضحك وتُنادي القدِّيس سان كابيتانو المبارك قبل أن تُجيب بأن أُمي تعمل مع حالةٍ عاجلة لتربنةٍ في المخ لدى الدكتور ثيبيدا ماجانيا، لكن تفضَّل بالدخول يُمكنك تناول ولو فنجان قهوة اعذرنا على لخبطة البيت وبذلك، يُمكنك أن ترى الطفل ولو لبرهةٍ، وأنه لو أرادَ يُمكنها أن تذهب بالسيارة لتبحَث عن ماريا في المُستشفى التخصُّصي وأنه في نهاية المطاف إذا كان المريض سيموتُ فسوف يموت بمُمرضة خاصة أو بدون مُمرضة خاصة. في هذه اللحظة بالضبط تقرصني نملةٌ لعينة في إصبعي فأُطلق صرخةً مُدوِّية، كأنني أطلب جمهورًا، ودون حتى أن أتخلَّص من الحشرة كما كنتُ أعرف بالطبع (بأن أُخربشها بأظافري وأسحقها على لحمي أو على الأرض). يأخُذني شخص من ذراعي ويرفعني عن الأرض بينما يتفحَّصني ويسألني ماذا جرى لي، وأُجيب أنا عارضًا إصبعي المَثنِي حيث لا زالت النملة تعضُّ بغضب، رافعةً بطنها الضئيل حتى السماء الواطئة. عندئذٍ انتَبِه إلى أن لا بيي هي مَن رفعتني وأنها بعد أن نزعت عنِّي النملة تعرضُني، كما يجري مع دجاجةٍ للبيع أو مع خنزير رضيع، على الرجل الذي كانت تتحدَّث معه والذي وصل إلى الداخل هنا بهدوءٍ فرضَ نفسه عليَّ على الفور. أقتصر أنا على فتح عينَيَّ وتُناولني لا فيديليا أكثر، عارضةً إيَّاي ليُقبِّلني. يفعل الرجل فتُشوِّكني احتكاكة خدِّه الأزرق فأتراجَع وأبحث عن كتِف لا بيي لأتشعلق وأُخبِّئ وجهي. تقول لا بيي إن هذا السيد هو أبي ويجب أن أُقبِّله، لكنَّني أستعبِط وأُقرر البقاء هناك، مثل دودة حرير أفزعَتها أول نظرةٍ إلى العالم. أشعر بأن السيد يُربِّت على مؤخرتي تربيتةً خفيفة، ويُمرِّر يدًا على شعري، شعري الجميل الأشقر حينئذٍ الذي كان أمَل أُمي حتى أتميَّز طول حياتي ككائنٍ مُتفوِّق بين حشد الشُّعور السلفادورية المُشعَّثة والخشنة؛ ثم ينزع جورب قدمي اليمني يُعرِّيها ويأخذها في يده الضخمة والقوية ويضغط عليها لكن دون أن يُسبب لي ألمًا، بل أشعرُ بدغدغاتٍ فاترة تقول لي إن السيد ليس بجرأة كلِّ الكبار باستثناء أُمي ولا بيي … بعدها يشرعان في الحديث عن أشياء لا أفهمها. من يتحدَّث أكثر هي لا بيي متراوحةً بين البهجة المُتفجِّرة ودموع المهانة، ولا يُجيب السيد سوى بكلماتٍ قصيرة وغمغمات. وبعد برهة يقول إنه يجِب أن ينصرف. تضَعُني لا بيي على الأريكة فأبقى هناك هادئًا جدًّا ومُتجهمًا. يُدخن السيد وكأنه يُفكر، وينثر رماد السيجارة على الأرض. يُعاود الاقتراب مني ويُربِّت وجهي بأصابعه قبل أن يتوجَّه من جديدٍ نحو الشارع تسبقه فيديليا، التي، بعد تكرار عبارة بارك - الله - لي - فيه بحرارة عدة مراتٍ وبعد ضوضاء الباب عند الانغلاق، تعود إليَّ أشدَّ ابتهاجًا من أي وقتٍ مضى وهي تقول أشياء كمدفعٍ رشاش وتُريني ظرفًا شديد البياض تُخرج منه حفنةً من أوراق النقد تبدأ في عدِّها مُبلِّلةً أصابعها باللعاب بالضبط مثلما ستقول أُمي أننا لا يجب أن نفعل أبدًا. وفي الشارع تبدأ سيارة جشَّاء في السير.

