الفصل الثاني

فرانسيس هتشسون وديفيد هيوم

في معظم الكتابات التي تناولت فلسفة القرن الثامن عشر، ليس لفرانسيس هتشسون مكانة كبيرة مثل الفيلسوف العظيم ديفيد هيوم،1 إلا أن هذا الرجل القادم من أولستر الذي يُعدُّ أبا الفلسفة الاسكتلندية علَّم هيوم كثيرًا مما عرف، كما كان له عميق الأثر في الكتابات قبل النقدية لإيمانويل كانط، كما اعتنق تلميذه آدم سميث مذهبَه الاقتصادي، وهو ما ساعَد على وضع أسُس العالم الحديث. وبوصفه جمهوريًّا من أتباع هارنجتون حتَّى النخاع تبنى اتجاهًا ليبراليًّا راديكاليًّا يقف في صف المقهورين للإطاحة بالسلطة الظالمة؛ فقد كان له تأثير كبير في توماس جيفرسون، وبذلك أصبح مشاركًا فكريًّا رياديًّا في الثورة الأمريكية. وكان كتابه «مقدمة قصيرة عن الفلسفة الأخلاقية» يُصَدَّر بانتظام إلى أمريكا عشية الثورة، ونُشرت نسخة أمريكية من النص في عام ١٧٨٨.
أُعيد تصدير أفكار هتشسون إلى موطنه أيرلندا في أفكار جمعية الأيرلنديين المتَّحدين ذات النزعة التمرُّدية. وربما تأثَّر إدموند بيرك هو الآخر ببعض كتاباته، وهو ما يجعله رائدًا من بعيدٍ للقومية الرومانسية، إلا أنه كان من كبار من حملوا شعلة التنوير في أولستر، وهي أكثر الثقافات الراديكالية ثراءً من بين ما شهدته أيرلندا، بمزيجها القوي من مذهب لوك العقلي والمذهب الجمهوري الكلاسيكي والمذهب المشيخي الراديكالي والليبرتارية السياسية. قال هتشسون، باعتباره غريمًا عنيدًا لتوماس هوبز، إنَّ حالة الطبيعة كانت أميل للحرية أكثر من الفوضى. ونادى بالمساواة الطبيعية بين كل البشر، وكان إنسانويًّا مدنيًّا ذا صبغة تقليدية، وآمن بأن المصلحة العامة هي أسمى غاية أخلاقية؛ إلا أن أكثر إنجازاته تجديدًا هو ترجمته لِلُغة المذهب الجمهوري الكلاسيكي — بحديثها عن الواجب ورُوح الخدمة العامة والمسئولية السياسية — إلى الخطاب المُختلِف تمامًا، الخاص بالأخلاق وعلم النفس في القرن الثامن عشر. وناصَرَ حقوق المرأة والطفل والخدم والعبيد والحيوانات، وتحدث عن الزواج باعتباره علاقة شراكة مُتكافئة، وذكر أن «السُّلطات الممنوحة للأزواج بموجب القوانين المدنية في عدة بلاد سُلطات وحشية.»2 فالحسُّ الأخلاقي — كما يؤكد في كتابه «نظام الفلسفة الأخلاقية» — ملَكة ديمقراطية توجد لدى البالغين والأطفال والأميين والمثقَّفين على حَدٍّ سواء. وهناك قاسم من العاطفة الأخلاقية التي تكسر حواجز الفروق الاجتماعية، كما كشف على نحو مميَّز عن سلوك مستنير تجاه الثقافات غير الغربية، باحثًا «عن مظاهر للعاطفة والاحترام والحسِّ الأخلاقي عند أهل المُستعمَرات البريطانية الذين اعتُبروا همجًا في السابق.»3 وعلى الرغم من كلِّ هذا فإن ذكرى المائة الثالثة من ميلاده التي كانت منذ عدة أعوام، مرَّت دون اهتمام يُذكر.
وُلد هتشسون في مقاطعة داون عام ١٦٩٤ حفيدًا لرجل اسكتلندي، وبما أنه ليبرالي أو من أتباع المشيخية الجديدة، فقد تعلَّم في بلفاست وجلاسجو، ودرَّس لبعض الوقت في أكاديمية منشقَّة في دبلن؛ حيث أصبح واحدًا من زمرة المفكِّرين التقدميِّين الذين التفوا حول النبيل والتاجر والدبلوماسي الليبرالي روبرت مولزوورث الذي هو تلميذ لجون لوك. وقد جذبت الليبرالية الدينية لمولزوورث انتباه إيرل شافتسبري التي شكلت كتاباته في الأخلاق والجمال فيما بعد محاور بحث أعمال هتشسون. وفي النهاية، عاد هتشسون إلى جلاسجو ليتولى منصب أستاذ الفلسفة الأخلاقية. كما شغل منصب كاهن لفترة قصيرة في مقاطعة أرما، رغم أن رعيته المشيخية الملتزمة رأت أن مذهبه في اللاهوت أكثر تحررًا مما يُمكنهم قبوله، وشكا رجل ساخط من تلك الرعية، كان قد هرَب من جرعته الأسبوعية من الحديث عن الجحيم والعذاب في ظلِّ الحرمان، من أن هتشسون كان رجلًا «خسيسًا سخيفًا»، وكان «يثرثر» أمامهم طوال ساعة عن رب محسن كريم دون أي كلمة عن المُعتقَدات القديمة «المعتادة» عن الاختيار الإلهي والرفض الإلهي والخطيئة الأولى والموت.4 وهذا الخسيس اعتُقل مرتين في أثناءِ تدريسه في أكاديميته بدبلن حيث عمل إلى جانب ابن ويليام درينان، أحد مؤسسي جمعية الأيرلنديين المتَّحدين. كما حُوكمَ مرةً بتهمة الهَرْطَقَة في أثناءِ تدريسه بجلاسجو.
كان شافتسبري — الذي خالف منطق جزء كبير من الفكر الأخلاقي في القرن السابع عشر — هو من استمدَّ منه هتشسون فكرة الحس الأخلاقي؛ رغم أن ما جاء تأكيدًا عند الأول أصبح قضية فلسفية مُتكاملة عند الأخير. كما كان شافتسبري هو من أنقذ مفهوم السرور أو الإحساس باللذة بالمُخالطة الاجتماعية بدلًا من المصلحة الشخصية، فليس هناك ما هو أحبُّ إلينا — كما يقول — من حالة العقل «تحت تأثير مشاعر حبٍّ أو امتنان أو سماحة أو سخاءٍ أو شفقة أو مساعَدة أو غيرها من المشاعر ذات الطبيعة الاجتماعية أو الودودة.»5 وتمثِّل قضية شافتسبري خطَّ دفاع أرستقراطيًّا أخيرًا أمام أخلاق حب الذات البرجوازية، وكذلك أمام النقد الأفلاطوني الجديد للمذهب التجريبي، فحتى الفاسق — كما يزعم وقد تسلَّل إليه بعض اليأس — لا يزال به قدر ما من المودة؛ فالفاسق إذن خير من السِّكِّير؛ إذ إن الأول على الأقل يشرب حتى الثُّمَالة وهو في صحبة.
إن الفضيلة عند شافتسبري شأن حواري؛ أي مسألة انعكاسٍ متبادَل للأفعال، فنحن نستمتع بالخير «بتلقِّيه، كما لو كان بالانعكاس أو عن طريق المشاركة في نفع الآخرين.»6 فالمحاكاة مسألة تبادلية أو جدلية؛ فأفعالنا الكريمة هي سبب الاستحسان عند الآخرين الذين يزيد تقديرُهم لتلك الأفعال سرورَنا نحن. في الحقيقة، إن سلوكنا مُوَجَّهٌ دائمًا تقريبًا نحو الآخَر، وبذلك يتحوَّل إلى واقع: «إن هذا الشعور المريح بالأمل في الصداقة وتوقُّعها هو ما تتعلَّق به كل أفعالنا.»7 إلا أنَّ أثمن أوجُه الصداقة ليس مع الآخر بمعنى فردي بل مع الآخر الكبير؛ أي الآخر بمعنى جماعي؛ إذ يتساءل: «أي ثقة يمكن أن توجد في مجرَّد الهوى العابر أو الانجذاب المتقلِّب؟ ومن يمكنه الاعتماد على صداقة ليست مبنية على أي قاعدة أخلاقية بل موجَّهة لشخص مفرد أو جزء صغير من البشرية لا يَشمل المجتمع والكل؟»8 فالأخلاق العاطفية أكثر من مجرد وهم عابر أو نزوة خاصة. وفي النهاية فإن التقدير الذي نسعى إليه ليس تقدير أي شخص منفرد بل تقدير الآخر الكبير أو النظام الاجتماعي ككل.

•••

إن كل كتابات هتشسون هي هجوم مُرَكَّز على الأنانية الفلسفية؛ إذ يعترض في كتابه «تأملات في الضحك» قائلًا إن هوبز «أغفل كل ما هو كريم وسَمْح في بني البشر، ويقدم الناس من وجهة نظر وَغْد بِحَقٍّ أو جبان يشك في أن كل روابط الصداقة أو الحب أو العواطف الاجتماعية هي نفاق أو مصلحة شخصية أو خوف.»9 والكتاب نفسه — بعنوانه الباختيني — يُقصد به مواجهة نظرة هوبز للضحك باعتباره علامة على المكانة؛ إذ لم تكن الأبحاث التي تتناول الضَّحِك أكثر أنواع الأبحاث انتشارًا بين المشيخيِّين في أولستر. ومن الصعب بنفس الدرجة أن نتصور ديكارت أو فريجه يُجْرِي مثل هذه الدراسة، فالفضيلة عند هتشسون ليست متعلِّقة بحساب مصلحة النفس؛ حيث إنها ليست مسألة حسابية على الإطلاق، بل توجد ملَكة خاصة في داخلنا — الحس الأخلاقي — تُقر الأفعال الإيثارية وتُنكِر الأفعال القاسية تلقائيًّا من دون أدنى إشارة إلى مصلحتنا أو منفعتنا الشخصية. فهناك — كما يقول — «شيء غريزي سابق على العقل المبني على المصلحة يدفعنا لحب الآخرين.»10 إذن؛ فالحسُّ الأخلاقي — ذلك السرور الفوري المتَّقِد المنكِر للذات الذي نَجْنِيه من رؤية فعل فاضل — يعمل عمل ما قبل الفهم عند هايدجر، فهو الشيء الذي يكون موجودًا بالفعل بمجرد أن نبدأ في التفكير، ذلك الذي لا يُمكننا باعتبارنا عناصر فاعلة أخلاقية أن نعود لما قبله؛ حيث إنه يعرف ما نعتبره استجابة أخلاقية في المقام الأول. وقد جَرَتْ محاولات مؤخرًا لإعادة إحياءِ هذه الفكرة وبنائها على أسس تبدو أكثر علمية.11
يقول هتشسون: «إننا بقوة الطبيعة ذاتها، السابقة على أي تفكير أو تأمل، نسعد برخاءِ الآخرين ونحزن معهم في مِحَنهم … من دون أي نظر لمصلحتنا الشخصية.»12 ويعد الدكتور بريمروز — بطل رواية «قس ويكفيلد» لجولدسميث — متلقيًا خبيرًا يُقَدِّر لَفتات الآخرين السخية. أو مرة أخرى:
بمجرد أن نرى أي فعل يَنبع من الحب والإنسانية والإحسان والرحمة والنظر في نفع الآخرين والسرور بسعادتهم، حتى وإن كان في أقصى بقاع الأرض أو في زمن قد خَلَا، فإننا نشعر بلذة بداخلنا ونُعجب بالفعل الجميل ونُثني على صاحبه. وفي المقابل فكل فعل ينبع من البغضاء والتلذُّذ بمعاناة الآخرين أو الجحود يثير الاشمئزاز والنُّفور.13

تتضمن تلك النظرة الأخلاقية نوعًا من الأثر الانعكاسي؛ حيث إن إحساسنا المنَزَّه عن المصلحة بالألم أو السرور يعكس مشاعر الفاعل الذي نشاهده؛ فالتجرد مع الشخص الآخر يؤدي إلى إعادة تجسيده في أنفسنا، فيُربِّع قيمته إن جاز التعبير، فهالة الرضا لدينا التي تنتج من مشاهدة إحسان شخص آخر هي أحد مظاهر عين الإحسان الذي أمامها؛ إذ يوجد نوع من المحاكاة الطبيعية أو التجاذب المغناطيسي بين النُّفوس؛ محاكاة سابقة على العقل مثل عالم النظام الخيالي ذاته. ومن دون هذه الاستجابة، لا يرقى الفعل عند هتشسون لأن يكون أخلاقيًّا على الإطلاق. إن ما نشعر به حيال تصرف معين هو ما يُساعد على تحديد ما إذا كان تصرفًا فاضلًا أم لا، مثلما قد يساعد الراصد على وقوع أحداث معيَّنة في عالم فيزياء الكم، فربما لا يُعتبر الفعل غير المرصود فعلًا فاضلًا كالشجرة التي تسقط دون صوت في غابة مهجورة، فما يجعل فعلًا ما ذا سِمَة أخلاقية هو علاقته بالمشاعر والعواطف وليس مجرد تصرف مادي. كما هو الحال بالنسبة لبعض فلاسفة الأخلاق الآخرين في القرن الثامن عشر، فإن هذه أخلاق تعتمد على المشاهد بقدر ما تعتمد على الصورة المرصودة؛ إذ ينظر هتشسون للفضيلة والرذيلة في ضوء استجابتنا لسلوك الآخرين وليس في ضوء سلوكنا نحن في المقام الأول، فقضية الأخلاق عنده لا تُعنى ﺑ «ما يجب أن تفعله» بقدر ما تُعنى ﺑ «ما تشعر به حيال فعلك أنت.»

