الفصل العاشر

ابتذال الخير

بدءًا من روبسبيير إلى رامبو، ومن برتون إلى ليوتار، تعدُّ فرنسا واحدة من أعظم مراكز الطليعة. ومُصطلح الطليعة نفسه يُقال إنه من ابتكار كلود سان سيمون. غير أن الطليعية هي التي كثيرًا ما تُظهر ازدراءها للحياة العادية، ومثل هذا الازدراء، المناقض للاعتقاد العام، ليس متضمنًا في فكرة الطليعة؛ فمن بعض الجوانب، العكس هو الصحيح؛ إذ لا توجد مقدمة جيش من دون جيش تكون في خدمته وتَستكشِف نيابةً عنه المنطقة التي تتقدمه. إن المصطلح نفسه يشير ضمنًا إلى علاقة بكيان أقل عظمة من جنود المشاة، وذلك بخلاف كلمات مثل «نخبة» أو «صفوة». إن الطليعة هم أول من يشعرون بالأمور غير الواضحة التي ستحدث في النهاية في المستقبل، لكن بقيامهم بهذا، يأملون في نقل تلك التحركات لمن يسيرون في الخلف والذين لم يتوافَقُوا معهم بعد. وإذا كانت الطلائع تتضمن تسلسلات هرمية، فإنها مؤقتة وليست دائمة. وكما هو الحال مع الحركات الراديكالية بوجه عام، فإنهم يَنجحون فقط لأنهم يفصلون أنفسهم عن الحاضر. ويومًا ما، إذا سار كل شيء على ما يرام، فإن الأغلبية سوف تَرتفِع فوق الأفق وتلحق بهم.

لكن في الواقع، الخط الفاصل بين الطليعيِّين والنخبويين غير واضح بعض الشيء. ففي العصر الحديث، هناك العديد من الحالات التي لا تستطيع فيها التفرقة بينهما؛ فأنجح النخب، على سبيل المثال، هم من لديهم جذور شعبية، ويربطون أقلية ما بالناس العاديين في معاداة مشتركة للجموع التقليديين المتزمِّتين. فالفاشية تمجد الشعب أو الناس العاديين، تمامًا كما تُمجِّدهم الحركة اليسارية الرومانسية. وقد كان تي إس إليوت يستمتع بموسيقى الجاز وصالات الموسيقى، ويحلم بأن يقرأ له قراء شبه أميِّين. وسعى دبليو بي ييتس إلى تكوين تحالف بين ملاك الأراضي الأنجلو أيرلنديين المتكبرين والفلاحين المتحدِّثين بالأيرلندية، الذين يُعدُّون جميعًا ينابيع للحكمة الخالدة في حين أن لدى عددٍ قليل منهم جنونًا نابضًا بالحياة. بالنسبة للبلاشفة، كان الحزب رسميًّا في خدمة العمال السوفييت، رغم عدم تحقق هذا الرؤية فعليًّا على نحو كبير. تختلف النخب بهذه الطريقة عن الجماعات والأندية والجمعيات السرِّية وما شابه، والتي جميعها في واقع الأمر خاصة وغير شعبوية.1

وبدءًا من مالارميه وسوريل إلى سارتر وباديو، حَلُم مجموعة من المفكرين الفرنسيين بلحظة الأزمة التي ستكشف زيف الحياة اليومية. أو تخيَّلت وجودًا يسمو بالكامل فوق عقم هذا الوجود. والناتج كان سلسلة من التقابلات الواضحة: «الشعر الخالص» في مقابل الكلام العادي، الخرافة في مقابل الوهم الاجتماعي، الهِبة في مقابل التبادُل المتكافئ، النظام الواقعي في مقابل النظام الرمزي، النظام السيميائي في مقابل النظام الرمزي، الحرية في مقابل سوء النية، النظرية في مقابل الأيديولوجيا، الاختلاف في مقابل الحتمية، الإصابة بالفصام في مقابل الإصابة بجنون الارتياب، الحدث في مقابل الأنطولوجيا. ورغم اختلاف تلك المتناقضات، يبقى الشيء الذي تقوم عليه جميعًا متسقًا على نحوٍ ملحوظ. وهذا الشيء هو إنقاذ القيمة الحقيقية من براثن الحياة اليومية؛ من الامتثالية المجهولة التي يُطلق عليها هايدجر على نحو مزدرٍ «المرء». ووراء تلك المتناقضات، يوجد تقليد قوي من الفكر التحرُّري؛ فالتمرُّد أمر فرنسي الطابع مثل الشهوانية. فهو أيضًا مثل الجنس ممتع في حد ذاته.

بالنسبة لسارتر في بداية مسيرته، فإن التناقض يَكمن بين حرية «الوجود لذاته» والجمود الذي لا رُوح فيه ﻟ «الوجود في ذاته». لاحقًا، سيُصبح هذا التناقض الأنطولوجي سياسيًّا؛ بين المُمارسة والممارسة الجامدة. بالنسبة لجاك دريدا، فإن لعبة الاختلاف الخالص مقيَّدة بحدود الميتافيزيقا، لا تنفكُّ منها إلا بين الحين والآخر مثل رجل مجنون يتملص فرحًا من القائمين على رعايته. بالنسبة لمُفكِّري ما بعد نيتشه، بدءًا من باطاي إلى دولوز، فإن الجنون والتجاوُز يُحاصِران النوازع الأبولونية الغامضة للحيِّز المدني. هناك أحيان يعامل فيها ميشيل فوكو ما يُسمَّى بالعلوم الحياتية أو خطابات الحياة اليومية (البيولوجيا والطب وعلم النفس والاقتصاد والديموغرافيا وهكذا) وكأنها إلى حدٍّ كبير أمور تابعة مشئومة للمراقبة الاجتماعية. هناك أحلام ﺑ «فعل مجاني»؛ لحظة تحول أو التزام وجودي تَنقُلك بقوة من مملكة الضرورة إلى نطاق الحرية، تاركًا وراءك الأمور المملة على نحو مخيف للتقليد والبيولوجيا والخطاب الأخلاقي والتشدد السياسي من أجل العالم المثير للحرية والرغبة و«الانخراط» والذاتية الحقة. يُمكننا إعطاء لمحة تفكيكية لهذا السرد المتجدِّد بالإشارة إلى أنه لا شيء سيُهجَر «ببساطة»؛ فكل طرف من طرفَي التناقضات السابقة يتضمَّن في داخله الطرف الآخر؛ ولن يَجري التخلُّص من كل ما هو ميتافيزيقي بهذه السهولة؛ ولا فكاك من السلطة والقانون والافتقار والأنا وسوء النية والانغلاق والعُرف في نهاية الأمر. وحتى في ظل هذا، من الواضح بما يَكفي أي خيار من الخيارات المتاحة يمكن الحكم عليه بأنه الأهم.

إن هذه القطبية لدى بعض المُفكِّرين الفرنسيين المُحدثين تتضمَّن نوعًا من الإدراك المُنقسم. فمن جانب، هناك الوجه الحَذر لجاك دريدا بقراءاته الدقيقة على نحو نموذجي واحترامه لحركة التنوير والبحث العقلاني وإصراره الواعي على أنه ليس «ضد» النظام والحقيقة والذات والجدل والاستقرار والعمومية وما شابه. وعلى الجانب الآخر، يجري تحت هذا الحذر مثل تيار تحتي عاصف نصٌّ أكثر جنونًا وفوضوية، مكتوب تارة بدفقات شعرية وتارة أخرى بومضات من التأمُّل اليوتوبي. يُمكن قول نفس الشيء تقريبًا عن ميشيل فوكو الذي تتناقض استقصاءاته الأرشيفية الكئيبة التي تُهاجم كل ما قيل عن النفي أو التسامي أو الكبت مع شخصيته الأكثر جنوحًا وديونيسيوسية والتي يُمكن أن تحسَّ بها وهي تطوف بأطراف تلك الاستقصاءات التحليلية المحضة. إن تلك الشخصية المُتمرِّدة ستظهر على نحو مفاجئ في مدح مبالغ فيه لباطاي أو دولوز، وقد أطلقَتِ العنان لنزعة داخلية ترفض كل النُّظم وتقاوم كل القوانين وترقص على حافة الإعلان عنها دون أن تفعل ذلك أبدًا. يوجد استثناء لهذا العُرف الما بعد البنيوي والذي يتمثَّل في جيل دولوز الذي يرى بطريقة سبينوزية أن هناك نوعًا وشيك الحدوث في الواقع المادي نفسه من الإفراط «المتسامي» أو اللاتناهي. فدولوز، الذي بالنسبة له كل شيء عادي وإعجازي في الوقت ذاته، لديه رؤية لشِعر الحياة اليومية أقرب للسريالية منها إلى لاكان أو باديو.

يُمكن أن نرى أن هذا الإدراك المنقسم باعتباره شكلًا من أشكال التشاؤم التحرُّري الذي لم تنطفئ فيه إطلاقًا شعلة النزعة التحرُّرية، والذي لا يزال بالإمكان الإحساس فيه بنبض وحياة الرؤية الخاصة بعام ١٩٦٨، لكن الذي يجب أن يعترف الآن — في أعقاب الأحداث المحبطة لتلك الحقبة — بسذاجة الحلم بإمكانية تحرُّر الرغبة من القانون أو الذات من السلطة. في المجمل، يفضل الفرنسيون أن يراهم الناس أشرارًا عن أن يرَوْهم قليلي الخبرة؛ لذا يجب في نفس الوقت التأكيد على وجود الرغبة واستحالتها، وكذلك الحال بالنسبة للتحرُّر والشك في ذلك. يمكن القول إن هناك قدرًا كبيرًا من هذا الإدراك المنقسم، المتمرد والخاضع في نفس الوقت، في الفكر الأخلاقي اللاكاني. فيجب ألا تتخلى عن أحلامك الجامحة بالاختلاف الخالص أو التدفُّقات الشهوانية الحرة أو مملكة العدل أو عالم الحب المتحرِّر من القانون، لكن يجب ألا تحاول في نفس الوقت تحقيقها؛ إذ إن هذا السبيل سيجعلك عرضة للإصابة بالذهان أو الخضوع لنظام شمولي أو التعرُّض لأي وسيلة أخرى مريعة لموت الروح.

إن للطموح الطليعي لوقف الاهتمام بالتاريخ تاريخًا طويلًا على نحو بارز؛ فكلمة Modern (حديث) أصلها الكلمة اللاتينية Modernus وهي كلمة — وفقًا ليورجن هابرماس — استُخدمت من قبل مسيحيي القرن الخامس لتمييز أنفسهم عن الوثنيين الأكبر سنًّا.2 إن المسيحية وفق هذه الرؤية كانت أقدم أشكال الحداثة؛ إذ إنها خرجت على النظام الديني القديم بجِدتها الواعية بذاتها، غير أن محاولات التجديد المطلق ببساطة أضافت مزيدًا من التاريخ على ما كان لدينا بالفعل. وإعلان موت التاريخ في حد ذاته فعل تاريخي ذو عواقب مادية، وهو بذلك أمر ذاتي الدحض تمامًا كإعلان الشخص لوفاته. إن الطليعة مخطئون في اعتقادهم أن الماضي دائمًا ما يكون بمنزلة كابوسٍ بالنسبة لعقول الأحياء. ولأن الماضي هو ما نحن مصنوعون منه، فيمكننا صنع المستقبل فقط من خلال الموارد الغامضة التي يتيحها لنا الماضي؛ فالتاريخ تحرُّر كما أنه استعباد، والطليعة أداة رأسمالية جديدة تمامًا مثل التمرد السياسي. ويعد الانفصال عن الماضي ضمن أشياء أخرى للابتعاد عن إمكانية تجاوزه. هناك طليعيون ألمان إلى جانب الطليعيِّين الفرنسيين؛ لكن نظرًا لطابع الفكر الألماني المائل أكثر للجدل، فهناك أيضًا رؤية لما يمكن أن نطلق عليها الاستمرارية الثورية؛ حيث يمكننا بالنظر إلى الماضي من منظور الحاضر المتغير إدراك أن الحاضر منسجم معه ورافض له في نفس الوقت.
ربما يُزعَم أنه إذا كانت فرنسا أحد أعظم مراكز الطليعية، فإنها أيضًا البيئة الثقافية التي ندين لها بمفهوم الحياة اليومية.3 يَبرُز هنا قبل أي شيء ما أطلق عليه لوي أراجون «الإحساس بالأشياء المُدهشة في الحياة اليومية». وماذا عن شارل بودلير، الذي يُعدُّ أكبر شعراء الوجود المدني المنحط، أو الأشياء العادية الشاردة لمالارميه وأبولينير؟ مِن غير هنري لوفيفر، في عمله الرائع المكوَّن من ثلاثة أجزاء «نقد الحياة اليومية» الذي وضع فكرة الحياة اليومية على الخريطة الفكرية، وتبعه في ذلك مشاهير لاحقون تناولوا الحياة اليومية مثل ميشال دي سيرتو وجورج بيريك؟ كتب لوفيفر في الجزء الأول من عمله المميز السابق الإشارة إليه يقول: «بالقدر الذي يوجد به العلم الإنساني، فإنه يجد مادته فيما هو «تافه»، الحياة اليومية.»4
إن هذا زعم أكده الإرث الضخم للواقعية الأدبية، بدءًا من ستندال إلى مالرو؛ فلقد وصف فرانكو موريتي الرواية الواقعية بأنها تُمثِّل «ثقافة الحياة اليومية» وليس نقدًا لها.5 والصور الشديدة التفاصيل من الحياة التاريخية التي قدَّمتها مدرسة الحوليات، إلى جانب استقصاءات بيير بورديو الاجتماعية، من الأمثلة البارزة الأخرى على ذلك. وحتى البنيوية لها جانب عام؛ إذ إن الشفرات الخفية التي تكشف النقاب عنها تعد أساسًا لمناحٍ مثل المصارعة والموضة تمامًا مثلما تعدُّ أساسًا لفكر شخصيات مثل رامبو وفورييه. وعلى هذا النحو، يعد رولان بارت في بداياته وريث خبراء تَشخيص الحياة اليومية الأوائل من أمثال ميشال ليريس وريمون كنو. كما أن أعظم أعمال القرن العشرين المُعبِّرة عن الحياة اليومية، «مشروع الممرات المقنطرة» لفالتر بنجامين، عمل كتَبَه مُفكِّر ألماني، غير أنه كان يتحدَّث عن باريس. وكتابات موريس ميرلو-بونتي هجرت الذروات الأفلاطونية للفينومينولوجيا المتعالية من أجل تأويل الحياة اليومية. ربما تتَّهم الوجودية الحياة اليومية بالزيف؛ لكنها أيضًا تُفكِّر في إطارها، وهذا ما يُتيح إمكانية وجود رواية وجودية في مقابل — لنقل — رواية وضعية منطقية. لقد كان ميرلو-بونتي هو مَن ألمَحَ ﻟ «جان بول سارتر» وهو في بداية مسيرته بأن الفلسفة يُمكن أن تخلُد إذا خرجت من رحم ما هو اعتيادي، أوليست السريالية والموقفية شعر ما هو تافه ومعتاد؟
إنَّ الثراء الكبير لهذا الجهد ليس محلَّ نقاش، غير أننا يجب أن نتذكَّر أن العديد من تلك المُحاولات للانخراط فيما هو يومي تمَّت من منطلق سعي للهجوم بشدة عليه، أو لعلاجه من بؤسه الأخلاقي. وإذا كان بودلير قد وجه انتباهه للعاهرات والمُتشرِّدين، فقد كان هدفه أن يعطيَهم هالة من الخلود. ويرى لوفيفر وأتباع الموقفية أن التجربة اليومية غامضة على نحو لا يُصدق، وتافِهة بقدر ما هي مهمة. كما أن رؤية جي ديبور للمستهلكين المغيبين الذين يعيشون في رخاء موجه تكاد تكون مدحًا للطاقات الإبداعية للحياة اليومية.6 إنَّ لوفيفر وأتباع الموقفية طليعيون حتى النخاع؛ إذ أخذوا يبحثون بحماس في كلمات لوفيفر عن ميلاد «الإنسان الجديد». وصحيح أن السرياليين يسعَوْن لاستخلاص سحر الحياة اليومية، ناسجين أشكالًا جديدة من الأساطير الحضرية، غير أنهم في نظر لوفيفر مُتَّهمون باتباع توجه يقوم على اللحظة الخاصة والذي يدين كل ما هو عادي. إنه كان يرى أن نفس الشيء ينطبق تقريبًا على الوجودية والتي هاجمها لأنها «اقتربت أكثر من الحياة … فقط لتنال منها»؛ مما قلَّل من قيمتها لصالح «اللحظات الخالصة أو التراجيدية — نقد الحياة من خلال الألم أو الموت — والمعايير المصطنعة للعيش بأصالة … إلخ.»7 بالنسبة لأندريه برتون وأتباعه، فالأخلاق العامة يجب إنكارها باعتبارها شيئًا لا أساس له يَنتمي للبرجوازية الصغيرة، على عكس الجوانب البطولية التي يرَوْنها في التجاوز. وهذا الاعتقاد سيجد طريقه لاحقًا إلى أخلاق النظام الواقعي. وفي أثناء التحول من الواقعية إلى الحداثة، تحول الافتتان بنسيج الحياة اليومية إلى تشكُّك شديد بشأنه؛ فالتجربة العامة أصبحت الآن موطن الوهم وليس موضع الحقيقة. وإذا كان الفكر الأخلاقي لهيوم أو هتشسون متَّسقًا مع عالم سموليت وريتشاردسون، فإن الفكر الأخلاقي لدريدا وباديو ينتمي إلى حقبة الرمزية والشكلية والتجريد.
يمكننا مقارنة هذا التقليد من الثقافة الفرنسية مع تقليد إنجليزي معيَّن مُهتم بالحياة العادية، بدايةً من ويليام كوبيت وجورج إليوت وجون راسكين حتى ويليام موريس وتوماس هاردي وإف آر ليفيس وجورج أورويل وريتشارد هوجرت ورايموند ويليامز وإي بي تومبسون. هناك بالتأكيد أوجه نقص كثيرة في هذا التقليد أيضًا؛ فالرؤية الشديدة الانخراط في الحياة اليومية تعدُّ نقيصة في التقليد الإنجليزي، تمامًا كما أن التعامل المتساهل معها يعد نقيصة في التقليد الفرنسي. إنَّ الفلسفة التحليلية في أوجها كانت متحمسة بشدة للوصول إلى مجمل الحكمة البشرية من خلال اللغة اليومية لشمال أكسفورد. غير أن هناك أيضًا تقديرًا أصيلًا لما هو عادي في هذا التقليد الإنجليزي، والذي يُمكن أن يكون مصدر إلهام للراديكالية السياسية بدلًا من أن يجد نفسه في تعارض معها. هناك صراع أساسي داخل فكر اليسار بين احترام الحياة اليومية وعداء القوى والأوهام التي تُشكِّلها. وإذا كان رايموند ويليامز في بداياته أحيانًا يفضل العداء على الاحترام، فإن الطليعيِّين بوجه عام يقعون في الخطأ العكسي. إن الطليعيِّين الذين يَحتقرون الحياة العادية أحيانًا يفعلون هذا لأنهم يخلطون بينها وبين النظام السياسي الذي يحكمها، ويغفلون أن هناك مقاومة يومية لهذه السلطة كما أن هناك خضوعًا معتادًا لها. كان فتجنشتاين في فترة لاحقة من مسيرته من ضمن الشخصيات البارزة القليلة في القرن العشرين الذين كانت لديهم ثقة شديدة فيما هو معتاد واستنكار شديد للسياسة البرجوازية.8
هناك أيضًا اختلاف بين التقليدَين الفرنسي والإنجليزي فيما يتعلق بالأسلوب. فإذا كانت المبالغة هي إحدى الأدوات البلاغية المميزة للنظرية الطليعية الفرنسية، فإن الأداة البلاغية الأساسية لنظريتها الإنجليزية هي الإسفاف أو نفي الضد. إن بعض الكتابات الإنجليزية في هذا المجال كانت ذات أسلوب بسيط، في هجوم شديد على الأسلوب المنمَّق أو المُفخَّم. ويكمن أحد الجذور الأقل شهرة لذلك في الشك التجريبي الشديد في الأفكار المبالغ فيها. ومع ذلك، فعندما كتب ديفيد وود في عمله «خطوة للخلف» عن بعض «القطط غير المعروفة في مدراس»، في معرض حديثه عن شعور دريدا السخيف بالذنب لعدم قدرته على إطعام كل القطط على كوكب الأرض، فقد استخدم أداة أسلوبية لا يُمكن تقريبًا تخيل استخدامها في أعمال الفلاسفة الباريسيِّين. إن أقل قدر من الانحطاط الأسلوبي كان يضر بشدة بأعمال هؤلاء الفلاسفة ذات الجودة الفكرية العالية، وكان على نحو مُساوٍ غير ملائم للطابع الأكاديمي الشديد للكتابات الأمريكية الأكثر راديكالية. ويُمكن أن نجد نفس هذا الأسلوب المتهكم الممتعِّض، مثلًا، في كتابات سايمون كريشتلي أو جوناثان ري أو سايمون بلاكبيرن. كتب ري عن «التقليد الإنجليزي بدءًا من هوبز إلى شافتسبري إلى بنثام والذي جعل من التهكُّم المعيار الأساسي للحقيقة.»9 في اللغة الرفيعة للنظرية الفرنسية، على العكس، حتى المزاح أو التسلية تبدو أمورًا مخيفة وغير ملائمة على نحو واضح. ويظل الأسلوب الكرنفالي الذي يعتمد على الفكاهة عقلانيًّا على نحو واضح. هناك بالتأكيد استثناءات لهذه القاعدة. كثيرًا ما يلام لاكان على غموض أسلوبه، ولهذا الاتهام أسباب عديدة وجيهة، غير أن هؤلاء الذين يلومونه في ذلك بوجه عام يتجاهلون بذاءاته المفاجئة وعباراته العامية اللاذعة ولمحات مزاجه الجيد المازح وتلميحاته الذاتية الساخرة ودعاباته الخبيثة مع جمهوره.
إذا كان سلافوي جيجك قد نجح في أن يكون عقلانيًّا ومُتهكمًا، مزيجًا من الفيلسوف الواسع الاطلاع والمهرِّج الما بعد حداثي، فربما يرجع ذلك إلى أنه سلوفيني، وفي نفس الوقت فرنسي حاصل على المواطنة الفخرية من فرنسا. بوجه عام، تميل الأمم الصغيرة، كما لاحظ المُراقبون للفكر الأيرلندي منذ أمد بعيد، إلى النظر باستمتاع وإعجاب للطرائف المهيبة لجيرانها الإقليميِّين. وليس من قبيل الصدفة أن أكثر الروائيين الطليعيِّين العظام مادية وبساطة هو جيمس جويس. كما يكشف عمل صامويل بيكيت — الذي ينتمي إلى نفس موطن جويس؛ دبلن — عن التزام ثابت مُماثل تجاه ما هو عادي. وأبدى مفكر سابق، موطنه هو الآخر دبلن، وهو إدموند بيرك استجابة جمالية تجاه أساس التقاليد اليومية والأعراف المسلم بها. إن تناقُضات جيجك وجمله المعكوسة وشطحاته تعد علامة على النخبة المثقفة لأمة صغيرة تمامًا كفطنة أوسكار وايلد. إنَّ التحليل النفسي في حد ذاته شكل من الإسفاف؛ انحدار مما هو سامٍ إلى ما هو ساخر والذي يَستجلي أحط الدوافع الكامنة داخل مشاعرنا المتسامية الأكثر علوًّا. في هذا الإطار، يقول لاكان: «بحسب اعتقاد فرويد، يتطلَّب كل شيء يسير باتجاه الواقع تلطيفًا معينًا؛ أي، تخفيفًا للنبرة.»10 يرى ويليام إمبسن على نحو حكيم أن «أسمى الرغبات كامنة في الأمور الأكثر بساطة، وستكون غير حقيقية إن لم تكن كذلك.»11 بالنسبة للاكان، يُمكن أن تصبح أكثر الأشياء روتينيةً شذرة من النظام الواقعي.

