تمهيد: الرغبة المحضة
إن قدوم هذا التلميذ المخلص للاكان من العالم الشيوعي السابق على الأرجح أمر ذو صلة في هذا السياق، فمن الغريب أن يجد جيجك ورفاقه من أتباع لاكان في مدرسة ليوبليانا للتحليل النفسي أنفسهم منجذبين في العهد الستاليني الجديد إلى نظرية تهدم السلطة الزائفة لما يُسمَّى بالدالِّ الأكبر. لا شك أنهم كانوا متحمِّسين بنفس القدر للإصرار على غموض الذات البشرية وتدهور هُوِيَّته، في ظل نظام اجتماعي سادت فيه الشفافية الزائفة وعقيدة الفردية الجوهرية. في الوقت ذاته، بدا أن نقص الشفافية الفعلي في النظام اليوغوسلافي وغموضه المعقد قد أَدَّيَا دورهما في جعل الفكر اللاكاني ذا صلة. كما أنه في دول البلقان المتَّسمة بالنزعة القومية والانقسام العِرْقي، المنطقة التي طالما مثَّلت آخرَ كبيرًا مُهدَّدًا في أوروبا، يمكن للتحليل النفسي — وهو علم يدرس كيفية تكوين الذاتية الإنسانية — أن يكون ذا صدًى سياسي أكبر مما هو الحال في روما أو نيويورك. فإن كان الهروب من المسئولية والتأليه والانقسام والانغلاق والتنصُّل والإسقاط والْأَمثَلَة آليات نفسية مألوفة بالقدر الكافي، فهي أيضًا مادة النزاع العِرقي والصراعات العسكرية.
يرى جيجك وزملاؤه لاكان باعتباره المناصر المتأخر للنظام الواقعي المتصلِّب أكثر منه ذلك الرجل الباريسي العصري المتبنِّي لما بعد البنيوية الذي يرى أن العالم يمكن تحليله إلى خطاب («بنيوية الاسباجيتي» كما يُسمِّيها جيجك بازدراء)، وهذه النزعة مفهومة بقدر ما في ظل ظروفهم السياسية، فليس من العجيب أن الذين يَكتبون وتُحيط بهم صراعات قاتلة هم أكثر استجابة لما يقاوم الترميز أكثر من نظرائهم في جامِعَتَي كورنيل وكنيسة المسيح. إنه هذا التضارب بين دائرتهم المهنية — اللغة، في المجمل — وما يتجاوَزها مما يَحتَمِلُ أن يَخطر بذهن المفكرين في المواقف المضطربة سياسيًّا. وليس من العجيب أن يمثل النظام الواقعي أهمية كبيرة لأصحاب الهدف السياسي الساعين لهزيمة الكل، بصرف النظر عن كيفية إلزام السلطة المستبدة إلزامًا ساديًّا لضحاياها بتقبُّل أغلالهم، فكل هذا يمكن بالتأكيد النظر إليه في ضوء هذا الحظر الجماعي للرغبة التي كانت الشيوعية البيروقراطية.
ثمَّة تشابُه بين هؤلاء والْمُهَرطِق الأوروبي الشرقي الآخر الذي يُدعى ميلان كونديرا، فقد رأينا من قبل كيف أن كونديرا يستخدم مصطَلَحَي «الملائكي» و«الشيطاني» بأسلوب ذي صلة بالأخلاق؛ لكن يُمكن تطبيقهما بنفس القدر على السياسة؛ إذ يرى في روايته «كائن لا تُحتمل خِفَّته» الدول الشمولية دولًا «ملائكية»، خائفة من الغموض، وعازمة على ألَّا يفلتَ أي سلوك إنساني من شِباك الفهم، وواضعة كل شيء في إطار من الدلالة اللامعة والوضوح الآني. وفي طرفة ساخرة، تحكي الرواية كيف يقترب مواطن من سِكِّير تشيكي يتقيأ في وسط براغ في العهد الستاليني الجديد فيهزُّ رأسه ويُتمتِم: «أعرف تمامًا ما تقصده.» وفي عالم الوضوح المباشر هذا المصاب بجنون الارتياب، فإنه حتى القيء يجب أن يحمل دلالة معينة. أما ما يَصفه كونديرا ﺑ «الشيطاني» في المقابل فيتميَّز بثرثرة ساخرة تثور على مخططات الطغيان المنظمة، وترتع في مستنقع فراغ الأشياء من معناها. ليس من الصعب رؤية نظام لاكان الرمزي في الوضع الأول ونظامه الواقعي في الوضع الآخر، أو استيعاب السبب في أن احتمالية النظام الواقعي المطلَقة — اعتياده قصم الأنظمة الرمزية المغلقة ببقايا الرغبة التي لم يَتِمَّ إشباعها — كان لها أن تتمتَّع بجاذبية وتلهف عند مفكري أوروبا الشرقية في حقبة الحرب الباردة. إن ما سنراه بعد قليل باعتباره أمرًا أخلاقيًّا عند لاكان — التوصية بعدم تخلي الفرد عن رغبته مهما بدت مستحيلة — يشبه البيان الرسمي لحركة التضامن البولندية في أحلك الأوقات التي مرت بها.