الشاي

(صورة ثابتة)
كروث تشيجويتشون، المجنونُ الميِّت من البرد، الشديد الفقر، الأُميُّ منذ مولده مثل كل أبناء الريف، المُلتفُّ في جوالٍ من الجوت يوزِّع أوراق اللعب فوق المفرش الرقيق من المخمل الأخضر. أوراق لعبٍ إنجليزية، مِن تنويعة جديدة من البلاستيك الخفيف، رائعة. إنيكون يُقدم الشاي، على الطاولة المجاورة، بذراعه الوحيدة (الذراع الأخرى انتزعَها بضربات الساطور شقيقُه ذاته، في الفصل الختامي لفترةٍ مُمتدة من شُرب الروم القوي)، لكنه يُحيط عمله بقدْرٍ مِن الرشاقة والعناية المُحبَّة، يدفعان المرء إلى السُّعال لتجنُّب أن تنفجر دموعُ البهجة الرقيقة مُمتنَّةً في النظرة المُدقِّقة. وكان كاسيانو، «الحلُّوف»، قد وضع قبل دقائق ملاعق الشاي الفضية ومفارش الكتان الرقيقة المربوطة بعذوبة بأغصان ياسمين صغيرة مُكوَّرة أطلقت أبخرة خُيلائها الحليبية بين النسيم الذي يُدوِّم برقةٍ، دون أن يخرج، في الفناء الصغير الداكن. ترتجف أقداح كارلوفي فاري الخزفية عند تلقِّي السائل؛ تكاد تُغنِّي، بأصواتٍ ضئيلة مختنِقة، كأنها قادمة من حنجرة أشباح يائسة ومريضة بالخُنَّاق، لكنها على الفور تكرس نفسها للتخلُّص من الحرارة المُفرطة التي يمكن أن تلسع أطراف أصابع الشاربين: معجزات رهافة الحِرفة اليدوية لشرق أوروبا. إنيكون، كما هي عادته، عارٍ تمامًا، وجلد ظهره مائل إلى الرمادي نتيجةَ نومِه اليومي على أرضية الزنزانة المُتربة، وما بين فخذَيه شديد القذارة، والشَّعر الطويل بلَون القشِّ مُشتبك مثل أرض لقالق في نهاية صيف قائظ. وحدَها القُرحة التي لا توصَف في فخذه اليسرى مُغطَّاة جزئيًّا بالشاش واللاصق. في معصمَيه وكاحلَيه فقط تُشكِّل حواف الأصفاد واحةً من الجلد النظيف واللامع. وبعد ملء الأقداح والإشارة إلى الحلوى الفرنسية بإيماءةٍ راقية من يده اليسرى، مُبتسمًا، كأنما يتملكه خُبث-معرفة مكبوتٌ جيدًا، يتراجع إنيكون بخطواتٍ قصيرة متقافزًا، مُحوِّلًا نفسَهُ بنفسه إلى توكيدٍ لسطحية كل جرسونات العالم. يتناول اللاعبون مكعباتٍ مِن السُّكَّر ويتركونها تذوب بينما يفحصون احتمالاتهم في المروحة العابرة الغامضة لأوراق اللعب. المُراهنة بنقودٍ ممنوعةٌ حسبُّ القواعد المنظِّمة للمكان لكن رغم ذلك، فإن البوكر هو البوكر: شغل شاغل لسادة مُهذَّبين أصيلين، لا يُستنفد بكامل احتمالاته إلَّا في أجواء تنافسٍ أرستوقراطي. ورغم سماع الحديث عن إجراءات منع ومعاقبة عنيفة بشأنه، يتم تداوُله كما كان بواسطة الناس العاديين اليوميِّين. يطلُب تيموتيو المُرتجف أوراق لعب. وحين يتلقَّاها، ومِن أجل تخفيف ثِقَل معرفة مصيره المباشر، يخلِطُها بصورةٍ متوترة ومؤلِمة، ويطلق تعليقًا لا صِلة له بالأمر على الإطلاق، عن صِلةٍ غامضة مُعينة بين نصوص البحر الميت وبين بيت شعرٍ مُنتزَع من سياقه مِن [ملحمة] جلجامش، القصيدة التي يستطيع تيموتيو