كان لدى الكثير من التيارات الفكرية العظيمة في القرن العشرين شكوك تجاه الحياة اليومية. بالنسبة لأتباع فرويد، الحياة اليومية إلى حد كبير مسألة باثولوجيا نفسية. والشكليُّون يُمكنهم إيجاد قيمة في اللغة العادية فقط عندما تكون مفكَّكة وغريبة بحيث تبدو العبارة العادية باعتبارها ذلك الشيء الأكثر ندرة وصقلًا، ألا وهو التعبير الشعري. يمكن إفراغ اللغة العادية من معانيها الثرية فقط بإخضاعها لعنف منظَّم. ويكمن وراء جماليات الشكلية، باهتمامها الفينومينولوجي الشديد بالكلمة، تشكُّك عميق في اللغة العادية. إنه تشكُّك حداثي على نحو مميَّز؛ وهو عكس، إن جاز التعبير، الإيمان الهابرماسي الساذج جدًّا بموارد الحديث اليومي. وبطريقة مماثلة، ترفض الهيرمينوطيقا افتراض أن المعنى سهل المنال.

فرَّقت الكانطية الجديدة بين ما هو واقعي وما هو ذو قيمة. وقد قام فتجنشتاين في بداية مسيرته تقريبًا بنفس الشيء. ففي عمله «رسالة منطقية فلسفية»، لا توجد قيمة في العالم العادي على الإطلاق. وأعمال هايدجر تتضمَّن من بدايتها لنهايتها تمييزًا بين ما هو بطولي وما هو متوسِّط، بين ما هو استثنائي وما هو عادي، وقد وصل هذا إلى ذروته في ثلاثينيات القرن العشرين بإعلان هايدجر ولاءه لهتلر. صحيح أن هايدجر كان مولعًا بشدة بالحياة العادية والموطن والناس العاديِّين، لكن كل هذا مُنح في عمله هالة شبه روحية جعلته يرتفع فوق ما هو عادي لعالم أكثرَ سموًّا. إن الحداثة حافلة بهذا التعلق الغريب بما هو عادي، بدايةً من إعجابها الشديد بالفلاحين والشعوب البدائية وحتى تبنِّيها لمذهب طبيعي يذوب بامتياز في الواقع المرير. إن الفينومينولوجيا تركِّز على العالم الاجتماعي اليومي حتى تتعامل على نحو أكثر يقظةً مع الطريقة التي يظهر بها في الوعي. وتفضل حركة فلسفة الحياة «الدافع الحيوي» على القشور الخارجية الفارغة للمؤسَّسات اليومية. وهناك توتُّر مُماثل في عمل ماكس فيبر بين الكاريزما والبيروقراطية. وترفض البِنيوية، شأنها شأن الماركسية والفرويدية والواقعية العِلمية، أن تنخدع بالمظاهر الاعتيادية للأشياء، وتبحث بدلًا من ذلك عن الآليات الخفية التي تؤدي إليها.

تضع الوجودية اللحظة القصيرة للعيش بأصالة في مقابل «سوء النية» الخاصة بالحياة اليومية. ويُناقض جانب كبير من الحداثة التجلي المفاجئ والمطلق وشبه المرئي أو الشدة الشاردة مع «الأوقات المُملة» للحياة اليومية. ويعادي الشكليون ما يُطلق عليه الروسيون byt؛ أي، العقم المدمر للروح للوجود اليومي. إن هايدجر، كما هو الحال لكيركجارد الذي جاء قبله، كان كاهله مثقلًا بالمَلل، وهو مفهوم استطاع إعطاءه صبغة شبه فلسفية. ووجد سارتر نفسه غارقًا في الفوضى الشديدة ﻟ «الوجود في ذاته»، في حين كان ليفيناس يرزح تحت نير مزيج من التعب والخمول والأرق؛ ضوضاء كئيبة ومجهولة في خلفية وجود الشخص والذي أشار إليه ﺑ il y a (الهناك). كل هؤلاء المفكرين يعانون بشدة مما هو يومي. ويرَوْن الحياة اليومية باعتبارها عملًا عدائيًّا وشيئًا يدعو للخمول وحالة مدمرة للروح من الطمأنينة و«السأم». إن جانبًا كبيرًا من النظرية الأخلاقية الحديثة يكمن مصدره الخفي في الاغتراب. ويعكس الفقدان الكارثي للإحساس بوجود قِيَم مشتركة وتضامُن يومي.

•••

هناك نوع من الأبطال الحداثيِّين المُنعزلين الموجودين على أحد التخوم النائية للروح، وهذا الشخص يُعاود الظهور على نحو متأخِّر في أخلاق النظام الواقعي. إنه عادة ما يَنتمي لذلك التيار الحداثي الذي يُخطئ بافتراض أن الحقيقة تكشف عن نفسها فقط في الظروف الشديدة. إنَّ هذا ما يُمكن أن نطلق عليه مُتلازمة غرفة التعذيب: فما يَصدُر عن الفرد وهو مُكره، تحت تعذيب شديد، من المفترض أن يكون صادقًا. في حقيقة الأمر، وكما ربما تكون قد اكتشفت الآن هيئة الاستخبارات المركزية الأمريكية، هذا في الغالب ليس هو الحال. يفترض الاعتقاد الحداثي، الذي يرى أن ما هو حقيقي أو صالح سيَظهر فقط في تلك المناطق البعيدة للروح، أن التجربة العامة خالية من الصحة، وأن ما هو قريب دائمًا ما يكون زائفًا، وأن من يقول بالوعي يقصد الوعي الزائف، وأن حقيقة الإنسانية في اللاإنسانية، وأنك تستطيع إثبات إنسانيتك فقط عند الحد الخارجي للتجربة.

هناك قدر كبير من هذه النقائية في كتابات الواقعيين الأخلاقيين، والذين يُعدُّون، في هذا الإطار، حداثيين متأخرين وليس ما بعد حداثيين. إن سيادة الرغبة هي الشغل الشاغل للسريالية من البداية إلى النهاية. وأنتيجون لاكان هي بطلة تنمي للحداثة العالية بقدر أنتيجون جون أنويه. هناك أسئلة يجب طرحها بشأن قيمة نظرية أخلاقية يبدو أنها مقصورة على مجموعة من المتشدِّدين روحيًّا. فهل الجموع يجب إلهاؤهم بالأخلاق، في حين تتمتَّع النخبة باتصال مباشر بالنظام الواقعي؟ إن هذا شكل مألوف للنخبوية الأخلاقية، ويتصف بأنه شيطاني على نحو غير مُتناسِب، تمامًا كما أن النظام الرمزي ملائكي على نحو مفرط. إن الرجال الجوف التقليديين المُحترمين الذين رسمهم تي إس إليوت جبناء روحيًّا بشدة بحيث لا يكونون ضمن الملعونين؛ والملعونون، أيًّا كان ما يمكن أن يُقال عنهم، على الأقل أشخاص ذوو عقلية ميتافيزيقية على طريقتهم الخاصة، وهم أقرب للناجين مما يمكن أن نُسميهم الطبقات الوسطى الأخلاقية.

يتضمَّن رفض الخير الأسمى أن تكون على معرفة ضئيلة به، وهذا لا يُمكن أن يُقال عن الشخص حسن السلوك فحسب. بالإضافة إلى ذلك، فالأشرار غير مُبالِين تمامًا، يخربون من أجل الخراب؛ ومن ثمِّ يشبهون على نحو مخيف من يتشبَّثون برغبتهم على حساب المنطق والمنفعة العامة. يرى كانط أن الفعل الشيطاني، حال وجوده، ستكون له تقريبًا نفس سمات الفعل الأخلاقي الأسمى. ولا ينشأ نمطا السلوك هذان من دافع مدرك؛ فنحن نسلك أيًّا منهما كغاية في حد ذاته، وكلاهما غير قابلَين للفهم من الناحية العقلية. ومن يُمارس الشر المحض يسعى عن وعي لمخالفة القانون الأخلاقي، تمامًا كما يفعل الفوضوي الأكثر سذاجة، الذي يتَّخذ من كسر القواعد أساسًا لفكره. إنه يفعل ذلك حتى وإن كان هذا يعني التصرف على نحو مخالف لمصالحه، وحتى إن كان هذا سببًا في موته. في هذا الإطار، هو صورة مرآة معكوسة من البطل الأخلاقي عند كانط.12 إن الشيطان، كما أشرنا من قبل، هو ملاك ساقط، عرَف كلًّا من الفزع والعظمة. والأشرار يَعرفون الرب عن طريق النَّفي، أما سيئو السلوك فحسب، فلا. والشر يسعى لتدمير الإبداع الإلهي لأنه الشكل الوحيد من الإبداع المُطلَق الذي ما زال متاحًا أمامه؛ لأن الرب قد استأثَر لنفسه على نحوٍ غير مُبالٍ بأهمِّ أشكالِ الخلق.
إذا كان البروفسير الفوضوي المعتوه في رواية جوزيف كونراد «العميل السري» يرغب في تدمير الواقع بالكامل والبدء ثانيةً من جديد، فإن الفعل الأخلاقي عند لاكان وباديو يشبه تمامًا مثل هذا الفعل الإبداعي الجديد اللافت للنظر. كتبت ألينكا زوبانتيتش، وقد تملَّكها اعتقاد طليعي أصيل يرى أن ما هو جديد إيجابي دائمًا، تقول إن الفعل الأخلاقي الأصيل فعل يتجاوَّز الحدود الحالية؛ ومن ثَمَّ لا يختلف عن الشر.13 إن المسألة هنا شكلية محضة. ووفقًا لوجهة النظر هذه، الأخلاق الحالية دائمًا ما تكون وعيًا زائفًا؛ فبينكي، البطل الشرير في عمل جراهام جرين «برايتون روك»، أسمى روحيًّا من الواعظة الضيقة الأفق إيدا أرنولد؛ على وجه التحديد؛ لأنه يؤمن بالرب رغم أنه يُكنُّ ازدراءً واعيًا شديدًا له. وهو، في هذا الإطار، صورة مصغَّرة من شخصية إيفان كارامازوف لدوستويفسكي. وقد علَّق جورج أورويل في مجلة «ذا نيويوركر» في عام ١٩٤٨ قائلًا: إن جرين «يبدو أنه كان مؤمنًا بالفكرة، التي كانت مطروحة منذ أيام بودلير، والقائلة بأن هناك شيئًا مميزًا بعض الشيء فيما يتعلَّق بكون الشخص ملعونًا.» ووفقًا لهذه الرؤية، وكما قال هيجل، فإن كل الفنانين والمُبتكِرين والمُشرِّعين العظام لديهم الجرأة الكافية للتجاوز. وقد قوبلت مسألة كون بعضًا من أعظم المستغلين والمستبدِّين والإمبرياليِّين قد فعلوا تقريبًا نفس الشيء فيما يتعلَّق بتلك الحالة «الجذرية» بصمت مطبق.

وهكذا، يُصبح الأشرار والقديسون سواءً، فيما يتعلق بالخلاص والجحيم. وهناك نوع من الشر — كما يشير باسكال في عمله «خواطر» — نادر مثل الخير، ومن السهل أن يحدث خلط بينهما. وأن تكون سيدًا في الجحيم أفضل من تكون حارسًا في الجنة. والتمرُّس في الفعل المتطرِّف، بل وتعلُّم الشر، أفضل من التوسُّط الأخلاقي. والشخص السيئ الأخلاق الحق ذو صلة بالرب، كما أن الشيطان واسع الحيلة، والمُلحد مؤمن ولكن في الاتجاه المعاكس. إنَّ الشيطان في عمل توماس مان «دكتور فاوستس» يشعر بأنه أعلى مكانة من تفاهة البرجوازية الصغيرة، ويُعلن مُتباهيًا أنه الحامل الوحيد للحقيقة اللاهوتية. وهو يقصد أن الشر هو كل ما يَبقى مما هو ميتافيزيقي في العصر الحديث. فالحَداثة تعلم ما هو ميتافيزيقي فقط من خلال نفيه؛ فوق كل شيء، كما يُمكن أن يزعم أحدهم، في شكل مُعسكر الاعتقال النازي أوشفيتس. إنَّ كل ما تبقَّى من الخالق هو الظل المهجور لغيابه. في عمل «دكتور فاوستس»، تكشف موسيقى البطل الشرير لمان، أدريان ليفركون، «الهوية الحقيقية لأكثر الناس مباركة، وفي نفس الوقت أكثرهم لعنًا». يرى نافتا، اليسوعي المتشدِّد المؤمن بفكرة المطلق الأخلاقي في عمل مان «الجبل السحري»، أن الرب والشيطان يشتركان في معارضتهما للعقل والفضيلة التقليديَّين على نحو رتيب.

إن هذه خرافة مُغرية وشديدة الخطورة، وبعيدة كل البعد عن الاعتقاد التقليدي الذي يرى أنَّ الشر في واقع الأمر نوع من النقص أو النفي؛ عدم قدرة على الحياة وليس وفرة فيها. إن الشر هو الذي يتصف بالملل والهشاشة، وليس الخير، الذي يتَّصف بالمرح والحيوية. وإذا كنا قد فشلنا في إدراك هذه الحقيقة، فإن هذا يرجع جزئيًّا إلى أن الطبقات المتوسطة قد آثرَت أكثر الفضائل تقليدية ومللًا. في بعض النواحي، تُعدُّ أخلاق النظام الواقعي نسخة حديثة من الأيديولوجيا البودليرية. ويجب النظر إلى هذا في ضوء نظرتها التراجيدية على نحوٍ مُلائم التي تقول إن الحياة الأصلية يجب أن تَنبع من العوز الذاتي؛ فأخلاق النظام الواقعي أعمق كثيرًا مقارنةً بتلك الخاصة بالنظام الخيالي أو الرمزي؛ غير أنها أيضًا لنفس هذا السبب مُبالَغ فيها جدًّا ونخبوية جدًّا وشبه مقدَّسة. والنقاش بشأنها، كما هو الحال مع الأخلاق الرمزية لكانط، بالغ الصعوبة. فعندما تحدَّث كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» عن «الازدراء والاستخفاف» اللذَين يرى بهما القانون الأخلاقي الميول الإنسانية العرضة للخطأ، فإن الليبرالي الكبير يكشف عن كونه أحد مصادر تلك النخبوية الرُّوحية.

كتبتْ سيلفيان أجاسنسكي عن تشكُّكها فيما ترى أنه «تمجيد للعظمة والسعة والمُطلَق» في كتابات كيركجارد، مُضيفة أن «الدعوة أو الحاجة السامية التي تنبع من اللامتناهي أو المُطلَق تتضمَّن إدانة للتناهي؛ إدانة لكل ما هو موجود في كل أشكال الحنين لما هو غير قابل للقياس.»14 ربما تكون أجاسنسكي قد تحقَّقت من شُكوكها فيما يتعلَّق بالسمو الكيركجاردي من خلال الحماس الشديد له من قبل جورج ستاينر، بنُفوره الأرستقراطي مما هو قابل للحِساب ونفعي. إنه، بلا شك، لأمرٌ مُزعج للواقعيِّين، الذين يرَوْن أنهم راديكاليون، أن يُحيوا بقُبلة الموت الرهيبة هذه من شخص رجعي بارز يعدُّ أحد المُناصِرين القلائل الأحياء ﻟ «النقد الثقافي» في أواخر العصر الحديث. كتب ستاينر مادِحًا كيركجارد قائلًا: «عندما تكون الأخلاق في أرفع مُستوياتها في شخصية مثل سقراط أو كانط، فإن اللاإنسانية والسخف اللاعقلاني لا مكان لهما.»15 وهذا، كما يجب أن نُشير، المقصود منه أن يكون توبيخًا لسقراط وكانط، وليس إدانة لهما. إنَّ اللاإنسانية التراجيدية والعبث اللاعقلاني، اللذين قليلًا ما يتصدران قائمة حالات الوجود المفضَّلة لدينا، في نظر ستاينر هدنة مرحب بها من مِلَل البرجوازية الصغيرة للعقل والأخلاق ومذهب المساواة والديمقراطية الجماهيرية؛ باختصار من حداثة جديرة بالازدراء تَفتقِد بنحو أو بآخر إلى العناصر التعويضية. إنَّ إعداد النبي إبراهيم ابنه للذبح، كما يقول ستاينر اليميني مُستحضِرًا روح دريدا اليساري، «يَتجاوز كل الادعاءات القابلة للتصور للمسئولية العقلية والمعايير الأخلاقية»، والتي تعدُّ لا شيء مقارنةً ﺑ «إنسان عادي في قبضة اللاتناهي».16 إن الكيفية المحدَّدة التي كان بها النبي إبراهيم إنسانًا عاديًّا تظل غير واضحة. فلا يُمكن لنا أن نقرنه على نحو عادي بالبيئة المدَنية للطبقة المتوسطة.
إن التشابه بين ستاينر ودريدا ليس عرضيًّا تمامًا؛ إذ إنَّ هناك تصوُّرًا يرى أن الواقعيِّين من ضمن الورثة المتأخرين لتقليد «النقد الثقافي».17 إنَّ ما يُميِّز هذا التيار الفكري، بدءًا من كولريدج وأرنولد وراسكين إلى إف آر ليفيس وتي إس إليوت وتوماس مان في بداية مَسيرته وكارل مانهايم وخوسيه أورتيجا إي جاسيت، هو عداؤه للتنوير ومذهب المساواة وشكه في الليبرالية والمادية والحضارة الجماهيرية، ورفعه لمكانة القليل من الأرواح الإنسانية النادرة مُقارنةً بالديمقراطية الشعبية وتسيُّد التوسُّط. ويُمكن أن نجد واحدًا من أفضل الأمثلة المعبِّرة عن ذلك في أدب سول بيلو. إنه تقليد مُفجع سياسيًّا وبارع على نحو ثري، تقليد يُفضِّل إلى حدٍّ كبير العبث المعذب على الرخاء الموجَّه؛ فالتعقُّل يكون لأصحاب المَتاجِر وليس للحُكماء. هناك بالتأكيد نقاط اختلاف واضحة بين هذا المنظور وأخلاق النظام الواقعي؛ فبالاستثناء البارز لليفيناس، يَميل الواقعيُّون الأخلاقيون في الغالب لليسار، وستجدهم بوجه عام يُهاجمون الاشتراكية والديمقراطية. ويَمزِج دريدا جوانب من «النقد الثقافي» بمسيرة حياتية مميزة كمعارض سياسي، غير أن الازدراء اللاكاني للسعادة والسياسة والمنفعة والرخاء والإجماع الاجتماعي والمُمتلكات وتقوِّي الطبقة الوسطى قريب على نحو بارز من فكر ليفيناس أو إليوت. هناك عداء من قِبَل اليمين واليسار على السواء للبرجوازية؛ عداء أدَى إلى بعض من أبرز الإنتاج الحداثي المكتوب. وكما اتَّضح من مسيرة دريدا، تحول الانشقاق اليساري عن الحضارة الرأسمالية تدريجيًّا إلى ازدراء روحي للمَجال السياسي في حدِّ ذاته، على الرغم من استمراره الشجاع في خوض المعارك فيه.
خذ، على سبيل المثال، التقارب بين لاكان ودي إتش لورانس، وهو كاتب يعد من أبرز المنتمين لتقليد «النقد الثقافي». تقليديًّا، اختلف الأخلاقيون حول ما إذا كانت الأخلاق معنيةً بالأساس بما هو خير أو صواب. لقد كان صدامًا بين النفعيِّين وأنصار أخلاق الواجب، حمَلة شعلة الفضيلة والسعادة والمدافعين عن الحقوق والواجبات.18 يتَّفق لورانس ولاكان على رفضِ نمطَي الفكر الأخلاقي السابقَين من أجل أخلاق الرغبة، وهي أخلاق تُقلِّل بشدة من مكانة الحقوق والفضائل. وكما أن الذنب الوحيد الحقيقي عند لاكان يَكمن في تخلي الفرد عن رغبته، فإن الجريمة الحقيقية الوحيدة عند لورانس هي التنصُّل من الرغبة التي تُعدُّ أساس ذاتية الفرد. إنها تعني رفض الفرد ﻟ «الرب» الذي بداخله؛ ومن ثَمَّ فهي تعدُّ نوعًا من الكُفر. في الفكر الميتافيزيقي للورانس، تُعدُّ هذه الرغبة، كما هو الحال بالنسبة للرغبة الخاصة بالنظام الواقعي عند لاكان، هي «الآخر» العنيد بالنسبة لمن يَمتلكونها. وهي بُعدٌ لا يُمكن سَبر غَوره ولا مقاومته من الوجود، والذي سيفعل ما يشاء بنا مَهما كانت تفضيلاتنا الواعية. عندما كتب لورانس أن «ذات الفرد قانون على نفسها، وليس على «نفسه»»،19 فالاختلاف محلُّ النقاش هو بين عالم الأنا ونزعاته التافِهة من جهة وعالم النظام الواقعي العظيم. إنه اختيار بين الرغبة والنَّزعات؛ بين تجريدٍ ميتافيزيقي هائل من ناحية، والرغبات والاحتياجات التي تهتمُّ بها على نحوٍ كبيرٍ الأخلاقُ الكلاسيكية من الناحية الأخرى.
إن مَن لَديهم ولاء لرغبتهم من وجهة نظر لورانس هم أرستقراطيو الروح؛ الأشخاص المتباهون والمُنشغلون بتفرُّد وجودهم والذين تُمثِّل لهم الجموع إلى حدٍّ كبير عدمًا جديرًا بالازدراء. إنَّ هؤلاء الذين لا يُمكنهم أن يُشبعوا هذه الرغبة أو يُشبعَها لهم الآخرون في حقيقة الأمر تقريبًا غير موجودَين، وستَتجاهلُهم حتمًا قوة الحياة. إنَّ ما يُهمُّ هو نقاء الروح، وليس التعاطُف الإنساني. يُهاجم لورانس بضراوة في لحظاته الأكثر انحطاطًا أخلاقيًّا، كما في عمله «فانتازيا اللاوعي»، «الخير المُفرط، وحُسْن النية البغيض، والإحسان الكريه، والمُثل المؤذية.»20 إنَّ الليبرالية والخيرية، مثل «تقديم الخير» عند لاكان، تُعدَّان ملجأ للحضريِّين المهذَّبين الجُبَناء بشدة بحيث لا يُمكنهم مواجَهة النظام الواقعي. يتحدَّث لاكان في مقاله «كانط مع ساد» عن «أنوية السعادة»، وهي رؤية كان سيَقبلها بالتأكيد لورانس؛ فبالنسبة له، الشعور والأخلاق والوعي وحتى الإنسانية في حدِّ ذاتها ببساطة مثل الزَّبد الذي يعلو طوفان قوة الحياة بظُلمته. وكما هو الحال بالنسبة لجانب كبير من تقليد «النقد الثقافي»، يجب إسقاط الأخلاق والسياسة والمجتمع والعقلانية باعتبارها «آليات» لا روح فيها، أو في أفضل الأحوال يجب تحمُّلها باعتبارها من الشرور الضرورية. إنَّ الديمقراطية والمساواة تهديدان بغيضان للاستقلال الذاتي. وإن ما تدفعك الروح أو الرغبة الموجودة بداخلك لفعله هو الشيء الصحيح الذي يجب عليك القيام به؛ فعملية القتل المُرتكبة باسم الحياة العفوية-الإبداعية لها قيمة أخلاقية أكبر من إطعام الجوعى النابع من الإحساس بالواجب.