إن العلاج المتعلِّق بالتحليل النفسي من وجهة النظر اللاكانية ليس مختلفًا عن تحقيق الاستقلال السياسي، وهو ما قد يكون سببًا آخر في أن البلقان ثبت أنه بيئة شديدة الخصوبة لمجال التحليل النفسي. إن المريض الذي يَخرج «بنجاح» من التحليل اللاكاني هو مريض تَعلَّم ألَّا يرضى أبدًا، تَعلَّم أن يُقرَّ بأن رغبته لا يدعمها الآخر الكبير وأن أساسها ذاتي بالكلية؛ ومِن ثَمَّ فهي مُطلَقة وسامية في كل جوانبها تمامًا كما أُشيع عن الرب لبعض الوقت. إن كانت الرغبة مُتعدية — أي إن كان لها شيء تتعلق به أمام ناظِرَيهَا — فسيُمكننا أن ندرس السياقات التي تُغذِّي مثل هذه التطلعات؛ ومِن ثَمَّ لن تعود الرغبة جذرية. إن انعدام وجود هدف حقيقي للرغبة فيما وراءها هي في حد ذاتها هو ما يجعلها أساسًا لا يُمكن الغوص إلى مستوى أعمق منه. فمثلما يمثل الروح القُدس سرور الرب الأبدي بصورة نفسه التي هي ابنه، لا تتوقَّف الرغبة أبدًا عن تأمل صورتها الذاتية ومطاردة ذاتها، مُزدرية الأشياء التافِهة التي تَخطِف الأنظار، والتي توجد هنا وهناك لتحقَّق لها الإشباع الفوري. وبما أن الرغبة — مثل الرب — هي أرضية بلا قاع؛ ومِن ثَمَّ ليست أساسًا على الإطلاق، فإن الخاضع للتحليل النفسي يجب أن يفترض احتمالية وجوده، فيتخلى عن المسعى غير ذي الجدوى لإيجاده، وقد صدق عليه آخر كبير يعتبر وجوده على أي حال سرابًا. إن كان هذا يُشبه قليلًا الخروج من تحت سيطرة حاكم قمعي، فهو يحمل أيضًا أكثر من مجرد شَبَهٍ بالقديس. ولا شك أن هذا من بين الأسباب التي تجعل العلاج بالتحليل النفسي مسألة مطولة بصفة عامة، في الواقع طويلة بالقدر الكافي لتحقُّق مجموعة كبيرة من الشعوب الصغيرة استقلالها.