يتمنى الرجال والنساء السعادة بطبيعتهم؛ وبما أن ملذَّات الفضيلة العامة في نظرة هتشسون تمثل أكبر سعادة يمكن نَيْلُها، فلا يمكن أن يوجد أي تمييز على شاكلة تمييز كانط بين الرغبة الشخصية والالتزام الاجتماعي. بل يَربط الحس الأخلاقي هاتين الدائرتين معًا؛ حيث إن أنماط السلوك النافعة على المستوى الاجتماعي وَحْدَها هي التي تُسبِّب أكبر مشاعر بالسعادة الشخصية، إلا أننا لا نتصرَّف باسم المتعة الشخصية؛ إذ يكتب هتشسون قائلًا: «إن إحساسنا بالسرور سابق على المنفعة أو المصلحة، وهو الأساس الذي تَنبني عليه.»14 وبذلك يُفصل مفهوم السرور أو اللذة عن أتباع مذهب اللذة الشخصية، فالخير ليس في مجرد ما يُشعرني بالرضا وإن كان الشعور بالرضا أصيلًا فيه.
هتشسون إذن هو المثال الأكثر جاذبية لفيلسوف الأخلاق، الفيلسوف الذي يُدرك، مثل أرسطو أو توما الأكويني، أن الخطاب الأخلاقي هو استقصاءٌ لكيفية العيش المُمتع المتَّسِم بالسَّعَة مع تحقيق أصدق الرغبات التي توجد لدينا. لكن من بين اختلافاته الرئيسية عن أرسطو هو إيمانه بأن الفضيلة نزعة محلها القلب وليس العمل؛ إلا أن ما قاله جاك لاكان عن اللذة عند أرسطو — من أنه «نشاط يُشبه التورُّد الناتج عن نشاط الشباب، فهو إن شئت أن تقول وَهَج»15 — يمكن قوله عن هتشسون هو الآخر؛ فالفضيلة عند هذا الفيلسوف المشيخي ذي الفكر المتحرِّر مسألة ذَوْق وسماحة واستقامة معيشة كبيرة، لدرجة أن أقرب تشبيه لها هو حضور حفل عشاءٍ ناجح لأبعد حد، فالفرد يتلذَّذ بطيبة قلب شخص آخر كما يَلتهم صحنًا كبيرًا من الجمبري اللذيذ. فكما هو الحال بالنسبة لستيرن، الفضيلة نوع من الكوميديا، فهي رُوح احتفالية تقي من البيوريتانية الجافة، فالكوميديا تُبَشِّر بعالم مستقبلي أكثر بهجة، وهي نوع من العلاج عند تحقُّقه. ويبدو أن بعض مفكِّري القرن الثامن عشر يُولُونَ البهجة نَفْس التقدير الذي يُولُونَهُ للخير، ويَرَوْنَ بالتأكيد تشابهًا بينهما، فالضحك عند هتشسون — مثل ميكائيل باختين — نمط من أنماط التضامن الإنساني؛ حيث إننا «نُسر بإدخال البهجة على الآخرين … في الوقت الذي نستمتع فيه بمحادثة سارَّةٍ مُنتعِشة ببعض الضحك.»16 فالضَّحك نموذج من الفضيلة لأسباب ليس أقلها أن الضحك يتم للضحك؛ فنَوبات المحادثات هي حالات من انتشار عدوى الفضيلة والنشاط الاجتماعي المُفعَم بالحيوية، لذة في حد ذاته، في حين أن الفيلسوف الساخر ماندفيل يرى أن الناس يحبُّون الصُّحبة من أجل الترويج للذات والمُتعة الأنانية.
هذا ربما ما يَسوء هتشسون في نظرية هوبز عن الضحك؛ إذ لم يَقتصِر الأمر على كونها سادية بغيضة — حيث إننا نتهكَّم على أولئك الأقل حظًّا منا — بل إنها أيضًا تخدم السلطة وليست غاية في ذاتها. ويكتب هتشسون ساخرًا في رده على هوبز: «إنه لشيء مؤسِف أنه ليس لدينا دار مسنين أو مستشفًى للمصابين بالجذام نلجأ إليه في الطقس الغائم لنقضيَ النهار في الضحك على هذه الأشياء الدونية …»17 وبالنظر إلى ما يقوله أتباع هوبز، يتساءل هتشسون: لماذا لا يَجمعون الكائنات الأدنى كالبُوم والقواقع والمحار «ليَضحكوا عليها»؟ ويُمكن الزعم بأن هتشسون يرد على هوبز كما قد يَشعُر الإنسانوي المعاصر حِيالَ كتاب فرويد عن النِّكات. كما أنه بأسلوبه الجمهوري يَعتبر الضحك نوعًا من فضح الزيف وتفريغ لفقاعة العظمة الزائفة أو السقوط الاحتفالي من الأسمى إلى الأدنى، فهو يعتبر — كما هو الحال بالنسبة لسلسلة مبجلة من الكُتاب الأيرلنديين من سويفت إلى بيكيت — أن ما هو كوميدي هو الهزلي قبل كل شيء. لكن المُزحة أو الفكاهة الظريفة إن قيلت فهي أيضًا علامة على النظام الخيالي، على ذلك البعد من الحياة الإنسانية الذي يكون فيه التواصُل مع الآخرين مباشرًا وبَدَهِيًّا دون أي جهد إدراكي مُضْنٍ الذي هو عبء العقل، فالفكاهة هي صدى مملكة الرب في الأرض.
إن الإنسان الخيِّر نوع من المبتهج الروحاني لدرجة يصعب معها التمييز بين الإحسان والمخالطة الاجتماعية؛ فهناك سِمَة هيلينية مُبتهِجة في تلك المنظومة الأخلاقية، سمة مُقيِّدة ومغرية معًا، فمن السهل مشاركة مشاعر شخص آخر إن كنت تتردَّد معه على نفس المقهى. لكن هتشسون يتجاوز بكثير مرحلة الإنسان الاجتماعي القانع؛ إذ يردُّ على الذين يتهمون الأخلاق العاطفية بأنها ليست إلا نوعًا من الخيال الأخلاقي الطريف مُصرًّا على أن ما يجعل الشخصية فاضلة ليس «بعض التحرُّكات العارضة للعاطفة» بل «إنسانية ثابتة أو رغبة في المصلحة العامة للجميع».18 وإن كان الحس الأخلاقي الغامض يَقترب من الملَكة الجمالية، فليس السبب في ذلك أن الفضيلة مسألة ذَوْق؛ بل لأنه — كالفن — يحمل قيمته في ذاته وليس في قضية عقاب أو ثواب أو التزام أو مصلحة شخصية أو تشريع إلهي. وفي الحقيقة قد تصحُّ هذه المقارنة على نطاق أوسع؛ إذ إن الفضيلة والفن كلاهما يتضمن ملَكة تتجاوز نطاق المنطق البَحْت، وكلاهما يتعلَّق بالسرور والإشباع الذاتي. وكلا النشاطين يتعاملان مع الحس والإدراك (وهو المعنى الأصلي لكلمة Aesthetic أو جمالي في الإنجليزية)، وكلاهما يستحضر الخيال المنَزَّه عن المصلحة أو المتعاطف.
يكتب هتشسون قائلًا: «يَستحسِن الناس الخير الذي يكون دون مقابل أو مصلحة أيما استحسان.»19 فيقول إنك لو كنت تسعى فعلًا للمتعة، فدعك من رضاكَ الشخصي وانصهِرْ في اتحاد خيالي مع الحياة العاطفية للآخرين. وستكون النتيجة شعورًا باللذة أقوى مما عداه طالَما فُهِمَ أن التعاطف مع الآخرين من أجل تحصيل السرور الناتج عنه وَحْدَهُ يأتي بنتائج عكسية، فهذا يُشبه شرب الخمر لمجرد السُّكْر، وهو ما سيُذْهِب على الأرجح لَذَّتَكَ به على المدى الطويل؛ فالفضيلة باختصار تخلو من العائد وتحقِّق رضا النفس وتحمل غايتها في ذاتها وتتخطَّى حدود العقل، وهي العدو اللدود للمصلحة الشخصية. وهي بذلك تُمثِّل نقدًا للنظام الاجتماعي الذي تَرجُح فيه كفة النفع على المتعة، ويعتبر فيه التفكير عملية حسابية، وتكاد اللذة تكون إثمًا، وتسود فيه المصلحة الشخصية ولا يكاد يُفعل فيه شيء لِذَاتِهِ، فمثل هذا المجتمع لا يدرِك أن انعدام الغرض — كما قد يقول أوسكار وايلد — ضرب من التقوى. إلا أن علينا أن نضيف أن الفضيلة إن كانت هي المكافأة في ذاتها فهي إذن عقيدة غاية في الملائمة تحظى بإجلال أخلاقي؛ حيث إنها من المرجح أنها تجني جزاءً ثمينًا آخر في العالم الذي صنعناه؛ فهي كالمُتشرِّدين الذين ينتهي بهم الحال في مناصب وزارية، فحصول الصالحين والطالحين كلٌّ على جزائه الذي يستحقه يزيد الآن اقتصاره على الرواية، وحتَّى الرواية غالبًا ما تأتي بمفارقة مناسبة حيالها. صحيح كذلك أن النظرية القائلة إن الفضيلة يجب أن تُحقِّق المنفعة صدمت الفكر الأرستقراطي نوعًا ما في القرن الثامن عشر باعتبارها نظرية سوقية لا سبيل إلى تقويمها.
إن التنزه عن المصلحة — ذلك الوحش المرعب لدى اليسار الثقافي المعاصر — تحوَّل لشكل من أشكال المقاومة لعالم التجارة على يد هتشسون؛ فالفردية التملُّكية لا يمكنها تفسير «الأفعال الأساسية التي تشكل أركان الحياة البشرية؛ كالصداقة والعرفان والعواطف الطبيعية والكرم ورُوح الخدمة العامة والرحمة.»20 إذ يُبيِّن هتشسون أنه في المشاريع المشتركة بين التجار تقاطع للمصالح لكن لا عاطفة بالضَّرورة؛ فالتاجر عندها لا يُعنى بسلوك أقرانه إلا لأن مصالحه نفسها محلُّ اعتبار. أما بين الآباء والأبناء في المقابل فتوجد عاطفة لكن لا تَقاطُع للمصالح؛ فالأبوان لا يسقيان أولادهما ليَرويا عطشهما هما؛ فالتنزه عن المصلحة ليس صورة من التجرد الزائف، بل مسألة إسقاط للنفس بقوة الخيال التعاطفي في احتياجات الآخرين ومصالحهم. وبوصفه شأنًا أخلاقيًّا وإدراكيًّا معًا،21 فهو يَعني عدم المبالاة بالاهتمامات الشخصية وليس اهتمامات الآخرين؛ إذ يتضمَّن — كما يحدث مع الراوي الذي يعلم كل شيء في الروايات الأدبية — تنَحِّينا الممتع عن التركيز على ذواتنا والدخول في الدوائر الذاتية المُنغلِقة ظاهرًا لدى الآخرين من حولنا، فهو ملكة خيالية بمَنظور لاكان. فالأخلاق — كالمحاكاة الفنية — تتضمَّن تقمُّص الحالة الداخلية للآخرين أو تمثيلها، كما تمثل نوعًا من الحب باعتبارها رغبة إيثارية في فائدتهم. واستحسان وجود نزعة خالية من المصلحة يعني أن نحب مَن يُحب. يقول هتشسون في عمله «تحقيق عن الخير والشر الأخلاقِيَّيْنِ»: «إن كلمة الخير الأخلاقي ترمز إلى فكرتنا عن صفة ما تتضح في الفعل تؤدي إلى الشعور بالاستحسان والحب تجاه صاحبه لدى من لا يعود عليهم أي نفع من الفعل.»22 ويقصد من العبارة الأولى في الجملة أن تكون ردًّا على مذهب الذاتية؛ إذ لا يزعم هتشسون كما عند أنصار المذهب الانفعالي أنه لا يوجد شيء صحيح أو خطأ، ولكن الشعور هو ما يجعله ذاك أو ذلك.
إنَّ هذه البراءة السَّمْحة في رؤية هتشسون الأخلاقية هي ما نتذكَّره؛ لكن نظرته للإنسانية لم تكن مُفرطة التفاؤل على الإطلاق؛ فقد تحدث — كما ينبغي لمشيخيٍّ ملتزم — عن الجنس البشري واصفًا إياه بأنه «فاسد ومنحَط أخلاقيًّا» تَحظى «شهوانيته ومساعيه الأنانية الخسيسة بانتِشار أكبر.»23 إلا أن كتابات هتشسون تحتوي على ما يكفي للاعتقاد بأنه اعتبر الطبيعة البشرية خيِّرة في أصلها. إنه لعمل شجاع من رجل مشيخي أن يضعَ اسم رجل ربوبي سيئ السمعة ومتفائل إلى أقصى حد كشافتسبري في صفحة عنوان أحد كتبه؛ إذ يقول إن «عقولنا» تنحاز بشدة «نحو الخير والعطف والإنسانية والكرم واحتقار المصلحة الخاصة …»24 وتبدو الرذيلة في عمله «مقالًا عن الطبيعة وسلوك العواطف والمشاعر» مجرد إفراط: «فكل عاطفة بمقدارها المعتدَل عاطفة بريئة، وكثير منها ودود بصفة مباشرة وصالح أخلاقيًّا.»25 وإن لم تكن إفراطًا، فليس هناك أفظع من زيادة حب النفس عن الحدِّ، ويؤكد: «فلْنُزِلِ العقبات التي يَضعها حب النفس وستُرشدنا الطبيعة ذاتها إلى الخير.»26 وهذا ضرب من الهَرْطَقَة البيلاجيانية الخطيرة عند رجل مشيخي وإن كان ينتمي للجناح الليبرالي من الكنيسة. إن الحسَّ الأخلاقي عند هتشسون هو — من بين أشياء أخرى — نسخة لا دينية من خطاب الإنجيل الموجَّه للشعور الداخلي؛ لكن الاختلافات أوضح من التشابهات؛27 إذ يؤمن هتشسون في سذاجة غريبة قليلًا بأن تعذيب الأطفال للحيوانات ليس عن تعمُّد للأذى، بل ما هو إلا جهل بألمها وفضولًا لرؤية أجسامها تلتوي، فهو ليبرالي من النوع رقيق الفكر الذي قد يُثير بشدة غضب صحف الإثارة التي تصدر اليوم، فهو يُرْجِع السبب في شعبية قتال المجالدين في روما القديمة ليس إلى إعجاب الجماهير بالشجاعة والبطولة وحسب، بل إلى فرصة الشعور بالتعاطف التي تتاح لهم. ويُقِرُّ أستاذه شافتسبري — وهو أكثر واقعية منه بقليل — بوجود أشخاص يَشعُرون ﺑ «متعة وحشية» برؤية الدم والمصائب والمِحَن لدى الآخرين؛ لكن حتى شافتسبري لا يُمكن أن يتقبل فكرة وجود أي إنسان ينقصه كليًّا الشعور بالتعاطُف مع أبناء جنسه.
في هذا الإقرار الأليم بوجود مثل هذه «المتعة الوحشية» — وهو تعبير يُمكن أن نعتبره نسخة شافتسبري الخاصة من ترجمة سلافوي جيجك ﻟ «المتعة» عند لاكان ﺑ «اللذة الفاحشة» — يدقُّ شافتسبري أبواب لحظة حرجة تتعلق بما يُمكننا أن نُسميه النظام الواقعي؛ أو بالرغبة، كما يكتب، «في التغذِّي نوعًا ما على الموت والتلذُّذ بسكراته.»28 إن من حدود أي مذهب أخلاقي خيالي أن مازوخية «ثاناتوس» أو دافع الموت، وكذلك فكرة الحقد الخالي تمامًا من أي دوافع، يكاد يستحيل تصوُّرها، إلا في تلك النسخة المنَمَّقة لما نعرفه بالتراجيديا؛ فالشخصيات التي تُشبه دي ساد وإياجو في هذا العالم غريبة عن دائرة النظام الخيالي. ويَحرص شافتسبري على أن يلفت إلى أن مثل هذه المتع المَرَضية لا مكان لها في مكان يحكمه «التحضُّر ودماثة الأخلاق»، وأن هؤلاء المنغمسين فيها بائسون لأقصى درجة. ويرى هتشسون هو الآخر أن الطبيعة البشرية نادرًا ما تطيق «الكراهية الخبيثة التي لا غرض منها» ولا يُمكنه تصور أن أي شخص قادر على التلذذ ببؤس الآخرين من دون أي فائدة تعود عليه. وليس فريدريش نيتشه عاطفيًّا إلى هذا الحد؛ إذ يكتب في عمله «جينيالوجيا الأخلاق» أن «رؤية المعاناة تُشعرُك بلذة، أما التسبب فيها، فتشعرك بالمزيد من هذه اللذَّة … فحتى في العقاب يوجد شيء شديد البهجة!»29
تردَّد إنكار هتشسون للشر الخالي من الدافع مجددًا على لسان ديفيد هيوم الذي يرى أن «الشر المجرَّد الذي بلا سبب والخالي من الهدف لا مكان له — ربما — في صدر أي إنسان.»30 وتنمُّ كلمة «ربما» عن تردُّد لافت. ويتبنى نفس الرأي جوزيف باتلر الذي يقول في مواعظِه إنه لا أحد يؤذي غيره لمجرَّد الأذى. لكن كلمات باتلر تحمل تذكيرًا جاء في حينه لأتباع هتشسون في هذا العالم بأنَّ انعدام الهدف ليس محمودًا دائمًا؛ إذ يكتب: «إن أقصى انحطاط يُمكننا تصوُّره في خيالنا هو القسوة التي بلا هدف.»31 لكن باتلر أصاب في إدراكه أن الشر بطريقته الخاصة يخلو من الهدف بقدر ما تَخلو منه الفضيلة،32 فالأشرار حقًّا أعداءٌ للمنفعة بقدر الملائكة، فليس من المصادَفة أن يكون الشيطان في السابق ملاكًا. فلم يُفكِّر النازيون في كُلفة مجهودهم الحربي في إنشاء معسكرات الاعتقال. لكن أي مذهب أخلاق خيالية يجب أن تلتزم الحذر عند الاقتراب من النظام الواقعي، فهو يُحطِّم أنماط عالم يعكس فيه حزن الإنسان أو بهجته شعور غيره طواعية كما لو كانت مرآةً لمرآة، فتحصيل اللذة من ألم الغير نقيض النظام الخيالي الأخلاقي.
إنَّ النظرة الإيجابية للطبيعة البشرية في جانب كبير من فلسفة «الحس الأخلاقي» تعكس تفاؤلًا قديمًا بين الطبقة الوسطى، تحوَّل لاحقًا — كما سنرى — إلى نظرة أقل إشراقًا بكثير. لكن إن كان على هتشسون أن يجعل الحسَّ الأخلاقي جزءًا من تكويننا ذاته؛ فذلك لأسباب من بينها أنها الطريقة الوحيدة التي يُمكن بها للفضيلة أن تصمد أمام ضراوة مجتمع جَشِع. ويرى هنري فيلدنج — الذي تبنَّى تقريبًا نفس نظرية الفضيلة التي تبناها هتشسون — أن مجال الأخلاق لا يُمكن التخلِّي عنه مقابل شيء هش ومزعزع كالثقافة؛ إذ يُشدِّد هتشسون على أن النُّفور من الرذيلة والنزوع إلى الفضيلة راسخان في طبيعتنا «بحيث لا يُمكن لتعليم أو مبادئ زائفة أو عادات فاسدة أن تنزعهما تمامًا.»33 وقد تلقَّت شخصية توم جونز التي ابتكرها فيلدنج بعناية نفس التربية التي تلقتها شخصية بيلفل البغيضة؛ لإثبات وجهة النظر المعارضة لفكرة الثقافة هذه، رغم أنه في حالة فيلدنج تُعدُّ هذه أيضًا ضربة من محافظ للتقدميين المثاليين الذين أيدوا التطَبُّع على الطبع.
إن كانت هذه أخلاقًا مادية على طريقتها الخاصة، فهذا يرجع إلى أن الاستجابات الأخلاقية — كما رأينا بالفعل — متأصلة في الجسد؛ الجسد الذي سيفرض نفوره واستحسانه الفطري على سلوكنا الاجتماعي، ويمكنه مِنْ ثَمَّ أن يعمل عمل الحَكَم المثالي عليه. يعلق بيرك — الذي كان رجلًا جماليًّا بالمعنى الأصلي عند الفينومينولوجيين اهتم بوضع خريطة للحياة الحسية في الجسد — قائلًا: «الجسم … أكثر حكمة (من العقل) بطريقته الخاصة البسيطة.»34 فقبل أن نبدأ التفكير المنطقي، توجد بالفعل ملَكة فينا تجعلنا نشعر بمعاناة الآخرين مثلما نشعر بالجرح وتدفَعُنا للاستمتاع بفرحتهم دون أدنى قدر من الفرح بمصيبة الغير. لكن غرس الحس الأخلاقي في طبيعتنا الجوهرية — بمصطلح ماركس — لا يحميه إلا على حساب تفريغه من مضمونه؛ فإن كانت مشاعر النفور والاستحسان لدينا تلقائية فعلًا كما الفعل المنعكس — مثل سحب أصابعنا من اللهب — فهي إذن ليست قضية مميزات شخصية. من المؤكد أنها استجابات لأفعال الآخرين الإرادية؛ لكن هناك محملٌ ما تَجعل فيه فلسفة «الحس الأخلاقي» مشاعرنا أقل جدارة بالثناء في نفس الوقت الذي تجعلها أكثر طبيعية؛ إذ يبدو من خلالها أننا لم يَعُدْ بإمكاننا الامتناع عن التعاطف مع المكروبين كما لا يمكننا عدم ملاحظة الأشياء الضخمة التي تكون في نطاق نظرنا.
تجعل هذه الفلسفة إبداء التعاطف مع الآخر أكثر استحسانًا وإقناعًا عما هو الحال إذا تضمَّن الإرادة، لكن إن كان هذا هو الحال، فلماذا يوجد الكثير من الأشرار مِن حولنا؟ هذا ما يمكننا تسميته مفارقة فيلدنج؛ فالخير طبيعي، لكن هناك نقصًا شديدًا فيه على نحو غريب في المجتمع. وإن كان الخير غريزة طبيعية، وكذلك يصعب نسبيًّا مصادفته في الواقع، فسيجد الفاضلون أنفسهم — كما في روايات فيلدنج — أقلية تَرزح تحت حصار مستمر من دون أن يتسلَّحوا بالمكر واليقظة اللازِمَينِ لصدِّ هؤلاء الأشرار.35 وهذا ما يجعلهم مُضحكين بقدر ما يجعلهم محلَّ إعجاب. لكنهم يُمثِّلون خطرًا كذلك؛ لأنهم من الممكن أن يكونوا سببًا في رذيلة الآخرين. وإن تأهَّبوا لحماية أنفسهم، فسيصبح من الصعب التوفيق بين هذه الشدة وبراءتهم، فكلما اضْطُرِرتَ إلى الدفاع عن طبيعتك الخَيِّرة، قَلَّ نصيبُك منها؛ لكن جون ميلتون كان ليصرَّ على أن البراءة التي لم تُخْتَبر ليسَت براءة فاضلة على الإطلاق.
يُمكن وضع هذه النقطة في سياق أكثر اتصالًا بالسياسة؛ فعندما يشعر المنتمون للطبقات الوسطى بالرضا المعقول عن أنفسهم تبدو الفضيلة وافرة كمداد البحر؛ لكن ليس عليهم سوى أن ينظروا حولهم إلى الحضارة الأنانية المخيفة التي أقاموها ليدركوا أن هذا لا يمكن أن يكون هو الواقع الفعلي؛ فمن المنظور الأيديولوجي يجب أن يكون الحب والإحسان جذرِيَّينِ؛ أما من المنظور التجريبي فمن الواضح أنهما أبعد ما يكون عن ذلك. وكذلك القول إن الحس الأخلاقي بديهي واضح في ذاته كالصفعة على الوجه، ويصعب تحديد كُنْهِهِ كرائحة القهوة، هو طريقة أخرى لتأكيد هذه المفارقة. وباعتبار هتشسون تجريبيًّا بارعًا، فيبدو أنه كان عليه الاتفاق مع آدم سميث على أن الحواس «لم ولن تأخذنا لأبعد من شخصِنا ذاته، والخيال وَحْدَهُ هو ما يُمَكِّننا من تكوين أي تصور عن المشاعر (الخاصة بالآخر).»36 إذ إن ما يحول بينَنا وبين وعي الآخرين هو أجسادنا؛ لذا فبفضل النظام الخيالي وَحْدَهُ — من خلال المُحاكاة أو التكرار في داخلنا لما نظن أن الآخرين يَشعرون به — يُمكن تعزيز التعاطف الإنساني. ولا يختلف الحسُّ الأخلاقي عند هتشسون عن الخيال عند سميث؛ إلا أن هتشسون بدعوته لإضافة «الحس» الأخلاقي للحواس الخمس المعروفة فهو يظلُّ داخل حدود المذهب التجريبي بينما يقلبه على عَقِبَيهِ، فالحديث عن حسٍّ أخلاقي يُضيف للحواس الخمس في المذهب التجريبي صورة شَبَحِيَّة منها، وهو ما قد يُضفي بدوره على المفاهيم الأخلاقية قطعية اللمس أو التذوق التي لا جدال فيها؛ فيؤدي الحديث عن الحواس لإنقاذ القيم الأخلاقية. كذلك — ونظرًا لعدم إمكانية الاعتماد على الحواس — يجب أن نلجأ لهذا النوع من البديهة الحسية؛ ففي عالم تجريبي، يُمكن دائمًا للغة والإدراك والعقلانية أن تنحرف عن مسارها، كما تُبيِّن رواية «تريسترام شاندي» بشكل كوميدي، وتأتي الاستعانة بالحس الأخلاقي للتعويض جزئيًّا عن هذا القصور. وبمجرد أن تتعرَّض النفس البشرية لخطر الوقوع الذاتوي في أَسرِ أحاسيسها الخاصة، سيَكتشِف هتشسون في هذه الحواس بالتحديد مِفْتاح التآلف الاجتماعي؛ ليجد في ملَكة خاصة الطريق الذي يفتح الباب أمامنا إلى عالم الآخرين.