تعدُّ فكرة التراجيديا من الأشكال المألوفة لتقليد «النقد الثقافي»، فإذا كانت الثقافة الغربية الحديثة تَزخر على نحو كبير بما هو تراجيدي، والذي بدا ضمنَ اهتمامات الفلاسفة البارِزين، الواحد تلوَ الآخر، فإنَّ هذا لا يَرجع — كما يُمكن أن يتوقَّع المرء — إلى أن تلك الفلسفة تنبع من حقبة مُثقلة بالمآسي المُفرطة في عددها مقارنةً بأي حقبة أخرى في التاريخ البشري، ولكن كانت هناك أربعة أسباب رئيسية للظهور اللافت للنظر للتراجيديا في عصرٍ ما بعد ميتافيزيقي وغير بطولي؛ أولًا: سعَت التراجيديا لأن تكون بديلًا للدِّين في عالم علماني؛ فقد انتزعت، بتناولها للمُطلَق والسامي، الهالة التي كانت تحيط بالدين، مع ترك محتواه العَقائدي غير المَوثوق فيه. ثانيًا: سعَت فكرة التراجيديا لتقديم حلٍّ جمالي للمُفارقة التي تتمثَّل في أن الناس في العصر الحديث أحرار وعبيد في نفس الوقت. إنها رد عملي، باختصار، على المسألة النظرية الخاصة بالحرية والجبرية. إن البطل التراجيدي، الذي يُذعن لما هو حتمي في رُوح تتَّسم بحب القدر وفي نفس الوقت يختار مصيره، يكشف في هذا عن حرية لا متناهية تتجاوَز حالته المريعة. ولا شيء يجسد تلك الحرية على نحو أكثر إقناعًا من الإشارة النبيلة الخاصة بالتخلِّي عنها. ثالثًا: لقد كانت التراجيديا بمنزلة شكلًا حداثيًّا من فكرة العدالة الإلهية؛ إذ ركَّزت على مشكلة الشر ولم تُحقِّق نجاحًا كبيرًا في تبرير وجودِه شأنها في ذلك شأن أيِّ محاولة أخرى في هذا الشأن. إنَّ وجود الشر يعدُّ حجة شديدة القوة لعدم وجود الرب.

وأخيرًا، كانت التراجيديا بمنزلة رؤية نقدية في غير موضعها للحداثة — لثقافة عقلانية وعِلمية ومساواتية ونفعية وتقدُّمية غير ناضجة ومُدركة على نحو مباشر — والتي غضَّتِ الطرْف عما في الفن التراجيدي من أمور غامضة وخرافات، واعتقاد خاص بالشعور بالذنب بسبب القتل وطقوس مقدسة، وتسلسلات خاصة بالوجود، وقيمة مُطلَقة، وازدراء لما هو مُحتمَل، ورُوح سمو، وهيكل عظيم للآلهة والأبطال والأرستقراطيين.21 لقد كانت بمنزلة تحسُّر على تدهور الثقافة الراقية، وحنين رُوحي لعالم أكثر سموًّا. إن التراجيديا نقْد للعقل المُتعالي؛ حيث إن محاولة الذات الحرة لكتابة تاريخِها فشلَت بسبب قَدرٍ عنيد. لقد اتَّضح أن الأمل السياسي خدَّاع للذات؛ فلا يُمكن لثقة ساذجة في التقدم المادي أن تعالج قدم فيلوكيتيس، ولا لهندسة اجتماعية أن تنقذ فايدرا من مصيرها المحتوم. والحكمة يجب تفضيلها على المعرفة، وأوديب يُمثِّل المعرفة في منتهى حدودها. والتقديس هو عدوُّ التفسير العقلاني. وهناك كرامة إنسانية أبدية تتجاوَز الغَوغاء السياسية أو مَعمل العالِم. وفي مواجهة الكارثة التراجيدية، يتَّضح أن الإنسانية رقيقة الشعور للطبقات الوسطى رياء حقير؛ فلا يُمكن لأي شيء دنيوي أن يدخل هذا العالم المُبهِر. وكما لاحظ جورج ستاينر، بمَزيج مُعبِّر من البراعة والتعالي: «إذا كانت هناك حمامات في منازل التراجيديا، فستكون لأجاممنون كي يُقتَل فيها.»22 إنَّ مقابل المأساة هو السباكة؛ فقصة أجاممنون، بالنسبة للعديد من المُنظِّرين المعنيِّين بالتراجيديا، تراجيديا، أما معسكر الاعتقال النازي أوشفيتس، فلا.

ليس من الصعب أن نرى أن أخلاق النظام الواقعي تَرث بعضًا من التحيُّزات الأرستقراطية لتقليد «النقد الثقافي». إنَّ النظرية التراجيدية في أقل صورها إقناعًا مزيج من العدمية والانتصارية؛ فالوجود همجي وعبثي، لكن الإرادة التي لا تُقهَر للبطل ترفعه على نحو واثق فوقه. إن التراجيديا في أقوى صورها تهاجم كلًّا من العدمية والانتصارية، وترشدنا لكيف أن يكون لدينا أمل دون تَفاؤل. لذا، فهي، كما هو الحال بالنسبة للأخلاق عند لاكان، عقيدة مناسبة للراديكاليين غير الواهمين الذين يَرغبون في الاحتفاظ بالإيمان دون هجر الواقعية السياسية. فإذا قللتَ من قيمة الرُّوح الإنسانية كما يفعل العدمي، فأنت تَحرم البشر من المعايير التي يُمكنهم من خلالها أن يقيِّموا سعادتهم؛ وسيكون نتيجة ذلك مخاطرتهم بالنظر إلى بؤسهم باعتباره شيئًا حتميًّا وليس غير مُحتمَل. أما إذا أعليت على نحو مبالغ فيه من مكانة الروح الإنسانية كما يفعل الانتصاري؛ فستبدو المعاناة البشرية أمرًا تافهًا إلى حدٍّ ما.

يَختلف الأمل عن التفاؤل في أنه لا يتوقع على نحو واثق حدوث شيء إيجابي. وهذا ما يُميِّز أنصار تقليد «النقد الثقافي» عن التقدُّميين المُتحمِّسين. فالأمل الوحيد المرن على نحو كافٍ بحيث يُمكنك تحقيقه هو ذلك القادر على جعل إمكانية الفشل واضِحة بثباتٍ أمامَ عينَيك. إنه ما نَكتشفه عندما تخور قوانا ونَحتار، ومع ذلك، يبقى لدينا شيء ليُسجل الحقيقة. ويوضح ذلك ما جاء على لسان إدجار في مسرحية «الملك لير» حين قال: «ليس أسوأ أحوالنا ما يكون ما دُمنا نستطيع أن نقول: «إنَّ هنالك ما هو أسوأ»» (٤، ١: ٢٩-٣٠). وهذا ليس بعدمية ولا انتصارية. فإذا كان المسيح قد استسلم لموته وهو يتطلَّع بدهاء إلى قيامته الوشيكة، فما كان سيعود ثانيةً للحياة. لكن أيضًا هو ما كان سيعود مجدَّدًا إلى الحياة إذا كان قد تخلى عن رغبته؛ والتي تمثَّلت في حالته في هذا النوع العجيب من الحب المعروف بالإيمان. (كتب كيركجارد في «المرض طريق الموات» يقول: «المؤمن، رغم كل شيء، شخص مُحب».) فقط إن لم يكن صَلب المسيح خدعة غير شريفة وكان مواجهة عصيبة مع البُعد الواقعي للعوز، فإنه يُمكن أن يُمثِّل السبيل إلى حياة مُغايرة، وفقط إذا اعترف المسيح بأنه أخفَقَ في مهمَّته وأنه فاشل بائس هَجَره رفقاؤه المذعورون ومع ذلك أكَّد في خضمِّ هذا الاعتراف على إخلاصه المحب لما رآه مصدرَ وجودِه، فيُمكِن لمَوته أن يؤتيَ ثماره في حياة الآخرين.

إنَّ هذ التقابُل بين التقبُّل والتغيير قائم أيضًا بين ما هو عادي وما هو استِثنائي. إنه في هذا الصدد يَختلف عن التناقُض بين النُّبل الأخلاقي والتفاهة الاجتماعية الذي يصرُّ عليه تقليد «النقد الثقافي» والنظرية التراجيدية «المُتسامية» والواقعية الأخلاقية. من الجدير بالملاحظة أن العهد الجديد لم يُقدِّم في أي موضع فيه معاناة المسيح على أنه عمل بطولي؛ فلا يوجد أي شيء مجيد على نحوٍ جوهري في موته. ويُشير سورين كيركجارد في عمله «خوف ورعدة» إلى أنَّ البطل التراجيدي يتخلَّى عما هو مؤكَّد من أجل ما هو أكثر تأكيدًا؛ لكنه أيضًا يُدرِك أنه لا تُوجَد انتصارات مضمونة في مقابل الأعمال الإيمانية. إنَّ موت المسيح لا يجب أن يُحتفى به أكثر مِن موت أيِّ شخص آخر. إن المعاناة بالنسبة للثقافة المسيحية اليهودية التي أدَّت لظهور الأناجيل شرٌّ على نحو قاطع، وهو أمر يجب مُقاومته وليس تمجيده. لم يَطلُب المسيح يومًا من المرضى أن يتسامحوا مع مصابهم. بل على العكس، بدا أنه كان يُبارك الخُرافة التي تقول إنَّ المرض من أعمال الأرواح الشرِّيرة. فإذا أمكنَكَ انتزاع شيء إيجابي من محنتِك، فهذا جيد، لكن سيكون من الأفضل لو لم تكن بحاجة لذلك.

يجب أن تتضمَّن الشهادة — تسخير ثاناتوس من أجل إيروس؛ أي، الموت من أجل الأحياء — تقبل الموت باعتباره حقيقة تراجيدية دون انتظار شيء من ورائه. يُمكِن أن يتغيَّر حاجز الموت أو العوز الذاتي إلى أفق فقط بالنسبة لهؤلاء الذين حتى في هذه الظروف لا يُمكنهم التخلي عن إيمانهم أو حبِّهم، مهما قلَّت احتمالية تحقُّقه أو الإثابة عليه. ففقط الذين يَرَوْن أن الموت والفشل والفناء هي نهاية المطاف وليس أوراق مُساوَمة في تبادُل رمزي ما، هم من قد يَثبُت لهم أن هذه الأشياء ليست نهاية المطاف في نهاية الأمر، تمامًا كما انتهت السيمفونية الشيطانية التي ختَم بها توماس مان عملَه «دكتور فاوستس» بنغمة مستحيلة وخافتة على نحو مُتناهٍ وتكاد تكون غير مسموعة؛ مجرَّد شبح واهن أو إيماءة في الهواء؛ «أمل يَتجاوز اليأس» والذي قد يُشير فقط إلى طريقة أخرى مختلفة تمامًا للتأمل والعيش. إن الاشتراكية أيضًا مشروع تراجيدي بهذا المعنى، إنها مُمارَسة للتضامُن مع الفشل، وهي تعلم أن السلطة الباقية الوحيدة هي تلك التي تَنبع من التضامن مع هذا الضعف. ففقط هؤلاء الذين لديهم القليل ليَفقِدُوه هم من يُحتمَل مُخاطرتهم بمواردهم القليلة من أجل الاحتمال المحفوف بالمخاطر بوجود مستقبل أكثر عدلًا.

إن صَلب المسيح يُنظَر إليه تقليديًّا على أنه اللحظة التي تبنَّى فيها المسيح فكرة الذنب البشري وأخذ على عاتقه تَخليص البشر من هذا الذنب. وهذا الذنب يَنبُع من التواطُؤ المدمِّر بين القانون والرغبة؛ حيث إن القانون أو الأنا العليا تدفعنا ليس لنُعاقب أنفسنا على تطلعاتنا غير المشروعة ولكن لنختلس لذة فاحشة من هذه العملية؛ وهذه اللذة تؤدي بدورها لذنب أعمق، ومن ثمَّ لتمزقٍ أكثر بربرية للذات. وإذا كان القصد من موت المسيح هو كسر هذه الدائرة، فإنَّ هذا يَرجِع، كما رأينا، إلى أنه يَكشف أن قانون الآب هو قانون الحب والعدل وليس قوة خاصة بالموت. إنه يُعلن أن القانون فضل وحب ونشوة وتحرُّر ووفرة مبهجة من الحياة؛ وليس نير ظُلم.

يرى الفكر اللاكاني أن هناك صدعًا مأسويًّا بين الذات والآخر الكبير؛ بين ما نحن عليه كذوات وما قد يتطلبه الآخر الكبير الغامض منا. على العكس، يعني قولنا إن المسيح هو «الابن» الزعم بأنه يُمثِّل بالنسبة للآخر الكبير المعروف بالرب ما يُمثِّله هو أيضًا لنفسه. إنَّ مصدر الحب ومصدر وجوده الشخصي واحد. إنه مُتَماهٍ مع قانون الآب؛ دالٌّ واضح عليه (أو «كلمته»)، وهو مولود بالكامل من الحب وليس من لحمٍ ودم؛ وبسبب هذا التماهي المخلص مع جذور هُويته — هذا الرفض للتخلِّي عن وثوقه المحب في أساس وجوده — عُذِّب وقُتِل. إن إخلاصه لقانون الآب في حدِّ ذاته نموذج للحب الذي لا حدود له؛ ومن ثَمَّ تجلٍّ للآب نفسه. إنَّ الرب ليس ببساطة محل رغبته ولكن مصدرها بحيث يؤدِّي اللاتناهي «الشرير» للرغبة اللاكانية، التي هدفها يَنفلِت منها على الدوام، إلى رغبة للخير تكون ممكنة فقط إذا كان الخير يتمُّ الاستمتاع به بالفعل على نحو ما. فلا يُمكن للمرء البحث عن الرب، كما تقول الحكمة المسيحية القديمة، ما لم يكن قد وجده بالفعل. من هذا المُنطلَق، يؤدِّي لا تناهي الرغبة إلى أبدية الحياة الغنية. إنَّ الإحسان هو الذي فوق كل شيء غير محدود وليس الرغبة؛ فالرغبة لم تَعُد ضياعًا دائمًا، بمجرد أن تَصطبغ بصبغة الإيمان. لكن بسبب رغبتنا المَرضية في أن يُعاقبنا الآخر الكبير بدلًا من أن يُسامِحَنا؛ فنحن نأبى التخلِّي عن المُتعة التي نحصل عليها من مثل هذه الخيالات المعاقبة للذات. ومن الصعب قبول الفكرة القائلة بأنه يُمكِن أن يكون هناك آخر كبير كان بالفعل في صفِّنا. ويعني قول هذا التخلي عن المتعة المازوخية التي تربطنا بالقانون؛ ومن ثَمَّ الحاجة إلى تحوُّل جذري في الذات.

ومن ثمَّ فإنَّ ادعاء أن المسيح هو «ابن» الآب يعني أنه هو الصورة الأصلية للآب، مقدمًا إياه كصديق ومُحب وضحية بدلًا من «نوبودادي» متسلِّط أو قاضٍ شرير أو طاغية متعطش للدماء. إنَّ المسيح لم يُقتَل على يد الآب ولكن على يد الدولة الرومانية وأتباعها الاستعماريِّين اللامبالين الذين فزعوا من رسالته القائمة على الرحمة والعدل، وكذلك من شعبيته الكبيرة لدى الفقراء، وتخلصوا منه في وضع سياسي شديد التفجر. ومما زاد الأمور تعقيدًا أن عددًا من رفقائه المقربين كانوا على الأرجح ينتمون لجماعة الزيلوت المتحمِّسين أو كانوا ثوريِّين مُعارضين للاستعمار. وهكذا فإن الإرهاب المقدس للحب الإلهي أصبح الإرهاب المقدس للبريء المذنب؛ كبش الفداء الذي ضُحي به من أجل الآخرين. ليس الأمر أن الرب له وجود غير مؤثر وأيضًا جانب خفي سادي على نحو شنيع، وإنما الأمر أنه إرهابي الحب. إن الرسالة من وراء صَلب المسيح هي أن هؤلاء الذين يَدعون على طريقة أنبياء العهد القديم لوصول الفقراء للسلطة سيُجرى تصفيتهم من قِبَل السلطة. وتُشير قيامة المسيح إلى أن هذا الانتصار ليس في واقع الأمر نهاية المطاف.