مع ذلك — وبالرجوع إلى جيمسون — فإن مساواة الواقعي بالواقع التاريخي ببساطة هي قراءة خاطئة بكل تأكيد؛ فالواقع عند لاكان مجرَّد مكان ذي مستوى أدنى للتصور وظيفته حمايتنا من هُوَّة النظام الواقعي، كمَلجأ نوعًا ما للنفس. فالتصور هو ما يملأ الفراغ في وجودنا لكي تتمكَّن مجموعة القصص التي أهلكها تداولها الكبير، والتي نُسمِّيها الواقع، من الظهور. كما يرى لاكان، أن في الحلم — وليس في المكان المُبهرِج الذي نسميه الواقع — يكون اقترابنا من النظام الواقعي لرغباتنا. فالنظام الواقعي هو ما يُخلخل هذه الصور الجميلة؛ ليخرج الذات من حالتها السليمة ويُخرج النظام الرمزي من وضعه الصحيح. فهو نقطة فشل الذات وطريقها المسدود، والطريقة التي تعجز بها الذات عن الاتساق مع نفسها، والجرح الأصلي الذي أصابنا بطردنا من الجنة فيما قبل الأوديبية، وهو الإصابة البالغة في وجودنا حيث نُنتزَع من جسد الأم وتتدفَّق منها الرغبة دون توقف.
إنها تلك الصدمة الأولى — ذلك التحريم الأبوي المُروع، وسيف الإخصاء الذي بِيَد القانون، وعذاب الانفصال، والشيء المرغوب المفقود إلى الأبد، والواجب الذي تفرضه الأنا العليا للانغماس في إحساسنا بالندم — هي ما تبقَّى كنوع من اللُّبِّ الصلب المروِّع داخل الذات. وفي ظل السجال المُميت بين القانون والرغبة ننقاد لنمارس الجَلْد القهري والمَرَضي للذات الذي يُمارسه الأموات الأحياء. ومثلما يرى شوبنهاور أننا جميعًا نحمل دائمًا في داخلنا وحوشًا، وأن القوة الخبيثة التي سماها الإرادة هي التي تُظهرنا في صورة إنسانية، فإن النظام الواقعي على نحو ما جسم غريب مغروس بداخلنا. إنه ذلك الشيء الذي بداخل الذات الذي يَزيد على الذات، إنه فيروس قاتل يغزو جسدنا لكنه — كما يقول الأكويني عن الرب — أقرب إلينا من أنفسنا.
ليست الرغبة شخصية إطلاقًا، فهي — كما أدرك جون راسين — بلاء كامن بانتظارنا منذ البداية؛ سيناريو تراجيدي نرثه ممن يكبروننا؛ بيئة مُشوِّهة نغرق فيها عند الولادة. إنها «الشيء الذي في الذات» الذي يجعلنا ما نحن عليه؛ فهي وتد غريب مغروس في جوهر وجودنا. غير أنها أيضًا، كما سنُوضِّح فيما بعد، وسيلة محتملة للخلاص. إن النظام الواقعي هو الشيء الأكثر اضطرابًا دائمًا فينا، وهو الأكثر ارتباطًا بجوهرنا. وفي هذا الوضع المُلتبس يظهر باعتباره نوعًا من «السقوط السعيد»، والعيب أو النقص في تطابقنا مع الذات الذي يضمن أن نظل غير منطبقين مع ذواتنا دائمًا؛ لكن من دونه لن نتمكن من أن نكون على حقيقتنا؛ فهو كالسمو، وهو نسخة معاصرة منه، مُغرٍ وبغيض في الوقت ذاته، هو مصدر لرعب لا يُوصف؛ لكنه (كما سنرى بعد قليل) ذلك المصدر الخفي لوجودنا الذي يَجب علينا أن نؤمن به بأيِّ ثمن.
