الفصل الثالث

إدموند بيرك وآدم سميث

ماذا لو لم يكن الشعور الداخلي والمبدأ العام هما الخياران الوحيدان في المسألة الأخلاقية؟ ماذا لو كان هناك قواعد سياسية تَحكُم التعاطُف؟ لقد رفع إدموند بيرك — أحد أبلغ المتحدِّثين عن القيمة الثمينة للإخلاص الداخلي — القبَّعة احترامًا للمبادئ العامة؛ لكنه نادرًا ما تحمَّس لها؛ فالسياسة في نظره يمكن أن تسير بالتعاطف الخيالي بقدر التعاطف الشخصي؛ ففي واقع الأمر، لولا أن حدث ذلك وبشيء من السرعة، فمن الأرجح أننا كنا سنَشهد نكبات أخرى تُضاهي خسارة أمريكا والعصيان المسلح في أيرلندا وإرهاب اليعاقبة في باريس ونهْب شركة الهند الشرقية. ولتفادي هذه الكوارث، يجب — كما يرى بيرك — أن يوجد «مجتمع له مصالح مشتركة، وتعاطف من ناحية المشاعر والرغبات فيما بين من يُسَيِّرون الأمور باسم الشعب، أيًّا كان وصفه من ناحية، وبين الشعب نفسه من الناحية الأخرى.»1
فالسلطة في نظر بيرك يجب أن يكون أصلها الحب، وهي فكرة نُطلق عليها اليوم اسم الهيمنة.2 إذ يقول في عمله «المصالحة مع المستعمرات» إن «القوة والسلطة أحيانًا ما يُكتسبان بالود؛ لكنهما لا يُستجديان أبدًا كالصدقة من خلال عنف ضعيف مهزوم.»3 فالنظام السياسي عند بيرك يقوم على أساسٍ خيالي من التبادُلية والتقارب؛ حيث يَزعُم في عمله «الخطاب الأول عن سلام مع الإدارة الفرنسية القاتلة لملكها» أن «الناس لا تَربطهم بعض الأوراق والأختام، فهم يَنقادون إلى الارتباط القائم على التشابه والتوافق والتعاطف، فلا رابطة وئام بين أمة وأخرى أقوى من التشابُه في القوانين والتقاليد والآداب والعادات الحياتية؛ إذ تملك في ذاتها قوة أكبر من المعاهدات، فهي التزامات محفورة في القلب.»4
إذن، فالقضية عند بيرك ليست قضية التمييز بين العواطف الداخلية القوية والعواطف السياسية الهزيلة كما عند هيوم، ولا هي مسألة تخصيص لحظة ما للمحاكاة «الخيالية» واللحظة التالية للخير العام كما عند هتشسون، بل إن رغبة بيرك هي إعادة تشكيل المجتمع السياسي ذاته ليتَّفق مع الجوانب الداخلية. في أيرلندا ما قبل الحداثة التي جاء منها، بكل ما فيها من زعماء جماعات محلية وروابط قبَلية تقليدية، لم يكن الفاصل بين الجانبين السابقين واضحًا على الإطلاق، وكان هدفه هو «وضع النزعات الحسنة في الحياة الخاصة في خدمة الأمة البريطانية.»5 ومن الأرجح بذلك أنه كان سيعترض على زعم جوبال بالاكريشنان أن كلًّا من الأديان والأمم «ترتكز على تصورات للدخول فيها تلغي العوامل القدرية الأولية الخاصة بالمولد والقرابة والعِرق.»6 فكما هو حال «محكمة الضمير المستقلة عن الفرمانات والمراسيم»،7 تمثل الأسرة نموذجًا مقنعًا للالتزامات من دون القوانين، وهي مثال على قوة الهيمنة لا قوة القسر. وكتب ريتشارد ستيل الذي ينتمي أيضًا لأيرلندا كُتيِّبًا بعنوان «الأسرة والأمة» يُقارن فيه بين صياغة سياسة مالية للدولة وتوفير قوت الأبناء.8 ويُحذر بيرك من أن المذهب العاطفي في فرنسا «يهدم مبادئ الصدق والأمانة الداخلية التي تُمثِّل ضوابط الحياة الاجتماعية.»9 وفي مفارقة غريبة فإن الافتتان المغالي بالعاطفة لا يضرُّ بالمنطق، بل بالشعور بمعناه الأدق، الشعور بوصفِه أساس روابط الإخلاص والحب المجرَّبة والمسلَّم بها، التي تُعدُّ الأسرة أكبر نموذج لها، والتي تُوفِّر أصح نموذج للوجود الاجتماعي ذاته؛ فالشعور ممارسة تقليدية وليس أداءً مسرحيًّا.

مع ذلك فإن بيرك بعيد تمامًا عن توسيع نطاق هذه العواطف الاجتماعية لتشمَل الجنس البشري بكامله. وهو يُشبه في هذا هيوم الذي كتب «رسالة في الطبيعة الإنسانية» أكثر مما يُشبه مواطنه الأيرلندي فرانسيس هتشسون؛ إذ يمكن مد حدود النظام الخيالي لتشمل ثقافة وطنية؛ لكن لا يُمكننا فعلًا تبادل الهُوِيَّات أو مشاعر التعاطُف مع من ينتمون لحياة مختلفة كليًّا؛ فالغرباء بالنسبة إلى بريطانيا، إن جاز التعبير، يبدءون من مدينة كاليه، بينما في كاليه وباريس يُستبعَد الفرق بين الغرباء والأقرباء برغم كتابات بيرك، وهو ما أثار غضبه المعارض للخيرية العامة؛ إذ يَحمل بيرك كرهًا شديدًا لمفهوم الخير عند جودوين الذي يُساوي بين حب الأهل وحب الغرباء. (جعل سويفت، مواطن بيرك الذي شاركه بُغضه للإحسان العام، شخصية جاليفر المخبولة مبالغًا فيها بدرجة أكبر؛ حيث ازدرى أهله ووقع في حب كائنات غريبة تمشي على أربع.)