وبهذا فإن صورة القانون بوصفه أنا عُليا علينا اتباعها على نحو أعمى قد تهاوت من مكانتها العالية. وبسبب ذلك، أصبح من المُمكن الآن مبدئيًّا أن نحب ونرغب دون شعور بالذنب. ويمكن النظر إلى انعدام الوجود المتمثِّل في الرغبة على أنه من بقايا تلك السلبية الأكثر عمقًا المُتمثِّلة في الرب. وهكذا، فإننا قد تحرَّرنا من الحالة المأسوية التي تثير فيها الرغبة السادية الظالمة للقانون وتنمي فينا من ثمَّ تلك الثقافة المؤلمة الخاصة بالشعور بالذنب التي يُمثِّلها المصطلح المسيحي الكلاسيكي الخطيئة الأولى. والمدهش أن شكلًا غير فاحش من المتعة أو النشوة قد أصبح مُمكنًا الآن. إن هذه المتعة، مثل «ثاناتوس» أو دافع الموت، «لا طائل منها» بعبارة لاكان، على نحو يفوق كثيرًا المنفعة؛ لكنها أصبحت هي الشيء الذي لا طائل منه للخلق نفسه، الذي، شأنه شأن الهبة والفضل المجردتَين اللتين لا هدف من ورائهما، لا غرض له سوى السعادة الذاتية العليا للرب. اتَّضح أن إرهاب القانون هو التطرُّف العنيد للحب الإلهي؛ فقد اتضح أن الحب ذاته هو حاجة عنيفة ومؤلمة ومدمرة؛ ومن ثمَّ ليس سوى النظام الواقعي على نحو يُذكِّرنا بالإله يانوس. وإذا كانت الرغبة قد أصبحت مشروعة؛ إذا كان بإمكاننا الآن أن يحب كلٌّ منا الآخر دون شعور بالذنب، فإن هذا يرجع إلى أننا تقبَّلنا الحقيقة التي لا يُمكن تحملها والمُتمثِّلة في أن مصدر هذا الحب كان دائمًا ما يَغفر لنا ويَقبلنا على ما نحن عليه رغم كل بؤسنا الأخلاقي ولا يطلب أي شيء مِنا سوى أن يُسمَح له بأن يُحبَّنا. هناك، على نحو مثير للدهشة، شكل من أشكال النظام الواقعي الذي يَرغب في رخائنا بدلًا من أن يُدمِّره، والذي لن يسمح لنا بأن نسقط. وبذلك نكون قد حُرمنا عنوةً من المتعة الفاحشة الخاصة بالندم، والتي على الأقل تؤكِّد لنا أننا موجودون.

يُمكن النظر إلى كلِّ هذا كرمز لأخلاق النظام الواقعي. إن النظام الواقعي، شأنه شأن حب الرب، إرهاب مقدَّس؛ هو شيء مقدس وملعون في نفس الوقت. إنه المكان الذي نسقط فيه ضحية الغضب الانتقامي لدافع الموت، ومع ذلك، فهو أيضًا المكان الذي يُمكننا فيه أن نتحرَّر من أصفاده. إنَّ بؤس اليأس ربما يكون أقرب مما يبدو من التجريد الذاتي للحب، وبامتلاك قوى الموت، يُمكننا التحول — حسبما يرى لاكان — من مستوى الرغبة إلى ذلك الخاص بالدافع. وبقيامنا بهذا، فإننا نُحمِّل عبر النطاق المنظم للقانون ثم نخرج من الجانب الآخر إلى منطقة خارج سيطرة القانون أو الغرب المتوحِّش للروح حيث قانون رغبتنا هو القانون الوحيد المهم. لقد استعضنا بالقانون الرمزي قانون النظام الواقعي. وحلت محلَّ الضرورة المضنية للقانون الرمزي الضرورةُ المانحة للحياة للتمسُّك برغبتنا، الذي نرى أنه مثل كل الدوافع الأخلاقية الأصيلة لا يُمكن مقاومته. إن الذنب الوحيد الذي يجب الخوف منه الآن هو التخلي عن هذه الرغبة التي تأكد كونها أساس وجودنا. في هذا الشأن، لاكان على طريقته يعد مناصرًا للمذهب الجوهري تمامًا مثل لورانس.

إن الموتى الأحياء هم هؤلاء المعذِّبون لأنفسهم الواقعون في شراك القانون والمحبوسون في الجحيم الأبَدي لجدلية عقيمة بين الرغبة واحتقار الذات؛ لكن بمجرد أن يُنظَر للموت باعتباره مَعبرًا بدلًا من نهاية طريق، فيُمكن لتلك الكائنات الشبيهة بالزومبي أو مصاصي الدماء أن يَموتوا بالفعل، مؤمنين بتناهيهم ومتقبِّلين لدافع الموت ومحولين إياه إلى الدينامية الأساسية لرغبتهم. وبقيامهم بهذا، فهم يدعون نوعًا غريبًا من الخلود. فكونهم لم يعودوا خائفين من الموت يعني أنهم يتمتعون بنوع من الحياة الخالدة. إن هذه الحالة هي التي كانت يقصدها لاكان عندما أشار إلى أنه فقط في ذلك العالم الذي يتجاوز النظام الرمزي «يُمكن أن يبرز مغزى الحب الذي لا حدود له؛ لأنه يوجد خارج نطاق القانون؛ حيث يمكن فقط أن يعيش».23 وفقط بالتخلِّي عن الأشياء الفورية لحبنا والتي يراها لاكان برؤية كانطية «مَرضية»، يُمكننا أن نتأكد من نقاء الرغبة التي تمثل النظام الواقعي. وبقيامنا بهذا، نحن نحرِّر أنفسنا من الشعور بالذنب؛ ونصبح بالتالي قادِرين على الحب بلا تحفظ.
إذن، وكما هو الحال بالنسبة للمسيحية، فإن الأخلاق اللاكانية تقوم على التضحية. في الواقع، أشار لاكان ذات مرة إلى أنه إذا كان هناك أي دين حقيقي، وهو الأمر الذي لم يؤمن به ولو للحظة، فسيكون المسيحية. لكن هناك اختلافات جوهرية بين العقيدتين. يرى لاكان أن هناك تعارُضًا بين حب الأشياء الدنيوية والرغبة الخاصة بالنظام الواقعي والتي من أجلها يجب التخلِّي عن هذه الأشياء. أما المسيحية على الجانب الآخر، فلا ترى هذا التعارض الشديد بين ما هو دنيوي والنظام الواقعي؛ فقد ترك المسيح العالم بسبب حبِّه له، وكان مستعدًّا لخسارة كل شيء من أجل حبِّه للبشرية. وبالنسبة لمعتقد يقوم على فكرة التجسد، فإن النظام الواقعي ليس بديلًا لحب الآخرين، كما سيبدو لبعض أنصار لاكان، وإنما يتحقَّق من خلاله. وفي هذا الشأن، يقول إريك سانتنر: «نحن لسنا … بحاجة للرب من أجل الأمور الروحية ولكن من أجل الانتباه الملائم للأمور الدنيوية.»24 بهذا المعنى، لا يوجد عداء مُطلَق في الدين المسيحي بين النظام الواقعي والنظام الرمزي، بين الرب والآخرين، بين الرغبة والحب، بين ما هو روحي وما هو دنيوي؛ فالأشياء المحبوبة ليست طُعمًا على طريق الرغبة، وإنما السبيل الذي ربما يُصادَف فيه على نحو رُوتيني الجانب الواقعي للحب الإلهي. في حقيقة الأمر، في العقيدة المسيحية اليهودية، الآخرون يكونون فقط بحقِّ أشياءَ محبوبة عندما تُجرى مصادفتُهم «في النظام الواقعي»؛ أي باعتبارهم حملة الغرابة السامية التي تُقاوِم «الأنانية الثنائية» الخاصة بالنظام الخيالي، والتي مصدرها سمو الآب.

إن الزعم بأنه يجب على المرء أن يحبَّ جاره الغريب عنه على نحوٍ كبير كما يحب «نفسه» وصِفة للعمل الشاق، وليس للنرجسية. يرجع هذا إلى أن حب النفس ليس بالمهمة السهلة؛ إذ يتضمَّن تقبُّلًا للنظام الواقعي المُشوَّه الذي يقبع في قلب هوية الفرد. غير أن هذا، على عكس الإعجاب المتبادَل للنظام الخيالي أو الترتيبات التعاقدية بين ذوات مستقلة التي تُميِّز النظام الرمزي، يُمكن بالتالي أن يُصبح الأساس الصلب الذي ربما يجتمع عنده البشر. إن الأمرَين الدينيين المُتلازمَين — بأن نحب الرب وأن نحب جارنا كما نحب أنفسنا — من ناحيةٍ يجب النظر إليهما باعتبارهما غير قابِلين للانفصال؛ فحبُّ الجار مُمكِن فقط إذا كان له أساس ثابِت في النظام الواقعي. غير أنهما أيضًا يجب التمييز بينهما للتأكيد على أنه ليس كل حبٍّ للجار له أساس جيد. فهناك طرق خيالية لحب الجار بعيدة كلَّ البعد عن النظام الواقعي؛ أي ينقصها نوع الحب القائم على الموضوعية والتضحية والتجريد الذاتي الذي سيكون ضروريًّا لظهور نظام اجتماعي جديد إلى حيِّز الوجود.

في هذا الإطار، ليس كل أشكال حب الجار تُمثِّل نوع النرجسية الخفية التي يبدو أن بعض أنصار لاكان مستعدُّون لاختزالها فيه. إن الحب الذي لا يمثل هذا هو من هذا النوع القائم على التضحية. إنه ذلك النوع الذي رسمه ماركس في عمله «مقدمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل» ويرى أنه مطلوب إذا أردنا أن يتحول «الضياع الكامل للإنسانية» إلى «الاستعادة الكاملة للإنسانية». إنَّ كبش الفداء أو الشيء المُضحَّى به — الذي، في حالة ماركس، هو البروليتاريا — هو ذلك الشيء الذي يتحوَّل من الضعف إلى القوة؛ ويُسمى هذا التحوُّل مما هو أدنى لما هو أعلى في التحليل النفسي بالتسامي. وكما أدرك هانس كاستروب في مشهد الثلج العظيم في عمل توماس مان «الجبل السحري»، فإن الحب وليس العقل هو الذي أقوى من الموت، ومن خلال هذا المنظور فقط يُمكِن أن تنبع عذوبة الحضارة؛ لكن «دائمًا في إقرار غير مُعلَن بأهمية التضحية بالدم». يجب على الفرد أن يُثنيَ على جمال ونُبل الروح، مع الوضع في الاعتبار الرعب والبؤس اللذَين يَقعان في أساسها.

في النهاية، الفكر الأخلاقي للاكان أو ليفيناس أو باديو ليس ببساطة مملًّا أو هزليًّا بالقدر الكافي؛25 ففي حقبة يبدو للكثيرين أنها كانت تفتقد للكثير من القيم الجوهرية، كان هؤلاء المفكرون على استعداد للتخلي عما هو محايث من أجل ما هو متسامٍ. وفي هذا الإطار، فإن فكرهم يتناقض على نحو غير ملائم مع الأخلاق المسيحية، والتي لا حاجة بالنسبة لها للاختيار بناءً على هذا المقياس؛ فإعطاء الخبز للجائع يعني عيش حياة الفضل الإلهي. إن الواقعيين الأخلاقيين أكثر زهدًا و«تدينًا» وأخروية بكثير من الأخلاق المسيحية اليهودية، والتي تعدُّ بالتأكيد مادية؛ فالانحدار مما هو سامٍ لما هو محايث هو العنصر الأساسي الذي تقوم عليه هذه الأخلاق؛ وهكذا الحال بالنسبة للتحليل النفسي الذي بالنسبة له الموضوع سيكون دائمًا على نحوٍ باعث للأسى مُقصرًا في الرغبة فيها. لا يوجد صراع هنا بين ما هو مُحايث وما هو مُتسامٍ؛ فيهوه العهد القديم يُعلن أن أتباعه سيعرفونه على ما هو عليه عندما يُرحِّبون بالمهاجرين ويعطفون على البائسين ويَحمون الفقراء من بطش الأغنياء.
هناك سِمَة كرنفالية في عقيدة ترى أن العالم بأكمله يقع تحت رحمة كوب من الماء. إن «ابن الإنسان» — المسيح — يَظهر بعظمة على سُحب المجد فقط ليتساءل على نحو تقليدي عما إذا كنت قد زرت المريض وأطعمت الجائع أم لا. إنَّ المُخَلِّصين المنتظرين يميلون إلى دخول عواصم بلادهم القومية في سيارات فارهة مُقاومة للرصاص، ويُصاحب مواكبهم رجال شرطة، وليس على ظهر حمار. إنَّ المسيح مُقَدم كمزحة سخيفة تتمثل في صورة مخلِّص. غير أن الإنجيل المسيحي يرى في النشاط الرتيب المُتمثِّل في كساء العاري إرهاصًا إلى تبدُّل الأرض والمجيء الثاني للمسيح، وهي فكرة يراها الفرنسيون حمقاء. إنَّ ما هو خارق وما هو عادي ليس مجالين منفصلين، كما يَعتقِد تلاميذ لاكان. والعالم المادي هو المكان الوحيد للخلاص. وكما كتب جراهام بيشي، «كان يُوجد وراء نبذ الكتابة الحديثة لمسألة «اختلاف الأسلوب الطبقي» التقليدية واكتشافها لما هو جاد ومأساوي في الحياة اليومية المواجهات العسكرية في يهودا الرومانية والتي هزَّت العالم».26

يَنطبِق الأمر نفسه على الأخلاق الاشتراكية التي ترى أن الأشكال الروتينية من الرفقة في الحاضر هي التي تَرسُم مقدمًا معالم النظام الثوري للمُستقبل. إن الماركسية الكلاسيكية تتمسَّك بالجانب «الواقعي» للثورة، بكل ما فيه من مآسٍ وأزمات واختلالات؛ لكن هذا الاضطراب الشديد يحدث من أجل الحياة العادية ويُحدِّثه الناس العاديون. وإذا كانت هناك بطولة، فإنها تلك الخاصة بالجموع غير البطولية. إنَّ العالمَين الواقعي والرمزي يجب ألا يَنفصِلا. وإنَّ هذا يَصدق فيما يتعلق بالتحليل النفسي الذي يرى أن دافع الموت هو الجانب الخفي للحياة اليومية.

يَبرُز هذا الصراع بين ما هو محايث وما هو متسامٍ في إنجيل القديس يوحنَّا كصراع بين حب العالم ورفضه. إنَّ العالم، بمعنى نظام السلطة السائد، سيقلل من شأن رُسل العدل؛ ومن ثمَّ يجب رفضه. غير أن هذا ليس شكلًا من أشكال الازدراء الدريدي للوجود اليومي، مثلما لا يَعكس الأخروية اليسارية المتطرِّفة لآلان باديو؛ فالعالم أيضًا، أو هكذا قيل لنا، هو ما يحبُّه الرب. وحيث إنه من عمل يده؛ فالتمرد السياسي لا يجب الخلط بينه وبين ازدراء مُتشدِّد لما هو جسدي ومُتناهٍ. إن الجسد، كما اكتشف باديو من خلال دراسته للقديس بولس، يشير ليس للبدن، الذي هو من إبداع الرب العظيم، وإنما للشكل الفاسد والعنيف للحياة السياسية. إن المسيحية والاشتراكية بالتأكيد عقيدتان أُخرويتان؛ إذ إن كليهما يتطلعان لعالم آخر يَنصلِح فيه حال البشرية. لكنهما يفعلان ذلك بسبب اهتمامهما بشئون البشر الموجودين بالفعل وليس لأنهما يَسعيان وراء تحقيق تصوُّر مُستحيل. هناك بعض التضليل العجيب في تحذير المسيح لأتباعه بأنهم سيُقتلون إذا تمسَّكوا بتعاليمه. ويُعرف هؤلاء الذين يَزدرون تلك الأخروية بالليبراليِّين أو المحافظين. إنهم الذين انخدعوا بالافتراض الغريب القائل بأن هذا العالم، بصرف النظر عن محاولات الإصلاح المتعقِّلة الغريبة، أفضل ما يمكن الحصول عليه ولا يُمكن إصلاحه. إن هذا الافتراض هو الذي غير واقعي على نحوٍ ساذج، وليس الاعتقاد بأن الوجود البشري يُمكن إصلاحه على نحو كبير.

•••

يقول لاكان في عمله «أخلاق التحليل النفسي» إنَّ صوت البطل (الأخلاقي) «لا يرتعش أمام أي شيء … وبخاصة أمام صالح الآخر».27 إنَّ الإيثار والمساواة واحترام الحقوق تقع في نطاق الأخلاق الرمزية والتي يكنُّ لها لاكان كل الاحترام، لكنه يَعتقِد أن تلك الأخلاق فشلت في أن تكون عميقة الأثر بالقدر الكافي. إنَّ الأخلاق الواقعية تَنطوي على انحياز ضد حب الخير، الذي لا يؤمن به بحماس هؤلاء الذين بحاجة إلى مساعدة عاجلة. إن الأخلاق ليست مسألة سعادة أو إشباع ذاتي أو عمل من أجل صالح الآخرين.

غير أن حُجج لاكان المعارضة لهذه الفكرة في عمله «أخلاق التحليل النفسي» ضعيفة على نحو ملحوظ؛ فنطاق الخير أو الفضيلة يتضمَّن على نحو حَتمي، كما يُشير، وجود سلطة؛ إذ من سيتحكم ويوزع نواتج الخير الاجتماعي المتعدِّدة؛ تلك التي في رأيه على أيِّ حال ليست سوى مُشتِّتات على طريق إشباع الفرد لرغبته؟ غير أن الرغبة الخاصة بالنظام الواقعي ربما تتضمن بالتأكيد سلطة على نحو مساوٍ. إن كلاريسا هارلو بالتأكيد تمارس سلطة كبيرة من خلال تصميمها الشديد على الموت. بالإضافة إلى ذلك، يزعم لاكان أن موضوع الخير يُثير مسألة لصالح من هو يُمارس، كما لو أن هذا كافٍ للنَّيل منه. تناول جيجك وزوبانتيتش نفس الأمر تقريبًا. ولا يبدو أنهما يَريان أن الخلاف الذي لا يَنتهي حول نوعية الخير ولصالح من هو يُمارس في أي موقف معيَّن هو على وجه الدقة ما يُقصد تقليديًّا بالأخلاق. إن فعل الخير لا يُقلِّل من شعور المرء بالذنب، كما يذكرنا لاكان على نحوٍ صارم، كما لو أن أحدًا قد تصوَّر يومًا أنه يفعل هذا؛ فهو يعتقد أن حب الشخص للخير للآخرين يُعدُّ بوجه عام حبه للخير لنفسه. وحب الخير، باختِصار، نوع من الخداع. فيجب أن نستهدف أمورًا أخلاقية أسمى من الاهتمام بشئون الآخرين؛ إذ إنَّنا يُمكننا بلا شك أن نوكل هذا الأمر للجهات المعنية بالرعاية الاجتماعية.

في دراسة بارِزة من نواحٍ أخرى، تحدثت ألينكا زوبانتيتش بازدراء عن «متعة» أخلاق النظام الواقعي التي جرى «ترويضها» من خلال حب الفرد لجاره.28 إن هذا، كما سيُخمِّن البعض، ليس رأي هؤلاء الذين يَجرِي سحقهم تحت عجلات شاحنة في شارع مُزدحِم بالمارة. تعتقد الفيلسوفة كاثرين شاليه أن كانط وليفيناس محقان في رفض الأخلاق القائمة على السعادة؛ حيث إنها من المفترض أن تنبع من حب الذات.29 ليس من الواضح لماذا تكون السعادة شيئًا أنانيًّا، وليس — لنقل — الرغبة. إن ليفيناس نفسه غاضب بشدة من مفهوم السعادة، والذي يخاطر بتخديرنا في مقابل الألم الذي من المفترض أن نشعر به في حضرة الآخر الكبير. إنه يخشى أننا يُمكن أن ننسى الرب في خضمِّ استمتاعنا بالأمور الدنيوية؛ وذلك بخلاف لاكان الذي يرى أن هذا التلذُّذ يمكن أن يؤدي بنا إلى نسيان النظام الواقعي. إنَّ السعادة يراها ليفيناس في الغالب باعتبارها نوعًا من الرضا الذاتي المُمل.30 أعلن أحد أنصار الواقعية الأخلاقية الآخَرين، ويُدعى كينيث رينهارد، أنه يعارض معاملة الفرد لجاره «باعتباره «أخًا» و«شبيهًا» له، يرى صالحه (حفاظه على نفسه وإشباعه لاحتياجاته) في مرآة ذاته.»31 لكن ليس هناك سبب للاعتقاد بأن كل الخير البشري من هذا النوع النرجسي البسيط؛ فحب الفرد لجاره ربما يؤدِّي إلى موت الفرد، كما حدث في حالة أنتيجون. يقارن بعض الواقعيين بين ما يُعرف بالمُتع الحيوانية للغيرية (التي تعدُّ على نحو أساسي أمرًا خياليًّا) والمتعة المتسامية للنظام الواقعي. ولكن كما يرى لاكان نفسه، «المتعة» تتضمَّن تقبُّل الموت، وهكذا الحال بالنسبة إلى حبِّ الآخرين. وحتى إن لم يمت الشخص فعليًّا، كما في حالة الشهيد، يبقى الموت مجازًا لهجر الذات الذي يَقتضيه هذا الحب. لا يوجد صراع ضروري بين الشفقة والنظام الواقعي، والجار والغريب. لقد أعرضَت كلاريسا عن البشر ووهبت نفسها للرب، غير أنه مِن أُسُس الدين المسيحي الذي تعتنقه أن هذا الرب موجود على نحو جوهري في المحرومين. وبرسمها في عمل أدبي، فقد ماتت بالنيابة عن كل النساء المُنتهَكَة حقوقهن الموجودات في عصرها، وليس ببساطة في عُزلة مهيبة.