إن النظام الواقعي صادم وغامض وقاسٍ وفاحش وفارغ بلا معنًى ومُمتع على نحو مروِّع، فهو في غموضه صورة من الشيء في ذاته الذي لا يُمكن معرفته في فكر كانط، وما يتجاوز معرفتنا في النهاية هو الإنسانية نفسها. وبتطويع ملحوظة فتجنشتاين عن الأخلاق، فإن النظام الواقعي يتضمَّن الاصطدام بحدود اللغة، والإصابات الناتجة عن هذا الصدام هي الشواهد الحية على فنائنا. لا يمكننا أن نستوعب هذه الظاهرة الغريبة إلا بتحليلها على نحو عكسي — إن جاز التعبير، من نتائجها — من وجودها عائقًا أمام خطابنا، مثلما لا يستطيع الفلكيُّون أحيانًا أن يتعرَّفوا على جِرْم سماوي إلا من خلال التأثير الانحنائي الذي يسببه للفضاء من حوله؛ إذ إن اتخاذ النظام الواقعي شكلًا ملموسًا، وظهوره في الواقع ذاته، هو قَدَر المصاب بالذُّهان الذي انهارت قدرته على الترميز، فالنظام الواقعي هو مشهد الافتتاح، ورُمَّانة الميزان، والشيء المجرد فيما وراء العلامة أو العنصر المجرَّد في أي نظام سيميائي وظيفته الدلالة على الحقيقة بحيث لا يمكن تجميعه؛ فمن منظور معين، يعني هذا الرمز الكودي الذات الإنسانية نفسها، الفراغ الذي يوجد بقلب النظام الرمزي. وهذا الفراغ هو الشرط المسبق لكي يعمل هذا النظام بكفاءة، لكنه لا يُمكن تصويره فيه بصورة كاملة.
يَرفُض النظام الواقعي، باعتباره ثغرة في بنية النظام الرمزي، الدلالة الرمزية عليه، فهو نوع من الفائض أو الفضلات يظل باقيًا عندما يتشكل الواقع بالكامل. إنه المرحلة التي تتحوَّل فيها صناعتنا للدوال إلى انعدام للترابط، وتبدأ فيها معانينا في الانكشاف من أطرافها؛ وبذلك فهو لا يُسجِّل نفسه بصورة مباشرة، بل يرسم الحد الخارجي لخطابنا أو للصمت المنقوش داخله. فهو يمثل لبًّا صلبًا أو فراغًا شاسعًا في قلب نظامنا الرمزي (التشبيهان المتناقِضان سليمان) إن مُنعا من الامتزاج التام مع أنفسنا ففي ذلك انهيار للكُل وتخريب لكل المعاني المفهومة. إنه الفراغ الخالي على نحو مُطلَق من المعنى الذي نجد صَداهُ في حديثنا المنطوق، والعقدة في وجودنا التي لا يمكن لأي قدر من العمل الروحي المُضني أن يَفكَّها؛ ففي قاع المعنى — كما في الشعر — يظل دائمًا ثمة بقية من اللامعنى.
إن ظل النظام الواقعي هذا هو ما شعرت به الرسامة ليلي بريسكو بالقرب من نهاية رواية فيرجينيا وولف «إلى المنارة»؛ إذ تحاول إنهاء إحدى اللوحات، وفي نفس الوقت تحاول فهم العالم من دون مركزه المُشرِق، محبوبتها السيدة رامساي. ومع الانسحاب المفاجئ لهذا الجسد الأمومي الحاضن تَشعُر ليلي «وكأن ذلك الرابط الذي يربط عادة الأشياء ببعضها قد انقطع، وهي تسبَح هنا وهناك، مبتعدة، بأي صورة. وفكرت، وهي تنظر إلى فنجان القهوة الفارغ خاصتها: كم كان هذا عبثًا، كم كان فوضويًّا، كم كان غير حقيقي!» وبينما يطلق السيد رامساي صرخاته المفككة المفجوعة («وحيد»، «هالك»)، تشعر ليلي بأنها إن تمكنت فقط من تجميع هذه الدوال المُروعة معًا و«وضعها في جملة واحدة فسيُمكنها حينها أن تصل إلى حقيقة الأشياء … إن ما تمنت أن تمسك به هو عين المصدر المسبب للإزعاج، الشيء ذاته قبل أن يكون أي شيء.» والحداثة بصفة عامة تتَّسم بهذا الشغف بالمواجهة المباشرة مع النظام الواقعي، فلا تجد سوى ما يسوءها، وهو توسُّط الدالِّ بينهما. وهذا — يمكننا أن نقول — هو مكمن انتصارها وجَزَعها في الوقت ذاته. لكن النظام الواقعي في رواية وولف هو أيضًا سبب الانحراف، وهو العقبة؛ فالجهاز البشري الخاص بالرسم — والإحساس — «دائمًا ما يتعطل في اللحظة الحاسمة، ويجب على الإنسان ببسالة أن يجبره على الاستمرار.» تُفتش ليلي عن كلمات تُعبر عن فراغ الموت الذي يقبع في جسدها، والإحساس بوجود «مركز الفراغ التام» الذي يبدو أن مصدره ليس موت السيدة رامساي بقدر ما هو الإحساس المطلق بالتَّوق في ذاته، وهو جوهر الرغبة المُطلَق غير المقيد. إن كانت ليلي غير قادرة على استكمال لوحتها، فذلك لأسباب ليس أقلها أنه في كل مرة يظهر لها نذير الموت الهزيل، السيد رامساي، برغبته الجهرية في التعاطف «يقترب الخراب، وتقترب الفوضى» في هذا «المنزل المليء بالعواطف غير المترابطة».