إلا أن فكرة العاطفيين المنقوصة عن الجسد وَحْدَها هي ما يجعلهم في حاجة لإمداده بهذا المُلحَقات الخيالية. لقد عرف القرن الثامن عشر طريقة لتجاوز حدود الحواس — بل تمزيقها إِرْبًا إِرْبًا — هي السمو؛ لكنها لم تكن جيدة في هذا التجاوز لحدود الجسد هذه، الذي هو الجسد ذاته؛ إذ لم تكن تنظر إلى الجسد باعتباره مشروعًا للتسامي الذاتي، بل اعتبرته شيئًا كالأرائك والمكاتب لا يختلف عنها إلا في حمله لجوهر متحرِّك اسمه الرُّوح. لكن صمت الجسم البشري ليس كصمت المكتب؛ فحتى عندما لا تفعل أي شيء سوى النظر إليَّ، فإنك لست حاضرًا أمامي كما إبريق الشاي مثلًا؛ إذ يَعجِز التجريبيون عن استيعاب أن الحديث عن الرُّوح ما هو إلا أسلوب تجسيدي في محاولة تعريف ما يميز الأجساد المتحركة الذاتية التنظيم كالدبابير أو كبار موظفي الخدمة المدنية مقارنة بقِطَع الأثاث. وقد تكون تَبِعات هذا من بين الأسباب التي تجعلنا عندما نسمع كلمة «جسد» نفكر في الجثة. فالحواس عند لوك وهيوم مستقبِلات سلبية وليست وسائل للتواجُد والتفاعُل مع العالم. والجسد عند سميث وأمثاله شيء مادي في المقام الأول وليس صورة من صور من المُمارسة ومركز ينتظم حوله عالم كامل. فهم لا يرون أنه شيء «خارج» أنفسِنا لا يُمكننا أبدًا أن نفهمه، بل شيء نتجسَّد في نشاطه التعبيري كما يتجسد المعنى في لفظ.

