خاتمة
ثمة وجه يكون فيه جميع الغرباء غرباء دم؛ إذ يتحدث القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس عن انهيار الحواجز بين إسرائيل والأغيار؛ الغرباء الذين وصفهم بقوله: «كنتم قبلًا بَعيدِين وصِرتُمُ الآن قريبِين بدم المسيح.» وبولس نفسه، كما يُشير، «بشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين». فقد أعاد المسيح تشكيل الفضاء الجغرافي، ماحيًا الاختلاف بين مَن هم خاضعون للقانون ومَن هم غير خاضعين له، ولم تَعُدِ الأمكنة المادية مهمَّة.
من الخطأ أن نَعتبر عواطفنا التلقائية مقتصرة على من نعرفهم، في حين يجب أن يُحال اهتمامنا بأولئك البعيدين عنا إلى الآلية العقيمة الخاصة بالعقل المجرد؛ فكثير من الناس يشعرون بعاطفة أكبر تجاه ظاهرة نائية عنهم من شعورهم تجاه جيرانهم، أو حتى من هم أقرب إليهم من ذلك؛ إذ يمكن أن تؤرقك مجاعة بعيدة، أو حتى هزيمة سياسية مر عليها قرون، أكثر مما يُؤرِّقُك إفلاس أخيك. ويخطئ أنصار مذهب الخير في تصور أن العواطف شأن محلي إلى حد كبير؛ فليس صحيحًا، كما يرى العديد من المحافظين، أن الشعور هو عدو الوحدة العالمية؛ فالمشاعر تنشأ في المنزل فقط بالمعنى الذي يقول إن هذا غالبًا هو المكان الذي نتعلمها فيه لأول مرة. غير أن أول ارتباطاتنا الحميمية قد تكون تجاهَ الزعيم أكثر من الأقارب. ويُمكن القول إن النزعة العاطفية هي إحدى أشكال العاطفة التي لم تتمكَّن قط من مغادرة المنزل. وفي رد فعل على هذا التقسيم المناطقي، يرى كانط أنه من الأجدر التعامل مع من نُحبهم تقريبًا بنفس الطريقة التي نتصرَّف بها مع الغرباء. وإذا كان كانط لا يعني بهذا أننا يجب أن نعامل شركاءنا أو أطفالنا بلامبالاة عاطفية، فإن هذا وأشياء أخرى ترجع إلى أننا لسنا دائمًا غير مبالين عاطفيًّا تجاه الغرباء. وحتى الإنجليز يمكن أن يتفقوا مع هذا.
إن العلاقات الرمزية هي علاقات يتوسطها القانون والسياسة واللغة؛ وهذه العلاقات — الآخر الكبير عند لاكان — دائمًا ما تُمثِّل وسائل للتقسيم بقدر ما هي وسائل للتوحيد. ويُمكن لهذه العلاقات أن تتحول بسهولة إلى مجرد منفعة أو علاقة تعاقدية. إلا أن النظام الرمزي، في إعطائه الأولوية لعلاقاتنا مع الغرباء، يذكرنا أيضًا بأنها، وليس علاقتنا بالجيران بالمعنى الحرفي، هي أساس السلوك الأخلاقي، والذي يتضمن سلوكنا تجاه الجيران بالمعنى الحرفي. ليس الأمر أن الغرباء هم ببساطة أصدقاء؛ لم نكوِّن بعدُ صداقة معهم، بل إن الأصدقاء هم غرباء تصادف أننا عرفناهم؛ فالفعل المميز للحب ليس التقاء الأرواح، بل الحلول محل الغريب في قائمة الانتظار لغرف الغاز؛ إذ يمكن للمرء أن يموت من أجل صديق، تمامًا مثلما يمكن للمرء أن يحب غريبًا؛ لكن الموت من أجل شخص غريب هو «الحدث» الأخلاقي الأسمى. إن اعتبار المسيحيين أن هذا الموت أمر من الرب هو أحد الأسباب في أنه ليس محبًّا ورهيبًا بالتناوب، بل في أن حبه إرهاب مقدس.