يرى بيرك — كما هيوم — أنه من الطبيعي أن نحبَّ مَن هم أقرب إلينا، ويرى فكرة التعاطف العام زائفة؛ فالخيرية العامة تؤدِّي إلى الطغيان الثوري. ويُمثِّل روسو — الذي يعتبر الشفقة مثل هتشسون غريزة سابقة على أي تفكير — المحلَّ الأول لكراهية بيرك الشديدة؛ فهو يسخر منه قائلًا إنه محبٌّ لجنسِه لكن كاره لأهله؛ «فالإحسان إلى النوع البشري كله» كما يؤكد بيرك «ونقص التعاطُف مع كل فرد يقابله هؤلاء الأساتذة يُمثِّلان طابع الفلسفة الجديدة.»10 يتَّفق بيرك مع روسو في أن العواطف لها قوة أكبر من العقل، ويرى كلاهما أنه إن كنا نَعتمِد على شيء هشٍّ ومُزعِج كالعقلانية لحثِّنا على التصرف الإنساني، فلربما وصل النوع البشري لطريق مسدود منذ زمن بعيد. كما يعتقد بيرك — مثل توما الأكويني — أن الصداقة قد تُمثِّل تمهيدًا لأشكال من العلاقات أقل خصوصية. لكن من يَسْعَونَ إلى مدِّ هذه العواطف إلى ما وراء حُدودها الطبيعية لا يَنجحون إلا في خلعها من جُذورها الموجودة في تربة غنية وقطع الغذاء عنها؛ إذ تتحوَّل المشاعر إلى كماليات تُستهلَك على المستوى الخاص، ولا يمكن أن تكون قوة اجتماعية رابطة بعد ذلك، ويخرج الإحساس من دائرة السياسة.
مع ذلك فقد مارس بيرك نسخته من الخير العام. ويُخفي الذين يتذكَّرون مقولته الشهيرة، التي تقول إن المبدأ الأول للحب هو حب «العصبة الصغيرة» المكوَّنة من الأصدقاء والأهل، عبارة «المبدأ الأول» بصفة عامة. ويتابع بيرك قائلًا إن روابط الولاء المحلية هذه تمثل أول حلقة في سلسلة تبلغ ذروتها في حب الوطن والبشرية. فهو — على كل حال — ليس من مُتَّبِعي المذهب الخصوصي القليلي التبصُّر كما يبدو؛ إذ يؤكد عند استدعاء وارين هيستنجز أمام مجلس العُموم أن سُلوك هيستنجز الخسيس في الهند يجب أن يقيَّم في ضوء المعايير الأخلاقية السائدة في الوطن، فلا ينبغي قبول أي استثناء، كما طالب المتهم نفسه مخادعًا، بسبب اختلاف السياق الثقافي؛ فالمعايير الأخلاقية عند بيرك لا تتأثر بالتغير في الموقع الجغرافي؛ إذ يجب أن يسود الشعب الهندي نفس ميزان العدل والحرية كما هو الحال بالنسبة للشعب البريطاني. ويكتب بيرك في عمله «ملاحظات على سياسة الحلفاء»: «ثمة بعض النقاط الأساسية التي لا تتغيَّر فيها الطبيعة «البشرية»؛ لكنها قليلة وواضحة وترجع للأخلاق لا السياسة.»11 لم يؤمن بيرك بأن روابط الحب يمكن أن تمتد إلى أبعد من العُصبة المحيطة بالفرد؛ لكن المبادئ التي أدان بها السلب الاستعماري في أيرلندا أو الهند مبادئ عامة، فخُلق التعاطُف يُمكنه أن يَعْبُر بك حُدود المنزل إلى المجتمع السياسي؛ لكنه لا يمكن أن يخرج بك كليًّا للبشرية جمعاء؛ فلهذا تحتاج مذهبًا أخلاقيًّا ذا طابع أكثر شمولية. ورغم أن بيرك تبنَّى ضمنيًّا منظومة مشابهة في مناصرته للهنديات المُغتصَبات والمتمرِّدين الأيرلنديين المُعذَّبين والثوار الأمريكيين، فقد فعل ذلك مع كامل الحذر من افتراضاتها الفلسفية بالنسبة لفيلسوف أخلاقيٍّ يؤمن بأن الأقرَبِينَ أَولَى بالمعروف، ونادرًا ما يتجاوزه لغيرهم.
إن ما يحفظ تماسك المجتمع في رأي بيرك هو المحاكاة؛ إذ يكتب: «إن المحاكاة — بدرجة أكبر بكثير من القواعد — هي ما يعلمنا كل شيء، ومِنْ ثَمَّ فما نتعلمه لا نكتسبه بطريقة فعالة فقط بل بطريقة سارَّة أيضًا. وهي تشكِّل سلوكنا وآراءنا وحياتنا؛ فهي واحدة من أقوى روابط المجتمع، وهي نوع من الإذعان المشترك، يُسلم فيه كل الناس بعضهم لبعض دون قُيود، ويَشعُر فيه الجميع بالإطراء الشديد.»12 وكتب تيودور أدورنو لاحقًا عن كيف «ترتبط الإنسانية بشدة بالتقليد؛ فالإنسان لا يكون إنسانًا إطلاقًا إلا بتقليد غيره من البشر.» ويكمن نوع من الزيف المُمكِّن في رأيه في أصل الهوية.13 فالمُحاكاة المتبادَلة ليست فقط مُمتعة لأننا نستمتع بالتكرار بالفطرة، بل أيضًا لأننا نتقمَّص صِبغة الآخرين تلقائيًّا ودون عناء، بمجرد مشاركتهم أُسلوب حياتهم، وهو ما يُكسِب المحاكاة شيئًا من السمة السابقة على التفكير التي تميز النظام الخيالي. فنحن — بحسب عبارة بيرك نفسه — نتعامل هنا مع دائرة من «الإذعان المشترك» التي يبدو فيها أن كل فرد ينحرف عاطفيًّا عن داخله — إن جاز التعبير — إلى فلك عواطف غيره، فالمجتمع يسير على نحو أشبه بالسجع. ويكتب برتولت بريخت أن «الفرد ينسى بسهولة أن التعليم البشري يتمُّ في إطار تصويري مسرحي جدًّا. إن الطفل يُعلَّم السلوك بطريقة تصويرية تمامًا، ولا تأتي القضايا المنطقية إلا لاحقًا … فالإنسان يُقلِّد الإشارات والإيماءات ونبرات الصوت.»14 فالقواعد الأخلاقية تنتمي للعالم الرمزي للواجب والتفكير والقيم العامة؛ لكن اكتساب قواعد السلوك المتحضِّر قضية مرتبطة بالاقتداء بسلوك الآخرين، الذين يفعلون ذلك أيضًا، فكل هذا إذن هو ما يُسمِّيه بيرك «الجمال» ويعني به دائرة التعاطف المشترك: «عندما يعطي … الرجال والنساء لنا شعورًا بالسرور والفرحة لرؤيتهم (وكثير منهم كذلك)؛ إذ يثيرون مشاعر الحنان والحب تجاه شخوصهم، فنحن نحب قربهم منا وندخل طوعًا في نوع من الارتباط معهم …»15 فالجمال هو الاسم الذي أطلقه بيرك على الصلات الخيالية التي تؤدِّي إلى التماسك الاجتماعي.
أين إذن تنتهي غابة المرايا هذه؟ يبدو الوجود الاجتماعي عند بيرك سلسلة لا نهائية من صور الصور، سلسلة بلا أساس أو بداية. وتتسم هذه العملية المرآتية بانطواء محير على الذات قد يَكتُب الموت للتاريخ والتنوع والصراع والمنافسة إن لم يَتِمَّ منعُه. ويكتب بيرك: «رغم أن المحاكاة إحدى أعظم الأدوات التي تستخدمها العناية الإلهية في الاقتراب بطبيعتنا نحو كمالها، فإن الناس إن تركوا أنفسهم تمامًا للتقليد واتَّبع كلٌّ منهم الآخر، وهكذا في دائرة لا تنتهي، فمن الواضح أنه قد لا يكون هناك أي تطور بينهم أبدًا.»16 إن نفْس الظروف التي تضمَن التناغُم الاجتماعي تُهدد كذلك بوقف المشروع الإنساني. أو لِنَصُغِ القضية بأسلوب ماركسي كلاسيكي: فإن أساس الدينامية الاقتصادية والبِنية الفوقية للأعراف الاجتماعية كلٌّ منهما مُنحرِف عن الآخر بنحوٍ خطر. ومع الانغماس في هذا الانغلاق النرجسي تُصبح العواطف في تُخْمة وفُحش، ويصير أصحاب الأعمال في وَهَن وضعف. والمطلوب لكسر هذا الجُمود هو لمسة من خطر وتنافس وجهد مُضْنٍ ونفحة من الموت واللامحدودية، وهي ما تتَّصل جميعًا — كما سنرى لاحقًا — بما يُسميه اللاكانيون النظام الواقعي. إن هذا المثير وَحدَهُ هو ما اكتشفه بيرك وسط أهوال السمو المزينة. وقد يجد الماركسي السوقي — المهووس على نحو موحش بالطبقة الاجتماعية — في هذا جهدًا للتوفيق بين ثقافة نبيلة تقوم على الشرف والتحضر وبين طاقات الفوضى والسلب عند طبقة وسطى متشكلة حديثًا.

لقد رأينا أن النظام الخيالي مرتبط بالمحاكاة والتنافس معًا؛ لكنَّ هذين المفهومين في الجماليات السياسية عند بيرك هما الجمالُ والسموُّ على الترتيب، فالسمو بقيمه الرجولية الخاصة بالمبادرة والطموح والمنافسة والتحدي يقتحم سياجًا بقوة نطاق النظام الخيالي الاجتماعي لكنه لا يَقتحِمُه إلا ليُعيد بناءه، فهو نوع من «التورم» القضيبي، حسب تعبير بيرك؛ أي نفي لنظام مستقر من دونه يضعف مثل هذا النظام وينتهي. وهو إذ ينقلنا من المحاكاة المبالغ فيها للجمال إلى دائرة الطاقة والطموح الأوسع يوجهنا إلى النظام الرمزي، إلا أن — كما ذكرنا — ثمَّة لمسة من النظام الواقعي في هُوَّة السمو المميتة التي ترفض — كما النظام الواقعي — كل محاولات الإيقاع بها في شباك اللغة. ومثل النظام الواقعي، يكمن السمو فيما وراء التصوير، فهو نقطة الصدع الداخلي في بنية الجمال، والشرط اللااجتماعي للنشاط الاجتماعي كله.

إذن؛ فالسمو هو القوة الرجولية المتمرِّدة التي تحثُّنا على الخروج من الانعكاسات المتبادلة المُرضية في المجتمع المدني، وتقذفنا من خلال ذلك إلى منطقة خطر قاتل حيث نراقص الموت أملًا في أن نُبعَث من جديد. ليس من الصعب أن نرى في هذا التحول من الجمال إلى السموِّ عبورًا من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، تمامًا مثلما يمكن اعتباره انتقالًا من الأنوثة إلى الرجولة. لكن من الممكن كذلك رصد تحول من عاطفة تراجيدية تقليدية، وهي الشفقة، إلى عاطفة أخرى وهي الخوف. فالشفقة هي ما يَربطنا بالآخرين، بينما الخوف منشؤه خطر انحلال الرباط الاجتماعي.17 وإن كانت الشفَقة خيالية، فالخوف واقعي. إلا أنها عاطفة تميِّز النظام الرمزي بنفس القدْر، كما تُهدِّد الذوات المستقلَّة المتصادمة بتدمير كلٍّ منها للآخَر، كما يوجد خوف خاص بالنظام الخيالي يتعلَّق بالجوانب الأكثر اتصافًا بالارتياب والتنافُسية في تلك الحالة، فالخوف من التراجيديا ينشأ من بين أشياء أخرى عن تُخيِّل أننا قد نُبتلى مثل البطل التراجيدي، وبهذا فهو يَحمِل لمسةً من المصلحة الشخصية كما عند هوبز. فالفاصل بين العاطفتين — كما يقرُّ أرسطو في «الخطابة» — دقيق على نحو ملحوظ، ويُمكن القول إنه دقيق بقدر الفاصل بين التعاطُف والتنافُس في النظام الخيالي. وتتحوَّل الشفقة — بحسب تعليق أرسطو — إلى خوفٍ عندما يكون المُشفَق عليه قريبًا جدًّا منا لدرجة أن معاناته تبدو معاناتنا، فهي حالة أخرى من الالتباس بين النفس والآخر الذي رأيناه يميز النظام الخيالي.