وفي ضوء هذه النظرة للجسد، لا يُمكن للذوات الأخرى أن تُمنح وجودها الواقعي إلا بما يناظر الذات. وهذه تقريبًا هي النقطة التي طرحها إدموند هوسرل الذي يرى أن الذوات الأخرى بالأساس مخفية عن ذاتي لكنها تُجسِّد في سُلوكها ما يمكنني أن أعتبره جزءًا من تجرِبتي الذاتية الداخلية، فالآخر ليس حاضرًا أمامي بصورة كاملة أبدًا، بل يُعرف باعتباره انعكاسًا لِذاتي. ويرى هوسرل في كتابه «تأملات ديكارتية» كل «أنا» من منظور خيالي باعتبارها كائنًا أحاديًّا يَعكِس ويحتوي كل الذوات الأخرى مع ما يتأتى من ذلك من إمكانية التناغم والتعاطُف والمشاركة والمبادلة فيما بينها. فكما يُشبِّه موريس ميرلو-بونتي الوضع: «أرى استخدامًا محدَّدًا من الناس للأدوات المحيطة بي، (و) أفسر سلوكهم بالتناظُر مع سُلوكي أنا ومن خلال تجرِبتي الذاتية، التي تُعلِّمني مدلول الإشارات المدرَكة ومقصدها.»37 إذ أُدرك — عند هذا الحد — الذوات الأخرى في ضوء نموذج «الأنا»، أي في ضوء عين ما يُميِّزني عنها؛ وبهذا لا يُمكنني أبدًا أن أحرِّر ذاتي منها. ويقول ميرلو-بونتي عن هذه النظرية: «إنَّ جسد الآخر — كجسدي — ليس مسكونًا وإنما هو شيء موجود أمام الوعي الذي يُفكِّر فيه أو يكونه … فهناك نوعان من الوجود، وهما اثنان فقط: الوجود في ذاته أو اللاواعي وهو وجود الأشياء المتراصَّة في المكان، والوجود لذاته أو الواعي وهو ‏الوجود‏ ‏الإنساني‏ ‏الواعي ‏بذاته.»38
إلا أن الجسد على وجه التحديد — تلك الظاهرة مزدوجة الطبيعة التي ليست مجرد شيء له «وجود لا واعٍ» ولا «وجود واعٍ» على نحو واضح — هو نفسه ما يهدم هذه القطبية السارترية، فجسد الآخر حاضر أمامي بما يسبق الفكر باعتباره شيئًا له «وجود لا واعٍ» أو شيئًا في نطاق رؤيتي يُعبِّر في جوهره عن شيء له «وجود واعٍ»؛ أي كيان ذي إرادة يحدث حركة تجاه العالم بدلًا من أن يظل جمادًا كامنًا داخل حُدوده. فأنا أدرك إرادتك من حركات جسدك وليس من خلال عملية غير مرئية تتخفَّى وراءها. بنفس القدر، فإن جسدي «يجعلني كالآخر من دون اغتراب» كما يقول إيمانويل ليفيناس؛39 إذ توجد — كما يرى ميرلو-بونتي — «رابطة داخلية» بين جسدي وجسدك تمامًا كما توجد بين جسدي و«وعيي». أو رابطة، كما قد نضيف، بين سلسلة من الأصوات ومجموعة من المعاني. ذلك لأن جسدي لا يُمكن أبدًا أن يكون وجوده عندي كساعة يدي، وكذلك جسدك. فخلال رؤية الأشياء من منظوري الفريد، فمما أدركه هو أن نفس الأشياء حاضرة أمام جسدك من منظور مختلف؛ أي أن كِيانَينَا متداخلان، وأن تلك المساحة المشتركة تشكل المجال المشترك الذي يُمكن فيه تأسيس ما يُمكِننا تسميته بالموضوعية، فعجزي عن «تحويل جسدك إلى شيء» بصورة كاملة، وهو هذا الكيان المزدوج الطبيعة، مرتبط بفكرة أن جسدك أصل عالم يتداخل مع عالمي.
تتَّخذ هذه الأرضية المشتركة صورة اللغة؛ فالحديث المفْرِط عن «الذوات الأخرى» افترض أن هذه الكيانات لا تتحدَّث ولا تُنْصِت. وفي عملية الخطاب كما يقول ميرلو-بونتي «تنشأ بيني وبين الآخر أرضية مشتركة؛ حيث يتداخل فكري وفكره في نسيج واحد … ويدخلان معًا في عملية مشتركة لم يبدأها أيٌّ منا، فوجودنا هنا ثنائي، حيث لا يكون الآخر بالنسبة لي مجرد سلوك ما في فضائي السامي ولا العكس؛ فكلانا شريكان في حلقة تبادلية تامة.»40 وتمسُ العبارة الأخيرة ما نُسمِّيه على نحوٍ فضفاض بالنظام الخيالي. ويتابع ميرلو-بونتي ليصل إلى الحديث عن العملية الشبه السحرية التي يتوقَّع فيها كل طرَف في هذا الحوار أفكار الآخر، أو «يُعير» نفسه للآخر؛ إذ يكتب: «إن إدراك الآخرين والعالم البين-ذاتي لا يُمثِّل مشكلة إلا للبالغين، فالطفل يعيش في عالم يؤمن دون أدنى تردُّد بأنه مفتوح على كل ما حوله.»41 فالطفل الصغير كما يقول ميرلو-بونتي لا يعرف أي واقع ينقسم بين وجهات نظر، ولا يملك وعيًا بأن الذات يجب أن تتقيَّد بواحدة منها. فالطفل — كما في النظام الخيالي — قد يشغل كل المواقع في الوقت ذاته، متحررًا من كل قيود النظام الرمزي. وكما لا يميز الطفل في نموذج لاكان بين ما هو داخلي وما هو خارجي، إلى حد أن تَكتسِب المشاعر وجودًا ملموسًا شبه مادي، فكذلك النظرات الإنسانية للطفل الصغير عند ميرلو-بونتي «لها وجود يكاد يكون ماديًّا، لدرجة أن الطفل يتساءل كيف لا تَنكسِر هذه النظرات عندما تلتقي ببعضها.»42

يقترب هتشسون من المعنى الفينومينولوجي للجسد أكثر من آدم سميث؛ إذ تستحوذ عليه فكرة الوجه البشري المتكلِّم أو ذي الدلالة الذي نستجيب له دونما تفكير، من دون الحاجة إلى «الاستنتاج» أو «الاستدلال على» نوع العاطفة التي تحركه. إنَّ هذه السمة التعبيرية المتأصِّلة في الجسد — أي أنَّ جسم الإنسان نفسه ذو دلالة — هي ما يُبشِّر بحل لثنائية سميث اليائسة نسبيًّا، فإن افترض سميث أننا لا يُمكننا الوصول إلى الآخرين إلا من خلال ملَكة خاصة، فهذا لأنه يتصور أن الحالة الذهنية للآخرين لا يُمكن إدراكها في الوضع الطبيعي، حيث تَستَتِر وراءَ أجسادهم، فشعوري بالغضب مثلًا يَكمُن في أعماقي، أما اللمحات التي يمكنك أن تراها منه فعلًا — كإضرامي النار في شعري مثلًا تعبيرًا عن الغضب الممزوج بالإحباط — ما هي إلا العلامات الظاهرية على حالة داخلية خاصة، فما تراه ليس الواقع. وكذلك كلماتي ما هي إلا إشارات ظاهرية تدلُّ على معانٍ على نفس القدر من خصوصية عواطفي؛ وذلك لأنها صور في ذهني؛ لذا فمن الصعب — بل ربما من المستحيل — معرفة ما إذا كنا نشعر أو نقصد بحقِّ الشيء نفسه، وهي حالة مُزمنة من تقاطع الأغراض التي تستخرج منها رواية «تريسترام شاندي» جوهرها الكوميدي الغني. ويقرُّ آدم سميث في عمله «نظرية العواطف الأخلاقية» أنه يستحيل علينا أن نعرف على وجه التحديد ما يشعر به شخص آخر، كما لو كنا بالضرورة سنتعاطَف معهم على نحو أكبر إن استطعنا ذلك، فإن تعذر علينا إدراك ما بالآخرين، فمن الصعب إذن إيجاد أساس واعٍ للتناغم الاجتماعي؛ لذا يصبح الميل قويًّا لتحديد ملَكةٍ ما صعبة المنال — كالتقمُّص العاطفي والحَدْس والخيال والحسِّ الأخلاقي — تحلُّ محله.

وغنيٌّ عن القول إنَّ حاجاتنا لتخيل ما يشعر به الآخرون لا تحظى بقبول أكثر من فكرةِ أن علينا تخَيُّل ما يقصدونه. من المؤكد أن إلين سكاري أخطأت في زعمها أن الخيال ضروري للتعاطف الإنساني؛43 فالتفهُّم لا يتعلق بإسقاط أنفسنا من منظور مُتعاطِف في الأغوار الرُّوحية للآخرين، التي يفترض أن محتوياتها تتمتَّع بالخصوصية في جوهرها؛ فالآخرون يمكنهم بالتأكيد إخفاء مشاعرهم عنا أو تحريف معانيهم عن عمد؛ لكن ذلك يتطلَّب منهم آليات أكثر تعقيدًا بعض الشيء، وهذه الآليات تُكتسب دائمًا في المجال العام؛ فنحن نُدرك أنفسنا بنفس الطريقة التي نُدرك بها الآخرين؛ فالاستبطان المُطلَق لا طائل منه هنا؛ إذ لا يمكن بالاستبطان وَحْدَهُ أن أدرك ما إذا كنت أشعر بالحقد أو الخوف مثلًا.
يكتب ميرلو-بونتي: «إن إمكانية أن يكون شخص آخر واضحًا بذاته تتوقَّف على أنني لست واضحًا أمام نفسي وأن ذاتي تلقي جسدها وراء ظهرها عند استيقاظها … فالشخصُ الآخر ليس كائنًا شخصيًّا أبدًا، هذا إن كنت أنا كذلك، وإن كنت أرى نفسي بينة واضحة بذاتها.»44 وسيبدو الآخرون مُبهمين حتمًا إن كنا مُضلَّلين بالقدر الكافي لنعتقد أننا واضحون تمامًا لأنفسنا.

•••

لم يُشارِك ديفيد هيوم فرانسيس هتشسون ثقته في كرم القلب الإنساني الفطري؛ فقد كان على أية حال محافظًا مُتشكِّكًا وليس ليبراليًّا جمهوريًّا يعتقد أن حب الذات هو القوة الأساسية المحرِّكة للشئون الإنسانية، فإن كانت العدالة ضرورية بأي شكل — حسبما رأى — فهي ما يُوازِن سعينا الجامح نحو المكاسب والمصلحة الشخصية. إلا أنه تبنَّى أيضًا فكرة أنه رغم أن معظم الناس يُحبُّون أنفسهم أكثر من حبهم للآخرين، فإن عواطفهم الإنسانية في مجملها تغلب أنانيتهم. إنَّ هيوم في مزجه بين الدماثة واللطف من ناحية والدهاء العملي من ناحية أخرى مُعتدل بكل معاني الكلمة، فهو ليس مُتشائمًا كهوبز ولا هو مُتفائلًا كشافتسبري؛ إذ يكتب في مرحلة لم تَزَل فيها الطبقة الوسطى — التي كانت قد ظهرت حديثًا فيما قبل التصنيع — منبهرةً ببريق الأرستقراطية بما يكفي لتبحث عن موائمة بين التجارة والتحضر، وهي موائمة سيزداد تحققها صعوبة في العصور الصناعية الرأسمالية اللاحقة.

يكتب هيوم في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية»: «إن العادة والعلاقات تجعلنا نغوص بعمق في عواطف الآخرين، وأيًّا يكن ما نفترض أنه أصابهم فهو يتجسد أمامنا عن طريق الخيال، ويُحدث أثره كما لو كان أصابنا في الأصل.»45 (إن الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستُوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) من الصعب تحديد ما إذا كان هذا إيثارًا أم أَثَرة، على الأقل في حالة المشاعر الأكثر قبولًا. لكن في العموم فإن هيوم مؤمن شجاع بأن الخير واقع، حيث يزعم على طريقة هتشسون أن هذه «الرغبة التي تقترن بالحب هي رغبة في سعادة المحبوب وتجنُّبه للشقاء» (٤٣٠)؛ إذ يقر بوجود مجال رحب لمشاعر التعاطف الإنساني، وهو ما يضعه — مثلما فعل هتشسون — فيما قد نُسمِّيه عامة بالقالب الخيالي. صحيح أن سرور شخص آخر يسبب لنا الألم عندما نُقارنه بما نمرُّ به من بؤس، تمامًا مثلما يؤدِّي شقاءُ شخص آخر إلى شعورنا بالسعادة عن طريق استِحضار حالِنا الجيِّدة. لكن في كِلتا الحالتَين تختلط الأنانية بالتعاطُف الصادق، فإن وجد شيء من التنافُس في النظام الخيالي هنا، فيوجد كذلك شيء من التقمُّص العاطفي. وكما أن التنافُس والمحاكاة لا يَنفصِمان في النظام الخيالي، فكذلك حالهما في فكر هيوم الأخلاقي: فنحن نُسَرُّ بسرور الآخرين؛ لكننا في الوقت ذاته نشعر ببعض التنافُسية غير المُريحة.

يُشير هيوم في رسالته في الطبيعة البشرية إلى أن أكثر الأشياء امتلاءً بالحياة هو «كائن عقلاني ومفكِّر مثلنا يَنقل إلينا كل ما يدور بعقله، ويُطلعنا على أعمق مشاعره وعواطفه، ويَسمح لنا بأن نرى كل العواطف التي تنتج عن أي شيء في نفس لحظة نشوئها» (٤٠٢). والمهم في هذا الاتحاد الرُّوحي هو الآنية التي يتحوَّل بها الداخلي إلى الخارجي؛ الطريقة التي لا تظلُّ بها مشاعر شخص آخر مدفونة داخل جسده بل تظهر بوضوح على واجهته الخارجية. ويكتب هيوم: «ما يرتبط بنا أيًّا يكن يتمُّ إدراكه بصورة مُفعَمة بالحياة من خلال التحوُّل اليسير من أنفسنا إلى الشيء ذي الصلة» (٤٠٢). ويتمُّ هذا التحول بالمشابهة والمطابقة: «فأصحاب الأمزجة المَرِحة يُحبُّون بطبعهم ما هو مرح؛ مثلما يَميل الجادُّون إلى ما هو جادٌّ … فالناس يَستحسِنون — دون تفكير — الصفة التي هي أقرب إلى صفتهم» (٤٠٣، ٦٥٤). أو كما قد يصيغها فرويد على نحوٍ أقلَّ قبولًا، تَميل اختياراتنا من بين الأشياء لأن تكون نرجسية، فمجتمع الرجل، كما النظام الخيالي، هو عالم من العدوى والتشابُهات السحرية، فهو عالم مجرَّد من الاختلافات بدرجة كبيرة. فإن كانت خفة الرُّوح واللين يدخلان ضمن القيم الاجتماعية التي يَستحِق اكتسابها، فمن الأسهل ممارستُها مع النفوس المتشابهة والأصدقاء المقرَّبين من ممارستها مع الغرباء، الذين قد يتطلَّب الاستئناس بهم بعض الجهد، فصحبة الغرباء — كما يرى هيوم — غير مُستحسَنة لنا إلا لفترات زمنية قصيرة.

يكتب هيوم: «من أجل بناءِ علاقة مثالية بين شيئين، لا يلزم فقط أن يُنقَل الخيال من شخص لآخر عن طريق التشابه أو العدوى أو السبَبية، بل أيضًا أن يعود من الثاني إلى الأول بنفْس السلاسة والسهولة» (٤٠٥). فنحن ما زلنا في دائرة النظام الخيالي حيث توجد دائرة مغلقة — كالتي بين الطفل وانعكاسه — أو حركة سير مزدوجة بين الشيئين المعنيين. ويضيف هيوم: «إن الحركة المزدوجة هي رابطة مزدوجة نوعًا ما، وتربط شيئين ببعضهما بأقرب الروابط وأكثرها حميمية» (٤٠٥). ففي نطاق ما يُمكن تسميتُه بالنظام الخيالي الاجتماعي، أجد نفسي منعكسًا فيمن أمامي في ذات الوقت الذي أجده منعكسًا في نفسي، وقد تزيد هذه الرابطة المشتركة عمقًا إلى حد ألَّا يمكنَ التفريق بين الذاتين في نهاية الأمر، وأن ما يَنعكِس ما هو إلا فعل التطابق الثنائي في حدِّ ذاته. إن هذا الافتتان — عند هيوم كما عند لاكان — بالثنائيات والتشابهات والمقارنات يظل عنصرًا في كل تجارِبنا الأكثر نضجًا؛ إذ يرى هيوم أننا لا نخضع للعقل كثيرًا، لدرجة أننا «دائمًا ما نحكم على الكثير من الأشياء بالمقارنة وليس بقيمتها الجوهرية» (٤٢٠).