يُمثِّل النظام الواقعي إذن شرخ النظام الرمزي الداخلي؛ أي التناقضات التي تهدد بانهياره، والصدمة التي تشوه حقيقته، والسلبية التي يجب أن يستبعدها من أجل أن يزدهر، والمواجهة المميتة مع حدوده الخاصة التي قد تُتيح له إعادة تشكيل نفسه. إن الجسد قد يكون أساس النظام الخيالي، في مقابل الدوال اللامتجسدة فيما يتعلق بالنظام الرمزي؛ لكنه أيضًا علامة على النظام الواقعي؛ على الإنسانية الضعيفة التي يطاردها الموت والتي يشترك فيها الجنس البشري كله. إن أساس الحميمية هو إذًا أساس العمومية؛ فلقاء بعضنا بعضًا باعتبارنا أجسادًا يمكن أن تترافق لقاءٌ ملموس بقدر ما هو مجرد. ولأن اللحم والدم هما ما يكوِّننا، فتتجلى عمومية النوع في كل نفس وإشارة من جانبنا. إن هذا هو ما ينكره على نحو عنيف تيار ما بعد الحداثة؛ وهو تيار فكري استبدل بالأشكال الأكثر كلاسيكية من الرؤية التأسيسية أساسًا مُطلَقًا جديدًا يُعرف بالثقافة.
إن الجسد هو الصورة الممثلة للإنسانية؛ فهو وحشي في مجهوليته وهو أيضًا الوسيلة التي يتم بها أهم اتصال بالنسبة لنا. ولأن الجسد الفاني الواهن هو أساس الحضارة كلها، فليس هناك تعارض إطلاقًا بين الخاص والعمومي؛ فالجسد عند يهود ما يسمى بالعهد القديم، كما رأينا، ليس بالأساس منضبطًا أو مثيرًا، مزينًا أو مُجمَّلًا، بل هو الأساس الذي يُوحِّدنا مع أجساد بني جنسنا. إن من بشريتنا، كما يرى أنصار مذهب الخير، أن ننظر نظرة خاصة إلى ما يُمكن أن نشعر به وندركه على نحو مباشر. لكن من طبيعتنا الحيوانية كذلك، كما لا يُسلِّم أنصار هذا المذهب، أن نتعاطف مع الآخرين لمجرد أن لديهم أجسادًا مثلنا، وإن اختلفت هذه الأجساد ماديًّا أو ثقافيًّا؛ فالاختلاف في حد ذاته ليس ببساطة أساسًا سليمًا بالقدر الكافي لنبني عليه الأخلاق أو السياسة. وهو لا يبدو كذلك إلا عندما تخفق الأشكال المحددة من العمومية التي نراها أمامنا لسبب ما.
لقد رأينا أن القريب والبعيد مُتفقان بهذا المعنى على الأقل لدرجة أن الجار هو ببساطة كل غريب يتصادَف دخولُه إلى نطاق رفقتنا. وتصير هذه التبادلية المجرَّدة للأفراد ممكنة بفضل النظام الرمزي؛ لكنها موجودة، أخلاقيًّا، ليَجري تجاوزها. فاللامبالاة التي يتسم بها عمل الخير تخدم الآخرين، وهي ليست وسيلة لطمس اختلافهم. ولأن النظام الرمزي يجردنا من الخصوصية، فهو يمكن أن يجردنا من أجلها كذلك. فيمكن الآن الاعتزاز بأي شخص بوصفه فريدًا، وهو ما لا يَنطبق بالنسبة للنظام الخيالي؛ فالتنوير، كالعادة، يتقدم بفضل جانبه السيئ.