•••

يصوغ آدم سميث — شأنه شأن بيرك — بعض أجزاء نظريته الأخلاقية على أساس النوع، فكما يرى بيرك أن النساء يتصفن بالجمال والرجال بالسمو، يرى سميث أن النساء يتسمن بالإنسانية بينما يتسم الرجال بكرم الأخلاق. والإنسانية في نظره مسألة ترتبط بالحنان والتعاطف الرقيق، وهو ما يَسمح لنا (صارت الفكرة أكثر من مألوفة الآن) بالدخول إلى نطاق مشاعر الآخرين كما لو كانت مشاعرنا. تتَّصف النساء بفضيلة التعاطُف هذه؛ لكنهن لا يُعرفن بالكرم. يقول في كتابه «نظرية العواطف الأخلاقية»: «إن ندرة تبرعات النساء الكبيرة ملحوظة من ملحوظات القانون المدني.»18 (إن الإشارات اللاحقة لأرقام الصفحات من عمل هيوم هذا ستُوضع بين قوسين بعد الاقتباسات المعروضة منه.) ويرجع هذا إلى أن الكرم يتضمَّن الفضائل الرجولية للتضحية بالذات وضبط النفس وإنكار الذات، وهي مفاهيم وسطية نادرًا ما تجد لها سبيلًا إلى عقول السيدات الصغيرة الطائشة. وقد يُمثِّل الجندي الذي يُضحِّي بحياته دفاعًا عن حياة قائده مثالًا على هذا الكرم، فالأفعال المتسمة بسعة الصدر وحب المصلحة العامة حِكْر على الرجال؛ إذ يرى سميث مثل بيرك أن هناك حاجة لضبط حلاوة التعاطف بقليل من التستوستيرون، فالقيم النسائية كلها في محلِّها تمامًا؛ لكنا بحاجة لمعرفة الخيط الفاصل بين رقة القلب وانعدام الرجولة.
لم يكن آدم سميث أحد فلاسفة «الحس الأخلاقي» بالمعنى المعروف؛19 إذ استبعد فكرة هتشسون عن وجود ملَكة أخلاقية خاصة، إلا أنه اتفق مع شافتسبري وهتشسون وهيوم في أننا نُعنى في غير أنانية بمصائر الآخرين ونعتبر سعادتهم ضرورية لسعادتنا. «إنَّ هذا السرور — كما هو الحال مع ألم الشعور بحزْن شخص آخر — آنيٌّ جدًّا لدرجة أنه لا يكاد يوجد أيُّ وقت لتدور عجلة المصلحة الشخصية. وفي ظل وجود تعاطف — سواء مع صديق أو مع غريب — فإننا ندخل بصورة ما إلى جسمه ونتَّحد بدرجة ما مع ذاته» (٢٥٨). وتعجُّ عبارة «بدرجة ما» دون شك بالمشكلات، كما سنرى بعد قليل. مرة أخرى، تكمن الأخلاق حقيقةً في المحاكاة؛ فعندما نواجه صديقًا أو غريبًا في كَرْب، «نتبادل الأماكن مع المكروب في الخيال» (٢٥٨)، وهو مكافئ أخلاقي نوعًا ما للعبورية.

وبالعكس: «لا يسرُّنا أكثر من أن نرى في الآخرين تعاطُفًا مع كل المشاعر التي تَختلج في صدورنا» (٢٦٤)؛ إذ يتطلَّب الشعور الأخلاقي الصادق شيئًا يُشبه الروافد الخيالية عند الكاتب الروائي؛ حيث علينا أن نسعى لتصور وضع الشخص الذي نُقابله في أذهاننا بكل ما فيه، وصولًا إلى التفاصيل الأكثر دقة. يكتب سميث: «يجب على الشخصية المتعاطفة أن تتبنى قضية من معها بكل تفاصيلها الصغيرة، وتسعى قدر الإمكان لتتصوَّر تبادل المواضع الذي ينبني عليه تعاطفها» (٢٧٥). فالتبادُل العاطفي عند هذا الاقتصادي الأخلاقي والسياسي معًا هو سبب في الازدهار مثل تبادل السلع. صحيح أن سميث الاقتصادي السياسي يشتهر باعتقاده أن حب النفس — وليس الخير — هو ما يدفع الجزار وصانع المشروبات والخباز لتوفير الطعام والشراب لنا، إلا أنَّ السوق في رأيه له قوة تهذيبية؛ إذ لا يوجد أي صراع جوهري في هذه المرحلة المبكرة من الحياة البرجوازية بين التجارة والعاطفة، كما هو الحال عند ديكنز وراسكين مثلًا.

مع ذلك، فإن «التبادُل الخيالي للمواضع» يشبه في النهاية المقامرة، فبالنظر إلى أننا نَعجِز عن الوصول إلى خلجات الآخرين العاطفية بسبب جدران أجسادهم المنيعة، فإن التصور العاطفي لحالتهم الذهنية لا يسعه إلا أن يكون تقريبيًّا، ففي الأحوال العادية لا يمكننا تكوين تصور مرئي تمامًا لما يشعر به الآخرون، ولا يُمكننا تكوين أي فكرة عن كيفية تأثُّرهم بالمواقف التي يمرُّون بها، وهو ما يَجعل التحول الخيالي ضروريًّا. ومهما بدا ذلك كريمًا فإن هذا التقمُّص العاطفي في حقيقته وسيلة لتعويض اغترابنا الطبيعي عن بعضنا، فهذا التماثُل كما يرى سميث يستحيل تمامه، وإن كان ثمة تعاطف خارجي كافٍ لضمان التناغم الاجتماعي: «رغم استحالة التطابق التام فالتوافُق الجزئي مُمكن، وهذا هو كل المطلوب أو الضروري» (٢٧٦).

مع ذلك لا يزال سميث وزملاؤه بحاجة لمنع السرور الذي نشعر به عند رؤية السعادة لدى شخص آخر من أن يبدو مهتمًّا بالمصلحة الشخصية بدرجة مُشِينة. ومن الضروري بالقدْر نفسه مواجهة الفكرة الأنانية القائلة إننا لا نضمد جراح الآخرين الروحية إلا لتجنب الشعور بالانزعاج عند رؤيتهم. أو لأنَّ خيالنا يرسم صورة جلية للألم الذي سنشعر به في موضعهم، فالخيال عند هؤلاء المفكِّرين الذي في عصر ما قبل الرومانسية يُمكن استغلاله لصالح قضية المصلحة الشخصية بنفس السهولة التي يمكن بها استغلاله لخدمة قيمة الإيثار. فالنفس والآخر، والأثرة والإيثار، وسرور النفس وألمها بسرور الآخر، وسرور الآخر وألمه لِألمي، كل هذا يُساهم في حميمية النظام الخيالي واغترابه.

يطرح سميث القضية التي صارت مألوفة الآن، وهي أن التعاطُف يجب أن ينشأ عن تخيُّل الإنسان لوجوده موضع شخص آخر. ويرى كذلك — كما أشرنا منذ قليل — أن هذه العملية لا يمكن أن تكون كاملة، فمشروع تحوُّل النفوس الكُلي يَنهار على صخرة حب النفس، فمِن الحتمي أن يكون شعوري بسعادتك وحزنك أقلَّ من شعورك، ببساطة بسبب حبي لنفسي. فإن كنا نشعر بعواطف صديقة بصفة أضعف من شعورها هي بها، فستوجد إذن مشكلة أكبر في التعاطف مع الغرباء. فالرجل إن كان سيَفقد إصبعه الصغير غدًا — كما يلفت سميث — فلن ينام ليله؛ لكنه سيتذمر إن جاءته أخبار عن زلزال ابتلع الصين كلها وأودى بملايين لا تُحصى من إخوانه من البشر مثلًا، أو سيتذمر على الأقل — كما يُصرُّ سميث — إن لم يَرَ الحدث بأُم عينه. وكما الحال عند هيوم، فإن الصور الحية للظواهر البَعيدة هي صاحبة الأثر. والأخلاق تعتمد في النهاية على الحواس؛ فالقضية متعلِّقة في الحقيقة بالتصوير.

يَسعى سميث لأن يتجنب الاتهام بأن السرور لسرور شخص آخر معنيٌّ بالمصلحة الشخصية في الباطن من خلال طرح نظرية غريبة بعض الشيء عن التعاطُف، فعندما نتصور أنفسنا مكان شخص آخر فإننا لا نشعر بما يشعر به بشخصه إن جاز التعبير، بل هي مسألة الشعور كما لو كنا موضع الآخر. إنَّ هذه الافتراضية العاطفية أو تبدل الموقف الخيالي «ليس من المفترض أن يَحدث لي بذاتي وصفتي بل بذات الشخص الذي أتعاطف معه» (٣٢٣). ويكتب روسو بصورة مشابهة في عمله «إميل» عن «انتقالنا إلى خارج أنفسنا وتماثلنا مع المكروب تاركين ذواتنا — إن جاز التعبير — لنتقمَّص ذاته …»20 تقوم الأخلاق عند هذا الفيلسوف السويسري كما عند فلاسفة العاطفة البريطانيين على النزعة للشفقة والتعاطُف السابقة على النزعة الاجتماعية والعقلانية، فهو شأن شعوري لا عقلي؛ إذ ليست القضية — كما يتابع سميث — أن أنظر إلى ما قد أشعر به في موضعك، وهو موقف يفتح باب المخاطَرة بالتحوُّل لأنانية، بل أن أحل محلك تمامًا «متبادلًا شخصي وصفتي» معك فتصير تجرِبتي متوقِّفة كليًّا على تجرِبتك، «فحزني إذن لا يرجع إليك كليًّا، ولا يرجع إليَّ إطلاقًا. إذن، فهو ليس أنانيًّا على الإطلاق» (٣٢٣). وهذا ربما ما يُقصد بالتقمُّص العاطفي لا التعاطف، وإن كان الفارق أبعد ما يكون عن الوضوح.

من الصعب مع ذلك أن نرى كيف لهذا الطرح أن يكون محكمًا؛ إذ إنني إن انتقلتُ إليك كاملًا فلن يبقى هناك «أنا» باقية لتَشعُر بما تشعر به، فحزني لا يمكن أن يرجع إليك كلية حيث إنني لا يبقى لدي أي حزن، فتبادل الهُوِيَّة معك لن يَمنحني مدخلًا لتجرِبتك، فإن صرت أنا أنت تمامًا، فليس من المنطقي أن أزعم أني أشعر بما تشعر به. قد نفترض حالة ما ترتبط فيها ذاتان معًا فتشعر كلاهما بأحاسيس الأخرى بالضبط. ويخطر بالبال تصور فتجنشتاين الساخر لتوصيل شخصين سلكيًّا بآلة ليشعر كلاهما بنفس الألم. (لكن بأي شكل يكون نفس الألم؟) إلا أن طرح سميث كان طموحه أبعد من ذلك؛ لأنه إن تقمص فردٌ شخصيةَ فردٍ آخر بصورة كاملة فإننا لن يُمكننا أن نتحدث بعدها عن ذاتين اثنتين مختلفتين مهما كانتا متقاربتَين، فمفهوم التعاطف ينهار بالكلية عند المبالغة فيه إلى الدرجة القصوى. إنه لغز طرحته قصيدة «قصيدة إلى عندليب» التي نظمها كيتس التي فيها ينتفي الفرق بين كائنين حيين عبر تقمُّص عاطفي يبلغ في حِدَّته أن يتصور إغراء عدم الاكتراث بالموت.

إنَّ الجهد المنطقي المبذول في طرح سميث خانتْه التناقضات العديدة الموجودة في عرضه؛ إذ يكتب: «رغم أن التعاطف يُقال — على نحوٍ صحيح — إنه ينشأ عن التبادل الخيالي في المواقف مع الشخص المعني في الأصل، فإن هذا التبادل الخيالي ليس من المفترض أن يحدث لي بذاتي وصفتي بل في ذات الشخص الذي أتعاطف معه» (٣٢٣). لكن كيف يُمكن لشخص أن يصبح شخصًا آخر دون المعاناة من ذاك التحوُّل الكبير الذي هو تصفية النفس؟ ويتابع سميث الذي لم توقفه تلك العقبة ليصر على أنه «من أجل أن أدخل في حزنك فإنني لا أنظر إلى ما سأعانيه وأنا بشخصيتي ومهنتي إن كان لديَّ ولد وهو على وشك أن يموت بكل أسف، بل أنظر إلى ما سأعانيه إن كنت حقًّا مكانك …» (٣٢٣). إذن لا تزال ثمة «أنا» منفصلة يدور الحديث عنها هنا، إلا أنها لا تكاد تظهر إلا وتختفي من جديد: «فأنا لا أتبادل الظروف معك فحسب، بل أتبادل الذات والشخصية» (٣٢٣). فتأمُّلي لما سأُعانيه — إن كنت مكانك — ليس كأن أسكن شخصيتك. ماذا إذن عن التحذير من أن أيَّ تطابق تام مع مشاعر شخص آخر يفوق قدراتنا؟

ثمة مفارقة تتَّسم بها فكرة التعاطف؛ حيث إنها تتضمن الدخول في تجربة شخص آخر مع الاحتفاظ بقدر كافٍ من القدرة العقلانية الخاصة بالفرد نفسه لتقييم ما يجده فيها، فالمسافة الإدراكية التي تتطلبها مثل هذه الأحكام تتعارَض مع جوهر الأخلاق الخيالية. لا يُمكن للتعاطف أن يكون تلقائيًّا بالكامل؛ إذ يحتاج لمعرفة حيثيات الشيء الموجه إليه، فيبدو أنه يقسم النفس إلى اثنين، حيث يدخل نصف في الشيء الآخر بينما يبقى النصف الآخر في الخلف ليقيم النتيجة. إلا أن هذا طرح فاتر جدًّا بالنسبة إلى سميث الذي يتصور كما رأينا شكلًا أكثر تشدُّدًا من التجرُّد الذاتي؛ إذ يقرُّ بأن الفكر والقُدرة على إصدار الأحكام يؤديان دورًا حيويًّا في عملية التبادُل العاطفية كلها، فمن دونهما لن نتمكَّن من التعرف على الآخر من الأساس فضلًا عن تسمية ما يَشعُر به. لكن هذا يبدو غير متَّسِق مع حلمه بالتعاطف الكامل الذي تبدو فيه قدراتنا العقلية مَمْحُوَّة. يتميَّز هيوم — الذي رأى أن فكرة الإسقاط الذاتي الخيالي في شخص آخر لا أساس لها — بالفطنة أكثر من سميث بكثير في هذه المسألة؛ إذ يُشير إلى أنه حتى إن كان الإسقاط الذاتي هذا مُمكنًا، «فلا يمكن للخيال أيًّا كانت سرعته أن يُعيدنا فورًا إلى أنفسنا ويجعلنا نحب الشخص ونُقدِّره باعتباره شخصًا آخر.»21

كما يجب أن يُوظَّف الفكر من البداية؛ بمعنى أن التعاطف الحقيقي يتطلب بعض المعرفة بالسياق، فعندما نقول «أعرف شعورك» فإننا نقصد عادة «أدرك أن عاطفتك هذه عاطفة امتعاض شديد.» كما أنَّنا نُشير ضِمْنًا إلى أننا نعرف شيئًا عن الظروف التي سبَّبت هذا الشعور في المقام الأول، وربما نقول إنه شعور مُبرَّر. يُعلِّق سميث بأننا عند رؤية إنسان آخر في كرب فإننا «نشعر بنفوره واشمئزازه من الشيء الذي سبَّب كربه» (٢٨٨). إلا أنه يصرُّ في موضع لاحِق على أننا لا نتعاطَف مع قاتل يقف أمام المشنقة. وليس صحيحًا — كما يزعم العاطفيون عادة — أن سرور الآخرين يشعرنا دائمًا بالرضا، أو أن كَربهم مصدر ألم دائم لنا في كل الأحوال، فالمسألة ليست مجرَّد الفرح لمصيبة الغير، بل هي أيضًا مسألة تتعلق بالظروف. وهي نقطة أدركها سميث بصورة أكبر من زملائه؛ فقد نظن أن بؤس شخص ما مُستحق أو أن حسن حظه غير مستحق بدرجة تُثير الغضب، أو أن حزنه فيه استعراض مشين؛ فالأحكام الأخلاقية تتعلق برفض تعزيز الحالة العاطفية للآخرين بقدر الإسراع لتدعيمها؛ فالتعاطف لا يحمل قيمة في ذاته، فليس ثمة مكافأة لمن يتعاطفون مع لذة مرتزقة غارقين في نوبة قتل. ولم يكن هيوم وهتشسون ليتصوَّرا وجود هذه المكافأة؛ فالأفعال النافعة عندهم هي ما تُثير الاستحسان والابتهاج لدينا. لكن ثمة تحيُّز لصالح الاستجابات التلقائية في ضوء هذه الأخلاق الخيرية، وهو ما يتَّسم بالعاطفية بالمعنى الحديث للكلمة؛ إذ لا يمكننا مدح الحالات النفسية أو ذمها قبل أن نَعرف أسبابها وسياقها، وفي سبيل هذا نحتاج لما هو أكثر من حدس داخلي.