إلا أن هذا المنظومة المتناغِمة تَضطرِب بمجرد دخول عنصر ثالث إلى المشهَد، فكما يُتابع هيوم: «لأنه بافتراض ارتباط الشيء الثاني — بجانب علاقته التبادُلية مع الشيء الأول — بعلاقة قوية مع شيء ثالث، فإنَّ الفكرة في هذه الحالة إذ تَنتقِل من الشيء الأول إلى الثاني لا تعود إلى منشئها بنفس السهولة رغم أن العلاقة تظل كما هي؛ ولكنها تُنقل بسهولة إلى الشيء الثالث … لذا فإن هذه العلاقة الجديدة تُضعف الرابطة بين الشيئين الأول والثاني» (٤٠٥). ليس من الصعب تفسير مقصد هيوم في سياق أوديبي؛ حيث إنَّ «الصلة» الثنائية أو الخيالية بين الأم وطفلها تتَّخذ شكلًا ثلاثيًّا بدخول الأب إلى المشهد، فما يُصوِّره هيوم هنا — باختصار — هو الانتقال من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، فوجود ثلاث ذوات أكثر كثيرًا من وجود ذاتين.

ولئلا يُظن أن هذه قراءة خاطئة مبالَغ فيها لفقرة تتناول فعلًا ترابط الأفكار، تجدر الإشارة إلى أن عمل «رسالة في الطبيعة الإنسانية» يتناول بعدها مباشَرةً الأمهات والآباء والأبناء:

إنَّ الزواج الثاني للأم لا يكسر الرابطة بين الابن وأمه، وهذه الرابطة تكفي لنقل خيالي إليها بمُنتهى السهولة واليسر. لكن بعد أن يَصِل الخيال إلى هذه المحطة، فإنه يجد أن هدفه مُحاطٌ بكثير من الروابط الأخرى، وهو ما يتحدى وضعه؛ حيث إن الخيال لا يعرف أيها يفضل، وتتفرَّق به السبل محاولًا إيجاد شيء آخر يرتبط به، فروابط المصلحة والواجب تربط الأم بعائلة أخرى وتمنع ارتداد الخيال منها إليَّ، وهو الشيء الضروري لتعزيز الاتحاد بينَنا. ولم تَعُدِ الفكرة تمتلك القوة المحركة الضرورية لتستقر ويتعزز ميلها للتغيير، فهي تذهب بسلاسة؛ لكنها تعود في صعوبة، وتجد مع هذه الإعاقة أن الرابطة ضعُفت كثيرًا عنها إن ظل الطريق مفتوحًا سلسًا في الاتجاهين. (٤٠٥)

يدخل هيوم — الذي وضَع نفسه في موضع الابن — في رابطة غير مستقرَّة مع الأم نتيجة علاقتها بالأب (الثاني)؛ فالرابطة بين الابن والأم أصبحت غير متماثِلة، ولم تَعُد متينة سوى من جانب واحد فقط؛ وذلك لأن الأم يُنْظَر إليها باعتبارها محصورة في النظام الرمزي، مُنتمِية من خلال زوجها الثاني لنسَبٍ بعيد تمامًا عن الابن نفسه. إنَّ الهدف من مثال الزوج الثاني هو بيان الطريقة التي تُظلم فيها الروابط الأسرية بكل انغلاقها «الخيالي» وتتحوَّل إلى انتماءات إلى غرباء أو من ليسوا أقارب الدم، وهي انتماءات تتفاعل بدورها مع الرابطة الأولى بين الأم والابن وتؤدي إلى فكر الارتباط حتمًا. إنَّ هذا هو ما يدفع الابن على ما يبدو لتحسُّس طريقِه والتردُّد (إذ «تتفرَّق به السبل محاولًا إيجاد شيء آخر يرتبط به») فيما قد يعتبر نوعًا من العقدة الأوديبية. ويبدو الزعم بأن تتبُّع تسلسُل ترابط الأفكار من الأم للابن أكثر صعوبة في هذه الحالة من العكس طريقة مموهة للشكوى من أنها لم تَعُدْ تحبه كما يحبها، فتغير مجال الحديث من الأوديبية إلى الإبستمولوجيا.

يرى ألتوسير أن دائرة الأيديولوجيا الخيالية لا يمكن اعتبارها عقلانيًّا صحيحة أو خطأ، فهي مجال لا ينطبق عليه مثل هذه الأحكام؛ حيث إن الأيديولوجيا لا تتعلق في الأساس بالقضايا الصحيحة والخاطئة،46 فالطريقة التي «يعيش» بها الإنسان شعوره بالحقد والتمرد والخضوع وغير ذلك لا تتعلَّق بالدقة الإدراكية، فهناك فجوة عند ألتوسير بين النظرية (نطاق الحقيقة) والأيديولوجيا (نطاق التجربة)، والقلة المحظوظة المطلعة على المعرفة العلمية في المجتمع — بما أنهم لا يزالون مواطنين عاديين في الوقت ذاته — يعيشون في عالمَين منقسمَين ومختلفين، هما النظام الرمزي والنظام الخيالي. وبنفس الشكل يوجد عند هيوم فاصل إبستمولوجي أو «تعارض كامل» بين العقل والعاطفة؛ فالعواطف «لا يمكن أبدًا أن تخضع للعقل» و«من المستحيل أن يُقال إنها صحيحة أو خاطئة» (٥١٠). ولا معنى عند هيوم لوصف العواطف بالعقلانية أو اللاعقلانية، بعكس توما الأكويني أو سبينوزا؛ إذ لا معنى من أن نسأل ما إذا كان لنا أن نشعر بما نشعر به؛ فالعاطفة عند هيوم «وجودها أوَّلي»، كما عند نيتشه. (فيفترض نيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر» أنه «لا شيء «مسلَّم» بأنه حقيقي غير عالم العواطف والدوافع الخاصة بنا …») فالعواطف، كما يرى هيوم، لا تتجاوز العقل فحسب بل تأبى أيضًا أن تتقيَّد بفرد واحد. ويعلق هيوم: «إن العواطف شديدة العدوى لدرجة أنها تَسري بكل سهولة من شخص لآخر، وتُسبِّب حركات متماثلة داخل الناس جميعًا» (٦٥٥). إذ يوجد شيء سِحري في هذه العدوى العاطفية، كما لو كان شُعورك بالخوف أو الغيرة سيُصيب أحشائي أنا بالعدوى، ويسري كنوع من الفيروس العاطفي من جسدِك إلى جسدي، والطفل الصغير يسهل عليه الخيال بنفس القدر.

إنَّ التعاطف عند هيوم لا يقتصر على كونه المصدر الرئيسي للفضيلة، بل هو مبدأ من نوع ما يُحرِّك بصورة مغناطيسية كيان الحيوان بكامله، وهو قوة شبه مادية أو وسط متقلب ﻟ «نقل العواطف بسهولة من كائن مفكر إلى آخر» (٤١٢). فهو لوحة التحكم الكبرى في نفوس البشر، وهو يَكمُن في قلب كل عاطفة يُمكن أن نشعر بها، وهو أيضًا ما يجعل للحياة قيمة: «فلتَجتَمِع كل قوى الطبيعة وعناصرها على خدمة إنسان واحد وطاعته؛ لتُشرق الشمس ولتغرب بأمره، لتَمُجِ البحار وتَجْرِ الأنهار بمشيئته، ولتنبسطِ الأرض تلقائيًّا بما قد يُفيده أو يسرُّه. إن هذا الإنسان سيظل بائسًا، إلى أن تُعطيه إنسانًا آخر ليشاركه سعادته ويستمتع بتقديره وصحبته» (٤١٢). وفي هذا الاستغراق الخيالي، يُسخَّر العالم لنا تلقائيًّا، فيُصبح بأعجوبة رهن أمرنا كما تتبع صورة المرآة حركات الطفل، إلا أن هذه الذات الأخرى هي التي يجب أن يتم معها هذا الاتحاد في النهاية.

يعلق هيوم: «إن عقول الناس مرايا لبعضها بعضًا» (٤١٤). وفي حركة جدلية، يُضيف: «يبعث السرور الذي يُحصِّله الغني من ممتلكاته بانتقاله إلى الرائي على الشعور بسرور وتقدير، وهي مشاعر تؤدي بدورها في ظل إدراكها والتعاطف معها إلى زيادة سرور المالك، ويصير الأخير — إذ يَنعكِس مرةً أخرى — أساسًا جديدًا للسرور والتقدير في نفس الرائي.» فالنظام الخيالي، بانعكاسه من مرآة على مرآة أخرى، هو مجتمع يقوم على الإعجاب المتبادل الذي يُولِّد فيه كل انعكاس — في نوع من التغوير — انعكاسًا آخر الذي يولد بدوره ثالثًا وهكذا. وتمثِّل حلقة العواطف الدائرة هذه الزمن الدائري للنظام الخيالي بدلًا من التطور الخطي للنظام الرمزي. إنه نوع من التبادُلية العميقة التي نَجدُها في البُعد الخيالي لعلاقة ووردزوورث بالطبيعة؛ حيث — وفي استجابة قد تكون لا متناهية — يتعاظَم حب الشاعر للأشياء الطبيعية من حوله نتيجة الأحاسيس التي أودَعَها إياها في الماضي، وهذه الأحاسيس بدورها تحولت من خلال المنظور البعيد للحاضر.

يكتب هيوم: «إن الأفكار لا تقبل أبدًا الاتحاد الكلي؛ لكنها تكتسب نوعًا من الحصانة التي في ضوئها يقصي بعضها بعضًا … في المقابل، تسمَح الانطباعات والعواطف بالاتحاد الشامل، وقد تمتزج تمامًا كما الألوان، لدرجة أن كلًّا منها قد يفقد كُنْهه، ولا يتعدى دورها سوى التنويع في ذلك الانطباع الموحد، الذي ينتج من المزيج الكلي» (٤١٤-٤١٥). ويضيف إن «بعض أغرب ظواهر العقل البشري» تنبع من هذه الحالة؛ ففي النظام الخيالي السابق على التفكير، لا تَحظى «الأفكار» بنفس أهمية الأحاسيس الملموسة المباشرة؛ لدرجة أنه من الممكن وجود التحام مشترك للعناصر لا يعهده النظام الرمزي الذي يشمل التفكير أو اللغة، والذي يقوم على التأمل والتمييز والفصل؛ فحتى السببية عند هيوم تُوجِد شكلًا من أشكال النظام الخيالي، يُغرينا فيها الخيال بإرساء تداخل أو رابطة داخلية بين السبب والنتيجة، وهي روابط يعرف العقل نفسه أنها بلا أساس. وينطبق هذا بدرجة كبيرة على الملكية الخاصة، وهي عين المركز الذي يدور في فَلَكه النظام الرمزي، فهنا أيضًا تقنعنا العادة والخيال بإدراك وجود رابطة واجبة بين الشيء المملوك والمالك التي ليس لها — هي الأخرى — أي أساس عقلاني. لكن كما هو الحال عند سبينوزا وألتوسير، يوجد فاصل إبستمولوجي بين «العيش» في العالم وحقيقته كما تُعرِّفها الفلسفة؛ لذا يدرك هيوم أنه من منظور العقل، فإن الكثير من افتراضاتنا المنطقية ببساطة بلا أساس. وهي حقيقة يرى أنها مقلقة بشدة؛ بالنظر إلى إيمان أقرانه بأن الفلسفة ينبغي أن تتسق مع النظم الشائعة بدلًا من أن تهدمها، فالاستقصاء الأخلاقي ينبغي أن يكون مسعى ذوي العقول المتحضِّرة، لا العرافين كثيفي الشعر الذين يَعوُونَ في البَريَّة.

لقد رأينا كيف أن النظام الخيالي عند لاكان لا ينتهي بانتهاء طفولتنا. ويرى هيوم أنه يستمر في حياة الراشدين بمعنى أنه «لا يوجد شيء في نظر الحواس، ولا صورة في الخيال، إلا ويُصاحبه عاطفة ما أو حركة روحية ما تتناسَب معه» (٤٢١). فالحال في عالم النظام الخيالي السابق على التفكير كما لو أننا نُدرك الأشياء بصورة مباشرة من خلال أحاسيسنا، كما لو صار جسدنا ومشاعرنا وسيلة اتصال دقيقة، دون التدخل المتخبط للغة أو التفكير. ويزعم هيوم أنه من دون تلك العَواطف والانطباعات «فكل شيء في الطبيعة محايد تمامًا في نظرنا» (٥٤٧-٥٤٨). وهو حياد يشكل، كما سنرى لاحقًا، أحد جوانب النظام الرمزي، إلا أنَّ العادة تجعلنا ننسى أن فكرنا يَصطبِغ بالعَواطف ويسير على وقع المشاعر، مثلَما يَتناسى العقل عند هايدجر الحالة النفسية التي تتخلَّله دائمًا. ويتبدَّد أثر النظام الخيالي هذا من الصورة عندما تطفو العقلانية على السطح، فتجرد فكرنا ليَصير ملَكة محايدة ظاهرًا. لكن هذه العواطف والأحاسيس عند هيوم تبقى مع ذلك باعتبارها تيارًا فينومينولوجيًّا يَجري من تحت كل أفكارنا العاطفية.