بالتأكيد أن يُكررها بكاملها من الذاكرة، على الأقل في طبعاتها الإسبانية، والألمانية، والفنلندية. لن يخرج تيموتيو أبدًا من هذا المكان، رغم أن عمليات التربنة، الأربعة والصدمات الكهربائية الدائمة تدفع إلى التفكير في عمليةٍ يمكن أن تؤدِّي، إذا كانت سعيدة، إلى الشفاء الكافي على الأقل لتمشيات الشارع. فرجل مِثله، أكلَ عيون زوجته وثلاثة أبناء، كان — يجب أن نعترف - قد قتلَهم يوم اثنينٍ سابق، لن يُمكنه بصعوبة تفعيل مبادرة أي شخصٍ على الإطلاق من أجل استعادة حُريته. لن أحكُم على النوعية الأخلاقية لهذا الوضع المُغلق: فأنا روح عجوز، مُعتاد على تركهم يُقنعونني — ليس بلا مرارة، بالتأكيد — بملاءمة أشكال ظلمٍ مُعينة واضحة. ورغم ذلك، أعتقد أن تيموتيو لم يتلقَّ هِبات الحضارة التي نتفاخر بها في لقاءات مساءات أيام السبت: ابنًا للُّصوص تربَّى بين الإصلاحيات والمواخير، لم يذهب أبدًا إلى المدرسة (تعلَّم القراءة مُضطرًّا بضرورة فك شفرة عناوين الصحف التي يبيعها صائحًا)، ولم يملك أبدًا شيئًا وفيرًا إلى حدِّ أن يُطلَق عليه أنه يخصُّه. في النهاية، تعرفون حضراتكم جميعًا ما لا نهاية له من الحالات المُمَاثلة، وإذا كنتم على نقيض ذلك فسوف يُفيدكم الاندراج في أحد مُقرَّرات السوسيولوجيا، من تلك المُقررات المتوافرة تمامًا والتي تمنح شهاداتٍ جميلة مُذهَّبة. الوضع المختلف هو وضع صامويليتو، الأحول، الذي، خارَج الشاي بالبسكويت والحلوى، لا يقبلُ سوى ابتلاع الجرذان المُتعفِّنة، والذي، في هذه اللحظة، يُلقِي على الطاولة أوراقه، طالبًا العفو بجرعةٍ مُعينة من الضيق لم يُحالفه الحظ في توزيع الأوراق الأول، ويعتقد أنه ليس من التعقُّل أن يُصِر. يرتدي بذلةً من نسيج القنب بالكروشيه صُنعت خلال ١٧ عامًا من الجهد اليومي، وكما يتولَّى من حينٍ لآخر تذكير رفاقه، فإنه يعتقد أن كل صناعة الموضة الدولية ليست سوى تجسيد مَقصِدِ قوى الشر بهدف التسبُّب في ضياع روحه، بإغراء خُيلائه الشخصية الهائلة. ومن أجل الدفاع عن اتحاده مع الرب، أقسم صامويليتو ألَّا يشتري لنفسه أبدًا، أي ثيابٍ رجالية أو نسائية، وألَّا يستخدم ولو للحظة أيةً قطعة ثيابٍ لا يكون قد صنعها هو نفسه بكامِلها. ونظرًا لنقص مُسوح الزهَّاد، أو أجولة الرماد المُتعارَف عليها (والتي على الأقل، ستكون في حالته شيئًا يُقارب بشدةٍ المَعنى المُعاكس)، يستخدِم صامويليتو مجلَّة فوج التي هو مُشتَرِكَ قديم فيها، وأعدادها التي تصِله شهريًّا، يقرؤها ويتأمَّلها غارقًا في العرَق طوال أيامٍ بأكملها، مِن الأفضل خلالها عدم محاولة إقامة أية مُحادثة معه. ففي تلك الأيام يُصبح شخصًا لا يُطاق: يبلغ المرء حدَّ الاعتقاد بأنه إذا لم يكن قد جُنَّ بمزاجه، فذلك كي يُضايق الآخرين، ولنقص الشجاعة الدنيا التي تجعله يتحوَّل إلى مُصمِّم موضة أو مُخنَّثٍ أو رئيس خيَّاطين. حين قُلنا منذ برهةٍ إن وضْع صامويليتو في لعب البوكر مُختلف، فعلْنا ذلك بوعيٍّ كامل: فهو كقاعدة عامة، فورَ أن يتلقَّى أوراق اللعب ينهمِك في وضعها على المِفرش مفتوحةً أمام أعيُن اللاعبين الآخرين، بصورة فاحشة، حتى يعلَم الجميع كيف تجري الأمور. لهذا السبب لا يكسِب صامويليتو دورًا منذ سبع سنوات: الإنسانية، الإنسانية المجنونة ناكرةٌ للجميل. لكنه لم يتخلَّ أبدًا عن طلب توزيع الأوراق الثاني، كما فعل اليوم، فهذا الامتناع خطير في الحقيقة، ويُعادل رُعب الخفَّة الذي يمكن أن يكون قد وقع فيه مُخلِّص البشر إذا كان في عزِّ ظهيرة يوم موته الرهيب، قد طلب كوكاكولا. لماذا فعل صامويليتو شيئًا كهذا؟ يجب افتراض أننا سنعرف يومًا ما. وفي هذه الأثناء، لِنَقُل إن مينجو تشينتشينتورو يُكمِل المجموعة. جُنَّ مينجو من الشعار حين جعلت صلعته السابقة لأوانها زوجتَه تسقُط بين ذراعَي شاعِرٍ ذي ضفائر سوداء معقوصة رائعة كان يحيا في جوار ذلك المَسكن الذي كان صخريًّا حتى ذلك الحين. بعدها قتل مينجو مُمرِّضَين لهما شَعر كثيف، ممَّا أسَّس في هذا المكان تقاليد قَصَّة شعر «حرس الهجوم» الإجبارية بين صفوف المُستخدَمين والمُتعاونين. نشاطه الاجتماعي الوحيد هو لعب البوكر ساعة الشاي وذلك، بين أشياء أخرى، لأنَّ اللاعبين الآخرين أقوى منه بدنيًّا. ولو لم يكن الأمر كذلك، لكان مينجو المسكين في العزلة الدائمة الأثقل أصفادًا، يُطلق الهرطقات ضد مذهب كتابة السوناتا كنوعٍ أدبي وكتوجُّه أساسي تجاه الحياة، وضد اللسعة الجنسية المسائية التي تُصيب الزوجات الضجِرات حين يتركهنَّ أزواجهنَّ الصُّلع الصغار يتناولنَ غداءهنَّ وحيداتٍ لأكثر من أسبوع. جنون بديهي جنون مينجو، ليس شديد الأدبية لكنه شديد القوة، قادِر حتى على جعْل روحٍ مخلصة تضلُّ إلى حدِّ القتل. أود القول، حتى أتدخَّلَ لأول مرةٍ بمثالٍ على المشاعر الكاثوليكية التي ما زالت باقية لديَّ، أن الحياة على هذا النحو، أن ما هو يومي يُمكن أن يكون وحشيًّا، أن وجود آيس كريم بالفراولة بقدْرٍ ليس غامضًا بالضرورة يعتمدُ على أن يكون تيرانوصور ركس قد مَصمص مرةً الكبد الضخم لديناصورٍ غافٍ مُتثاقل، في أعقاب معركةٍ لا مثيلَ لها (إذا أمكن ذلك) تدوم ثلاث ساعات أو أربعًا مِن الساعات الحالية. على نقيض صامويليتو، فإن مينجو في البوكر فائز دائم. فلمَّا كان، حين يخسر، يحاول في أغلب المرات أن يقتل أحدًا، مما يُطيحُ بالجوِّ الإنجليزي للمكان الذي كلَّف تنظيمُه كل تلك السنوات مِن التربية البطيئة وكل تلك الكمية الهائلة من الممارسة المِهنية والصبر، فإن الإدارة تقدِّمُ جوائز وتعويضات خفيَّة لرفاقه اليومِيِّين حتى لا يشحذوا أكثر مما يجب استراتيجياتهم وتكتيكاتهم ضد مينجو. تستغلُّ فيهم ميلَهم الواضح للشفقة وولعَهم بالمؤامرات. هذا كله، علاوةً على الحظِّ الطيب غير المعهود لمينجو في ألعاب الورق، أثمر