ورغم شفقة رامساي الذاتية الصبيانية، فإنه في النهاية يثبت قدرته على تجاوز دائرة الشفقة والتعاطف الخيالية إلى «منطقة أخرى … منطقة خارج متناول الإنسان»؛ حيث ينزل أخيرًا بالمنارة كبطل استعاد رجولته المدمرة بمعجزة. وتسأل ليلي نفسها: «ما الذي بحث عنه بهذا الإصرار وهذا التصميم وهذا الصمت؟» في تلك الأثناء، وبينما يسافر رامساي إلى حدود رغبته في الوقوف أمام المنارة المنعزلة، تشعر ليلي بأنها «غير راغبة في الثرثرة، غير راغبة في الحياة، غير راغبة في الاجتماع بالناس في وجود عدوها القديم المرعب، هذا الشيء الآخر، هذه الحقيقة، هذا الواقع الذي سيطر عليها فجأة بعد أن ظهر جليًّا من خلف المظاهر واستحوذ على انتباهها. لقد كانت منقسمة بين عدم الرغبة والامتناع، فلماذا دائمًا يطول الأمر ويبتعد؟»
لكن هذا الاستدعاء الهامَّ للنظام الواقعي هو كذلك إحساس بعدم التناسب الجذري للأشياء — أي اضطرابها أو ظهورها فجأة بصورة غريبة كل دقيقة — كتجهُّم مفاجئ أو شبح على وجه جميل: «لقد نسيَ المرء نوبات الانفعال اللطيفة — الفورة والشحوب والتشوُّش الغريب، الضوء أو الظل — التي تجعل الوجه غير واضح لوهلة، ومع ذلك تُضيف سمة له يراها الإنسان بعد ذلك إلى الأبد.» ثمة رهبة وكذلك نشوة في الشعور بالمُخاطرة والانكشاف الشديدَين بما يتخطَّى العادات الوقائية للنظام الرمزي: «ألم يكن هناك أمان؟ ولا معرفة كبيرة بقوانين العالم؟ ولا مرشد ولا ملجأ، بل كان كل شيء معجزة، وقفَز من أعلى برج في الهواء؟ هل يمكن — حتى عند من هم أكبر سنًّا — أن تكون تلك هي الحياة؟ هل يمكن أن تكون مدهشة وغير متوقعة ومجهولة؟» سنرى لاحقًا كيف كان هذا الفرق بين العادة والمعجزة موضوع أعمال بعض فلاسفة الأخلاق المعاصرين المُتناوِلين للنظام الواقعي.