ليس من الصعب تَصوُّر الطفل أمام المرآة المنخدع في صورته باعتبارها شيئًا ينتمي لعالم مُستقل عن نفسه، غير مدرك أنه ليس إلا إسقاطًا لجسده هو. ذلك، كما يرى هيوم، هو النهج الذي يَتبناه أكثر الناس غير المفكِّرين تجاه قضية الأخلاق؛ إذ يؤمنون بأن القيم الأخلاقية جزء من محتويات العالم المادي، فهم لا يدركون أن تلك القيم في حقيقتِها خيالية، بمعنى أنها من صنع الذات؛ فالخير والشر الأخلاقيان «ينتميان فقط لعمل العقل» (٥١٦)؛ فهما يرتبطان — كالطفل وصورته — بالعلاقة بين الذات والشيء، وليس (حسبما يظن الواقعيُّون أو العقلانيون) بالعلاقة بين الأشياء في ذاتها. ففي النظام الرمزي وحده تُعتبَر الأشياء كيانات محدَّدة ترتبط معًا في علاقات بينية موضوعية، في ظلِّ إزاحة الذات المُكوِّنة «من المركز» أو إبعادها عن المشهد. ويصرُّ هيوم على أن المصطلحات الأخلاقية لا تَنطبِق على «الأشياء الخارجية إذا كانت في مقابل أشياء خارجية أخرى … فالأخلاق لا تكمن في أي علاقات تخضع للعلم» (٥١٦، ٥٢٠). فالقتل من منظور هذه الرؤية الانفعالية للأخلاق ليس شرًّا في ذاته، بل بسبب الشعور بالإنكار الذي يثيره بداخلنا: «فهو شيء شعوري، ولا ينتمي للعقل» والقيمة الأخلاقية «تكمن في نفسك لا في الشيء» (٥٢٠)؛ «فالأخلاق إذن ينبغي أن تكون إحساسًا لا حكمًا» (٥٢٢). والحس الأخلاقي عند فرانسيس هتشسون — على فطريته الغريبة — هو على الأقل استجابة للصفات الملازمة للأفعال؛ لكن هيوم يأخذ هذه النقطة إلى مرحلة أبعد؛ إذ يزعم أن «امتلاك حس الفضيلة لا يتعدى «الإحساس» بالرضا من نوع معين نتيجة تأمل شخصية ما» (٥٢٣)، وهو زعمٌ ما كان هتشسون ليتفق معه. وكما يصوغ شافتسبري المسألة: «إن لم يوجد صلاح أو فساد «حقيقي» في الأفعال الأخلاقية، فهُما على الأقل موجودان في «الخيال» بصورة قوية.»47
يقول هيوم إننا نشعر بالتعاطف الإنساني عند «تأمل شخصية ما» تستحقه؛ لكن بأي درجة من الحَرْفِية يُمكننا أن نفسر هذه العبارة؟ إذ هل يجب أن يكون الذين نتعاطف معهم حاضرين ماديًّا أمام أعيننا؟ إن هذا سؤال أهم مما يبدو؛ حيث إنه يطرح قضية ما إذا كان يمكن للأخلاق الخيالية أن تكون شاملة. لقد رأى فرانسيس هتشسون أن من الطبيعي أن نحب من هم أقرب إلينا بصورة أعمق من البعيدين عنا؛ لكنه كان حريصًا — كما رأينا — على تشجيع التقارب مع الثقافات الغريبة عنا، بل كتب على نحو غريب عن مدِّ جسور الخير إلى الكائنات العاقلة على الكواكب الأخرى، إن وجدوا. ويعلق بنبرة لينة كنبرة سفير بالأمم المتحدة: «لن تنفكَّ تمنِّياتنا الحسنة تصل إليهم، وسنُسَرُّ لسعادتهم.»48 قد يكون هتشسون من منظور معيَّن فيلسوفًا للنظام خياليًّا؛ لكن لم تكن نظرته ضيقة الأفق، فعلى عكس مواطِنِه إدموند بيرك لم يكن رومانسيًّا متبنيًا للمذهب الخصوصي بل تنويريًّا متبنيًا للمذهب العمومي، اهتمامه ينصبُّ على رفاهة البشرية كلها. لقد كان هو في واقع الأمر من ابتكر الشعار النَّفعي «أكبر سعادة ممكنة لأكبر عدد ممكن.»49 وبمزج هذه النظرة العمومية بنظرية عاطفية، يمثل فكره نقطة التقاءٍ مثمرة بين الحركتين التنويرية والرومانسية. لقد أقرَّ هتشسون بأن الروابط البعيدة أضعف من الروابط الحميمة؛ فقوَّة الخير — كما الجاذبية — تتبدَّد ببُعد المسافات «وتبلغ أقصى قوتها عندما تتقارَب الأجساد.»50 ومع ذلك فقد آمن بإمكان وجود «درجات أضعف من الحب» وبأن الخير «يمتد إلى ما وراء الجيران أو المعارف.»51
يُشير هتشسون — في خطوة لم تكن غريبة على ليبرالي أيرلندي في القرن الثامن عشر — إلى حب الوطن باعتباره مثالًا لهذه العاطفة الممتدَّة، فالأمة ليست — بتعبير بينيدكت أندرسون الشهير — مجتمعًا تخيليًّا فقط، بل خياليًّا كذلك يرى فيه كل مواطن مخلص — كما في فضاء ما مغلق لا يخضع للزمن — نفسه منعكسًا في تناغم في نظرة رفاقه المواطنين، بينما يتمتَّع كلٌّ منهم في الوقت ذاته باعتراف ذلك الرمز السامي الموقَّر؛ الأمة ذاتها. وهذا بصورة كبيرة هو الحلم السياسي لجان جاك روسو؛ أن تشكل الأمة المجال الخيالي الذي يسلم فيه كل مواطن نفسه — بخضوعه للقوانين التي وضعها بحرية مع زملائه من المواطنين — لإرادتهم الجماعية، ليس إلا ليحصل على فرديته من جديد، يُعزِّزها ألف مرة تناغُمُها مع فرديتهم، فكل مواطن يتأمل صورته الخاصة في ظلِّ نفس السلطة التي تنقل إليه صورة المواطنين الآخرين. يتحدَّث الجمهوري الأيرلندي توماس كيتل عن القومية باعتبارها ارتقاءَ المشاعر الفردية لمستوى المبدأ السياسي، ويطرح هذا الشكل الجديد باعتباره مؤشِّرًا على إعادة التأهيل العامة تلك للمَشاعر.52 ولا تَعرف سردية الأمة — كما الزمن في النظام الخيالي — بداية ولا نهاية. كما أن المبدأ الروحي للأمة — بداية من القرن الثامن عشر وما تلاه — انصهر مع المفهوم السياسي للدولة، ليُعلن مولد بنية جديدة تمامًا من النظامين الخيالي والرمزي؛ إذ لا تَعترِف الأمة باعتبارها مجتمعًا خياليًّا بأي اختلافات أو فروق داخلية؛ حيث يجد كل عضو نفسه مُنعكِسًا في جميع من سواه؛ لكن لكي تظهر بذاتها على الساحة الدولية، فإن كيانها الأفلاطوني يجب أن يتنازل ليتجسَّد في التاريخ المادي فيطرح نفسه في البنى الرمزية للقانون والأيديولوجيات الأخلاقية والمؤسسات السياسية وما شابه. إن كانت الدولة الأمة ابتكارًا ناجحًا جدًّا من صنع الحداثة؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أنها تُخضِع أكثر العواطف «خيالية»، التي يكون الرجال والنساء باسمها مستعدِّين للتضحية بحياتهم، للنظام الرمزي الموضوعي للقانون والتجارة والعدالة والمواطنة.
مع ذلك فإنَّ النظام الأخلاقي المبني على الأرضية المشتركة بين الذوات والانتقال السريع لعدوى المشاعر يعاني بوضوح من مشكلة مع تناقص العلاقات المباشرة؛ إذ يُعلِّق هتشسون بأن الطبيعة فرضت علينا أن نُحبَّ الأقرب إلينا، وهذا في نظره نوع من التدبير الإلهي العاطفي، فهو يَمنعُنا من تبديد عواطفنا على جموع بعيدة لا نعرف مصالحها الحقيقية حتمًا والتي هي أبعد عنا من أن نُساعدها. لكن يظل هناك «فرض عام للإحسان على البشرية، حتى تجاه الأجزاء الأبعد منها.»53 كما أنه من الممكن، كما يرى، صياغة قواعد ومبادئ قد تساعد على الخير العام، وهي مهمة كانت جزءًا من تراثه الذي تركه لأتباع بنثام؛ فالذين يبنون الأخلاق بنسبة كبيرة على المشاعر من أمثال هتشسون كانوا يحذرون من التحول الزائد إلى النظام الرمزي الذي تشكل فيه الأخلاق مسألة قوانين عامة والتزامات محضة؛ إذ إن مجرد ذكر تلك الواجبات المجردة إساءة لدوافع القلب العفْوية. لكن إن أردنا التعميم بحق، فمن الصعب تصور كيف يمكن تجنب الحديث عن مثل هذه القواعد؛ وبذلك نتعدى على نطاق الفلسفة الكانطية أو البنثامية، فلا تكفي المشاعر لتشكيل مجتمع عام مكوَّن من أفراد ملتزمين أخلاقيًّا. وما بين شافتسبري وبنثام، يريد هتشسون التمسك بفكرة الطبيعة الخيِّرة الفطرية مع الإقرار في الوقت ذاته بأن الأخلاق العامة التي يُوصي بها يجب أن تحكمها القواعد.
أما ديفيد هيوم فهو أقل اقتناعًا بكثير من هتشسون بحقيقة الخير العام. صحيح أنه تحدث في عمله «بحث في مبادئ الأخلاق» عن «حس أو شعور داخلي (بالخير والشر) عمَّمته الطبيعة في النوع البشري كله.» وتحدَّث عن الخير باعتباره وسيلة لتحقيق مصالح الإنسانية ككل.54 لكن إن كانت مؤسسات العدالة لازمة؛ فهذا لأن الناس ليسوا «متشرِّبين بالصداقة والكرم؛ بحيث يحنو كل إنسان على سائر الناس ولا يهتمُّ بمصالحه أكثر مما يهتم بمصالح أقرانه.»55 تبدو رؤية هيوم للعدالة شبيهة جدًّا برؤية ماركس؛ فهي فضيلة واجبة في حالات الوفرة المحدودة التي علينا فيها أن نختلف حول ما يَملكه كل فرد؛ لكنها لا تنطبق على حالات العَوَز الشديدة؛ حيث يمد الرجال والنساء أيديهم لما يَطالون. ويرى ماركس أن العدالة لا تنطبق كذلك على مجتمع ينعم بالوفرة المادية المفرطة التي لا داعي فيها للعدالة بسبب عدم الحاجة لتوزيع محكوم للسلع. وغنيٌّ عن القول أن هيوم يظل عن وعي غير خاضع لإغراء هذه المثالية.

في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية»، يستبعد هيوم بالتحديد فكرة الحب العام؛ إذ يكتب على طريقة سويفت: «عامةً قد يتأكَّد انعدام وجود عاطفة في أذهان البشر كحب البشرية، هكذا بذاتها دون سِمات شخصية أو خدمات تحصل عليها أو علاقات ترتبط بأفرادها» (٢٣١). إن حدود الكرم الإنساني — ما يُسمِّيه «الخير المقيد» — هو ما يسعى هيوم لإلقاء الضوء عليه هنا، فهذه العاطفة في رأيه نادرًا ما تمتد إلى ما وراء أسرة الفرد وأصدقائه، «فنحن نحب أبناء بلدنا وجيراننا والمُشتغلين بنفس المِهنَة أو الحرفة وحتَّى من يُشارِكوننا الاسم» (٤٠١)، ولا يَسعنا إلا أن نفضل صحبة حتى أقل أصدقائنا توافقًا معنا على صحبة الغرباء، فهي أخلاق المقهى. اتفق فرويد قلبًا وقالبًا مع هذه العاطفة الحصيفة؛ إذ لم يوجد في نظره هذا القدر من الرغبة الذي يَستحِق الإشباع، فسعيُ الإنسان من أجل حب الجميع — كما يقول في «قلق في الحضارة» — نوع من الظلم؛ حيث إنه يُبدِّد على من لا يستحق عاطفة ينبغي أن يدَّخرها «لمعارفه». ويُتابع قائلًا إنَّ الغرباء أوْلَى بكراهيتنا وعداوتنا من عطفنا. فالجار عند فرويد عدوٌّ في السر، وهذا صحيح على نحو آخر في المسيحية أيضًا. وهذه هي السابقة التي يشبه فيها حب شخص لجاره حبَّه لعدوِّه، فكل إنسان يمكنه أن يحب صديقًا، فيمكن لأي شخص أن يحبَّ صديقًا له. وإن كان الجار مصدر أذًى للإنسان — كما أدرك فرويد — فذلك يرجع جزئيًّا (كما لم يتفهَّم فرويد تمامًا) إلى أن بعض الأنشطة الإنسانية تكون أكثر بغضًا وتطلبًا وجحودًا وفتكًا من الحب. يروج كتاب «قلق في الحضارة» لصراع مباشر بين الجنس والمجتمع؛ فالعدد المثالي للأول هو اثنان، بما أن وجود ثالث — كما يقول فرويد الرافض بتشدُّد لمُمارسة الجنس بين ثلاثة أشخاص — إما مُخِلٌّ أو زائد عن الحاجة، أما المجتمع ككل فيتضمَّن وجودنا مع عدد كبير من الأفراد، وبذلك يخاطر بتوزيع عواطفنا وإفقادها قوتها؛ إذ يخلط فرويد بطابع حديث متميز بين الحب بمعنى «العشق» والحب بمعنى «المحبة» أو الإحسان.

يرى هيوم أن مثل هذه العصبية العاطفية أصلها في طبيعتنا؛ فهناك حدود مشدَّدة الحراسة تَفصل بين الأصدقاء والغُرباء، حدود تَرتبِط بدرجة ما مع الفروق الطبقية (بما أن الأصدقاء في الغالب مهذَّبون بقدر الفرد نفسه) وكذلك الفروق بين النظامين الخيالي والرمزي. فالمجتمع عند هيوم يتكوَّن من دوائر متَّحدة المركز متمدِّدة باطراد لما يسميه هتشسون «الحب الضعيف»، وتقل كثافة العاطفة كلما ابتعدنا عن ذوي أرحامنا: «فالفرد بطبيعته يحب أولاده أكثر من أولاد إخوته، وأولاد إخوته أكثر من أبناء عمومته، وأبناء عمومته أكثر من الغرباء …» (٥٣٥). ويزعم هيوم — كما لو كان يتتبع صعودًا متدرجًا بدقة من طبقات الجو السفلى إلى طبقات الجو العليا — أن عواطفنا تجاه من هم أقرب إلينا «أكثر خفوتًا» من حبِّنا لذاتنا، بينما تعاطفاتنا مع البعيدين عنا «أكثر خفوتًا» بدورها. ويبدو أنه لم يخطر بباله أن الرجل قد يحبُّ زعيمًا سياسيًّا لم يقابله وجهًا لوجه قَطُّ حبًّا أعنف من حبه لزوجته.

هناك سبل لتعويض انحياز تعاطفنا الضيق؛ إذ يُمكننا إجراء تعديلات أخلاقية — إن جاز التعبير — لعدم مبالاتنا بالغُرَباء، مثلما يُمكِنُنا أن ندرك إذا تفكَّرنا أنَّ الأشياء البعيدة ليست صغيرة كما تبدو. كما أننا «نُقابل كل يوم أشخاصًا في موقع مختلف عن موقعنا، ولا يمكن أن يتناقشوا معنا بأي صورة معقولة إن بقينا في ذلك الموقع ووجهة النظر التي هي خاصة بنا» (٦٥٣). فبتعديل منظورنا بهذا الشكل فإننا نُكوِّن تقييمات لأقراننا أكثر موضوعية منها إن بقينا مختبئين في محرابنا الاجتماعي الخاص. إلا أنَّ المذهب التجريبي الذي يرى أن الحقيقة — بوجه عام — هي ما يمكن إدراكه بالحواس من الأرجح أنه سيواجه إشكالية مع العلاقات الاجتماعية المجهولة الهوية، ومِنْ ثَمَّ مع السياسة؛ إذ يكتب سلافوي جيجك إن «الشفقة هي عجز قوة التجرد»،56 ويرى هيوم أن القانون والسياسة هما نتاج فشل الخيال. وبالنظر إلى أن مصالح البعيدين عنا من الصعب وضعها في الاعتبار بوضوح، فمن الواجب إحالتها إلى الآليات المجرَّدة كمؤسَّسات العدالة.