بالإضافة إلى ذلك، على المرء ألا يتحمَّس بشدة لتجاهل قيمة حب الفرد لذاته، كما قد يبدو على رينهارد؛ فهناك رؤية أخلاقية معروفة ترى أن الشخص الطيب والعادل سيرغب لنفسه في الأشياء الطيبة والعادلة، والتي من دونها سيكون أقل استعدادًا للاهتمام بشئون الآخرين؛ فليس كل حب الذات عجرفة وعقْم، فلماذا يكون عليَّ أن أعامل نفسي على نحو أسوأ مما أعامل به أيَّ شخص آخر؟ ولماذا يجب أن أُستثنى من القانون العام للخير فقط لأنني تصادف ألا أكون من الآخَرين؟ إن التوجيه بأن أعامل الآخرين كما أعامل نفسي يؤتي ثماره فقط إذا عاملت نفسي بدرجة من الاحترام. ولا يوجد داعٍ لافتراض أن هذا أمر طبيعي أو تلقائي. ففي العقيدة المسيحية، يتطلَّب حب الفرد لنفسه فضلًا من الرب تمامًا كما هو الحال بالنسبة لحب الآخرين.

إن كريون في مسرحية سوفوكليس، باعتباره ممثلًا للمدينة، كان يتحكم في الخير ويوزعه، في بيروقراطية للروح لم تُثر اهتمام لاكان على نحو غير مُبرَّر؛ فهذه هي الأخلاق باعتبارها مجرد «تقديم للخير». إن كريون، رمز العقل العملي الكانطي، ليس من استحوذ على خيال لاكان وإنما أنتيجون؛ فلم يستحوذ عليه التقديم الموجه للخير العام، وإنما فرط رغبة وحيدة يدفعها الموت، رغبة تسامت فوق كل الاهتمامات والمتع الدنيوية. يُعلِّق لاكان هنا بتباهٍ قائلًا: «فقط الشهداء هم الذين لا يعرفون الجزع أو الخوف.» وقد نسيَ ربما بستان جثسيماني والمشهد الذي ظهر في الكتاب المقدس، والذي يُقدِّم المسيح وهو مضطرب بشدة قبيل موته.32 إنَّ الشهيد التقليدي يجعل موته في خدمة الأحياء، مُسخِّرًا ثاناتوس من أجل إيروس؛ أما البطل الشهيد اللاكاني، فيجعل موته فداءَ القضية أو الشيء الكبير الموجود بداخله، والمتمثِّل في رغبته، والتي يراها كمُتعة وحيدة تتجاوز حدود الوجود الاجتماعي.
لذا، فإنَّ زوبانتيتش هي التي يُمكنها التحدث عن الرفض الأخلاقي ﻟ «الإغواء» من قبل اللذَّة والتعاطُف وحب الجار والمساعَدة والصالح العام وما شابه. إن النظر للأخلاق عبر تلك الجوانب الدنيوية — كما هو الحال بالنسبة للأخلاق الحيوية والأخلاق الثقافية والأخلاق الطبية والأخلاق البيئية وهكذا — يُضفي على تلك الرؤية عجزًا جبانًا عن تأمل أخلاق النظام الواقعي.33 إنَّ الإحسان العادي هو دفاع لا شعوري ضد المباهج الرهيبة ﻟ «المتعة»؛ أي، تكلفة لا طائل منها بخلاف الإصلاح الاجتماعي أو أماكن تقديم الطعام للفقراء. ويجب التمييز بين «الأفعال» الأخلاقية العادية و«الأعمال» الأخلاقية الثورية، وهو مُصطلَح أضفت عليه زوبانتيتش في مَواضع أخرى في سردها المزيد من الجلال، ربما في محاولة لتقريب الأمر أكثر. وإذا كانت تلك الأعمال الخالصة فقط هي الأخلاقية بحق؛ إذن فالأخلاق ستبدو شحيحة بشدة مثلها مثل الثورات السياسية. يهاجم سلافوي جيجك الفضيلة التقليدية أو الرمزية معتبرًا إياها «التسيير المرن للأمور في عالم الوجود»،34 كما لو أنَّ الفضيلة هي مجرد التزييت العادي للعجلات الإدارية. إن الأخلاق أرستقراطية، في حين أن الفضيلة برجوازية صغيرة. تبدو الحياة اليومية من البرج العاجي للنظام الواقعي رتيبة وآلية على نحو مُضجِر؛ فيجب ألا يُنظر إليها في المقام الأول (كما فعل جيجك بوجه عام) باعتبارها ساحة للصراع الأخلاقي والسياسي. فصراعاتها وتناقضاتها الداخلية، مقارنة بالعظمة السامية للنظام الواقعي، تبدو تافهةً نسبيًّا، وتتعلق بالفضيلة البرجوازية وليس بالأخلاق النخبوية.

إنَّ الهدف من التحليل النفسي، كما يُشير جون راجمان، «ليس جعلنا مُواطنين أكثر صلاحًا أو عمالًا أكثر إنتاجية.» المغزى هنا هو أن المواطنين الصالحين هم ببساطة هؤلاء الأشخاص التقليديون التُّعَساء بعض الشيء الذي يدعمون بلا تفكير الدولة، وليس هؤلاء، لنقل، الذين يُمارسون فضيلتهم من أجل التشكيك في سلطتها. إذا كان إدجار جيه هوفر مواطنًا صالحًا، فإن روبسبيير كان كذلك. بالمثل، ربما كان إخراج عمال مُنتِجين مشروعًا محافظًا في ألمانيا في عهد هتلر، لكنه يظلُّ مشروعًا بناءً في مناطق عديدة في عالم ما بعد الاستعمار. إن مادة التحليل النفسي، كما يَزعُم راجمان، هي في واقع الأمر عدم الرضا البشري؛ لكن هناك تمييزًا مهمًّا إلى حدٍّ كبير بين عدم الرضا عن الحياة في ألمانيا النازية والقلق بشأن التخلُّص من «النظام القديم» في كوبا في ظلِّ حكم كاسترو. إذا لم يُجر ملاحظة هذه الاختلافات؛ فالمرء يكون عرضة لإعادة إنتاج التمييز الرومانسي المُتناقِض بين الدولة القمعية على نحو مُنظَّم والشخص المنشق المنفرد، ولكن على نحو أكثر تعقيدًا. إن قدرًا كبيرًا من أخلاق النظام الواقعي يَندرج في هذا الوضع المُبتذَل.

هناك لمحة ديونيسيوسية متوقَّعة فيما يتعلَّق بموقف لاكان تجاه الحياة الأخلاقية؛ فهو يتصوَّر أن رغبة البشر في عصرنا هذا قد جرى تغيير معالِمها وإضعافها وإسكاتها وترويضها من قبل الوعاظ والمُصلِحين والتربويين التقليديِّين. يبدو الأمر وكأن الفضيلة أنثوية والأخلاق ذكورية. لقد هجَرت الثقافة السياسية الحديثة المُنشغلة فقط ﺑ «تقديم الخير» — أي، السعادة والرفاهية والرخاء والحقوق المدنية وغيرها من الأشكال المسكِّنة لمبدأ الواقع — المسألة الأخلاقية الرئيسية المتعلِّقة بعلاقة الإنسان برغبته. إن مجال الرفاهية والحقوق وما شابه، كما يقرُّ لاكان على نحو ينمُّ عن سعة أفقه، «موجود بالطبع ولا جدوى من إنكار ذلك».35 في حقيقة الأمر، يُمكن أن يتكون شيئًا فشيئًا لدى المرء الانطباع بأن لاكان كان يفضل عدم وجوده، تمامًا مثل مرض التيفود. ثم انتقل لاكان، مُدركًا ربما لأخطار النخبوية الأخلاقية، ليُؤكِّد على أنه لا يوجد اختلاف جوهري بين البطل التراجيدي والإنسان العادي. وكتب يقول: «داخل كل منا، مسار البطل محدَّد، ونحن نتبعه تمامًا كأناس عاديين حتى نهايته.»36 يَختبر البطل كل عواطف الإنسان العادي، «فيما عدا أنها في حالته نقية وأنه يَنجح في دعم نفسه بشأنها بالكامل».37 وهكذا، فإن البطل في واقع الأمر ليس إلا الشخص الذي بالجوار، غير أنه يُقال لنا في نفس الوقت إنه ليس كذلك. وبعد أن أبطل لاكان بنُبل الفرق بين ما هو استثنائي وما هو عادي، أعاد فجأةً التأكيد عليه؛ فهو يُخبرنا بأن الشخص العادي يُميل إلى التخلي عن رغبته عندما يتعرض للخِداع، ويعود إلى المجال الأدنى الخاص بتقديم الخير، في حين أن البطل يبقى مخلصًا لشغفِه. إنَّ مثل هؤلاء الأبطال البارزين يأخذون رغبتهم إلى الحد الذي لا يمكن معه إدراكها، إلى الحد الذي يهلكون فيه بسبب الحقيقة.

تحدث كانط في كتابه «الدين في حدود العقل» عن تلك الثورة في طبيعة الفرد والتي بمُقتضاها يُصبِح إلى حدٍّ كبير مخلوقًا جديدًا. إن هذا ما نحتاج إليه إذا أردنا الانتقال مما هو «مَرضي» إلى ما هو أخلاقي. ترث أخلاق النظام الواقعي على نحو مهم هذا الاعتقاد، وتَعتمِد على كشف «مستحيل» أو تطرف ما يقلب العالم الرمزي رأسًا على عقب؛ حدث عاصف يُزلزل أركاننا، ويُعيد تشكيل عالَمنا، ويصيغ من جديد بعنف أُسسَ وجودنا. إن مثل هذه الأخلاق الثورية فقط، كما يرى الواقعيون على نحو مُحق، هي التي يُمكنها تصحيح وضعنا العصيب، سواء على المستوى الشخصي أو السياسي. وعندما يتعلَّق الأمر بالسياسة، يُمكن فقط لهؤلاء الذين رفضوا الواقعية — الليبراليين والمحافظين والإصلاحيين ومَن على شاكلتهم — أن يرَوْا أن أي تغيير أقل عمقًا من هذا، مع الوضع في الاعتبار وضعنا السياسي المفجع، لن يوفر لنا ما نحتاج إليه.

غير أن مشكلتنا مع هذا الكشف الشديد الأهمية هو ما سيحدث في أعقابه. لم تذكر النظرية اللاكانية الكثير عن كيف أن مواجهة البطل الأخلاقي المنفردة مع النظام الواقعي قد تحدد ملامح مسار الإصلاح السياسي. وفيما يتعلَّق بالسياسة، فإن هذه الأخلاق نخبوية وعنيدة جدًّا بحيث لا تسمح بأن تخضع بسهولة لمثل هذا التحول. إن السياسة والأخلاق في الغالب متعارضتان. وعلى أيِّ حال، نحتاج إلى معرفة ما إذا كان كل الرجال والنساء يجب أن يُصبحوا مثل لير أو أنتيجون حتى يعيشوا على نحو جيد. إنَّ الواقعيِّين أخطئوا عندما اتخذوا ما هو في حقيقة الأمر تجربة استثنائية على نحوٍ كبير مرشدًا إلى الحياة الأخلاقية؛ إذ على هذا النحو وبطريقة حداثية، يُحدِّد ما هو استثنائي ما هو معياري. لكن يحتاج المرء لأخلاق مناسبة، للحياة العادية، وليس للحياة في معسكرات الموت والمتاريس. إنَّ الأخلاق التي تبرز لحظة التحوُّل أو الكشف أو الاضطراب أو الثورة، كما تفعل تلك الأخلاق على نحو مهم، لا يُمكن أن يُجرى إسقاطها على الحياة الاجتماعية ككل، إذًا سيتضح حتمًا أنها لا تتلاءم معها؛ ومن ثمَّ فإن النظام الواقعي سيكون في خطر التحوُّل للأنا العليا الفرويدية أو القانون الأخلاقي الكانطي بحيث نجد أنفسنا باستمرار مواجَهين بضعفنا عندما نُحدِّد لأنفسنا مطالب يكون من المُستحيل أن نفيَ بها.

بالنسبة لآلان باديو، يُمكن أن يكون هناك تحوُّل من أحد النطاقَين للنطاق الآخر. والسبيل لتَلاقي النظام الواقعي مع النظام الرمزي هو الإخلاص اليومي للحقيقة والذي سيجعلها واضحة. إنَّ هذا، إن جاز لنا القول، هو نسخة باديو من «تجسد المسيح»، أي، تقاطع اللامتناهي مع المتناهي. ليس من السهل معرفة ما سيَعنيه تحويل ما هو استثنائي إلى ما هو عادي بهذه الطريقة، لكن على الأقل يَفترض باديو وجود بعض الارتباط بين الاثنين. لكن بوجهٍ عام تحويل أخلاق صيغت في الغالب باعتبارها معارضة للمدينة إلى نظرية سياسية يعد مشكلة بالنسبة للواقعية الأخلاقية. وكما يُلاحظ برنارد ويليامز في سياق آخر، إن المرء «سيكون عليه أن يقرَّ بأن الفضيلة، بمعنى نقاء القلب، رغم أنها هي الخير الوحيد، فيُمكِن أن تكون إنجازًا لفئة محدودة، وأن هذا بدوره سيبرز الحاجة إلى نظرية سياسية أخرى، لصياغة علاقة هذه الفضيلة بالمجتمع الآثم».38 إنَّ هذا بالضبط هو، كما أوضحنا، ما سعى ليفيناس على نحو غير فعال بعض الشيء لتحقيقه.

إنَّ المسيحية لديها إجابتها الخاصة على التساؤل المتعلِّق بما إذا كان يجب على كل الرجال والنساء أن يكونوا مثل لير أو أنتيجون، والتي تتمثَّل في العقيدة المتمثِّلة في أنه ليست ثمة حاجة لتكرار ما فعله المسيح من تضحية. وحيث إنه كان كبش الفداء أو الفارماكوس الذي تحمَّل مسئولية تطهيرنا من ذنبنا باعتباره الدال المذنب الملوث للبشرية النقية، فليس على أتباعه أن يمرُّوا فعليًّا بأنفسهم بنفس تجريد الذات الدموي هذا. بدلًا من ذلك، إنهم يشتركون فيه سيميائيًّا؛ أي، على مستوى الرمز أو سرِّ التناول. إن الطعام والشراب في الأفخارستيا يحيان ذكرى التحوُّل المضطرب من العهد القديم إلى العهد الجديد، تمامًا كما تظل ذات الحقيقة عند باديو مخلصة للحدث الأساسي. لكن رغم أن كل المسيحيِّين مطالَبون بأن يكونوا جاهزين للشهادة؛ أي، مُستعدِّين فعليًّا للتضحية بحياتهم من أجل الآخرين، فإنه من خلال الدال يمكن استحضار التحول الأصلي للمسيح من الموت للحياة الأبدية. إنه من خلال الدال أيضًا، من خلال العلاج بالحديث، يستطيع المريض الخاضع للتحليل النفسي أن يُحدث التحول من حالة المرض إلى حالة التحرُّر من المرض. إن المهم، بعبارة جيجك، هو «عوز الذات» وليس الفقدان الفعلي للحياة. وفيما يتعلق بالسياسة، فإن هؤلاء الذين يتمنَّون وصول الفقراء إلى الحكم ليسوا مطالبين بأن يكونوا هم أنفسهم مُعدمين، رغم أنه قد يعزز من مصداقيتهم السياسية ألا يكون من بينهم الكثير ممن لديهم ثراء فاحش. إن التضامن السياسي هو الأهم، وليس مشاركة الآخرين فعليًّا حرمانهم.

لكن المسيحيين لا يُعيدون تجسيد هجر الذات الذي قام به المسيح على نحو أساسي من خلال سر التناول. يتم ذلك بدلًا من هذا عن طريق الحب التقليدي. إنَّ حب يهوه يتحقق عن طريق الشفقة والتسامُح، وليس في المقام الأول من خلال الطقوس أو القرابين التي تأكلها النار أو المبادئ الأخلاقية أو النُّظم الغذائية المفصلة. وفي هذا السياق الإنساني، إنه يتجلى على نحو رئيسي في الفقراء والمُعدمين. انتهى عصر الدين الطقسي في المكان الذي صُلب فيه المسيح؛ فكما لاحظ كاتب «الرسالة إلى العبرانيين»، كان المسيح آخر رئيس كهنة، والذي «ليس بدم تيوس وعجول بل بدم نفسه دخل مرة واحدة إلى الأقداس فوجد فداء أبديًّا» (٩، ١١). إن القربان المَحروق الوحيد المُهم في العهد الجديد هو جسد بشري مُنتهَك. إن هذه الحقيقة العظيمة هي التي يَجب أن يُبنى حولها نوع جديد من التضامُن، تضامُن يتجاوَز على نحو حاسم الأدوار المُفترضة للنظام الرمزي. إنَّ هذا هو أحد أسباب إغفال العهد الجديد البالغ للجنس وتجاهُله الشديد للحياة الأسرية.

بخلاف الأخلاق الواقعية، تجمع المسيحية بين ما هو مستحيل وما هو يومي، ما هو محايث وما هو مُتسامٍ، «الحدث» وآثاره التاريخية، فيما يُمكن أن نطلق عليه السمو الدنيوي. تحدَّث كيركجارد عن فارس الإيمان قائلًا إنه «يُعبر عما هو سامٍ من خلال ما هو عادي.»39 إنَّ الحب التقليدي يُعيد تجسيد حادثة الصَّلب لأنه يتضمَّن موتًا أو تضحية مجازية. إنَّ هذا الارتباط بين الحب والموت تجاهله على نحو كبير مارتن هايدجر في عمله الفلسفي الكلاسيكي العظيم «الكينونة والزمان». يرى هايدجر أن مُساعدة الآخرين والاستعداد للموت من أجلهم أمران أساسيان لوجود الفرد وإنسانيته، غير أنه عجز في الغالب عن إدراك كيف أن الشكل اليومي من الموت عن الذات المُتمثِّل في الحب يُعدُّ بروفة لهجر الذات النهائي المُتمثِّل في الموت؛ فالأخلاق تقوم على الحب وليس الرغبة. وليس هناك صلة بين الحياة اليومية للمدينة والأخلاق القائمة على الرغبة؛ لكن هناك صلة، كما سنرى، بينها وبين الأخلاق القائمة على الحب.
مما سبَقَ يتَّضح أنه مع المسيحية برز تقدير جديد لما هو عادي. يرى تشارلز تايلور أن الثورة التي أحدثها بيكون في المجتمع في أوائل العصر الحديث «غيَّرت السبيل للحياة السعيدة من مجموعة خاصة من الأنشطة السامية وأدخلته «الحياة» نفسها.»40 فقواعد الشرف والعظمة حل محلَّها الاهتمام بالعمل والتجارة والحياة الجنسية والحياة الأسرية. ولم تَعُد القيمة الروحية مسألة نخبوية، لكن أصبحت جزءًا من الوجود اليومي. إن حركة الإصلاح البروتستانتي في المقام الأول، بتوقيرها للحياة العادية، هي التي ساهمت في تلاشي الحدود بين ما هو مقدَّس وما هو دُنيوي مدنس؛ لكن تايلور عثر على أصول هذا التلاشي في العقيدة المسيحية اليهودية، بتأييدها لما هو يومي. إنَّ نفاسة الحياة اليومية هي ما جعَلَت صَلب المسيح أمرًا مأساويًّا، في حين أن سقراط قد سِيق لموته معتقدًا أنه لا يَفقد شيئًا ذا قيمة كبيرة. تُشير التضحية ضمنًا لقيمة ما يُجرى التنازل عنه. في هذا الإطار، كتب تايلور يقول: «بالنسبة للشخص المسيحي، ما يُجرى التنازل عنه بالتالي من المؤكد أنه شيء مهم.»41 وحيث إن كل ما في الحياة مرجعه الرب، فمجرد أن تكون حيًّا يعد الآن قيمة في حد ذاتها، وهو رأي لا يعارضه المحاربون الوثنيون الذين يرون أن الشرف يتجاوز بكثير مجرد الوجود.
يُقارن إيريش أورباخ في دراسته العظيمة «المحاكاة» بين الشخصيات ذات السمات النفسية البسيطة على نحوٍ جوهري في قصائد هوميروس والشخصيات الإنسانية المعقدة والمتعددة الجوانب والمتطوِّرة في النصوص اليهودية المقدسة. في هذا الشأن، يُعلِّق قائلًا: «منذ البداية، في قصص العهد القديم، يتبلور ما هو سامٍ ومأساوي ومعضِل على نحو تام فيما هو تقليدي وعادي.»42 وإذا كانت النصوص التي كتَبَها هوميروس تتناول شئون الأرستقراطية، فإن العهد القديم يَشتمل على تقدير للناس العاديِّين: «تكون حركته دائمًا ملحوظة، ويكون غالبًا في حالة اهتياج، ويؤثر على نحو مُتكرِّر في الأحداث ليس فقط على نحو كلي وإنما أيضًا على مُستوى المجموعات المنفصلة وعبر أفراد يتصدَّرون المشهد؛ يبدو أن أصول النبوة تكمن في تلقائية الناس التي لا يُمكن السيطرة عليها.»43 إنَّ تلك هي الثقافة التي خرج من تتمتِها المسيحية أول حركة عالمية يعرفها التاريخ للناس العاديِّين.

يَحثُّنا آلان باديو، كما رأينا، أن نستمر في الإخلاص للحدث الثوري. غير أنه من الخطأ تصوَّر أن المجتمع العادل يجب أن يظلَّ في حالة امتثال دائم للحظة تأسيسه. على العكس، فإن أحد مؤشرات تحرُّره يَكمن في أنه لم يعد بحاجة لتلك البطولة الأخلاقية، وبمجرد أن يتحقق الجانب «الواقعي» للثورة السياسية، تستطيع أن تدير ظهرها لتلك الدراما التراجيدية وتتمتَّع بوجود يومي مُرضٍ. هنا، كما هو الحال في العقيدة المسيحية، يجب النظر إلى الأزمة والتحول على أنهما في خدمة الوجود العام؛ فيجب اعتبار النظام الواقعي تابعًا للنظام الرمزي. لكن الاثنين أيضًا مُتناغمان في هذا الإطار؛ فمن أجل تحقيق فضيلتَي العدل والمساواة الشائعتَين غير البطوليتَين هاتَين على مستوًى عام، في ظل هذا العالم الذي نعيشه، سنحتاج ليس أقل من تحول كامل. وحتى تكون للأخلاق طلاقة النظام الخيالي — والقدرة على تحويل ما نُطلق عليه الفضيلة إلى عادة — فإنها تحتاج، من الناحية السياسية، إلى فاعلية النظام الرمزي وانضباطه الذاتي، وكذلك إلى الاضطرابات المؤلمة للنظام الواقعي.