ومع تحوُّل «الأشياء الخارجية» إلى عالم اللاواقعية، يسكن لوحة ليلي غير المنتهية حس وجود هو في نفس الوقت «خفيف بحيث لا تضطرب له أنفاسك، وثقيل بحيث لا يمكنك إزاحته بمجموعة من الخيول.» وتستمر — وهي لا تزال تتأمل حال الموتى — في «مواجهة صعوبة في رسمها» إلى أن يخطر ببالها أن ترسم خطًّا يمثل شجرة في وسط اللوحة، وحينها تشعر بابتهاج عظيم؛ فلقد تخطَّت الآن — مثل السيد رامساي — حاجزًا غير مرئي، وقفزت فيما وراء قانون الجسد المحب والقمعي في نفس الوقت الذي مثَّلته السيدة رامساي لها، مدركةً في نوبة من الحرية عدم الحاجة للخضوع لهذا القانون من خلال زواجها. لقد تحول السيد رامساي نفسه إلى الأعزب الذي كان من قبل، سائرًا بخطًى خفيفة كشابٍّ إلى داخل المنارة، «كما لو كان يقفز في الفضاء» بحثًا «عن العالم كله … كما لو كان يقول: «ما من إله.»» إن كان قد صار ملحدًا في لحظة الكشف اللامعة الغامضة تلك؛ فذلك لأن النظام الواقعي لرغبته اتضح أن أصله في ذاته لا يستمد أي دعم مما سواه. وفي الوقت نفسه ترسم ليلي — إذ تدفعها مغامرة لوحتها المحفوفة بالمخاطر إلى أقصى حدود قدراتها — خطًّا فجأة في وسط اللوحة، بينما تنتهي الرواية باقتباس من كلام المسيح على الصليب: «لقد اكتمل الأمر، لقد انتهى.» وفي ضوء هذا التصوير الفني للنظام الواقعي، ليس من الغريب أن ترى في قلب رائعة وولف الأخرى «السيدة دالوواي» الموت والذُّهان وتفكك المعنى.
•••
إن النظام الواقعي من ناحية هو أثر الاحتمالية المادية غير المفهومة التي لا يسع النظام الرمزي أن يَستوعبها بالكامل أبدًا، والقوة التي تعطل دافع ليلي بريسكو الفني نحو النظام. أما من ناحية أخرى فهو نظام مقترن بشدة بالدوافع الجسدية التي هي في حالتها النقية أو الفعلية غامضة بالنسبة إلينا بقدر مفهوم كانط «الشيء في ذاته»، والتي يجب أن تمر عبر شوائب الدالِّ من أجل أن تدخل إلى الوعي الإنساني. وكما لو لم يكن ما سبق كافيًا، يُمكن تعريف النظام الواقعي بأنه — كما في رواية «إلى المنارة» — الشيء الذي هو دائمًا في غير محله، ومع وجود هذا الشيء المرغوب الممنوع والمستحيل الذي هو جسد الأم، عُرف السعي المحموم إليه في مجال التحليل النفسي بأنه مسار التاريخ الإنساني. فإن تمَّت استعادة هذا الفردوس المفقود، فإن التاريخ — الذي ما هو إلا الفشل المتكرر في الوصول إليه — سيتوقف. وفيما يتعلق بجسد الأم، يمثل النظام الواقعي محلَّ «متعة» مفقودة، تلك اللذة المنتشية للآخر الكبير التي تبدو ملذات النظام الرمزي بجانبها ضئيلة للغاية.
إلا أن ثمة وجهًا مُخلِّصًا للنظام الواقعي، مثلما له وجه مُدمِّر. إن الشيء الأكثر واقعية فينا من وجهة نظر المحلل النفسي هو الرغبة، والإخلاص لرغبتنا يعني مِن ثَمَّ الإخلاص لأنفسنا. لكن هذا حتمًا إخلاص للفشل؛ حيث إن الرغبة لا توقفها الطبيعة، والذين يمتلكون الشجاعة الكافية لتقبل هذه الحقيقة هم الأبطال الحقيقيون، مثلما ينتزع البطل التراجيدي الكلاسيكي النصر من مخالب الهزيمة، فعين الشجاعة التي تسمح له بالاستسلام لقَدَره هي كذلك قوة تتخطاه. إن الشخصيات الأدبية التي سنتناولها في الفصل المقبل — الذين يفضلون السَّير بشَمَم نحو الموت، على التخلِّي عن رغبتهم المطلقة في الشرف أو العدل أو العفَّة أو التقدير — هم الذين أصبح هدفٌ إنسانيٌ ما عندهم كناية عن الرغبة في ذاتها، كناية عن ذلك الذي بداخلهم، الذي يتخطى كل الأهداف المنطوقة. إنهم لهذا السبب يتمسكون بالأشياء التي يَتُوقونَ إليها بهذه القوة الشديدة.