نتائج مُمتازة. بالطبع، يتنَهَّد المرء تحسُّرًا على العفوية المنشودة، ويتألَّم من افتقاد السحر، لكنه ينتهي بالموافقة — ودون اللجوء، بالتأكيد، إلى التعقُّل الرجعي — على أن النظام أيضًا له مَزاياه. فلنُلقِ نظرةً إذن على فرنسا الخالدة: الأمر فظيع! إلى هنا ينتهي الوصف. فلا تُهمنا الشاشة الطوباوية الكلية، التمثيل المزعوم للواقع الذي يظهر فيه بطل رواية عن السجناء مُصوَّرًا في صفحات مُجلَّدٍ يفوح برائحة البول والطعام البارد المُتحلِّل. نُلاحق فقط تثبيت لحظةٍ — مُحتفِظين لها كذلك ببعضٍ من اختلاجاتها الصغيرة — كي تستخدِمها السوداوية المُستقبلية: النظرية العامة للفوتوغرافيا من أجل التذكار.٢ علاوة على ذلك، وبالنسبة للمُمرضين الأفضل تفكيرًا، فإن ذلك مسألة كلِّ يوم، اللعنة. ويجب فَهم أنه، حتى الأرواح المُحِبَّةِ لتلك المتاهات التي بلا حلٍّ على أساس التكرار الخالص والاستمرارية، تستحق أن تُخرج مقعدها الوثير إلى الهواء الطلق في بعض الأمسيات، وتفرد صحيفتها، وتتأهَّب لوجبةٍ دسمة في السحر لا يمكن حتى للبابا المُقدس أن يُنكرها عليها دون أن يكسو نفسه بالبراز بصورةٍ حاسمة.

حول الصداع

جميل أن يكون المرء شيوعيًّا،
ولو سبب ذلك الكثير من الصداع.
وصداع الشيوعيين
يُفترَض أنه تاريخي، أي
لا يكفُّ بالأقراص المُسكِّنة،
بل فقط بتحقيق الجنَّة على الأرض.
هكذا الأمر.
في ظلِّ الرأسمالية تؤلِمنا رءوسنا،
وينزعون رءوسنا.
وفي النضال من أجل الثورة يُصبح الرأس قنبلة موقوتة.
في البناء الاشتراكي
نُخطط الصداع؛
ممَّا لا يجعله يندُر، بل على العكس تمامًا.
الشيوعية ستكون بين أشياء أخرى،
قُرص أسبيرين في حجم الشمس.

مراجعة

ليس دائمًا.
لأنه،
مثلًا،
في ماكاو،
الأفيون
هو أفيون الشعب.

أقوال

«الماركسية-اللينينية هي حَجرٌ
لتحطيم رأس الإمبريالية
والبورجوازية.»
«لا. الماركسية-اللينينية هي شريط المطَّاط
الذي يُقذَفُ به ذلك الحجر.»
«لا، لا. الماركسية-اللينينية هي الفكرة
التي تُحرك الذراع،
التي تجذب بدَورها شريط المطَّاط
للنبلة التي تقذِف ذلك الحجَر.»
«الماركسية-اللينينية هي السيف
لقطع يدَي الإمبريالية.»
«مهلًا! فالماركسية-اللينينية هي نظرية
عملِ طلاء أظافر للإمبريالية،
بينما يجري تَحيُّن الفرصة لتقييدِ يدَيها.»
ماذا أفعل إذا كنتُ قد قضيتُ عمري
أقرأ الماركسية-اللينينية،
وحين كبرت نسيتُ
أنَّ جيوبي مليئة بالأحجار،
وبِجَيبي الخلفي نبلة،
وأن باستطاعتي حقًّا الحصول على سيف،
وأنني لا أُطيق البقاء خمس دقائق
في صالون تجميل؟
١  التلاعُب بالألفاظ هنا بين expatriado: أي مَنفِي عن وطنِه وبين ex patria: أي وطن سابق.
٢  guardapelo دلَّاية أو عليقة: علبة معدنية صغيرة نفيسة تحتوي على تذكارٍ كرسم شخصٍ أو خصلةٍ من شَعره، يُدلِّيها المرء من قلادةٍ أو سلسلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