إنَّ هذه الحقيقة الرمزية بالنسبة للعقيدة المسيحية غير متعارضة مع النظام الواقعي؛ وهو ما يعني، في هذا السياق، وجود فائض أو لا تناهٍ هدام أو تسامٍ على المتناهي يمكن أن يكون قوة دافعة ومؤذية معًا. والنسخة المسيحية من اللاتناهي هذا هو عدم وجود نهاية لعمل الخير، وهو شكل من تقاسم المُتعة في الحياة الأبدية؛ بحيث بينما يوجد تماثل أو تكافؤ رمزي بين الكيانات المفترضة المُتلقية لهذا الخير، فإن الحب المكرَّس لأي منها يتجاوز بتهوُّر هذا المقياس المتساوي على طريقة النظام الواقعي؛ فاستعداد المرء لتقديم حياته فداءً لآخر — أي آخر — يدفع بهذا التهور إلى درجة اللامعقولية السامية؛ وبذلك يجسد شيئًا من جوانب الخزي والجنون في المسيحية. إلا أن هذا النظام الواقعي غير المُتصوَّر ليس أكثر من تبادلية النظام الرمزي في صورتها المبالغة.
وليست المسألة، كما قد يصرُّ أتباع ليفيناس، أن علاقة الحب أو المسئولية الشخصية غير متماثلة من جميع الجوانب، في مقابل المساواة الصارمة للنظام الرمزي. ويصح هذا، بالتأكيد، بالمعنى الذي بيَّنَّاه للتو: أن عمل الخير لا حد له من حيث المبدأ. كما ينطبق هذا على تعامل المرء مع أعدائه. وعدم التماثل هنا كلمة مهذبة لتقبل السِّباب الفاحش في مقابل الأفعال السخية. ولكن لا يصح هذا بمعنى أن الحب بأتم معانيه، كما سبقت الإشارة إليه، يجب أن يُبنى على المساواة والمعاملة بالمثل. لذلك، ما من فرق قاطع هنا بين الأخلاقي الواقعي والسياسي الرمزي. وهذا من بين الأسباب التي قد تجعل الحب الشخصي يحدث بسهولة أكبر في نظام اجتماعي يتبنى فضائل التبادلية والمساواة. وهناك بالطبع صور سلبية من عدم التماثل — كظُلم لطبقة أو جنس، وهو ما يغض ليفيناس الطرْف عنه بصورة متوقعة — بجانب الصور الإيجابية.
علينا أن ننتبه، من الناحية الأخلاقية، إلى أوجه قوة وضعف كلٍّ مِن النُّظُم اللاكانية التي تناولناها؛ إذ يتَّسم التعاطف بالسرعة في النظام الخيالي وهو أمر لا يُمكن لأي نظرية أخلاقية أصيلة أن تستغني عنه بسهولة. وهذا يُمثِّل أحد الجوانب التي تفتقدها الأخلاق القائمة بالكامل على القانون. وفي النهاية، القانون ليس بوسيلة قوية بما فيه الكفاية للتواصُل الإنساني. لكننا إن حُرمنا من هذا البعد الرمزي، فيبدو أننا سنكون في خطر الانتكاس إلى الأنانية المُمتدة للجماعة الخاصة، يُرهقنا وجود الغرباء ويقلقنا الاختلاف. كما تكشف الأخلاق الخيالية عن نفور من النظام الواقعي، بتشكُّكها المتحفظ، على سبيل المثال، في حقيقة الشر الخالص. فإن كانت أخلاق النظام الواقعي مُفرطة في انطوائها على نفسها، فإن أخلاق النظام الخيالي مُفرطة في انفتاحها الاجتماعي بعض الشيء.