•••

إنَّ لاكان معجب بأرسطو، لكنه يرى أن رؤيته الأخلاقية قاصرة على نحو يَصعُب إصلاحه؛ فأخلاق الفضيلة خطاب أخلاقي شديد البساطة على نحو لا يَصلُح مع أنصار أوديب وأنتيجون، وهي تتعلَّق بمسألة غير مُهمَّة مُرتبطة بالسمو أو التسامي. كما أنها تنتمي على نحو بليد للنظام الرمزي وليس للنظام الواقعي. إنها خط بحثي يجد الكثير مما يُقدِّره في الوجود الاجتماعي اليومي على نحو ليس أتباع لاكان ودريدا وباديو مُستعدِّين لتقبله. غير أن التقليد الأخلاقي الذي يمتدُّ من أرسطو يقدم تحديًا مهمًّا لزهد الواقعيِّين. وإذا نحينا جانبًا النظرة اللاجتماعية العنيدة للأخلاق الواقعية، فمن المفترض أن يبدو تيار الفكر الأخلاقي الذي يرى أن الأفعال البشرية الخيِّرة مُتضمنة على نحو عميق في الوجود الاجتماعي والسياسي جذابًا. وفي مواجهة نشوة «المتعة» المعرضة للفناء، إنه لمن المريح التحول إلى فكر أخلاقي يرى أن ما هو خير يتمثَّل في وفرة الحياة المليئة بالحيوية؛ في الإشباع الممتع للطبيعة الحيوانية المُميزة للفرد. وفي حين أن أنصار لاكان يرَوْن تمسك الفرد برغبته باعتباره غاية في حدِّ ذاتها، فإن أنصار أخلاق الفضيلة يرَوْن نفس الشيء بالنسبة للرخاء البشري. إنَّ المشكلة أن فكرة هؤلاء عن الرخاء تتمحوَر حول الذات المُتماسكة على نحو أكبر مما يستطيع الفكر الما بعد الحداثي تقبله.

عند إطلاع الفرد على الحديث عالي النَّبرة لكانط والمتعلِّق بالقانون والحقوق والواجبات والمبادئ والالتزامات، فإنه من المفترض أن يُصدَم عندما يقرأ عن أخلاق الفضيلة التي لا تهتمُّ كثيرًا بهذه الأمور (وهذا لا يعني أن الحقوق والأوامر والنواهي، حتى المُطلقة منها، من غير المفترض أن تلعب أي دور في هذه النظرية الأخلاقية). تتمحوَر الأخلاق عند كانط حول الأنا العليا، وذلك بخلاف أخلاق الفضيلة؛ وعلى الرغم من أن هذا بالطبع لا يُحرِّرنا من تلك السلطة البغيضة، فليس من الخطأ أن نرى أن أخلاق الفضيلة تزكي نمطًا من السلوك البشري على الأقل لا يُعزز تلك السلطة. إننا، في ظل أخلاق الفضيلة، في عالم من السياقات وليس من الأوامر الكهونتية، عالم من المؤسسات الاجتماعية وليس من حالات الوجود المتسامية.44 إن ما هو أخلاقي ليس بالشيء المثالي المُتعذِّر تحقيقه على نحو مغرٍ وإنما هو ممارسة مادية عامة. ولا يوجد شيء ممتنع الوصف أو مبالغ فيه بشأنه. إننا نتحدَّث عن شكل ونسيج حياة الناس العادية، وليس عن العظمة الجمالية لأفعال منفردة.

لا يجب تقييم الأفعال فقط فيما يتعلَّق بما تُحقِّقه؛ فنحن نريد أن نتصرف بطريقة معينة، وليس فقط أن نُحقِّق أوضاعًا معينة. إنَّ أخلاق الفضيلة تعيد دراسة الفعل والإرادة والشعور والنية والدافع والنتيجة وما إلى ذلك إلى نطاق «الشخصية الأخلاقية»، متناولة إياها ليس باعتبارها ظواهر مُنفردة، ولكن باعتبارها نواتج عملية تاريخية خاصة بتكوين الذات أو (إذا استخدمنا مُصطلَحًا أقدم) «الشخصية». وبمقاومتها على هذا النحو للمكافئ الأخلاقي لفكرة موت المؤلف، فإنها تُعيد تضمين الخطاب الأخلاقي في سياق الثقافة والطفولة والتنشئة والقرابة والسياسة والتعليم. وهي في ذلك أقرب إلى الرواية منها إلى القوانين مثل قانون المرور. إن التصرُّف الأخلاقي لا يعني فقط أن تفعل الشيء الصحيح، وهذا أمر يختلف فيه التيار الأخلاقي هذا عن بعض النظريات الأخلاقية الرمزية، لكن الفعل الأخلاقي لا يتحقَّق عن طريق التعاطف والشفقة، وهذا أمر يختلف فيه أيضًا هذا التيار عن بعض النظريات الأخلاقية الخيالية. إن الأخلاق بالنسبة لأرسطو هو علم الرغبة الإنسانية؛ لكن أحد أسباب تناول بعض الواقعيِّين له بتعالٍ شديد هو أن الرغبة المقصودة هي حاجة أو غاية ملموسة، وليس ذلك الشكل الحداثي من الميتافيزيقا المُتمثِّل في الرغبة فقط. صحيح أن أخلاق الفضيلة، في ظل تلك النزعة التجريبية، يمكن دائمًا أن تنزلق إلى القبول القانع بما هو موجود، وهو نفس الاتهام الذي وُجه لفتجنشتاين في أواخر مَسيرته. فيمكن بلا شك أن يكون تبني ما هو يومي محافظًا في تأثيره. مع ذلك، فقد ينتج عنه ضرر سياسي أقل على المدى البعيد مقارنةً بالرؤية التدميرية المرتبطة بالنظام الواقعي.

تميز أخلاق الفضيلة بين السمات المختلفة للفعل والشخصية، بدلًا من أن تشغل نفسها بتصنيف المسائل الأنطولوجية. وهي، بخلاف الواقعية الأخلاقية، تهتمُّ بشدة بالسعادة والرخاء والرفاهية؛ فبالنسبة لأرسطو، السعادة الإنسانية نشاط، وليس في المقام الأول حالة ذهنية. إنها شيء يجب علينا أن نُتقنه. إن الإنسان السعيد هو ذلك الذي استطاع إنجاح المشروع المحفوف بالمخاطر المتعلق بكيف يصبح إنسانًا. في النهاية، الأخلاق تتعلق بمعرفة كيفية العيش في رخاء وسرور، وليس بالإخلاص الشديد لقانون أو رغبة. إنها تتعلق بفعلك ما ترغب في فعله (وهو أمر بالتأكيد صعب جدًّا في تحديده)، وكذلك بفعلك للشيء الصحيح. إن أخلاق الفضيلة لا تَعتبر تمسُّك الفرد برغبته العميقة أو الخضوع للقانون الأخلاقي لذاته أمرَين أعلى مكانة من الرحمة أو الشفقة. إن القوانين والالتزامات مهمتان لكن يجب النظر إليهما باعتبارهما الدعائم التي يقوم عليها أي شكل للحياة، وليس كأصنام يجب الخضوع لها لذاتها. إننا لا يُمكننا أن نختزل الأخلاق لمجموعة من القواعد بنفس القدر الذي لا يمكننا فيه أن نُحوِّل على نحو كامل ثقافتنا إلى مجموعة من القوانين. أشارت سابينا لافيبوند إلى «اعتماد قوانا الخاصة بالتواصُل العقلاني على «تماثل» ليس متعلقًا بطبيعتنا؛ تماثل يتجاوَز أي التزام جماعي نحو مجموعة مشتركة من القواعد.»45 إنَّ التشابهات الخيالية وليس الالتزامات الرمزية هي الفاعلة هنا. يتضمَّن العقل العملي نوعًا من الكياسة، أو التمييز أو (كما يُسمِّيها أرسطو) «الحكمة العملية»، التي يكون من خلالها أقرب إلى النظام الخيالي منه إلى النظام الرمزي. إنه أقرب للنظام الخيالي أيضًا لأنه يرى الفضيلة متجذِّرة في المحاكاة؛ إذ يراها تبدأ من التقليد في الصغر. ولا يرى هذا التيار الأخلاقي أنَّ هناك فئة معينة من العقول يُمكنها القيام بالأفعال الأخلاقية تُسمى العقول «الأخلاقية» والتي تختلف على نحو حيوي ما عن الفئات الأخرى للعقول. في هذا الإطار، وكما يُؤكِّد برنارد ويليامز، فإن الفكر اليوناني القديم «يفتقد على نحو أساسي لمفهوم «الأخلاق» تمامًا.»46 إنَّ كانط، بحسب زعم ويليامز، هو من قدم هذا المفهوم المُثير للجدل للعالم.

هناك مشكلات تَكتنِف أخلاق الفضيلة، كما هو الحال في أي نظرية أخلاقية أخرى؛ فهي أخلاق أنثروبولوجية، تقوم في بعض الحالات على تصوُّر للطبيعة البشرية سيجده الكثيرون اليوم غير قابل للتصديق. بالإضافة إلى ذلك، لا تروق الفضائل المفضلة لأرسطو بصراحة للعقلية المعاصرة. فنموذجه الرئيسي للشخص الفاضل، ما يُطلَق عليه «الإنسان ذو الروح العظيمة»، مُتعالٍ على نحوٍ بغيض، ولا يراجع نفسه أبدًا، وهو مُكتفٍ ذاتيًّا على نحو مَغرور، ومُتكبِّر جدًّا بحيث لا يُمكن أن يدين لأحد بشيء، وهو يَحتقر الآخرين على نحو واضح. إذا كانت تلك هي الفضيلة؛ فالقليل من الرذيلة ربما يكون مفيدًا. إن مثل هذه الأخلاق يجب أيضًا أن تواجه الزعم الخاص بالتحليل النفسي القائل بأنه يوجد داخل رغباتنا اليومية ما يسعى إلى تدميرها. وفيما يَتعلَّق بتحقيق الذات، ما الذي يُمكن أن يُنظر إليه باعتباره نموذجًا حقيقيًّا لهذه الأخلاق؟ وفوق كل ما سبق، يبدو أن تلك الأخلاق لا تتضمَّن تصورًا لجوانب كثيرة من النظام الواقعي؛ فهي تَنتمي على نحو كامل للنظام الرمزي ولا تستطيع إدراك الأهمية الكاملة لأمور مثل الموت والتضحية والتراجيديا والتجريد الذاتي والضياع والرغبة والسلبية والتأزُّم والغرابة الشديدة للذات. إنها، في بعض الجوانب، أخلاق سامية جدًّا بحيث لا يُمكنها إدراك كل هذا. إن أرسطو هو أول منظِّرينا العظام فيما يتعلَّق بالتراجيديا، غير أن عملَه «الأخلاق» مُختلِف تمام الاختلاف عن عمله «فن الشعر». وما كان له أن يفهم أن الرخاء والضياع مُقترنان على نحو كبير.

رغم ذلك، هناك ما هو أكثر في فكرة الفضيلة — شيء يتَّصف بأنه «مدني» على نحو مفرط رغم أنها نادرًا ما تكون كذلك — من الإجبار العُصابي للعادة، والذي يبدو أنها الكيفية التي يراها بها جاك لاكان. إن عدم رواج أخلاق الفضيلة في أوروبا الطليعية يرتبط على نحو كبير بلا شك بتقديرها للانتظام والاستمرار والقابلية للتنبُّؤ والذات المُتماسكة. كما أنها ستبدو للبعض محافظة في تأكيدها على أعراف أسلوب حياة معيَّن؛ وهذا لا يعني أن وجود أخلاق فضيلة راديكالية مُستحيل تمامًا.47 لكن عدم رواجها يَرتبِط أيضًا بالتقليل من شأن هيجل، الذي يعد الوريث الرئيسي لهذا التيار في العصر الحديث، في مقابل التمجيد الشديد لكانط. لقد نظر العديد من الفلاسفة الأخلاقيِّين لكانط بنوع من التبجيل وهو أمر يَستحقُّه بسبب فكرة القانون الأخلاقي. إنَّ كانط بلا شك كان جذابًا أكثر من هيجل لعصر معارض لفكرة التجميع يعتقد أنه تجاوز السرديات الكبرى. وبسبب تحديده للفروق الدقيقة بين مجالات البحث، كان أيضًا ملائمًا لحقبة تتطلَّع للأخلاق بحثًا عن بديل للسياسة التي فشلت في مهمَّتها. إذا كانت السياسة قد فشلت على نحوٍ كارثي؛ إذن فالأخلاق قد تكون مصدرًا بديلًا للقيمة. لكن هيجل، التلميذ الوفي لأرسطو، لم يقُم بتلك التفرقة الدقيقة بين المجالَين. إنه في ذلك وفي لمعلمه اليوناني القديم. هناك علم يدرس الخير الأسمى للإنسان؛ وذلك كما يشير أرسطو لقارئه في بداية عمله «الأخلاق النيقوماخية»، مضيفًا على نحو مفاجئ بعض الشيء أن اسمه هو السياسة.
في حقيقة الأمر، إنَّ مسألة ما إذا كانت الأخلاق تُمثِّل «مجالًا» مُنفصلًا أم لا، وعلى أي نحو يَحدث، هو أمر يَستحق البحث. نفى جاك دريدا أنها كذلك في عمله «في الروح»، رغم أنه كان كثيرًا ما يتحدَّث عنها وكأنها كذلك. لقد كان ينظر في عمله «قوة القانون» لما هو أخلاقي وسياسي واقتصادي وغير ذلك على أنها «مجالات»، لكنه كان أيضًا يرى أنها شديدة الارتباط بعضها ببعض لدرجة أن المُصطلح الذي يُطلَق على كلٍّ منها لم يَعُد كافيًا إلى حد كبير للتعبير عنها.48 بالنسبة لسورين كيركجارد، الأخلاق بالتأكيد بعد مميز من الوجود الإنساني. ويرى مارتن هايدجر في عمله «رسالة في النزعة الإنسانية» أن مسألة «الأمور التي ينبغي فعلها» باعتبارها مجال بحث خاص قد دخلَت مُتأخِّرة إلى دائرة الفكر الإنساني، وظهرت فقط مع بزوغ الفلسفة الأفلاطونية. وتَنبع المحاولات المعقدة المتعلقة بربط الأخلاق بالسياسة في كتابات ليفيناس مِن افتراض أنهما نطاقان مُنفصلان. ويتحدَّث الناقد الأمريكي جيه هيليس عن لحظة أخلاقية في القراءة «ليست معرفية ولا سياسية ولا اجتماعية ولا شخصية، ولكن أخلاقية على نحو ملائم ومستقل.»49 سيكون من الصعب في ظل أي مفهوم مُكثَّف على نحو مَعقول للحياة الأخلاقية أن نُحدِّد شكل تلك اللحظة؛ لكن إذا تبنينا المفهوم الكانطي غير المُكثَّف للأخلاق، كما فعل ميلر، فإنها، على نحوٍ مُتوقَّع، ستتمثَّل في الواجب المُطلق. إن هذا الواجب، كما يرى ميلر، «لا يُمكن تفسيره من خلال القوى الاجتماعية والتاريخية التي تتصادَم معه.»50 ويرى الناقد بول دي مان البُعد الأخلاقي للقراءة باعتباره «قانون النص» الذي يَفرض نفسه علينا على نحو لا يُمكن تجنُّبه.
يرى سايمون كريتشلي في عمله «الأخلاق التفكيكية» أن «السياسة تبدأ كأخلاق»، وهو افتراض سأُوضِّح عدم صحته لاحقًا؛ وأن المجالين السياسي والأخلاقي مع ذلك متزامنان؛ حيث إن كلمة «تبدأ» هنا تشير لأسبقية أنطولوجية وليست زمنية؛ وأن المجتمع له بنية مزدوجة؛ فهو في نفس الوقت علاقة تُشارك بين أشخاص مُتساويين (السياسة) ونظام أقل تناسقًا يقوم على اللحظة اللامساواتية للأخلاق (الليفناسية). يعتقد كريتشلي أن النطاق السياسي «يقوم على عدم اختزالية السمو الأخلاقي … إنه شبكة مفتوحة وجمعية ومُبهمة من العلاقات الأخلاقية التي لا يُمكن تجميعها …»51 من الصعب إدراك أن السياسة قد جرى هنا بنحوٍ أو بآخَر إزاحتها من قبل الأخلاق. يَتساءل المرء على أيِّ حال، مع وضع صفات «مفتوحة» و«جمعية» و«لا يُمكِن تجميعها.» في الاعتبار عما قدَّمته الأخلاق التفكيكية المزعومة للمسألة أكثر مما تقدمه التعدُّدية الليبرالية المألوفة على نحو مُمل. يرى كينيث رينهارد أن ليفناس يَفترض وجود «فجوة مُتعذر تجاوزها» أو «معضلة أساسية» بين الأخلاق والسياسة، وأنه مُحقٌّ في ذلك؛ رغم أنه «يُمكن للحب في حدِّ ذاته أن يظهر فقط من منظور السياسة في اللاعلاقتها الراديكالية مع الأخلاق …»52 مِن المفيد معرفة أن اللاعلاقة بين الأخلاق والسياسة راديكالية وليسَت لا علاقة فقط.
يُمكن للمرء أن يقارن بين هذه الأفكار وآراء الفيلسوف هربرت مكيب الذي يَزعم أنه لا يوجد ما يُسمى بالنظر لشيء «على المستوى الأخلاقي» أو «في ضوء الأخلاق». إنَّ صحة هذا الزعم ربما تكون محلَّ شك؛ فنحن في بعض الأحيان نحتاج لتمييز «وجهة النظر الأخلاقية» عن وجهة النظر الفنية أو الجمالية أو السياسية. لكنَّه، إن جازَ لنا التعبير، يُعدُّ خطأً محمودًا؛ فالأخلاق بالنسبة لمكيب هي نقد أدبي أكثر منها تنفيذ لقواعد أو مبادئ. إنه يَعتقد أن هدفها «هو تمكيننا من الاستمتاع بالحياة على نحو أكبر عن طريق الاستجابة لها بحساسية أكبر واستكشاف أهمية الفعل الإنساني.»53 وهذا الاستِكشاف، شأنه شأن تحليل أي نص أدبي معقَّد، لا حدود له نظريًّا. إن هذا لا يعني أن مكيب يَرفض القوانين أو المبادئ الأخلاقية (في واقع الأمر، هو متشدِّد فيما يتعلَّق بالتمسُّك ببعضها)، لكن تلك الأوامر والنواهي تكون مقبولة فقط في سياق بحث أوسع ومكثَّف على نحو أكبر من الناحية المفاهيمية. تتعلَّق الأخلاق ببنية ونوعية شكل كامل من الحياة. إن هذه هي النقطة التي يجب أن ننطلق منها، وليس من الالتزامات المُطلَقة والمسئوليات اللامتناهية. إن الأخلاق والسياسة نمطا استكشاف مُختلفان، بمعنى أن كلًّا منها يفحص الوجود الاجتماعي من زاوية مختلفة؛ في حالة الأخلاق، القيم وسمات السلوك البشري والعلاقات الإنسانية؛ وفي حالة السياسة، المؤسسات العامة والعمليات الخاصة بالسلطة. غير أنه لا يوجد تمييز أنطولوجي واضح في هذا الإطار، والاختلاف منهجي أكثر منه حقيقي.
يرفض سلافوي جيجك المكانة التي أعطاها ليفيناس للعلاقة وجهًا لوجه مع الآخر الكبير.54 وهو يصرُّ، بدلًا من ذلك، مُحقًّا على أن السياسة هي الأساس الذي تقوم عليه الأخلاق، وليس العكس. إنه يَعتقِد أن العدالة تَسبق الحب وأن ما يُسمى بالطرف الثالث له الأولوية على الشخص الأكثر قربًا إلينا. غير أن الهدف من ذلك هو عكس التقابل الذي قدمه ليفيناس وليس تقويضه. إنَّ الحب الذي يُقلَّل من مُرتبته جيجك لا يزال، كما هو الحال بالنسبة لليفيناس، هو العلاقة المباشرة بين الأفراد؛ في حين أن العدالة، التي يُقدِّمها على الحب، يصفها بأنها عمياء. لكن الحب، كما رأينا من قبل، لا يتعلَّق في المقام الأول بوجود علاقة مباشرة؛ إذ نجد أن رسالة بطرس الثانية في العهد الجديد تميز بين الحب، والذي يكون غير شخصي تَمامًا، وما تُسميه «الحب الأخوي». وبعيدًا عن كون الحب يتناقَض مع العدالة، فإنه يُشبهها في كونه أعمى؛ بمعنى أنه يرفض تفضيل بعض الأشخاص على غيرهم. على الجانب الآخر، فيما يتعلَّق باهتمام العدالة بمزاعم البشر، فإنها ليست عمياء أكثر من الحب. إن القانون، شأنه شأن الحب، يجب أن يكون حساسًا لما هو محدَّد. إنَّ العدالة ليست عكس الحب، ولكن بعدًا منه. إنها تلك المجموعة الفرعية من علاقاتنا مع الآخرين التي تهتمُّ بإعطائهم حقهم حتى يمكن أن تزدهر حياتهم.
يزعم كينيث رينهارد أن «حب الجار لا يُمكن تعميمه إلى حب اجتماعي عام.»55 لكن هذا، مرة أخرى، يعني النظر إلى الحب على نحو أساسي باعتباره أمرًا شخصيًّا، وهذا هو السبب في أن من الصعب تحويله إلى شيء اجتماعي. إن هذا يتجاهل الحقيقة التي ترى أن علاقة الفرد بجاره من جانب مُهمٍّ غير شخصية؛ فحبُّك للآخَرين «من أجل المسيح» يعني أنك تُحبُّهم من أجل إنسانيتهم المجرَّدة؛ وهو تجريد لا يعني رغم ذلك الاهتمام «بهم». إن «الحب الاجتماعي العام» يبدو مثل نوع غامض من الخيرية العامة، وهي فكرة كان رينهارد محقًّا تمامًا في الشك في صحَّتها؛ لكنه أخطأ في تصور أن مقابل هذا يتمثل في حب على نحو أساسي غير شخصي.
ربما يبدو أن هناك توتُّرًا بين أخلاق الفضيلة وأخلاق الحب. إنَّ أرسطو، على سبيل المثال، أغفل على نحو مُخزٍ تضمين الإحسان في قائمة الفضائل الخاصة به. يقول آلاسدير ماكنتاير في هذا الشأن: «لا يجد أرسطو مكانًا لحب الشخص في مقابل صلاحِه أو لطفه أو نفعه.»56 بالنسبة للمسيحيِّين، حُلَّ هذا التوتُّر في أعمال توما الأكويني الذي يعد مفهومه «السعادة» نسخة من مفهوم أرسطو «الرفاهية»، غير أنها، كما رأينا من قبل، رفاهية يُمكن أن توجد بالأساس فقط في حب الرب. إنَّ ما يُطلِق عليه أنصار أرسطو الفضيلة، أو القدرة التلقائية على عمل الخير، يُسمِّيه المسيحيون الفضل. ويعني عيش حياة الفضل اكتساب العادة التلقائية الخاصة بعمل الخير على غرار الفضيلة عند أرسطو، تقريبًا بنفس الطريقة التي يؤدِّي بها الراقص الموهوب حركاته دون تعب. إنه يعدُّ عكس الالتزام الكانطي المرهق بالقانون، كما أنه مقبول على نحوٍ أكبر بكثير.
بالنسبة لذوي التوجُّه العقلي الأقل روحية، فإن التحول من الفكر الأخلاقي الأرسطي نحو أخلاق أكثر اجتماعية تمَّ من خلال هيجل وماركس. إن هيجل هو مَن وضع رغبة الفرد في تحقيق ذاته في سياق نفس الرغبة من جانب الآخرين؛ وهو بالتالي من خَلُص إلى أن كل فرد في ظل نظام اجتماعي عادِل يُمكنه تحقيق ذاته من خلال، وفي ضوء، تحقيق الآخرين لذواتهم. يصبح الآخرون السبيل والشرط لتحقيق الإنسان لفرديته. إنَّ تحقيق كل فرد لمرادِه، كما أعاد ماركس صياغة الأمر في عمله «البيان الشيوعي»، شرط لتحقيق الجميع له. ويعدُّ هذا تجسيدًا للحب بقدر علاقة الفرد مع الآخر الكبير لدى ليفيناس. إنَّ حقيقة أن الحب هنا سياسي وليس شخصيًّا لا يُهم. لذا، فإن لاكان أخطأ عندما اقتبس باستحسان مقولة مازران «السياسة هي السياسة، لكن يبقى الحب دائمًا هو الحب.»57 إنَّ الماركسية ببساطة هي محاولة التوصُّل لصورة التحول الاجتماعي المطلوبة لرخاء هذا الشكل من الحياة. وعندما يحدث هذا التحقيق الذاتي المُتبادل بين فردَين — عندما يُصبح كلٌّ منهما السبيل والأساس لرخاء حياة الآخر — فإنه يُعَرف أيضًا بالحب، سواء كان شهوانيًّا أم لا. إن الحب مُمارسة وليس في المقام الأول حالة رُوحية. إنه يتضمَّن كلًّا من الحرية والاستقلالية؛ حيث إنه يُسمَح للفرد بالتحرُّر من الخوف من أن يكون ذاته. إن الخوف، وليس الكراهية، هو الذي مُقابل الحب. وهو يتطلَّب أيضًا وجود مُساواة؛ حيث إن هذه العملية لا يُمكنها في واقع الأمر أن تحدث سوى بين أشخاص مُتساويَين. إنها مسألة متعلِّقة بما يُطلق عليه أرسطو «الصداقة». فلا يُمكن أن تكون هناك صداقة حقيقية بين الفرد وخادمه، مهما يُشرق وجه الفرد ويتحمَّس عندما يدخل عليه خادِمُه الغرفة.