يُولي سميث أهمية كبيرة لنظرة الآخر، فهو مولع بنظرتي لما يراني عليه الآخرون، وهو ما قد نُسمِّيه من الناحية المتخصِّصة الأنا المثالية، تمامًا مثلما يسعى الآخرون لأن ينظروا إلينا بأعيننا، تصير أعينهم مرايا تعكس لنا مشاعرنا من جديد. ويرتبط هذا التبادل للنظرات بما يُسمِّيه فالتر بنجامين بالهالة، وهي تشمل من بين أشياء أخرى الإحساس بالأشياء وهي تردُّ إلينا نظراتنا. وهي تتعارَض بهذا المحمل مع حقبة الإنتاج الميكانيكي التي لا ترتدُّ فيها نظرتنا إلينا عادة: «إن ما يُعتبَر لا إنسانيًّا بالضرورة — بل الأقرب إلى الموت — في التصوير الداجيري» كما كتب «هو الإمعان (المطوَّل) في آلة التصوير، حيث تسجل آلة التصوير مظهرنا من دون أن ترجع لنا نظرتنا. لكن النظر إلى شخص يحمل في طياته توقع لأن يبادلنا من ننظر إليه النظر. وعندما يتحقق هذا التوقع … فإننا نلمس هذه الهالة إلى أبعد مدى.»22 فالأشياء ذات الهالة، كما الورد في «الرباعيات الأربعة» لتي إس إليوت، تتخذ شكل الأشياء المنظور إليها. ويجد موريس ميرلو-بونتي أعمق معاني النرجسية في إحساس الرسام بأنه يُنظر إليه من خلال الأشياء التي يرسمها.23 وظل الفيلسوف فيشته طوال حياته أسيرًا لفكرة النظرة التي تَرى نفسها. ويكتب بول فاليري عن المدركات في الأحلام قائلًا: «إن الأشياء التي أراها تراني بقدر ما أراها.»24
يَنطبِق هذا أيضًا عند بنجامين على السِّلَع التي تُبادل نظرة كل زبون محتمل في حب بينما تحتفظ بلا مبالاة باردة تجاههم جميعًا، فهي تكشف — شأنها شأن كل الأشياء ذات الهالة — عن التداخُل بين الغيرية والحميمية؛ إذ تخلط بين إغراء ممثلات الإغراء الشهيرات بعيدات المنال وتوفُّر العاهرة الفوري. ويعلق بنجامين قائلًا: «كلما زادت المسافة التي يجب على النظرة أن تقطعها، زادت قوة السحر المنبعث منها.»25 لقد رأى برتولت بريخت — الذي نأى بنفسه تمامًا عن مثل هذه المفاهيم الخيالية — أن هذه الفكرة شديدة البُغض؛ إذ يكتب في يوميات عمله: «إن بنجامين هنا … يقول: عندما تشعر بنظرة موجهة إليك، وإن كانت من وراء ظهرك، فإنك تُبادلها (!) … فهي روحانية مطلَقة في وضعية تُنافي الروحانية، إن تلك هي الصورة التي يتبلوَر بها المفهوم المادي للتاريخ! إنه لأمر شنيع.»26 ولا شك أن بريخت رأى أن بنجامين إما أطال صحبة صديقه القبالي جريشوم شولم أو أنه بالغ قليلًا في تجاربه على مخدِّر الحشيش.
إن سياج النظرات الخيالي عند لاكان به صدع يرجع لنقص ما، وهو حقيقة أنني لا يمكنني أن أنظر إلى الشخص من حيث يَنظر هو إليَّ.27 وبذلك تصير النظرة تفاعلًا بين النور والظلمة، تُلطخ فيه شفافية النظام الخيالي بتدخل النظام الرمزي بعلاقاته اللاتبادلية المجهولة؛ إذ تخون غموض الجمهور الحضري عند بودلير الذي ليس فيه كما يعلق بنجامين «من هو شفاف تمامًا ولا من هو مُعْتِم تمامًا أمام الآخرين كلهم.»28 ويُشير بنجامين إلى أنه في شعر بودلير «التوقُّع الذي ينشأ عن نظرة العين لا يتمُّ إشباعه»، وهو ما يعني أن النظرة — التي تَنتظِم من جديد حول نقص جوهري — تقطع كل المسافة عبر الشيء المنظور في هذا السعي المُضني نحو وفرة مفقودة وهي الرغبة. إن رغبتنا في لغة لاكان ليست في الآخر وإنما في الآخر الكبير، وكما يشير بنجامين على طريقة لاكان: «اللوحة التي نَنظر إليها تعكس لنا ما لا تشبع منه أعيننا أبدًا.»29

إن تبادل النظرات الذي شغف به آدم سميث له طابع خيالي، إلا أنه يعدُّ أيضًا نوعًا معينًا من عدم التماثل؛ وحيث إنَّ الآخرين — كما رأينا — أقرب لأن يكونوا أقل حزنًا أو فرحًا بمشاعرنا منا، فنظرتهم المنعكسة يمكنها أن تلطف من مشاعرنا نحن، فتسرب إليهم نوعًا من السكينة. فنحن نرى أنفسنا — كما في النظام الخيالي — من الداخل ومن الخارج في آنٍ واحد، وإن لم تكن الرؤيتان متطابقتين تمامًا. ونحكم على أنفسنا من خلال أعين الآخرين أو الأنا المثالية؛ لذا يظهر على سلوكنا دائمًا خليط ما من الغيرية. ويمثل ذلك أصل الأخلاق ذاته؛ فالإنسان الوحيد تمامًا — كما يُلمِّح سميث — لن يملك أي مشاعر أخلاقية بالمرة؛ حيث إنه لن يتمكن من رؤية صفاته من الخارج أكثر من إمكانه رؤية وجهه. (وهو يتحدث على الأرجح عن إنسان «همجي» وليس عن ناسك لديه مرآة جيب.) ثم يضيف: «ضعه في مجتمع وستتوفر له فورًا المرآة التي أرادها من قبل» (٢٩٨). إن هذا في المقابل، عين ما يراه جان جاك روسو مرعبًا. إنَّ «الهمجيين» في نظر روسو يتمتعون باكتفاء ذاتي يثير الإعجاب، بينما المتحضرون يعتمدون على الآخرين اعتمادًا يثير الاشمئزاز. إن كون رغبتنا هي رغبة الآخر الكبير — أي أننا لا نعيش إلا تحت ناظِرَيْ أقراننا — هو ما يراه روسو عين الضعف، فالحياة الاجتماعية عنده علامة على ضعفنا، والأخلاق هي النتيجة المضنية لعدم وجودنا بمفردنا، ومثل الجحيم عند سارتر؛ فالأخلاق هي الآخرون.

يكتب سميث: «إن كل ملَكة لدى الفرد هي المقياس الذي يحكم به على الملكة المشابهة في غيره …» حيث إننا نقيس «ملاءمة مشاعر الآخرين أو عدم ملاءمتها باتفاقها أو اختلافها مع مشاعرنا» (٢٧١)؛ لذا يبدو أن الحكم الأخلاقي ذا طابع دائري مقلق؛ حيث إنني أحكم عليك مقارنةً بنفسي وأنت تحكم على نفسك بحكمك علي. وسيبدو كل شخص — إذا اتبعنا الأسلوب السفسطائي — مقياسًا لكل الأشياء. ولإيقاف هذا الخلل النِّسبوي، يقول سميث إن «ملاحظاتنا المستمرة لسلوك الآخرين يقودنا دون وعي إلى أن نضع لأنفسنا قواعد عامة معيَّنة فيما يخص ما هو يصح ويليق فعله أو تجنُّبه» (٣٠٣). إذن، فالقواعد العامة لها موضع محدد، طالما أنها استنباطات من سلوكنا المعتاد، وليست — على نحو عقلاني — مبادئ بديهية يمكن منها استنتاج السلوك الخاطئ أو الفاضل. هذه القواعد ما هي في الحقيقة إلا تنقيح ﻟ «مشاعر الإنسانية المتكرِّرة» (٣٠٥)، إلا أنها تمارس علينا قوة كبيرة مع ذلك، فهي تعمل عمل الآخر الكبير المحايد، أي حَكَم مثالي على سلوكنا الذي نَعِيه دومًا.