الأخلاق عند لاكان إذًا تتخطى ما هو جيد ونافع وفاضل ومُمتع، وتكمن في نطاق الرغبة المقنن بشدة، فالمُؤثِرون الذي يَسْعَونَ جاهدين لخدمة الآخرين وإشباع احتياجاتهم وتعزيز رفاهتهم، لا يفعلون ذلك إلا لأن الصورة الحقيقية للذة التي هي المتعة — وهي اللذة التي «لا طائل منها» — قد خذلتهم بكل أسف. أما المُصلح النفعي أو السياسي فهو الشخص غير القادر على الاستمتاع من دون غاية منظورة، فهؤلاء الذين يصادرون على الخير — كما يزعم فلاسفة الأخلاق الواقعية — يَفترضون بأسلوب ضمني استبدادي أنهم على علم بما فيه خير الآخرين، بينما لا يقع المحلِّل المحب لمريضه فريسة لهذه الافتراضات المسبقة.
إن ادعاءَ لاكان إدخال الجديد في الأخلاق هشٌّ بالتأكيد؛ فالمسيحية، كما رأينا، تضع الرغبة (التَّوْق الإنساني للرب) في بؤرة تفكيرها الأخلاقي، وكذلك تفعل العقيدة السابقة عليها، اليهودية. وعلى نفس القدر من الهشاشة تأتي قضية التعارُض الواجب بين الرغبة والخير، وهي قضية لا تتمتَّع بمصداقية إلا إن نزعنا الوسيط بينهما المعروف بالحب، فالرغبة في الإنجيل المسيحي — التي في صورة الحب أو التَّوْق الذي هو الإيمان والأمل معًا — ليست مضادة للخير الأسمى بقدر ما هي الدالُّ المبهم عليه في حقيقتها. ولأن حب الرب لا يكمن إلا في جوهر النفس داعمًا وجودها، فبإمكاننا السعي إلى هذا الخير في صورة رغبة فيه. ومن هذا المُنطلَق تختفي السلبية — سلبية الرب الأجوف الذي لا يُمكن الحديث عنه ولا تصوُّره — تحت سلبية أخرى، وهي التطلع الأبدي له. إنها رغبة خاصة بالنظام الواقعي تستحوذ على النفس استحواذًا عنيفًا من جذورها وتمزِّق أساسها. كذلك فإن الخير، الذي هو الرب، يحمل في العقيدة المسيحية كل غموض النظام الواقعي وليس وضوح أحد المُثُل العقلانية التافهة. فإن كان الرب هو المثال الأعلى على «الذات المفترض أن تعرف» عند لاكان — أي يمتلك علمًا لا غبار عليه — فليس بالبناء على هذا العلم الشامل يمكننا أن نُصْلِح وضعنا الأخلاقي. إننا بالإيمان لا بالعلم نعرف قانون وجودنا، فالخلاص في المسيحية وفي التحليل النفسي كليهما شأن عملي نسبي، وليس مجموعة من الافتراضات النظرية.
على نفس القدر من الضعف تأكيد لاكان الهش على أن كل الفكر الأخلاقي السابق يتمحور حول المتعة، فليس كل فلاسفة الأخلاق قبل فرويد همهم اللذة الشخصية بلا حياء، وإن كان من الصحيح أن أي مذهب أخلاقي قائم على إدراك الذات، سواء كان المذهب الأرسطي أو الهيجلي أو الماركسي، يجب أن يَقبل هذا الفائض الفاسد المُحرِج الذي يأتي بنتائج عكسية أو الفشل في تحقيق الهدف الناتج عن الرغبة. لكن في نظرة لاكان الضبابية، فإن فرويد رائد كبير في هذا الصدد؛ فإشارته الطليعية لا تحدِّد موقع القانون الأخلاقي بالنسبة إلى النظام الرمزي، بل بالنسبة إلى الشيء المفقود دائمًا الذي يتعلق به تطلعنا، وهو ما يُسميه لاكان دراميًّا «الشيء الكبير»، والذي أحيانًا ما يترجمه بجسد الأم. إن الرغبة التي يعبر عنها التحليل النفسي هي الرغبة الخاصة بالنظام الواقعي، القوة المضطربة التي تتخطى قيود النظام الرمزي، وإن في ذلك مكمن أصالتها الأخلاقية.