يُؤمن هيوم بكل تأكيد بأن كل البشر مرتبطون بعضهم ببعض بالتشابه؛ لذا فإن طبيعتنا المشتركة تمثل معادلًا لحب الذات؛ إذ يمكننا الشعور بالشفقة تجاه الغرباء «بمعنى الذين لا نعنيهم» ولو بسماعهم وهم يذكرون مصائبهم أمامنا. إلا أنه يرى أن الرحمة «تعتمد في جانب كبير منها على التماس مع الشيء والرؤية الواضحة له» (٤١٨). وهو أحد الأسباب التي دفعته للانتقال في نفس الفقرة إلى موضوع التراجيديا؛ فالهدف من الفن التراجيدي هو تقديم صور ملموسة للشخصيات التي تَستحِقُّ الشفقة التي لا نعرفها، وهذا هو السبب في أن موت كورديليا (في مسرحية «الملك لير») يمكن أن يؤثر فينا كموت صديق؛ فالتعاطف عند هيوم يتوقف بنحو كبير على التصوير؛ فالغرباء الذين يمكننا أن نرتبط بهم هم الذين نسمع عنهم، فالأخلاق والإبستمولوجيا متلازمان على الأقل في هذا الإطار، بحيث إنه من دون العقل الذي يصنع الصورة فإن مشاعرنا المتعاطفة ستظلُّ خاملة وهامِدة.

يتحدَّث هيوم في موضع آخر في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية» عن تقديم المساعدة لشخص غريب تمامًا على وشك أن تدوسه الخيول بحَوافرها؛ لكن النقطة تكمن في أن الغريب المذكور حاضر ماديًّا، وهو أمر في نظر هيوم محفِّز للعواطف أقوى بكثير من تصور ضبابي للخير العام؛ إذ يرى أنه يوجد فعلًا مثل هذا التعاطف العام بمعنى أن كل شخص أيًّا يكن يُمكنه من حيث المبدأ أن يُثير تعاطفنا؛ لكن مشاعرنا — كلُعاب كلب الحراسة — لا تتدفَّق بحقٍّ إلا إن كان الآخر ملموسًا ممثلًا موجودًا في المحيط إما عن طريق الخيال أو الواقع. يكتب هيوم: «ما من إنسان، ولا أي كائن عاقل، لا تؤثر سعادته أو شقاؤه — بقدرٍ ما — علينا عندما يقترب منا» (٥٣٣). لكن العبارة الأخيرة هي ما يُميِّز الحالة التي ذكرها عن حب البشرية عامةً، وهي عقيدة (رغم النزعة الشاملة لاهتماماته الثقافية) يتبرأ منها في هذا الموضع بالتحديد.

يتحدث هيوم في موضع آخر في عمله «رسالة في الطبيعة الإنسانية» بنفس الصورة عن الشعور بالتعاطُف تجاه «أي شخص حاضر أمامنا» (٤٣٢)؛ بينما يقول في عمله «بحث في مبادئ الأخلاق» إننا «على استعداد أكبر بالتأكيد للخوض في بحر العواطف التي تماثل تلك التي نشعر بها كل يوم؛ لكن لا يُمكن ألا نبالي بعاطفة إن كانت متمثِّلة لنا بوضوح …»57 مرة أخرى يأتي التأكيد على العرض الحي، كما في المسرح؛ إذ يجب على الآخرين أن يَستحوِذوا على تخيُّلاتنا إن أرادوا استثارة تعاطفنا، والخيال بالمعنى قبل الرومانسي الذي استخدمه هيوم أكثر تأثرًا على نحو كبير بالقريب من البعيد. تتَّسم مثل هذه الأخلاق التجريبية بالخصوصية الأخلاقية، التي تعكس ضيق الأفق العاطفي لعضو في حزب المحافظين، فكأن هناك أخلاقًا محدَّدة تشكِّل امتدادًا لإبستمولوجيا محدَّدة، قد يصل الخجل من التجريد المفاهيمي والإصرار على ما يمكن قياسه ماديًّا إلى اقتناعنا بأن الغرباء ليسوا جيرانًا في الحقيقة؛ إذ يؤمن هيوم بأن الأشياء التي تمسُّنا في الزمان والمكان لها «قوة وحيوية خاصة» تفوق أي تأثير آخر (٤٧٤). فمن الغريب إذن أن بريطانيا في القرن الثامن عشر يبدو أنه قد شغفها الاهتمام بإمبراطوريتها؛ أي أن تشغل مجموعة من الأمم البعيدة عواطفها الخيالية بالقوة التي كانت عليها.

لقد كان التحوُّل إلى الرومانسية محاوَلةً — من بين أشياء أخرى — لتصحيح قصور الرؤية الأخلاقية هذا. وبينما كان الخيال بمنظور القرن الثامن عشر هو الملكة التي تولد صورًا مرئية لما يظهر أمام أعيننا، تمثَّلت مهمة الخيال الرومانسي بصورة كبيرة في استحضار ما هو غائب عنا مؤقتًا أو مكانيًّا؛ ومِنْ ثَمَّ تكوين شبكة من العواطف العامة حيَّة وباقية بقدر العواطف المحلية. وبمجرد تحول الخيال إلى ملكة عامة، كما في الرومانسية، يفقد منطق التجريبي الكثير من قبوله.

إنَّ هناك أسسًا مميَّزة لما أسميته — بشيء من المفارقة — الأخلاق الخيالية. (وهي مفارقة في التسمية لأن النظام الخيالي اللاكاني في الحقيقة سابق على الأخلاق.) فهذه الأخلاق من عدة أوجه نسخة علمانية من التناغُم والانسجام والتوافق التي أُرسيت جميعًا مسبقًا — إن جاز التعبير — في الفردوس، أو في عوالم فلاسفة العصور الوسطى أو في الكون المتناغِم عند الأفلاطونيين الجدد. وبحلول زمن هتشسون فقدَتْ هذه الرُّؤى العظيمة اعتبارها على نحو كبير؛ لكن نتيجة لوجود طوفان من الفردية الهادمة الآن ظهرت حركة لإعادة إنتاج هذه الرؤى في شكل دنيوي ملائم؛ إذ يجب إعادة الروابط الإنسانية إلى عالم محروم منها تقريبًا. وفي ظل ثقافة العقود والالتزامات القانونية الجامدة، فإن إصرار أصحاب مذهب الخير على الحب والرحمة والكرم يتَّسم بدفء عاطفي مقبول. ويسيء لهذه القضية — كما سيبين كانط لاحقًا — أن يكون البديل الوحيد للالتزام الأخلاقي هو التصرف الذي يخدم اللذة الأنانية الخاصة للفرد. إنَّ هذا يستحضر مجال اللذَّة كله من البيوريتانيين المتزَمِّتين، ويُعيده إلى مكانه المركزي في الفكر الأخلاقي. لقد كانت علامة الإنسان الفاضل، كما يرى ديفيد هيوم، أن يُحصِّل السرور من الرحمة والإنسانية. ويقرُّ فلاسفة مذهب الخير بطريقتهم الخاصة — في كلمات برنارد ويليامز — بأن «الخط الفاصل بين الاهتمام بالذات والاهتمام بالغير لا يتَّفقُ بأي نحو مع الخط الفاصل بين الرغبة والالتزام.»58

يوجد شيء مِن الشرَف والجمال في هذه الرؤية الخيالية التي قد تبدو بجانبها الأخلاق الرمزية التي سنَتناولها بعد قليل فقيرة وبغيضة. لقد أصاب الفلاسفة الأخلاقيُّون الذين عرضنا لهم في رأيهم أن الأخلاق تتعلَّق بالإشباع الإنساني، وكذلك بشأن القيم المهمة حقًّا، بصرف النظر عن مدى خطئهم بشأن التأصيل لها، فعلى عكس أرسطو الذي يبدو الإنسان الفاضل في نظره أحيانًا كقطب إعلامي متمتِّع بنجاح باهر، وبالتأكيد منافق متغطرس، فإن الأخلاق لا ترى الرجال والنساء مُكتفين بذواتهم، بل في حاجة مستمرة للحنان والدعم. وبخلاف إرث مهم من الطوعية الأخلاقية، فهي تقر بالقيمة المناسبة للحظة الأخلاقية السلبية؛ بمعنى التحرُّك والتقيُّد والحث والدفع التلقائي نحو الفعل. صحيح أنها ترى الأفراد غير قادِرين على تقرير مصيرهم، وتَعتبِرُهم مفرِّطين في الحرص على المحاكاة والتكيف، يرزحون تحت نِير آراء أقرانهم. وهذا، من بين أشياء أخرى، انعكاس للسياق الاجتماعي لهؤلاء المنَظِّرين الذين تشاركوا باعتبارهم مُنتمِين لطبقة اجتماعية واحدة إلى حدٍّ ما نفس الآراء من دون التمعُّن فيها كثيرًا. كما أنهم انشغلوا كثيرًا بسُمعتهم، وهو أحد الأسباب التي تجعل نظرة الآخَر شديدة الأهمية عندهم.

إن كان مِن المحَتَّم أن تُكسر دائرة النظام الخيالي في النهاية؛ فذلك لأن الرجال والنساء لا يُحقِّقون استقلالهم — على هشاشته — إلا في النظام الرمزي، وإن حدث فالثمن غالٍ. مع ذلك، يكمن الجانب الإيجابي لهذا التجانُس الاجتماعي في قابلية المشاركة الاجتماعية الإنسانية لنِظام أخلاقي خيالي، نظام يَرفُض نزع القيم الأخلاقية من قلب الحياة اليومية. إنَّ هذا الاحترام للحياة اليومية — الذي يَظهَر جليًّا في الأدب الواقعي كذلك — هو ما يُميِّز مجلات القرن الثامن عشر ذات التأثير الكبير مثل «تاتلر» و«سبكتيتور».

على الرغم من ذلك تبدو هذه الأخلاق مُنغلِقة ومَعزولة بصورة خطرة، فالحب والتعاطف يَنسحِبان بطريقة مجرَّدة على الإنسانية جمعاء؛ لكن الجار الحقيقي هو ابن العمومة أو الزميل وليس شخصًا مجهولًا محبًّا للخير مثلًا. وترى هذه الرؤية الأخلاقية القائمة على الجسد أن الوجود الاجتماعي فيما يَتجاوَز الأصدقاء والأقارب ليس امتدادًا لأجسادنا؛ ومِن ثَمَّ فهو عُرضة لأن يَختفيَ من أفقنا الأخلاقي، فدوائر التعاطُف متَّحدة المركز تتراكم في سلسلة ذات تدرُّج دقيق من البيت الدافئ إلى المَجهولين القابعين في ظلمة الخارج.

صحيحٌ أن قواعد السلوك وُضعت باعتبارها وسيطًا أو منطقة بينية تجمع الأصدقاء والغرباء؛ أي وسيلة لتهذيب النفس تتَّسم باللطف من دون مودَّة والتهذيب من دون ألفة. لقد رأى برتولت بريخت أن مثل هذه المنطقة البينية — بين ما هو مُثير للعاطفة أو مألوف من ناحية وما هو غريب مجهول من الناحية الأخرى — هي عرفٌ أساسي في أي ثقافة اشتراكية، فكلمة «الرفيق» — إن جاز التعبير — تتوسَّط بين كلمتي «عزيزتي» و«سيدتي». يكتب تيودور أدورنو في كتابه «الأخلاق الصغرى» عن «الذوق» باعتباره هذا الوسيط في بدايات مُجتمَع الطبقة الوسطى، وهي ملَكة يَخشى أنها قد ضمرت منذ أمدٍ بعيد. ويكتب: «[البرجوازي] بما أنه حرٌّ ووحيد فهو مسئول عن نفسه، بينما أشكال الاحترام والتقدير الهرمي التي شكَّلتها السلطة المطلقة — والتي جُردت من قاعدتها الاقتصادية وقوَّتها الخطيرة — لا تزال حاضرةً بصورة كافية لتَجعل العيش المشترك في ظل وجود جماعات تتمتَّع بامتيازات ممكنًا.»59 لكن أي نظرية أخلاق خيالية تَخشى أن الدخول في دائرة القوانين والواجبات العامة معناه التخلِّي عن العواطف والمشاعر الخاصة، وتعني قراءة كتابات كانط الأخلاقية الاتفاق مع ذلك. من الناحية الأخرى، يبدو تيار الفكر الأخلاقي هذا بِرُمَّته في نظر مُناصِري المبادئ الجليلة أو القوانين السائدة أو أهوال النظام الواقعي غامرًا بالدفء والأُلفة، وكذلك مَفتون بشدة بتلك المفاهيم العاطفية كتَحقيق السعادة. فالشفقة والتعاطف ما هما إلا الوجه المستعطف الذي تُوليه الرأسمالية ذات الوجهين لضحاياها. والسعادة — التي هي مُهمَّة المسئول في الحكومة البريطانية اليوم — هي المخدر العجيب الذي يساعدهم على الاستمرار في العمل.

مع ذلك قد يكون الاختيار بين الحب والقانون وهميًّا، فما يعجِز العاطفيون الأخلاقيون عامة عن استيعابه هو أن القانون الأخلاقي الوحيد الموثوق به هو قانون الحب؛ لكنه ليس على الإطلاق نوع الحب الذي يُمكن التعبير عنه في إطار الإحساس؛ فالحب الوحيد الذي يهم هو الحب «القانوني» لا «العاطفي»؛ ففي رفضه القاسي اللاإنساني لتفضيل احتياجات إنسان على آخر، هو أقرب لمرسوم من غريزة. فهذا النوع من الحب يتميَّز باللامبالاة المتحجِّرة تجاه أشخاص معيَّنين في النظام الرمزي، كما أن هذه اللامبالاة رهن خدمة انتباه «خيالي» للاحتياجات الخصوصية الفريدة لأي شخص أيًّا يكن، فهي ليست قضية خير عام، قضية «حب للجميع» في مَوجة نقية من الحب السخي، وهو ما يُشبه حب مفهوم اللون الأرجواني أو فكرة الاقتراع الفردي القابل للتغيير. من الحكمة أن استبعد هيوم هذا التصور؛ إذ ينبغي التعامل مع الحب العام باعتباره المفهوم الديمقراطي للشعب، فهو ظاهرة خرافية، من الناحية الحَرفية. إلا أنه يشير إلى أن أي فرد يمكن أن يكون فاعلًا اجتماعيًّا يكافئ في قدره من هم سواه.