إذن، فأفعالنا عند سميث — كما عند لاكان — هي دائمًا على مستوى ما رسالة موجهة إلى الآخر الكبير. والفكرة أن هذا الحوار في رأي لاكان لا يمكن اختزاله أبدًا في التبادلات الخيالية عند سميث الذي يرى أن كلًّا منا يحيا تحت بصر العين الكريمة للآخر الجمعي؛ إذ كيف لنا أن نعرف أننا معروفون؟ هذه ليست مشكلة في أي نظرية أخلاق خيالية، التي يكون التعرف فيها فوريًّا وبديهيًّا كمَذاق المشمش. لكن في النظام الرمزي، فإنَّ الوسيط الأساسي لعلاقاتنا مع الآخرين هي اللغة. وتُثير اللغة عند لاكان احتمال سوء الفهم في هذه التبادلات، فالوسيط الذي يجمعنا يفرقنا كذلك، فالدوال التي ندرك من خلالها احتياج كل منا لأن نُعرف، يستحيل خُلُوُّها من اللبس كما قد نأمل. وكذلك — في هذا الصدد — الإشارات المادية في النظام الخيالي السابق على اللغة، كالمناجاة الصامتة لوالتر وتوبي، الشخصيتين اللتين ابتكرهما ستيرن، التي تهدف لتحقيق تبادل أقل شرًّا من تلك المبنية على الكلمة؛ إذ إن الإشارات هي الأخرى تحتاج إلى تفسير، ومِنْ ثَمَّ لا تتفادى علامة الدالِّ، فلا يُمكن تفادي التباس الدال مثلًا بقبض اليد أو هز عصًا.

يحلم مُناصرو النظام الخيالي بدالٍّ واضح مفرد، علامة سحرية تختزن جوهر الفرد وتنقله بتمامه وكماله إلى فرد آخر في لمح البصر. أحيانًا ما اتخذت هذه العلامة ذات المميزات الشاملة اسم الرمز الرومانسي، وإن كان اللاكانيون يُفضِّلون تسميتها بالفالس (القضيب)؛ ولكن لأن النظام الرمزي هو نظام للمعنى، ولأن المعنى يميل لئلَّا يتفق مع علامته، فإن احتمال الخطأ المُشترَك في التعرف جزء من النظام في الأساس. إن انعدام وجود الفالس هو السبب في إمكانية وجود التراجيديا، بل في وجود التاريخ أيضًا. كذلك فإن هُوَيَّتي إن ارتبطت بهُوِيَّتك، وارتبطت هُوِيَّتك بهُوِيَّة شخص آخر، وهكذا في شبكة لا متناهية من الارتباطات، فكيف لي أن أعرف ما إذا كانت نظرتك المستحسَنة هي نظرتك أنت وليست أثرًا مطموسًا لأنفس أخرى؟ إذن، تجد أخلاق النظام الخيالي العاكسة نفسها مضطربة على يد الآخر الكبير المعتم؛ فالتبادلية الخيالية تفسح المجال للاتبادلية الرمزية. ومثلما لا يوجد وجه خارجي للنظام الخيالي الذي يلتفُّ على نفسه بنحوٍ يُشبه الفضاء الكوني، فليس هناك جانب خارجي للنظام الرمزي هو الآخر. وبالاصطلاح اللاكاني لا يوجد آخر كبير للآخر الكبير؛ أي لا لغة واصفة تمكننا من النظر في المعاني البين-ذاتية من موقع أفضل فيما وراءها؛ حيث إن هذه اللغة تحتاج بدورها إلى أن تُفسرها لغة أخرى. والقول إننا أثر للدالِّ يعني أنه لا أساس خارجي لخطابنا المشترك، مثلما يرى آدم سميث أنه لا أساس لعالمنا فيما وراء «المشاعر البشرية المشتركة»؛ فالنظام الرمزي ينقصه الأساس بالضرورة.

يُعرِّف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» التقمص العاطفي بأنه قوة «اتحاد الإنسان عقليًّا مع الشخص أو الشيء محل التأمُّل (وفهمه الكامل بالتبعية)». لكن الاتحاد والفهم ليسا متلازِمَينِ بالضرورة كما قد توحي تلك الكلمات؛ إذ لا يُمكنني أن أفهم نابليون بأن «أصير» نابليون. ولا يقتصر السبب، كما شرحنا، على أنه لن يبقى شخص ليقوم بالفهم، بل إن هذا يبدو افتراضًا بأن نابليون قد فهم نفسه، وهو ما يفترض فيه شفافية ذاتية مُستحيلة. قد يكون الفهم فعلًا هو الدُّخول إلى عقل شخصٍ آخر؛ لكنه وسيلة للفتح والدخول لهذا العقل اسمها اللغة، فالفهم ليس قضية الامتزاج على نحو سحري بجسد الآخر، فحتى إن حقَّقت هذا الإنجاز فكيف كنت سأعرف ما وجدت هناك؟ فقط لأني أمتلك اللغة في المقام الأول، وهو ما كان سيُوفِّر عليَّ عناء هذا الاقتحام الخيالي، فالتعاطُف والتفهُّم لا يتطلبان تصورات ذهنية للحالات العاطفية عند الآخرين، فهذه الحالات من ناحية ليسَت خفية من حيث المبدأ. ومن ناحية أخرى يُمكنك أن تتعاطف مع إضاعتي لمخطوطة من العصور الوسطى لا تُقدَّر بثمن دون أن تتبادر إلى الذهن أي صورة محددة للوثيقة، ودون بذل الجهد لاستِنساخ ما يجري في خلجاتي العاطفية.

من المُمكن بالطبع أن أتعاطف مع تجارِب لم تَخُضْها فحسب، بل مع تجارِب لا يمكن أن تخوضها. ومثال سميث هو تعاطُف الرجل مع المرأة أثناء الولادة، بل إنه من المُمكن أن تشعر بسعادة شخص أو بكربه بدرجة أشد مما يشعر هو، وهو ما يُمثِّل خللًا من نوعٍ ما في حلم التبادلية الكاملة. كما أن التعاطُف مع ألم شخص لا يعني بالضرورة الشعور به؛ إذ هناك فرق بين أن آسف عليك وأن أشعر بحزنك. كما يُمكن لحزنك أن يغمرني دون أن أشعر بأي استجابة أخلاقية معينة تجاهه، تمامًا مثلما يمكنني أن أشعر بالغضب دونما أن أفكر فيما إذا كان الغضب مُبَرَّرًا أم لا.

عادة ما يكون الذين يُهرعون لمساعدة ضحايا حادث سير مثلًا مشغولي البال بصورة لا تدع مجالًا لأن تكون لديهم صور ذهنية لأحاسيس الضَّحايا المفترضة. وعلى العكس، يُمكننا أن نتخيَّل صورًا متحركة لأحاسيس الآخرين دون أدنى مَيْل للقدوم لمساعدتهم. ويكتب الفينومينولوجي ماكس شيلر: «من المفهوم تمامًا أن أقول: «يمكنني أن أتصوَّر مشاعرك لكني لا أُشفق عليك».»30 ويُحبُّ الساديون أن يشعروا بأحاسيس ضحاياهم، فكما يُشير نيتشه، إن القسوة تتطلب قدرًا من الإحساس، أما الوحشية فلا تتطلب ذلك. وربما يمانع المازوخيون في مساعدة من يشعرون بالألم لأنهم يستمدون سرورًا خاصًّا من التوحد مع آلامهم، وربما يعارضون لنفس السبب أن تُرفَع معاناتهم هم على يد الآخرين؛ فالقُدرة المَحْضَة على الشعور بما يشعر به شخص آخر لا ترتبط بالأخلاق أكثر من ارتباط موهبة تقليد لُكْنَته بإتقان. كما يوجد فرق بين التعاطف بمعنى الإشفاق، والتعاطف بمعنى مشاركة شخص آخر حالته العاطفية. فإن كان لنا أن نعطي بعض التقدير للمعنى الأول فيمكننا أحيانًا أن نعطي قليلًا منه للأخير؛ فالكثير من الناس شديدو الحساسية وأنانيون بَشِعون في نفس الوقت.

•••

باستثناء شافتسبري، لم يكن أيٌّ من فلاسفة الأخلاق الذين تناولناهم إنجليزيًّا، بل إن الإنجليز قليلون وسط هذه المجموعة كما حالهم وسطَ ما يُسمَّى بالحداثة الأدبية الإنجليزية. وكلُّ المفكرين الذي كنا نُناقشهم تقريبًا نشئوا من التخوم الغيلية للأمة الحضرية، وهي حقيقة قد تكون بلا أهمية؛ فالغيليُّون من أمثال بيرك وهيوم وهتشسون وسميث وفورديس وفيرجسون، بجانب الرموز من أمثال جولدسميث وستيل وبروك وستيرن الذين ولدوا في أيرلندا أو لأصل نصف غيلي، كانوا لا شكَّ أكثر ميلًا للافتتان بالمشاعر والخير من نظرائهم الأنجلوساكسونيين. وليس هذا لأن الغيليين أكثر ودًّا من الناحية الوراثية من الإنجليز، بل لأن كلًّا من اسكتلندا وأيرلندا تُمتِّعتا بتقاليد ولاء راسخة تجاه العشيرة أو المجتمع.