يفتح النظام الرمزي، من جانبه، لنا الباب إلى السياسة، لكنه يَنتزع ضريبة من لحم ودم أعضائه باعتبارها تذكرة دخولهم لعموميته الثمينة. ويجب علينا، كما يبدو، أن نُضحِّي بما لدينا من خصوصية شخصية في سبيل غايات العدل والحرية والمساواة والعمومية. وإن كان النظام الخيالي مفرطًا في شغفه، فإن النظام الرمزي مفرط في بروده؛ إذ تتراجع دوافع القلب مُفسحة المجال للحسابات العقلانية، حيث يتراجع التفاعل الخيالي بين النفوس المنعكسة أمام جدلية الاختلاف والتماثُل. وقد أشرنا بالفعل عدة مرات إلى أن من بين وسائل التوفيق بين الفريد والعمومي في هذا الصدد هي الاهتمام بالاحتياجات الخاصة لأي شخص، أيًّا كان. إن هذا هو ما يتجاهله بشدة أمثال أنجيلو — أشد مبشِّري النظام الرمزي صرامة — في هذا العالم.
ثمة تفاعل مشابه بين المجرد والملموس فيما يتعلَّق بالنظام الواقعي؛ فمن ناحية، كما رأينا، يعد الجسد أبرز الأشياء الملموسة فينا، لكنه يعد الشيء الأكثر عمومية كذلك. ومن ناحية أخرى، فإن معرفة الآخرين معرفة قوية تعني من ناحية التعامل معهم بوصفهم غرباء، وهي الحقيقة التي يعيها تمامًا دي إتش لورانس في أقل حالاته تنفيرًا. ولعل هذا هو ما يجعل إيمرسون يتحدث عن الصديق بوصفه نوعًا من «العدو الجميل». علاوة على ذلك، يرى لاكان، إن أردنا أن ننسب الفضل في ذلك له، أننا لا نسلك سبيلًا عبر النظام الرمزي المجرد إلا لنكتشف عند نهايته الرغبة الخاصة غير القابلة للاختزال التي تشكل ذاتيتنا. لكن هذه الرغبة لا تزال غريبة عنا كما القانون اللاإنساني للنظام الرمزي نفسه. ومن هذه النقطة الكاشفة، كما يشير لاكان في غموض، نَصيرُ قادرينَ على الحب بلا حدود؛ إذ نعود إلى الحضور المباشر للآخرين، وإن لم يكن إلى النظام الخيالي بالتحديد؛ إلا أننا نستطيع الآن أن نُحبَّهم بكل القوة الغامرة لقانون رمزي مجهول؛ قانون تحول جذريًّا إلى الرغبة في إطار النظام الواقعي. مع ذلك وكما رأينا بالفعل، فإن جزءًا من الثمن الذي ندفعه للدخول إلى هذه المنطقة هو نوع من النُّخبوية الروحية والتطرف المأساوي.
ربما تكون بالطبع المسيحية باطلة. لا شيء بالتأكيد في هذه الدراسة يعتبر صحتها أمرًا مسلَّمًا به. وكذلك ربما ينطبق نفس الوضع على التحليل النفسي. ربما من بين أسباب بطلانهما هو أن كليهما يفترضان حالة وهمية اسمها الحالة الإنسانية. وإن كان هذا هو الحال، فأحد أسباب التي تجعل كلًّا منهما باطلًا قد يكون أحد أسباب صحة التيار ما بعد الحداثي. وتنشأ المشكلة إن كان التحليل النفسي صحيحًا، لكن المسيحية باطلة. وإذا كان هذا هو الحال، فقد يكون من المنطقي أن يُقال إن البُعد التراجيدي للحالة الإنسانية يتعذَّر في النهاية تغييره؛ إذ إنَّ الكتاب المقدس يقدم حلًّا جذريًّا لأهوال النظام الواقعي وويلات دافع الموت؛ حلًّا — بدلًا من أن يتبرَّأ من هذه الأشياء كما يفعل الإنسانوي الليبرالي أو الاشتراكي — يجد الحقيقة المُخَلِّصة تحديدًا في تلك المواضع الأكثر بغضًا. فمن خلال الثورة الروحية المعروفة باسم الإيمان، تتحول المتعة الفاحشة لدافع الموت — التي «لا جدوى منها» — إلى تهور الحياة الجيدة الذي «ليس لديه ما يخسره».