من هذا المنطلق يتفق الحب الصادق مع منطق «ليس الكل» عند لاكان، فهي ليست قضية «يجب عليَّ أن أحب كل الناس» — وهي فرضية فارغة إن كانت فرضية من الأساس — بل «لا يوجد من يجب عليَّ ألا أحبه.» فالحبُّ العام مسألة تخصُّ السياسة الدولية لا النداءات الفضفاضة للتضامُن الكوني. وهذا فيما يخصُّ الأفراد يعني حب الجميع بمعنى حب أي شخص يظهر في المحيط. وبذلك يرفض التمييز بين الصديق والغريب، ليس لأنه جامد في مواجهة العواطف الشخصية، بل لأنه لا يعتبر أن الحب يتعلَّق بمثل تلك الأشياء، فليس على المرء أن يشعر على الأقل بالحب ليكون قادرًا على الحب.

في إنجيلَي مرقس ومتى، تعني كلمة «الجار» ببساطة الشخص الآخر سواء أكان صديقًا أم معرفةً أم عدوًّا أم غريبًا. وغني عن القول إن هذه ليست عقيدة قدَّمتها المسيحية لأول مرة؛ فكل الناس عند الرواقيين القدماء مواطنون في العالم، وكل البشر جيران. ويرى لوقا — المؤمن بعقيدة العهد القديم التي ترمز فيها كلمة «الجار» إلى اليهود الغامضين الأدنى اجتماعيًّا الذين هم في حاجة ماسة للحماية — أن حب الجار يتجسد على وجه التحديد في الاهتمام بالمحتاجين والمعدمين؛ فالجار هو أول من تقابله وهو في محنة. أما كُتاب الحكمة ورسلها، فكلمة «الجار» تعني قبل كل شيء الفقراء، وعمَّم يهود الشتات الكلمة لتشمل كل البشر.60
لقد أصاب هيوم وهتشسون في أنه من الطبيعي أن نحبَّ أطفالنا أكثر مما نحب مديرنا البنكي مثلًا؛ لكنهم ينظرون إلى الحب بمعناه الشخصي أو العاطفي، وهو ليس معناه الأساسي؛ إذ ظهر قدر كبير من الإشكال في الفلسفة الغربية من الخلط بين الحب بمعناه العاطفي أو الغريزي بالمحبة أو الإحسان العام. وقد رأينا أن فرويد وقع في بعض الأحيان في هذا الخطأ. ويرجع هذا الخلط جزئيًّا إلى الذبول التدريجي لما هو سياسي، وهو بدوره ما يجعل فكرة الحب السياسي تبدو مناقضة لذاتها على نحو شديد. لكن عند الاختيار ما بين ذبح ولدي وإطلاق النار على مديري البنكي؛ فالأخلاق الرمزية وَحْدَها دون الخيالية هي ما يفيد، فالحب بمعنى شعوري تجاه ولدي لا يصلح معيارًا لتحديد أي الفعلين أخلاقي. في الواقع ليس أي من الفعلين أخلاقيًّا؛ حيث إن حياة مدير البنك لها حق عليَّ بقدر حياة ولدي. ولا يؤثر كرهي لمدير البنك — وأنني ربما حاولت خنقه بنفسي مرة أو مرتين من قبل — في هذه الحقيقة الأولية؛ إذ يجب عليَّ أن أعامل مدير البنك كما أعامل نفسي، وهو ما لا يعني أن يتورد وجهي حمرة لرؤيته في الطريق، أو أن أضمر له نفس الدفء الحاني الذي أضمره لابنتي، أو ألا أتردد في سرقة بنكه تحت ضغط ظروف مادية معينة، أو ألا يسرني أن أراه بائعًا جائلًا عندما تتحول البنوك إلى ملكية عامة. يذكرنا كوامي أنتوني أبياه بأن «القول إن علينا التزامات تجاه الغرباء لا يعني القول أنهم يستحوذون على عواطفنا بقدر مَنْ هم أقرب إلينا وأعز علينا.»61 فهي ليست قضية معاملة الغرباء كالجيران بل معاملة النفس كالغريب؛ أي الإدراك في صميم القلب بحاجة ماسة تتَّسم بالغموض في نهاية المطاف وهي الأساس الحقيقي — فيما وراء المرآة — الذي يُمكن أن يبني البشر عليه لعلاقتهم. هذا هو ما يسميه هيجل الروح، ويعرفه التحليل النفسي بالنظام الواقعي، وتطلق عليه العقيدة المسيحية اليهودية حب الرب. وعلى الطيبة المُثيرة للإعجاب في الأخلاق الخيالية؛ فالرعب والرَّوعة هما ما يَكمن فيما وراء إدراكها المحدود.

من بين علامات المَحدودية هذه عجز أمثال ديفيد هيوم عن رؤية فضائل الزهد باعتبارها أي فضائل بخلاف التنسُّك وإنكار الحياة، في فهم خاطئ للمَسيحية يستمر إلى اليوم. فهيوم الذي ألف كتاب «بحث في مبادئ الأخلاق» يرفض التبَتُّل وإنكار الذات والتوبة والتنسك باعتبارها ضلالات كابحة للنفس؛ إذ يرى أن مثل هذه المُمارسات المؤدِّبة للنفس تعيق الفهم وتقسِّي القلب وتُعكِّر صفو المزاج. ومن هذا المنطلق فإن البرجوازيين في القرن الثامن عشر يَستوون مع الليبراليين المشجِّعين على الحياة في يومنا هذا. من المؤكَّد أنه لا سبب يدفع مناصرًا للتنوير في القرن الثامن عشر لئلا يعتبر هذه القيم همجية. لم يكن هيوم مقاتل حرب عصابات في العصر الحديث قد يقدر الحاجة لعدم التقيُّد بالروابط العائلية وعدم حيازة أي أملاك والاعتياد على مواجَهة المصاعب الشخصية في سبيل مصلحة الآخرين. كما لم يكن ناسكًا يشهد على القيمة الكبيرة للجنس وحياة الوفرة المادية من خلال الهجر المؤقَّت لهذه الملذَّات في سبيل إيجاد مساحة مستقبلية للحق والعدل. فهناك فقط — كما يعتقد المتبتِّل المتديِّن — سيتوفَّر هذا الترف للجميع. فهذا التبتل يتضمن تضحية، وهو ما يعني أنه يعتبر الجنس ورغد العيش من القيم التي يُعتز بها.

لا يُنتظر من برجوازي أنيس المعشر كديفيد هيوم أن يدافع عن عمل تضحية غير أنانية؛ تضحية تتضمن القيم المؤلمة المُميتة الأكثر قسوة لكنها تتمُّ باسم إرساء حياة أكثر وفرة في كل مكان. فهو ممثل للنظام الخيالي وليس مناصرًا للنظام الحقيقي؛ إذ لا يري أننا يجب علينا أحيانًا أن نفعل ما ينبغي لنتمكن من فعل ما نريد، فكل هذا يبدو له كئيبًا ومازوخيًّا كما تبدو الحكمة الليبرالية التقليدية في يومِنا هذا. صحيح أن الحياة السعيدة تتمحوَر حول الفضل واليُسر والرفاهية، كما فهم مفكِّرو عصر التنوير هؤلاء على طريقتهم بنفس الوضوح الذي فهمها به أرسطو أو توما الأكويني. لكن ما لم يَرَوهُ من موقعهم التاريخي ذي الأفضلية هو أن تحقيق هذا الوضع يتطلب من وقت لآخر قيم التضحية والانضباط الكئيبة الثورية. وتلك حقيقة مؤسفة وإن كان لا مفر منها. لم يكن هذا ليكون بجديد على جون ميلتون؛ لكن الثورة، التي أتت بمن رأوا ديفيد هيوم متحدثًا رائعًا عنهم، قد انحسرت موجتها الآن عبر أفق التاريخ بما يكفي لينسى أن القيم الزاهدة — وإن كانت كريهة حقًّا وبعيدة عن زخرف الحياة السعيدة — فهي ضرورية للأسف. إنها ضرورية لنيل الفضيلة والعدل عمليًّا، وكذلك باعتبارها (كما في حالة المتبتل المتدين) شاهدًا على الإمكانية الثابتة لتحققهما من خلال الرفض العام لرفاهيات الحاضر. ووَحدَهُمُ الذين يستمِدُّون راحتهم من التضحيات المفروضة على الآخرين هم القادرون على تجاهل هذه الحقيقة.

هوامش

(1) The philosopher David Wiggins argues in an account of Hume’s ethics that what Hume could have said is that ‘x is good/right/beautiful if and only if x is such as to make a certain sentiment of approbation appropriate’ (Needs, Values, Truth, Oxford, 1987, p. 187). What Wiggins could have said is that this is more or less what Francis Hutcheson does say.
(2) Francis Hutcheson, A System of Moral Philosophy (London, 1755), Book 3, p. 165. For studies of Hutcheson’s writings, see William T. Blackstone, Francis Hutcheson and Contemporary Ethical Theory (Athens, GA, 1965); Henning Jensen, Motivation and the Moral Sense in Francis Hutcheson’s Ethical Theory (The Hague, 1971); W. K. Frankena, ‘Hutcheson’s Moral Sense Theory’, Journal of the History of Ideas, vol. 16, no. 3, June, 1955; Peter Kivy, The Seventh Sense: A Study of Francis Hutcheson’s Aesthetics (New York, 1976); W. R. Scott, Francis Hutcheson (Cambridge, 1900); V. M. Hope, Virtue by Consensus (Oxford, 1989); and Alasdair MacIntyre, Whose Justice? Which Rationality? (London, 1988), Ch. XIV.
(3) Daniel Carey, ‘Travel Literature and the Problem of Human Nature in Locke, Shaftesbury and Hutcheson’, unpublished D. Phil. thesis, Oxford University, 1994, p. 200.
(4) Scott, Francis Hutcheson, pp. 20-1.
(5) L. A. Selby-Bigge (ed.), British Moralists, vol. 1 (New York, 1965), p. 35.
(6) Ibid., pp. 38-9.
(7) Ibid., p. 40.
(8) Ibid., pp. 41-2.
(9) Francis Hutcheson, Reflections on Laughter, and Remarks upon the Fable of the Bees (Glasgow, 1750), p. 6. The book contains one or two excellent jokes.
(10) Francis Hutcheson, An Inquiry Concerning Moral Good and Evil, in L. A. Selby-Bigge (ed.), British Moralists, vol. 1, p. 94.
(11) See for example Marc D. Hauser, Moral Minds: How Nature Designed Our Universal Sense of Right and Wrong (New York, 2007).
(12) Francis Hutcheson, A Short Introduction to Moral Philosophy (Glasgow, 1747), p. 14.
(13) Ibid., p. 75.
(14) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 70.
(15) Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis (London, 1999), p. 27.
(16) Francis Hutcheson, Inquiry Concerning the Original of our Ideas of Beauty and Virtue (London, 1726), p. 257.
(17) Hutcheson, Reflections on Laughter, p. 12.
(18) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 146.
(19) Hutcheson, Inquiry Concerning the Original of our Ideas of Beauty and Virtue, p. 253.
(20) Bernard Peach (ed.), Illustrations of the Moral Sense (Cambridge, MA, 1971), p. 106.
(21) See Charles L Griswold, Adam Smith and the Virtues of Enlightenment (Cambridge, 1999), p. 78.
(22) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 69.
(23) Hutcheson, A Short Introduction to Moral Philosophy, pp. 34-5.
(24) Hutcheson, Inquiry Concerning the Original of our Ideas of Beauty and Virtue, p. 275.
(25) Francis Hutcheson, An Essay on the Nature and Conduct of the Passions and Affections (Glasgow, 1769), p. 79.
(26) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 155.
(27) See MacIntyre, Whose Justice? Which Rationality?, p. 278.
(28) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 165.
(29) Friedrich Nietzsche, The Genealogy of Morals (New York, 1954), p. 31.
(30) David Hume, An Enquiry Concerning the Principles of Morals (Oxford, 1998), p. 43.
(31) Joseph Butler, Sermons, in Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 194.
(32) See Terry Eagleton, Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003), Ch. 9.
(33) Hutcheson, A Short Introduction to Moral Philosophy, p. 46.
(34) Edmund Burke, A Vindication of Natural Society (London, 1903), p. 26.
(35) See Terry Eagleton, The English Novel: An Introduction (Oxford, 2005), Ch. 3.
(36) Adam Smith, The Theory of Moral Sentiments, in Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 258.
(37) Maurice Merleau-Ponty, The Phenomenology of Perception (London, 1962), p. 348.
(38) Ibid., p. 349.
(39) Emmanuel Levinas, Otherwise than Being (The Hague, 1991), p. 77.
(40) Ibid., p. 354.
(41) Ibid., p. 355.
(42) Ibid., p. 355.
(43) Elaine Scarry, ‘The Difficulty of Imagining Other People’, in Martha Nussbaum, For Love of Country: Debating the Limits of Patriotism (Boston, 1996).
(44) Ibid., p. 352.
(45) David Hume, A Treatise of Human Nature (London, 1969), p. 457. Subsequent page references to this work will be given parenthetically after quotations.
(46) See on this subject Terry Eagleton, Ideology: An Introduction (London, 1991), p. 142f.
(47) Shaftesbury, Characteristics, in Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 120 (original emphasis).
(48) Selby-Bigge, British Moralists, vol. 1, p. 97.
(49) Ibid., 107. The phrase is commonly misquoted.
(50) Ibid., p. 130.
(51) Ibid., pp. 96-7.
(52) Thomas Kettle, The Day’s Burden (Dublin, 1937), p. 10.
(53) Ibid., p. 127.
(54) Hume, Enquiry Concerning the Principles of Morals, pp. 5, 12.
(55) Ibid., p. 12.
(56) Slavoj Žižek, ‘Neighbors and Other Monsters: A Plea for Ethical Violence’, in Slavoj Žižek, Eric L. Santer and Kenneth Reinhard, The Neighbor: Three Inquiries in Political Theology (Chicago and London, 2005), p. 185.
(57) Hume, Enquiry Concerning the Principles of Morals, p. 40.
(58) Bernard Williams, Ethics and the Limits of Philosophy (Cambridge, MA, 1985), p. 50.
(59) Theodor Adorno, Minima Moralia (London, 1974), p. 36.
(60) See Edward Schillebeeckx, Jesus: An Experiment in Christology (New York, 1989), p. 250.
(61) Kwame Anthony Appiah, Cosmopolitanism: Ethics in a World of Strangers (London, 2006), p. 158.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