إنَّ تحقيق الفرد لذاته بحيث يُوجِد مساحة للآخَرين كي يفعلوا نفس الشيء ليس بأخلاق القانون أو الواجب أو الضمير أو الالتزام، غير أنها على نحوٍ واضح أخلاق تتضمَّن هذه الأمور. إنَّها تستبعد، في واقع الأمر، أي معاملة للآخَرين لا تُؤدي لتحقيقهم لذواتهم أو لتحقيق الفرد لذاته؛ مثل الاغتصاب والتعذيب والقتل. إنَّ أوامَرَها ونواهيها مشتقة من مفهوم إيجابي للخير، بدلًا من أن تكون مُثلًا للخير للأَسمى في حدِّ ذاتها (وذلك كما هو الحال بالنسبة للقانون الأخلاقي الكانطي أو على الأقل الرغبة في الالتزام به). إنَّ فكرة التعاون المستقل التي اطَّلْعنا عليها من قبل، والتي تكون الأمور فيها منظمة بحيث — بقدر الإمكان — يُساعد تحقيقي لأهدافي على تحقيق الآخرين لأهدافهم والعكس، قد تسهم في تحقيق تلك الرؤية السامية على أرض الواقع. وهذه الأخلاق، دون شك، أخلاق مثالية، لكن هذا لا يَعيبها. وفي هذا، هي تتشابَه مع المثالية الأخلاقية الكانطية. فلا معنى لأن نضعَ لأنفسنا أهدافًا أخلاقية متدنية للغاية. ومن الصعب أن نفكر في هدف أكثر أهمية نسعى وراءه، حتى وإن كان تحقيقُه على نحو تام قد يكون مُتعذرًا. إن هذه بالتأكيد شكل من أشكال الحياة الذي يُعدُّ أكثر استحسانًا من أخلاق النظام الواقعي، حتى وإن كانت تلك الأخلاق لديها الكثير المُهم لتقوله عما قد يكون مطلوبًا لتحقيق هذا النوع من الصداقة السياسية.

إنَّ التأثُّر الشديد بالفكر الكانطي البادي في أعمال مُفكرين مثل لاكان وليفيناس ودولوز وليوتار وفوكو ودريدا، والتقدير الغريب لفكره في باريس، مستحقان تمامًا؛ لأنه يستحق أن يكون أعظم أو ثاني أعظم فيلسوفٍ في تاريخ البشرية. يَشعُر المرء أن هؤلاء المفكِّرين يرَوْن أن كانط «هو» الفلسفة الأخلاقية. غير أن هذا التبجيل أيضًا مفاجئ؛ إذ كان هناك اتجاه واضِح في العصر الحديث للهجوم على فكرة الواجب الأخلاقي، والذي كان عمل برنارد ويليامز «الأخلاق وحدود الفلسفة» من أبرز الأمثلة عليه. وبينما كان ليفيناس ودريدا وآخرون يتحدَّثون عن الالتزامات المُطلقة والمسئوليات اللانهائية، كان ويليامز وآخَرون يُشيرون إلى كيف أن هذا التقديس لفكرة الواجب يجعل الفكر الأخلاقي فقيرًا جدًّا. في هذا الإطار، كان لتفضيل فكر كانط على فكر هيجل بعض التَّبِعات الكارثية بعض الشيء؛ فالخطاب المعروف بالخطاب الأخلاقي يفترض على نحوٍ خاطئ أن الالتزام يَكمن في قلب المسألة الأخلاقية؛ وهو رأي نشره بحماس ليفيناس ودريدا، رغم كل تشكُّكِهما في الفكر الأخلاقي التقليدي. وينطبق تقريبًا نفس الشيء على اللاكانيين، الذين يَرَون، كما أوضحنا، أنَّ الالتزام المطلق المقصود ليس قانونًا أخلاقيًّا وإنما رغبة مُتعلِّقة بالوجود المميَّز للفرد. لكننا لا نهرب من استبداد شيء مفروض باستبدال إلزام بإلزام آخر. إنَّ الالتزامات، شأنها شأن المبادئ، لها دور بالتأكيد في الخطاب الأخلاقي؛ لكن باعتبارها أحد العوامل المساهمة فيه ضمن عوامل عدة أخرى، وليس بالضرورة ذلك العامل الذي يجب أن تخضع له دائمًا كل العوامل الأخرى.

إن جانبًا كبيرًا من الخطاب الأخلاقي مهووس بمسألة المبادئ والالتزامات، وورثته الطليعيون لم يَختلفوا كثيرًا في هذا الشأن. إنه يَفترض أن هناك فئة خاصة من الدوافع للفعل تُسمى الدوافع «الأخلاقية»، والتي تختلف على نحو شديد في طبيعتها عن أي دوافع أخرى. كما أنه يَميل لتصور أن تعقد المسائل الأخلاقية يُمكن اختزاله في مبدأ واحد أو مجموعة من المبادئ. وهو يدور على نحو ضيق الأفق في فلك مجموعة من المفاهيم الصارمة بعض الشيء المتمثِّلة في إصدار الأحكام ولوم الآخرين، والقبول والرفض. إن الفارق بين الفضيلة وأخلاق الفضيلة في هذا الإطار يُشبه الفارق بين الروائي المُعتمِد في أسلوبه على المواعظ والفيلسوف الواقعي. ولأنَّ الفضيلة تَعتقِد على نحو خاطئ أن أي فعل يُمكِن الحكم عليه أخلاقيًّا يجب أن يتمَّ بمحض اختيار الفرد، وأن البديل الوحيد لتلك النزعة الاختيارية هو الحتمية، فإنها خطاب يفسده تبادل الاتهامات. إنها تُمثِّل الرؤية المتشددة للوجود الإنساني التي جعلت المسيح يصب ويلات شديدة على رءوس الفريسيِّين؛ رغم أنهم، من الناحية اللاهوتية، كانوا قريبين إليه إلى حدٍّ كبير في بعض الجوانب.

إنَّ الفضيلة بهذا المعنى تتعلق بالندم وتأنيب النفس والمسئولية المطلقة. إنها السبب في وضع العديد من الأفراد على منصة الإعدام في الولايات المتحدة الأمريكية. إن الفكرة التي ترى أن الفرد مسئول مسئولية مُطلَقة عن أعماله فكرة تشترك فيها الأيديولوجيا الأمريكية مع إيمانويل ليفيناس. إنَّ أقوى أمة في التاريخ أصبحت في قبضة شكل مجنون من النزعة الاختيارية. إنَّ اللاكانيين أيضًا، بإخلاصهم الشديد للفكر الكانطي، يفترضون أن الأخلاق تتعلَّق في الواقع في الغالب بلَوم الآخَرين والندم والقانون والالتزام والواجب؛ لكن بهدف إيجاد مخرج من هذا الوضع البغيض للوجود. إنَّ هذا المَخرج يُمكن إيجاده فيما يتجاوز القانون، في أخلاق النظام الواقعي (المنظور له على نحو إيجابي). وإن لم يكن هؤلاء قد تبنَّوا على نحو رسمي هذا الشكل المُمل من الأخلاق منذ البداية، فربما ما كان عليهم أن يَلجئوا لمثل هذه المحاولات البارعة (والمستبعدة أحيانًا) للهروب منه. إن ما تشترك فيه كل من الفضيلة والأخلاق الواقعية هو نقائيتهما. إنها روحانية شبه دينية ورثها اللاكانيون من كانط؛ تلك التي يُمكن أن تراها الديانتان اليهودية والمسيحية باعتبارها أمرًا مطلوبًا بشدة في هذه الحياة الدنيا. عندما كتب سلافوي جيجك يقول إن «الحياة الدنيا ذات أهمية ثانوية» في المسيحية،58 كما لو أنَّ المسيحيين مخلوقون من مادة أخرى غير البشر الآخرين ولهم هيئة أخرى تَختلِف عنهم، فإنه نسي للحظة أن الخلاص أمر دنيوي؛ وأن جسد المسيح بعد قيامته يُنظَر إليه تقليديًّا على أنه لا يَختلف كثيرًا عن جسده عند ميلاده؛ وأن ملكوت الله يُنظر إليه تقليديًّا على أنه أرض جديدة وليس مدينة في السماء.

هناك شيء غريب على نحو مميَّز فيما يتعلق بأخذ مُفكِّرين ما بعد بِنيويِّين من أمثال دريدا وليوتار وهيليس ميلر ودي مان لحقائقهم الأخلاقية عن حكيم كونيجسبرج، كانط. فمن ناحية، كان كانط يدعو لصورة من العمومية كانت تهاجمها بشدة ما بعد البِنيوية. ومن ناحية أخرى، إنَّ هذا المدافع المتزمِّت عن الواجب والقانون سيبدو مختلفًا بشدة في نبرته ورؤيته عن نسبويي «ريف جوش» الكسالى اللعوبَين الساعين وراء المتعة. ونحن لا يُمكِن أن ندعي أن شخصيات مثل رولان بارت أو جون بودريار يُمكِن أن تدعو للالتزامات الحتمية والأوامر المطلقة. لكن هناك عددًا من الأمور التي يتَّفق فيها الفريقان؛ إذ يَشترِكان، على سبيل المثال، في نوع معيَّن من الشكلية. فكما أن القانون الأخلاقي الكانطي يَفتقِد كل المادة التي تتجاوَزه، فإن المادة بالنسبة لما بعدَ البِنيوية خاضعة لقواعد الخطاب، ولعب الدوال والفعل العَشوائي المُتمثِّل في افتراض الاختلاف أو تبدُّله الدائم. إن الفرض الكانطي للقانون على الفرد تحول على يد ما بعد البِنيويِّين إلى نسخة أخرى من العلامة ذاتية المرجع.

تَشترك النظريتان أيضًا في معارضتهما للرؤية التأسيسية. إنَّ القانون الأخلاقي الكانطي لا يَرتكِز على الإله أو الطبيعة البشرية ولكن على نفسه. إن ما بعد البِنيوية على نحو مُماثل مستعدة بالطريقة النيتشوية للعيش دون أسس مُطلَقة. لكن ما هو أخلاقي، الذي يُرى باعتباره قانونًا قهريًّا على نحوٍ غامض، يمكن أن يمدَّ هذا العالم المضطرب ببعض الأساس الذي يضمَّن له بعض الاستقرار. يكتب بول دي مان قائلًا: «الأخلاق لا علاقة لها بالإرادة (المقيَّدة أو الحرة) للذات ولا بالأحرى بالعلاقة بين الذوات.»59 وهنا يبرز، في أخلاق تتجاوز الذاتية، مظهر آخر من مظاهر التشابه بين كانط وما بعد البنيويين؛ حيث إن الذات الأخلاقية لكانط، التي لا تعدو كونها تابعًا خاضعًا للقانون، تتشابَه مع الذات غير المُتمركِزة لما بعد البِنيويِّين. وكما أن العشوائية التامة تُهمِّش الذات، فهكذا تفعل الالتزامات الحتمية الذي يَجعلها تبدو غير مهمة على نحو كبير.
إنَّ ما هو أخلاقي، في هذا السيناريو الكئيب الذي نسجه دي مان، لا علاقة له بفاعلية الإنسان أو قدرته على اتخاذ القرار. إنه بالأَحرى قوة تَفرض، مثل اللغة، نفسها علينا بكل الإلزام التعسُّفي الموجود في أي عمل درامي لإسخيلوس. يتحوَّل القانون الأخلاقي الكانطي إلى لغة أو نص؛ يقول دي مان في هذا الإطار: «ما يجعل قراءةً ما حقيقية بنحو أو بآخر هي حتمية أو ضرورة حدوثها، بصرف النظر عن رغبة القارئ أو المؤلف.»60 إذا كان دي مان يقصد أن المطلقات الأخلاقية تشبه إجبار الفرد على قراءة نص بطريقة معيَّنة؛ إذن فقد أساء فهم طبيعة تلك الالتزامات، التي يمكن بالطبع دائمًا مخالفتها. إن الإلزام عنده سيبدو طبيعيًّا أكثر منه أخلاقيًّا؛ أشبه بزلزال أكثر منه فرضًا أخلاقيًّا.
إنَّ هيليس ميلر أيضًا، شأنه شأن دي مان، ينظر إلى الأخلاق من منظور المُطْلقات والمُلزمات. إنه أيضًا يتشابه مع دي مان في إعادة صياغة أفكار كانط بأسلوب ما بعد بنيوي أكثر عصرية. إنَّ القوانين المطلقة موجودة، لكن «لا يوجد إطلاقًا أي أساس لها في المعرفة؛ أساس يخضع في النطاق المَعرفي إلى تصنيف الصحة أو الخطأ.»61 كما هو الحال مع قرارية دريدا، فإن مَلَكة الإدراك التابعة لا يُسمح لها بأن تلعب أي دور في القيمة الأخلاقية. لا يُمكن أن تَنبني القيم الأخلاقية على حسبما يكون الحال؛ لأن ذلك في حدِّ ذاته تأويل لا أساس له. ليس الأمر أن العقل الخالص والعقل العملي يجب أن يُميز بينهما على نحوٍ واضح، كما فعل أنصار كانط، لكن بالأحرى أنه لا يوجد في واقع الأمر عقل خالص في المقام الأول.

يرى أنصار كانط أن الحقائق شيء والقيم شيء آخر، أما ما بعد البِنيويِّين وأتباعهم ما بعد الحداثيِّين، فيرَوْن أنه لا يوجد فرق بين الاثنين؛ لأن الحقائق ببساطة قيم في صورة تجريبية. إنَّ قيمك هي التي ستُحدِّد ما تراه. بالنسبة لكانط، إن نوعية المعرفة التي يمكن أن تكون لدينا عن العالم التجريبي ليست من النوع الذي يُمكن أن يكون أساسًا لنظرياتنا الأخلاقية، ليس فقط لأن العالم يقوم على الحتمية والأخلاق على الحرية. وبالنسبة لما بعد البِنيويِّين، المعرفة ببساطة أمر غير مُستقر جدًّا؛ بحيث لا يمكن أن يمثل أساسًا لأي شيء على الإطلاق. في حقيقة الأمر، إنَّ هذا هو أحد أسباب تبنيهم للفكر الكانطي. لقد أشرنا في فصل سابق إلى أنه بحلول نهاية القرن التاسع عشر وجد عدد من أنصار الوضعية والحتمية العلمية والماركسية الثورية أنفسهم غير قادرين على استدعاء القيمة الأخلاقية من عالم كانوا هم أنفسهم يسعون بشدة لتفريغه من معناه؛ ومن ثَمَّ كانوا مجبرين على تضمين أجزاء مختارة من الفكر الكانطي في نظرتهم للعالم من أجل ملء الفجوة الأخلاقية التي أحدثوها هم بأنفسهم. لقد وَجَدت ما بعد البنيوية — في ظل نظرتها للعالم باعتباره الإشارة السيميائية الباقية أو الفورة الشهوانية أو لعبة السلطة — نفسَها بالمثل تسعى إلى الوصول لطريقة لاستدعاء القيم في ظلِّ هذه الظروف، وكرَّرت ما قام به سابقوها في نهاية هذا القرن في استدعائها لأفكار كانط.

صحيح أن الحقائق والقيم من ناحية مرتبطتان في الفكر ما بعد البنيوي؛ حيث اتضح أن كلتَيهما خيالات لا أساس لها. لكنَّهما من ناحية أخرى منفصلان؛ حيث إن الوضع الخيالي للحقائق من الأسباب التي تمنعنا من الاستعانة بالإبستمولوجيا للمساهمة في الأخلاق. إنَّ الالتزامات الأخلاقية والسياسية يجب أن تكون مُستقلة عن الحقائق، مع افتراض وجود حقائق في المقام الأول. هنا، يوجد انحدار مستتر من الزعم المعقول القائل بأن القيم الأخلاقية لا يُمكن ببساطة أن تتأسَّس على الحال الواقع أيًّا كان، إلى الزعم غير المعقول القائل بأن ما هو معرفي وما هو أخلاقي مُنفصلان تمامًا. ليس هذا هو الحال في أخلاق الفضيلة التي ترى أن الشخص الفاضل سيرى بالفعل الجوانب الموضوعية للوضع والتي لن يراها الشخص الأقل فضيلة، وقد يرى أن هذه الحقائق تُعدُّ سببًا كافيًا وراء ضرورة اتخاذ نوع معين من الفعل.62
لكن هيليس ميلر يرى أنه كلما قلت الحقائق التي تدخل لعالم القيم، أصبحت أحكامنا الأخلاقية أكثر نقاءً. يقول ميلر بنبرة مانح مُتحفِّظ على وشك أن يرجع فيما منحه على نحو روتيني: «لا شك أن السياسة والأخلاق دائمًا ما يَرتبطان على نحو وثيق، لكن الفعل الأخلاقي المتحدِّد بالكامل من خلال مسئوليات أو اعتبارات سياسية لم يعد أخلاقيًّا. بل يُمكن أن يُقال عنه من ناحية معينة إنه لا أخلاقي.»63 كلما ازداد الطابع السياسي لأفعالنا، أصبحت أقل أخلاقية، وهو وضع ربما كان سيُمثِّل مفاجأة بعض الشيء لمارتن لوثر كينج. إن المجال السياسي، كما هو الحال عند الواقعيين الأخلاقيين، قد انحطَّ إلى مستوًى نفعي على نحوٍ قاتم، وهكذا يكون من الصعب على نحو مفهوم ربطه بأخلاق جرى تعريفها من خلال مقارنتها به. وكلما انحطَّ مستوى ما هو سياسي، بدا ما هو أخلاقي مُتعاليًا أكثر. إن كون هذا في حد ذاته تأثير تاريخ سياسي معين هو أمر ما كان هيليس ميلر بلا شك سيَعتبره حكمًا أخلاقيًّا خالصًا.