إن لم يكن أي من المسيحية أو التحليل النفسي صحيحًا، فيمكننا أن نطمئن قليلًا؛ إذ لا خلاص، لكن لا حاجة له أيضًا. فما من حاجة للحل لأنه ما من مشكلة. أو على الأقل، لا مشكلة من النوع الذي يَفترضه التحليل النفسي. وإن كانت المسيحية حق لكن التحليل النفسي باطل؛ فنحن نستخدم الأخير لنخطئ في تعريف الحالة التي وعدت الأولى بتحقيقها. لكن ماذا لو كانت المسيحية (لنعرض تساؤلنا الأول مرة أخرى) باطلة والتحليل النفسي صحيحًا؟ يمكننا أن نقول في هذه الحالة إنَّنا نعود إلى إمكانياتنا السياسية لعلاج المصاعب التي يُشخِّصها الأخير. صحيح أن السياسة يُمكنها أن تُخفِّف من وضعنا أكثر بكثير مما قد يقرُّ به المتشككان السياسيان فرويد ولاكان، لكن من غير المؤكد أن يكون التغيير السياسي في حد ذاته قادرًا تمامًا على إنهاء الحالة المأساوية التي يَعرضاها. لذلك، فإن الإنسان — كما ترى المسيحية — بحاجة إلى تحول يصل إلى مكونات الجسد نفسه. وإن كان تلك خرافة، فالسؤال هو: كيف يمكن جعل وضعنا أكثر احتمالًا دون وجود هذه التدخُّلات الإعجازية؟
•••
لا تستتبع العلاقة بين الأخلاق والسياسة تعارضًا بين الحب والإدارة، أو بين اللامتناهي والمتناهي، أو بين القريب والبعيد، أو بين المقرَّبين والغرباء، أو بين غير المُتماثِل والمتماثل. فالاثنان غير مرتبطين، كما لا يرتبط الروحي بالمادي، والداخلي بالخارجي، والفردي بالمجتمعي، والفردي بالعمومي. فالمسئولية تجاه الآخرين، كما يرى ليفيناس ودريدا، ليست مُطلَقة وبلا حدود، بل يجب أن تضبطها العدالة والتعقل والواقعية. فالمسألة ليست أن الأخلاق تختص بالجيران في حين تختص السياسة بالغرباء؛ فالأخلاق ليست ببساطة هي الانفتاح المبجَّل على الآخر الكبير، بل مسألة تتعلق، لنقل، بصياغة السياسات الخاصة بالإعلانات أو بمواجهة عمليات قتل الأطفال التي تؤثر فيمن لا نعرفهم؛ فالتركيز على أمور محددة لا يقلل أبدًا من قيمتها، كما يتخيل الواقعيون بإصرار.
تتضمَّن الأخلاق أوامر غير شخصية مثلها مثل السياسة، بل إن القضايا السياسية كالعدالة والمساواة تنطبق على العلاقات بين الذات والآخر الكبير بقدر ما تنطبق على العلاقات بين الغرباء. إذن، فالأخلاق والسياسة ليستا عالمين غير متناسبَين لا يربطهما إلا مناورة التفكيك الماهرة، بل هما منظوران مختلفان لنفس الواقع. فليس ثمة ما يسمى بالاشتراكية «الأخلاقية» مثلًا في مقابل التيارات «غير الأخلاقية» من هذا الفكر. فالأخلاق تتعلق بطريقة العيش معًا بما يحقق أقصى نفع، بينما السياسة تتعلق بتحديد المؤسسات المثلى لتحقيق هذه الغاية. إن غاية الاجتماع السياسي، كما يقول أرسطو في كتابه «السياسة»، هي «الحياة والحياة الجيدة». وإن كنت ترى الأخلاق والسياسة دائرتين منفصلتَين، أو تشعر بالحاجة إلى تحرير الأولى من البراثن الوضيعة للأخيرة، فسينتهي بك الحال على الأرجح باعتبار السياسة حقيرة والأخلاق مثالية. وفي عصر ينكشف فيه وهم السياسة، يُفرَض على الأخلاق أن تترك المجال المجتمعي وأن تستوطن مجالًا آخر: في الفن أو الإيمان أو التسامي أو الآخر الكبير أو الحدث أو اللامتناهي أو القرار أو النظام الواقعي.