صحيح أن علاقات القرابة والعادات المُلزمة والالتزامات غير المكتوبة وما يسمى بالاقتصاد الأخلاقي، ظلَّت طويلًا في كلتا الأمتين رهنَ قيود نظام من العلاقات العقدية والفردية التملُّكية فرضه الاستعمار. لكن بعض الجوانب من هذه الحياة التقليدية بقيت بنحو غير مُستقِر إلى جانب المؤسسات الحديثة، وفي ظلِّ الاشتباك السياسي من جانب صغار مستأجري الأراضي والمنازل والعمال بُذلت مقاومة شرسة لهذه الحداثة خلال عصر العقل. وتشير جلاديس بريسون في دراستها لعصر التنوير في اسكتلندا إلى أن «كثيرًا من العاطفة والولاء في المجتمع القائم على الروابط الشخصية الأقدم انتقل (من خلال عملهم) إلى المجتمع القائم على الروابط اللاشخصية … ونجد في كل كتاباتهم اهتمامًا كبيرًا بالتواصل والتعاطف والمحاكاة والعادات والتقاليد …»31 ويوجد مثال معاصر على هذه الشواغل ذات الطابع الغيلي في أعمال الفيلسوف آلاسدير ماكنتاير، وهو فيلسوف انتقل خلال سعْيه وراء هذه القيم في حياته من المسيحية إلى الماركسية ومِن الماركسية إلى الكاثوليكية والجماعاتية؛ إذ ينتمي نقد ماكنتاير لعمومية التنوير إلى تراث ما يُمكننا أن نعتبره الخصوصية القومية في كل من اسكتلندا وأيرلندا؛ أي إصرار المفكِّرين القوميِّين على الخصوصيات التاريخية لهذه الثقافات، ومقاومتهم لعقلانية معيَّنة لا تهتم بالمكان، ورفضهم للتكيُّف مع مبدأ مفترض كوني (لكنه ببساطة حضري في الغالب).32 ربما نظنُّ أن تشكُّك ماكنتاير في المبادئ الكونية التنويرية، إلى جانب اعتياده رد المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية إلى سياقاتها التاريخية، لهما نكهة غيلية معيَّنة.
يقول جون دواير إنَّ الرغبة الاسكتلندية في بناء اقتصاد حديث، التي كان مشاهير من أمثال هيوم وسميث من مؤيديها الواضِحين، كانت حريصة مع ذلك على الاحتفاظ بدرجة من السلامة الوطنية، واحتفظت بتشكُّك تقليدي تجاه النظام التجاري غير المقيد؛ إذ يكتب: «كانت النزعة الاجتماعية، وليست الفردية، هي العنصر المحوري في التعريف الاسكتلندي للإحساس؛ حيث يصير مفهوم الإحساس الكلي بديلًا لنظام اجتماعي مبني على المصلحة الشخصية.»33 ويرى توماس بارتليت أن «من بين السمات المميزة للحياة الريفية الأيرلندية، بدءًا من العقد السابع للقرن الثامن عشر، كان بروز ظاهرة النزعة الاجتماعية، والضغط المتزايد للاندماج الاجتماعي لأغراض متنوعة.»34 وأدَّت النظرية السياسة القائمة على العاطفة، والمعروفة بالقومية، دورًا محوريًّا في هذا التضامن الريفي؛ حيث طوَّع المنشقون السريون المسلحون الحانات والأعياد والحانات غير المرخَّصة والمعارض والأسواق وتقاطعات الطرق لخدمة أهدافهم الهدامة.
قد يزعم أحدهم أن الخير والحس الأخلاقي يمثلان نوعًا من المجتمع القائم على الروابط الشخصية للروح التي لا تزال تترعرع في مجتمع الحياة التِّجارية اليومية القائم على الروابط الرسمية. فعلى أي حال، كانت الحياة في مقاطعة كيري أو أبردينشير النائية نوعًا ما أمرًا مجهول الإدارة أقل عقلانية من نظيرتها في العاصمة الإنجليزية. يقول آلاسدير ماكنتاير: إن إيمان عصر التنوير في اسكتلندا بوجود مخزون من المبادئ الأُولى البديهية له أصل في النبع المشترك للمعتقدات المسلم بها في الأنظمة الاجتماعية فيما قبل الحداثة.35 فالمجتمع الإنساني عند المنوِّرين الاسكتلنديين شيء طبيعي بالنسبة للأفراد، فهو يعدُّ امتدادًا لقرابة الأهل، وهو معتقد مقبول بدرجة كافية في المجتمعات التي تكون العلاقات الشخصية والجنسية والاجتماعية والاقتصادية فيها أصعب في التمييز منها في المناطق الحديثة؛ فالزواج والنشاط الجنسي مثلًا لا يزالان مرتبطان في مثل هذه الأحوال بالممتلكات والقدرة على العمل والمهر والمعتقد الديني والميراث والهجرة والرفاهة الاجتماعية. وربما السبب في ذلك أن الأسرة في أيرلندا لم تكن مُنعزلةً تمامًا عن المجتمع بحيث استطاعت رموز مثل بيرك — الذي التحق بمدرسة ريفية بسيطة في مقاطعة كورك في صغره — تقديمها باعتبارها صورة للوحدة القومية إلى إنجلترا التي كانت ترعبها فكرة الثورة. ومن هذا المنطلق صار المجتمع الغيليُّ القائم على الروابط الشخصية يَخدم أهدافًا مدنية.

ليس غريبًا إذن أن ثقافة الإحساس يَنبغي أن تتسرَّب إلى الأمة الاستعمارية بصفة أكبر من تخومها الأقل حداثة؛ فالإنجليز — كما في حماسهم غير العادي لكلمات توماس مور المعسولة — يَستحضِرُون الشعور الحزين أو المشوق أو السوداوي من امتداداتهم الاستعمارية؛ حيث يوجد فعلًا الكثير مما يُسبِّب الشعور بالسوداوية. قد تكون فكرة الالتزامات غير المكتوبة طريقة لوصف حقوق المستأجرين مثلًا في أيرلندا في القرن الثامن عشر؛ لكنها تساعد كذلك على تصوير الأفكار الأخلاقية للمدرسة العاطفية التي تَكمُن القوانين بالنسبة لها في آداب الشعور وأساليبه، ولا تَحتاج للتصريح الفَظِّ بها. وكذلك الحال بدرجة كبيرة عند شافتسبري الذي كان يُحارب — باعتباره أرستقراطيًّا ينتمي للتقليد الأفلاطوني الجديد — الانحطاط الأخلاقي للإنسان البرجوازي. وفي ظلِّ اتصاله بهتشسون، يتَّحد الشريف الإنجليزي مع الغريب الغيلي معًا في جبهة واحدة ضد أيديولوجيات العقلانية مُنعدمة الشعور، مثلما كان أوسكار وايلد نبيلًا إنجليزيًّا وغريبًا غيليًّا في جسد واحد.

كان أعظم فلاسفة القرن الثامن عشر الأيرلنديين، الأسقف بيركلي، إنجليزيًّا أيرلنديًّا وليس غيليًّا أيرلنديًّا؛ إلا أنَّ فكره يَدين بصورة شبه مؤكدة لعالم الميثولوجيا السلتية، برؤيتها للكون على أنه نوع من الخطاب الرُّوحي العظيم ومجموعة من القوى أو التجَلِّيات التي يُعرِّف بها الرب نفسه لمخلوقاته من خلال الإشارات والصور. وقد كتب بيركلي: «إن ظواهر الطبيعة لا تقتصر على كونها آية رائعة، بل تُمثِّل أيضًا خطابًا يتسم بأقصى درجات الوضوح والإمتاع والتوجيه …»36 فنحن باكتشافنا للعلاقات بين الأسباب والنتائج مثلًا نتعلم لغة الطبيعة، فالكون كله نوع من الإشارة السيميائية الإلهية، فالأشياء في نظر بيركلي دالة على الرب، وشأنها شأن أي لغة فهي لا تسكن إلا في إدراك الإنسان؛ فهي تتَّحد في طور خيالي مع حضورها أمام مدركيها؛ فالشيء والدالُّ عنده متطابقان، مثلما يوجد اتحاد بين الدال والمدلول في النظام الخيالي.
من اللافت في هذا الصدد أنه عندما يأتي فريدريك جيمسون لوصف النظام الخيالي عند لاكان يستخدم تلقائيًّا لغة بيركلي؛ حيث يتحدث عن «انعدام الفرق بين جوهر «شيء» وصورته المُدرَكة التي ليس لها مُدرِك.»37 فالأشياء في عالم بيركلي المتمحور حول الإنسان لا توجد إلا إذا كانت (بعبارة هايدجر) «بين أيدينا»، مُقدَّمة إلينا، متمركزة بلا حيلة حول البشر. وينغمس في مقال خارج نطاق عمله بعنوان «اللذات، الطبيعية والخيالية» في تصور طريف بأن العالم خُلق من أجله هو شخصيًّا: «إن الأشياء المختلفة التي يتألَّف منها العالم تكونت بصورة طبيعية لتمتع حواسنا … لذا، فمن المألوف لديَّ أن أعتبر نفسي ذا ملكية طبيعية لكل شيء يسبب لي السرور … فإن لي ملكية في الجزء الزاهي من كل العربات المُذهبة التي أراها، التي أعتبرها ملذات صُنعت لتمتع عينيَّ …»38 وفي نوع من المحاكاة الساخرة المُسلية لنظريته المعرفية، فإن كل الأشياء يَكمن جوهرها في تلذُّذه هو بها، كما قد يُتصور عنها عند الطفل أمام ثدي أمه.