شرد كل أبطال سوفوكليس الأقوياء — كما يشير لاكان — فيما وراء درع النظام الرمزي الحامي إلى منطقة الروح التي بلا معالم، يدفعهم احتياج راسخ أو نقاء خارق للطبيعة بخروجهم من حواجز الاحترام المهذب إلى مكانٍ يتَّسم بالانعزال الشديد والانكشاف الذاتي، يبرزون فيه على غرار المقدَّس. فالمقدس يمثل تلك الأشياء الملعونة والمباركة على نحو غامض المُعينة للموت، والتي إذ تقترن هكذا بالعلامات الخافتة على فنائها يمكنها أن تطلق قوة تحول شديدة. إن أتباع النظام الواقعي هؤلاء هم كلهم الكائنات البينية، تجسيدات محضة لدافع الموت، كائنات حية وغير حية معًا، رجال ونساء موتى لكنهم لن يَرقدوا. هي كائنات تتخلَّف في صالة مغادَرة الحياة، أفراد يتحرَّكون كما الأبطال التراجيديين دون رؤية بين مراتب الأموات الأحياء، والذين يمكن من خلال عذابهم الصامت الشعور بالموت ينتهك خلسة نطاق الأحياء. وبذلك فهم نماذج على حقيقة مفادها — بتعبير لاكان نفسه — أن «كل الكائنات تعيش في حالة من عدم الوجود» (٢٩٤). فالرغبة في النهاية هي رغبة للا شيء، فهي لا تعدو أن تكون الشيء الذي يربط الرجال والنساء مع انعدام وجودهم؛ «اللاوجود» الذي يُبقيهم في حركة مستمرة؛ فالتحليل النفسي هو البعث الجديد لحس الحياة التراجيدي لكن في صورة علمانية عِلمية. وقد صار في أيدي لاكان شكلًا إلحاديًّا من الدين، يتعلَّق — مثل مُشردي صامويل بيكيت — بخلاصٍ لن يأتي أبدًا؛ إذ يُوضع مرتكز الدين — الرب — تحت الرقابة، لكن البناء الكلي الظاهر يظلُّ سليمًا على نحو كبير، فما الرغبة في النظام الواقعي إلا ما عرفه أوجستين أو كيركجارد بالإيمان؟
إذًا ليس ثمة خير أسمى، كما يبدو، فيما وراء التمسك العسير بالتَّوْق إليه. ولاستنساخ بعضٍ مِن تَلاعُب لاكان المتكلَّف بالألفاظ، فإن أي نظرية أخلاق للنظام الواقعي يُمكِن تلخيصها في الأمر التالي: استمرَّ في نقصك! سأطرح بعض الشكوك حول هذا الأمر لاحقًا؛ لكن في الوقت الحالي من المهم أن نفهم أن تحقيق رغبة الفرد «في النهاية» لا يعني تحقيق هدفها؛ فهدفها في النهاية لا شيء سوى ذاتها. فالبطل الأخلاقي اللاكاني — شأنه شأن شخصية فاوست لجوته — «لن يصل لذلك الخير (الأسمى) هذا إلا إذا نقَّى أمنياته في كل لحظة، في نفس اللحظة من الخير الزائف، واستبعد الزيف ليس فقط من احتياجاته — بالنظر إلى أنها كلها ما هي إلا احتياجات ارتدادية — وإنما أيضًا من هباته أيضًا» (٣٠٠). وكما الحال مع قانون كانط الأخلاقي، فإن رغبة النظام الواقعي لا ناقة لها ولا جمل في عالم الاحتياجات والرغبات والاهتمامات، فهي زاهدة ومنكرة للذات كراهب كارتوزي. إن الأخلاق الكلاسيكية لا توجه نظرها لشيء أكثر غرابة من عالم المُمكن، أما أخلاق النظام الواقعي ففي المقابل لا تهتم ﺑ «شيء أقل من المستحيل الذي نعرف به خريطة رغبتنا» (٣١٥). وسنَستعرض المميزات والعيوب الخاصة بهذا النظام الأخلاقي الخاص بالفشل البطولي في الفصل الأخير من الكتاب.