يُمكِن لوجهة نظر معيَّنة تجاه محرقة اليهود أن تُعزز هذا الفصل بين الأخلاق والسياسة. ولأن المحرقة يبدو أنها تتطلَّب إصدار أحكام أخلاقية مُطلَقة، وكذلك الإشارة عند بعض المعلقين إلى سمو الشر، تظل قضية الأخلاق أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. ولكن نظرًا إلى أن السرديات السياسية أو التاريخية الكبرى التي من المفترض أن تكون قد أنتجت مثل هذه الكارثة يجب التخلي عنها لهذا السبب بعينه، أو لأنه لا يوجد أي منهج تاريخي خالص يُمكنه تفسير مثل هذا الشر، فإن هذه الأحكام المطلقة صارت بلا أساس؛ فهي راسخة بقدر ما هي بلا أساس؛ فالأحكام الأخلاقية تُطلَب وتُعطل معًا، ولا يبقى أمامنا سوى أخلاق قائمة على السمو الفارغ.
قد يكون النظام الرمزي في الواقع بيئة أكثر هشاشة بحيث لا يمكن أن تترعرع فيها الأخلاق. لكن هذا لا يعني أن القانون والسياسة والحقوق والدولة ورفاهية الإنسان ينبغي الترفع عنها باعتبارها أمورًا لا مفر منها لكنها قاتلة للرُّوح. ففقط أولئك الذين يتمتعون بامتيازات كافية بحيث لا يحتاجون لحماية القانون والسلطة هم من يُمكِنُهم اعتبارهما خبيثين بطبيعتهم؛ فالنظام الرمزي يكون أكثر فاعلية عندما تكون جذوره في الجسم؛ أي في احتياجات الإنسان ورغباته، وليس في المجردات الأخلاقية. لقد أثنى ماركس ثناءً بالغًا على الديمقراطية البرجوازية، لكنه رأى أنها لم تبلغ درجة كافية في هذا الجانب؛ إذ لم تَشمل الرجال والنساء إلا باعتبارهم مواطنين أحرارًا متساوين، ولم تضع في الاعتبار خصوصيتهم المتفرِّدة. إن الديمقراطية الاشتراكية وحدها — التي قلصت الفجوة بين الدولة السياسية والحياة اليومية والعمل — هي ما يُمكنها فعل ذلك.
أما فيما يتعلق بالنظام الواقعي، فيمكننا القول إن شعار «تمسك برغبتك!»، رغم كل عيوبه الواضحة، يمثل وصية سياسية ممتازة في الوقت الحاضر؛ إذ لا جدوى من يسار سياسي يَقبل بأنصاف غاياته. إن ما زاد صعوبة تحدي الرأسمالية العالمية في عصرنا هذا هو أنها ازدادت افتراسًا، وليس العكس. وهذا يعني أن عين التغييرات في النظام التي ساعدت على إضعاف اليسار واستنزافه هي كذلك السبب الذي يجعل مكافحة هذا النظام تظل ضرورة أكثر إلحاحًا من أي وقتٍ مضى. ينبغي إذن على اليسار الحفاظ على إيمانه، بدلًا من الانصياع لمُغريات الاتجاه الإصلاحي أو الانهزامي. ويجب أن يواجه نظامًا سياسيًّا غير قادر على إطعام الناس أو منحهم العدالة الكافية بشيء من الرفض المعاند المميز لأنتيجون؛ وهو رفض يعد حماقة عند المحافظين وحجر عثرة عند الليبراليين. وحتى إن فشل في هذا المشروع، فيمكنه على الأقل أن يشعر بالرضا الحلو المرير عن أنه كان على حق طوال الوقت.