إذن، فالأخلاق تعسفية ومطلقة في نفس الوقت، تمامًا مثل قواعد لعبة معينة. إنها أساس، لكنها ليست بأساس على الإطلاق. كما أنها لا يُمكن تجنُّبها ولا يمكن كذلك تبريرها. وكما هو الحال بالنسبة للغة، على الأقل في ضوء النظرة الما بعد بنيوية لها، فإن الأوامر الأخلاقية تمتلك القوة غير المدفوعة لما هو مبني بالكامل على نفسه. إنها أوامر متماثلة مع ذاتها على نحو مُهيمِن في عالم ليس مُتماثلًا مع ذاته. إنها تبدو تعسفية فقط لأنها تبدو أنها تصدر من لا شيء؛ إذ لا يوجد مصدر لها في المعرفة أو التاريخ أو السياسة أو الطبيعة؛ لكن هذا الغياب الظاهر للسياق هو أيضًا ما يجعلها مُطلقة أو متسامية بدرجة ما. إننا نشعر بأننا مُجبَرُون على التعامل مع هذه الأوامر باعتبارها كيانات غامضة في حد ذاتها، ومطلقة على نحو غريب في قوتها. إنها مُطلقة ليس لأنَّها مُبرَّرة على نحو قوي، لكن على وجه التحديد لأنها ليست كذلك. إن كونها مُطلقة يتناسب مع كونها مبررة؛ بحيث، كما هو الحال بالنسبة لفعل متهور لا أساس له، يبدو عدم وجود تبرير لها نوعًا فاسدًا من التبرير. فإذا لم يكن هناك سبب محدَّد للالتزام بها، فليس هناك سبب محدَّد لمُخالفتها كذلك. وهكذا، يُمكن لما بعد البنيوية أن تتجنَّب أوجه النقص الموجودة في النسبية الأخلاقية مع الاحتفاظ برؤيتها المعارضة للتأسيس. لكنَّها يمكنها فعل ذلك فقط على حساب الخلط بين المطلق وغير المدفوع.

هناك سبب آخر وراء ترحيب ما بعد البنيويين بالزعم الخاطئ القائل بأن الأخلاق تتمثل بالأساس في أوامِر ونَواهٍ ووعود والتزامات وما شابه، وهو أنه يعد باختزال مسألة الأخلاق في النطاق الأدائي المألوف بشدة بالنسبة لهم؛ إذ تحلُّ اللغة محل القانون، بحيث تحل القوة غير البشرية للغة نفسها محل الطبيعة غير البشرية للقانون الأخلاقي الكانطي؛ أي تجاهله القاسي لقُدرات الذوات البشرية. إنها أخلاق الأجناس الأدبية. وفكرة أن مصدر بشريتنا شيء غير بشري تعد فكرة حداثية تمتد من كانط إلى دريدا. إن هذا الإحلال بالتالي له تأثير على مسألة صحة الأحكام الأخلاقية؛ فالأحكام الأخلاقية تُعدُّ في حقيقة الأمر عبارات خطابية، لم يعد بالإمكان تقييم قيمة صحتها أكثر من أي نوع آخر من الفعل الكلامي الأدائي. إن الأحكام الأخلاقية، كما يرى ميلر، «افتراض لقانون أخلاقي لا أساس له، ودائمًا يكون غير عادل وغير مبرَّر؛ وبالتالي دائمًا من المُنتظَر أن يحلَّ محلَّه افتراض لقانون أخلاقي آخر أكثر قوة أو إقناعًا على نحو مؤقت، لكنه أيضًا لا أساس له.»64 سيكون من المثير للاهتمام معرفة كيف أن هذا «التحذير» قد ينطبق على الحكم المتعلِّق بقتل ماو تسي تونج لملايين من مواطنيه. إنَّ القانون الأخلاقي بالنسبة لميلر مطلق حتى يُطيح به قانون أخلاقي آخر أصلح، وعندها يتوقَّف الأول تلقائيًّا عن كونه مطلقًا. بالمثل، لم تُغيِّر الكنيسة الكاثوليكية الرومانية من فكرها قط؛ فهي ببساطة تنتقل من حالة يقين لأخرى، كما تفعل إذا أرادَت تغيير رأيها عن الإجهاض أو منع الحمل. هناك لمحة تذكِّرنا بنيتشه أو الدارونية الاجتماعية في إحلال ميلر الأقوى محل الأضعف، كما هو الحال بالنسبة لقرارية «الافتراض الذي لا أساس له» الخاص به وبدي مان. في واقع الأمر، إنَّ هذه الأخلاق بأكملها تعد مزيجًا مُثيرًا من أفكار نيتشه وكانط. كتب نيتشه في إحدى حالاته المزاجية الأقل تواضعًا يقول: «الفلاسفة الحقيقيون … قادة ومشرعون؛ إنهم يقولون: «هكذا» يجب أن يكون عليه الحال!»65 إذا لم يَعُد بالإمكان تبرير الأحكام الأخلاقية من خلال العقل أو الأدلة، فيُمكن للفرد دائمًا الرجوع للقوة البلاغية الخالصة. «فقط افعلها!» هو الشكل الذي يأخذه هذا النوع من الأمر الأخلاقي. ولأنه لا تبرره أي سلطة عقلية، فلا يمكن إنكاره لأنه لا يوجد ما يُمكن إنكاره. إن مثل هذه الأوامر ببساطة تهبط علينا على نحو غامض من أعلى. وبمجرد أن يضفي الفن بعد الحداثة هالته الموقرة، تصبح الأخلاق الشكل الجديد من التسامي في حقبة ما بعد التدين.
توجد نفس هذه القرارية الراديكالية في عمل جان فرانسوا ليوتار «مجرد لعب» والتي أدخلت تغييرًا ما بعد بِنيوي على الحظر الفلسفي المعتاد المتعلق باستخلاص ما هو معياري من عبارة وصفية. يشير ليوتار إلى أن الأخلاق والسياسة لا يُمكن أن يقوما على علم المجتمع. يتفق ميشيل فوكو مع ذلك ويضيف: «ليس من الضروري على الإطلاق الربط بين المسائل الأخلاقية والمعرفة العلمية … أعتقد أن علينا أن نتخلَّص من تلك الفكرة المتعلقة بوجود رابط تحليلي أو ضروري بين الأخلاق والبِنى الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية الأخرى».66 إنَّ الفكرة المقابلة قدمها دينيس تيرنر حين قال: «إننا نريد أن نعرف لأننا نريد أن نكون أحرارًا؛ ومن وقت لآخر، نُطلق مسمى «معرفة» على أشكال البحث التي نحتاج إليها إذا أردنا أن نُحرِّر أنفسنا من تلك المفاهيم القديمة التي تحوَّلت على مدار التاريخ إلى مفارقات تاريخية للأيديولوجيا.»67 ليست كل المعرفة، بالتأكيد، من هذا النوع السياسي؛ لكن تيرنر يرى أن النوع الحيوي من المعرفة الذي نُسمِّيه المعرفة التحرُّرية لا يُمكن بسهولة أن يتلاءم مع التقسيم الصارم بين ما هو وصفي وما هو مِعياري. ويُضيف أن الأخلاق بصورتها الكلاسيكية «استكشاف عِلمي للنظام الاجتماعي يُمكن أن ينتج قواعد للفعل.»68 ومن ثَمَّ هي عكس الأيديولوجيا. إنَّ ما قام به ماركس في أعماله، على سبيل المثال، هو استكشاف أخلاقي بالمعنى التقليدي للمُصطلح، حتى وإن فشل في معظم الأحيان في إدراك الأمر على هذا النحو. لكنه سرعان ما رأى أن هذا الاستكشاف الأخلاقي نوع من الوعظ الأخلاقي؛ مما جعله يستبعده باعتباره خطابًا أيديولوجيًّا إلى حد كبير. إنه في ذلك اتبع عن غير قصد الكانطيين والعاطفيين والليبراليين والإنجليكانيين المتشددين، الذين سعَوْا جميعًا لاختزال الأخلاق في مثل هذا الأمر عديم الفاعلية سياسيًّا.
يجب بالطبع أن تتضمَّن الأوامر الأخلاقية معتقدات عن حال العالم. فعلى سبيل المثال، لا معنى للضغط من أجل إلغاء العبودية الإقطاعية في مدينة هيمل هيمبستيد الإنجليزية، ولا يجب إغلاق المتاجر التي تبيع الفيديوهات الإباحية في المناطق التي تسكن فيها قبائل الدينكا، على الأقل الآن. لكن بالنسبة لليوتار، سيبدو أن ما هو تجريبي قد فشل في الدخول إلى المجال الأخلاقي حتى بهذا المعنى الواضح. ويؤكد في عمله «مجرد لعب» على أننا يجب أن نصدر أحكامنا «دون معايير … لقد أصدرت الحكم، وهذا كل ما يمكن قوله … أعني أنني، في كل مرة، يكون لدي اعتقاد ما، وهذا كل ما في الأمر … لكن إذا سُئلت عن المعايير التي استخدمتها في حكمي، فلن أجد إجابة أُقدمها.»69 وبعد بضع صفحات من هذا التأكيد، نجد أن ليوتار أعلن عن هذا الاستدعاء الصادم على نحو مقصود لدوجماتية الحدس بطريقة كانطية أكثر مهابة؛ إذ يخبرنا على نحو مقبول أكثر بأن الأحكام الأخلاقية والسياسية يُمكن أن تصدر «دون المرور بمنظومة مفاهيمية يُمكن أن تكون بمنزلة معيار للممارسة.»70 إنها قريبة من الفكر الجمالي لكانط منها إلى الإبستمولوجيا الخاصة به. إن القواعد الأخلاقية لا يُمكن تبريرها، وهو الأمر الذي يعد بالنسبة لليوتار جزءًا من جاذبيتها الغامضة. إن القانون الأخلاقي نتاج تسامي غير مُبرَّر. ولا توجد طريقة مبدئية أو عامة أو مفاهيمية لتحديد السبب وراء تبني شخص لتوجه أخلاقي أو سياسي بعينه. إن ما يلزمنا هو نوع من السمو الأخلاقي «المُتجاوِز على نحو مطلق لإدراكنا».71
إن هذا يُصوِّر على نحو مُحيِّر حدسًا خالصًا، ويُشير إلى أن الالتزامات الأخلاقية الأساسية ليست قرارات واعية تمامًا، وإنما هناك لمحة من الحتمية بشأنها؛ فأنت لا تستطيع تغيير نفورك من فكرة الإبادة الجماعية فقط لأنك ترغب في فعل هذا. وبهذا المعنى، فإن أكثر المواضع التي نكون فيها على طبيعتنا ليسَت على الإطلاق تلك التي نكون فيها في قمة حريتنا، على الأقل في إطار أحد المعاني المألوفة لكلمة «حرية». إنَّ هذا ربما يكون إحدى الطرق العديدة التي يُمكن من خلالها تقويض التفرقة الكانطية بين الحرية والحتمية. إن هذه التَّفرقة غير موجودة أيضًا في العقيدة المسيحية؛ فالرب في نفس الوقت المصدر الضروري لوجود الفرد والقوة التي تُتيح له أن يكون حرًّا. وفقط لأن البشر معتمدون على الرب، فإن بإمكانهم تحديد مصيرهم. يرى ليوتار أن القانون الكانطي «يرشدنا إلى معرفة ما هو عادل وما هو غير عادل. لكنه، في نهاية الأمر، يرشدنا دون أن يفعل ذلك في واقع الأمر؛ أي، دون أن يحدِّد لنا ما هو عادل.»72 وكما هو الحال في كتابات دريدا، فإن القرارية والشكلية الكانطية والاستدعاء شبه الروحي للغموض تتلاقى مع الهجوم الما بعد ماركسي على الأجندات الحتمية.

إنَّ الأخلاق، كما يقرُّ هيليس ميلر على مضض بعض الشيء، مرتبطة ارتباطًا شديدًا بالسياسة؛ لكنها أيضًا تتلوَّث بطبيعتها الفاسدة، ومن الأفضل أن تَنفصِل عنها، تمامًا كما هو الحال بالنسبة للزوج الذي تتنمَّر عليه زوجته. نجد هنا رؤية صارمة ترى السياسة والأخلاق والإبستمولوجيا باعتبارها عوالم مُنفصلة (وإن لم تكن متمايزة). إن تحرير الأخلاق من السياسة يعني استرجاع القيمة الأخلاقية من المناخ الفاسد للتاريخ في القرن العشرين. إن ما دمر البرامج والمبادئ العالمية قبل كل شيء أوهام الفاشية والستالينية. هذا بالتالي يُمثِّل آخر أوجه التلاقي بين الكانطية وما بعد البِنيوية، وهما نظريتان لأسباب شديدة الاختلاف تُحذر بشدة مما هو تاريخي. بالنسبة لأرسطو، ستكون الفضيلة غير السياسية فكرة من الصعب فهمها؛ ليس فقط لأن لديه مفهومًا مختلفًا عن الفضيلة مقارنةً، لنقل، بميلر أو لاكان، ولكن أيضًا لأنَّ لديه مفهومًا أقل توهمًا بكثير للسياسة. فكيف يمكن للمرء أن يقيِّم سمات الفعل والشخصية بمعزل عن «المدينة» التي تنتجها؟ إن الحكم الذي يعجِز عن أخذ تلك الاعتبارات في الحسبان لن ينتمي إلى نطاق الأخلاق وإنما إلى نطاق الوعظ الأخلاقي. إن الأخلاق والسياسة ليسا نطاقين منفصلين ولكن منظورين مختلفين للشيء ذاته؛ فالأولى تتناول أمورًا مثل الحاجات والرغبات والسمات الشخصية والقيم، في حين أن الثانية تتناول المواثيق وأشكال السلطة والمؤسسات والعلاقات الاجتماعية التي تكون في إطارها وحدها تلك الأشياء معقولة. هذا السبب هو الذي جعل أرسطو ينظر إلى الأخلاق باعتبارها أحد فروع السياسة. ولمعرفة بعض تبعات هذا الأمر، يُمكننا الانتقال الآن إلى خاتمة الكتاب.

هوامش

(1) For a further discussion, see Terry Eagleton, The Idea of Culture (Oxford, 2000), Ch. 5.
(2) See Jürgen Habermas, ‘Modernity: An Incomplete Project’, in Hal Foster (ed.), Postmodern Culture (London, 1985).
(3) For a useful survey, see Michael Sheringham, Everyday Life: Theories and Practices from Surrealism to the Present (Oxford, 2006).
(4) Henri Lefebvre, Critique of Everyday Life (London, 1991), vol. 1, p. 133.
(5) Franco Moretti, The Way of the World (London, 1987), p. 35.
(6) See Guy Debord, Society of the Spectacle (Detroit, 1970).
(7) Lefebvre, Critique of Everyday Life, vol. 1, pp. 130, 264.
(8) See Terry Eagleton, ‘Wittgenstein’s Friends’, in Against the Grain: Selected Essays 1975–1985 (London, 1986).
(9) Jonathan Rée, Times Literary Supplement (20 October 2006), p. 14.
(10) Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis (London, 1999), p. 13.
(11) William Empson, Some Versions of Pastoral (London, 1966), p. 114.
(12) See Alenka Zupančič, Ethics of the Real (London, 2000), p. 85.
(13) Ibid., p. 94.
(14) Sylviane Agacinski, ‘We Are Not Sublime: Love and Sacrifice, Abraham and Ourselves’, in Jonathan Rée and Jane Chamberlain (eds), Kierkegaard: A Critical Reader (Oxford, 1998), pp. 129, 130.
(15) George Steiner, ‘The Wound of Negativity: Two Kierkegaard Texts’, in Rée and Chamberlain, Kierkegaard, p. 105.
(16) Ibid., p. 108.
(17) For an excellent account, see Francis Mulhern, Culture/Metaculture (London, 2000).
(18) See Terry Eagleton, The Illusions of Postmodernism (Oxford, 1996), Ch. 4.
(19) D. H. Lawrence, ‘Democracy’, in Selected Essays (Harmondsworth, 1962), p. 91.
(20) D. H. Lawrence, Fantasia of the Unconscious (New York, 1967), p. 34.
(21) See Terry Eagleton, Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003), especially Chs 1 & 2.
(22) George Steiner, The Death of Tragedy (London, 1961), p. 243.
(23) Jacques Lacan, The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis (London, 1977), p. 276.
(24) Eric Santner, ‘Miracles Happen: Benjamin, Rosenzweig, Freud, and the Matter of the Neighbor’, in S. Žižek, E. Santner and K. Reinhard (eds), The Neighbor (Chicago and London, 2005), p. 133.
(25) For an excellent critique of Lacanian ethics from the viewpoint of comedy, see Simon Critchley, Ethics-Politics-Subjectivity (London, 1999), Ch. 10.
(26) Graham Pechey, Mikhail Bakhtin: The Word in the World (London, 2007), p. 155.
(27) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 323.
(28) Zupančič, Ethics of the Real, p. 23.
(29) Catherine Chalier, What Ought I To Do? Morality in Kant and Levinas (Ithaca, NY, 2002), p. 133.
(30) See, for example, Emmanuel Levinas, Noms propres (Montpellier, 1976), p. 169.
(31) Kenneth Reinhard, ‘Towards a Political Theology of the Neighbor’, in Žižek, Santner and Reinhard, The Neighbor, p. 48.
(32) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 267.
(33) Zupančič, Ethics of the Real, p. 95.
(34) Slavoj Žižek, The Ticklish Subject (London, 1999), p. 143.
(35) Ibid., p. 321.
(36) Ibid., p. 319.
(37) Ibid. p. 320.
(38) Bernard Williams, Ethics and the Limits of Philosophy (Cambridge, MA, 1985), p. 46.
(39) Søren Kierkegaard, Fear and Trembling and The Sickness Unto Death, ed. Walter Lowrie (New York, 1954), p. 70.
(40) Charles Taylor, Sources of the Self (Cambridge, 1989), p. 213.
(41) Ibid., p. 219.
(42) Erich Auerbach, Mimesis: The Representation of Reality in Western Literature (Princeton, NJ and Oxford, 2003), p. 2.
(43) Ibid., p. 21.
(44) For a valuable account, see Rosalind Hursthouse, On Virtue Ethics (Oxford, 1999).
(45) Sabina Lovibond, Ethical Formation (Cambridge, MA and London, 2002), p. 30.
(46) Bernard Williams, ‘Philosophy’, in M. Finley (ed.), The Legacy of Greece, 202–55 (Oxford, 1981), p. 251.
(47) See, for example, Lovibond’s excellent study, Ethical Formation.
(48) Derrida, ‘Force of Law’, p. 257.
(49) J. Hillis Miller, The Ethics of Reading (New York, 1987), p. 1.
(50) Ibid., p. 8.
(51) Simon Critchley, The Ethics of Deconstruction (Oxford, 1992), p. 225.
(52) Reinhard, ‘Towards a Political Theology of the Neighbor’, p. 49.
(53) Herbert McCabe, Law, Love and Language (London, 1968), p. 95.
(54) Slavoj Žižek, ‘Neighbors and Other Monsters: A Plea for Ethical Violence’, in Žižek, Santner and Reinhard (eds), The Neighbor, p. 181.
(55) Reinhard, ‘Towards a Political Theology of the Neighbor’, p. 49.
(56) Alasdair MacIntyre, A Short History of Ethics (London, 1968), p. 80.
(57) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 324.
(58) Žižek, ‘Neighbors and Other Monsters’, p. 150.
(59) Paul de Man, Allegories of Reading (New Haven, CT and London, 1979), p. 206.
(60) Paul de Man, Foreword to Carol Jacobs, The Dissimulating Harmony (Baltimore, MD and London, 1978), p. xi.
(61) Hillis Miller, Ethics of Reading, p. 48.
(62) The latter case is argued by John McDowell in ‘Are Moral Requirements Hypothetical Imperatives?’, Proceedings of the Aristotelian Society, supp. vol. 52 (1978).
(63) Hillis Miller, Ethics of Reading, p. 4.
(64) Ibid., p. 55.
(65) Friedrich Nietzsche, Beyond Good and Evil, in W. Kaufmann (ed.), Basic Writings of Nietzsche (New York, 1968), p. 326.
(66) Michel Foucault, ‘On the Genealogy of Ethics’, in Paul Rabinow (ed.), The Foucault Reader (New York, 1984), pp. 349-50.
(67) Denys Turner, Marxism and Christianity (Oxford, 1983), p. 113.
(68) Ibid., p. 85.
(69) Jean-François Lyotard and Jean-Loup Thébaud, Just Gaming (Minneapolis, 1985), pp. 14-15.
(70) Ibid., p. 18.
(71) Ibid., p. 71.
(72) Ibid., p. 77.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