يُصمِّم بيركلي، شأنه شأن عدد من علماء اللاهوت الأيرلنديين في القرن الثامن عشر، على معارضة التبعات اللاهوتية لمذهب التشكيك التجريبي، وهو مذهب تشكيك هدَّد بهدم مذهب كنيسة أيرلندا التي كان هو نفسه أسقفًا لامعًا فيها؛ ومِن ثَمَّ السلطة الاستعمارية الأنجلو أيرلندية التي كان عضوًا فيها هي الأخرى. ورده الفلسفي على هذا الخطر هو نسخة براقة من المثالية التي مثَّلت التيار الرئيسي للفلسفة الأيرلندية من جون سكوتس إريجينا حتى ويليام باتلر ييتس. ولم يكن للعَقلانية والتجريبية الإنجليزية أكثر من وجود سطحي في الجزيرة المُجاوِرة، لعوامل ليس أقلها تراثها اللاهوتي، فإن كان مذهَب لوك التجريبي يصنع فجوة بين الشيء والمفهوم تتعرَّض فيها المعرفة الحقيقية لخطر الاندثار، فإن بيركلي يسعى لرأب هذا الصدع بإعادة تعريف الظواهر ذاتها بأنها ليسَت سوى عُقَد من البيانات الحسية. إذن، فليس المقصود بهذه المثالية إنكار وجود الأشياء بل إعطاءنا سبيلًا إليها لا عائق أمامه. وخلال ذلك، يدفع بيركلي بمَنطق التجريبيين إلى حَدِّه الأقصى الذي يَنهار عنده؛ فهؤلاء الفلاسفة الإنجليز بينما يَزعُمون أننا يمكن أن نعرف جوهر الأشياء، فهم يؤكدون في الوقت ذاته أن المعرفة كلها مجرد بيانات حسية، والبيانات الحسية علامة على جوهر الشيء وليس الشيء نفسه.

إنَّ السر الكبير الذي يكشفه بيركلي بزهو، كما الطفل الذي يُعلن في سذاجة عن تعرِّي الإمبراطور في قصة هانز كريستيان أندرسون «ملابس الإمبراطور الجديدة»، يكمن في أن ما تُخفيه مظاهر الأشياء هو حقيقة أنه لا شيء وراءها؛ لذا فهي مِن ثَمَّ ليست مظاهر على الإطلاق، وأن هذا القلب الجامد الذي نُسمِّيه «الجوهر» واهٍ كما الخيال. فإن كان الرب موجودًا في قلب كل شيء، وإن لم يكن الرب (عند بيركلي بقدر إريجينا) ذاتًا على الإطلاق بل مجالًا ساميًا غير محدود من العدم المُطلَق، إذن فإن ما يُوجِد الظواهر هو نوع من اللاوجود أو العدم اللامتناهي؛ فالعالم — كما عند القديس أوجستين — يمتلئ بالعدم من أقصاهُ إلى أقصاهُ. فالقول إن الأشياء عديمة الجوهر يعني القول إنها عبارة عن الشكل البليغ للإله؛ فالرب — العدم المطلق — له نفس أصلها، فالشيء الصغير المراوغ المعروف بالجوهر ما هو إلا شيء وهمي يملأ فضاء النظام الواقعي، وهو ما يعني عند بيركلي الوجود الذي لا يُطاق للرب. وبما أن الرب لن يكون له وجود ملموس على الأرض من دون فك رموز خطابه المتمثل في عملية الإدراك الإنساني، فوجودنا ذاته ضروري على النحو الموجود في النظام الخيالي، ومحتمل في النظام الرمزي، فنحن والعالم مُوثَقَانِ معًا، وإن في تجربتنا الحسية المباشرة، كما عند الطفل الصغير، يتشكَّل هذا الوثاق. ومن هذا المنطلق، تُعدُّ رؤية بيركلي رؤية خيالية بصفة كبيرة؛ لذا ليس من الغريب، في ظلِّ ما قلناه بالفعل عن هذا الموضوع، أن يظهر بيركلي في بحثه «نظرية جديدة في الرؤية» كمُفكِّر فينومينولوجي قبل ظهور المصطلح، منشغل بشدة مثل مواطنه بيرك بالجسد والبديهة الحسية والتناسُب بين أعضاء الحس. ورصد بعض المعلِّقين في تجنُّب كلا المفكرين للأفكار المجردة ولعًا غيليَّ الصبغة بالتحديد بما هو مادي.

لم يَصمد مفهوم الخير الذي كان سائدًا في القرن الثامن عشر أمام ظهور جيريمي بنثام؛ فمع دخول مجال العاطفة بالتدريج إلى نطاق الملكية الخاصة، فَقَدَ القُدرة أكثر وأكثر على توفير نموذج للمجال العام، بل هجَر مفهومُ الخير الفلسفةَ الأخلاقية وسكن في ذلك المبحث الأخلاقي الذي نعرفه بالأدب الواقعي. ولن نُبالغ إذا ادَّعينا أن الوريث الأكبر لشافتسبري وهتشسون هو تشارلز ديكنز. كانت الرواية وقتها تمثل أقوى ترياق للأنانية البشرية، بهيئتها المتعددة الأصوات بقدر محتواها الإنساني، فإنجلترا الصناعية الرأسمالية أكثر تشابكًا وعتمةً مِن ملهًى في مدينة وايتهول؛ لكن الرواية أداة ذات حساسية لا مثيل لها لسَبْر أغوار العلاقات الباطنة والروابط المحيرة. أو أداة لإبراز تجرِبتنا وتوسيع اتصالنا بأقراننا من البشر فيما وراء حُدود حياتنا الشخصية، وذلك كما تقول جورج إليوت في مقالها «التاريخ الطبيعي للحياة الألمانية»؛ فهي إذن ترياق للنظام الخيالي وللمصلحة الشخصية. إن الرواية — قبل كل شيء — هي ما يمكننا من خلالها أن نُسبغ صورة خيالية على تلك المناطق المغمورة من الحياة الاجتماعية التي تمتدُّ فيما وراء تجرِبتنا الشخصية، وأن نستحضر خلال ذلك إحساسًا بالأُلفة مع الآخرين المجهولين لنا. والعدُوَّانِ اللدودان لهذا الجنس الأدبي هما الأنانية والهُوِيَّة المجهولة؛ إذ توجد أسباب ملِحَّة سياسيًّا وأسباب إنسانية تُثير الإعجاب وراء إثراء العواطف هذا، فالمجتمع الذي لم يَعُدْ قادرًا على فهم نفسه باعتباره مجتمعًا من المشاعر عرضة لخطر الصراع والانقسام.

لكن — ومع إبعاد العاطفة بصورة مُتزايدة عن المجال العام، وإعادتها إلى الدائرة الخاصة ليكون محلها وسط مجموعة من غريبي الأطوار الطيبين والشواذ اللطفاء — بدأت تنمو بصورة غير صحية ومُستهلكة للذات. ليست مصادفة أن يبلغ تيار العاطفة أَوْجَه وسط طواحين الفيكتوريين الشيطانية المظلمة؛ فالرحلة الشاقَّة من براونلو الكريم في رواية «أوليفر تويست» إلى المتأنق هارولد سكيمبول في رواية «البيت الموحِش» هي رحلة من دفاع مؤثر عن الشعور إلى إدراك محبط بأنه قد يكون جزءًا من المشكلة بقدر ما هو جزء من الحل.

هوامش

(1) R. B. McDowell (ed.), The Writings and Speeches of Edmund Burke (Oxford, 1991), vol. 9, p. 247.
(2) See Terry Eagleton, Heathcliff and the Great Hunger (London, 1995), Ch. 2.
(3) F. W. Rafferty (ed.), The Works of the Right Honourable Edmund Burke (London, n.d.), p. 184.
(4) Ibid., p. 247.
(5) Edmund Burke, ‘Thought on the Present Discontents’, in Paul Langford (ed.), The Writings and Speeches of Edmund Burke (Oxford, 1981), vol. 2, p. 84.
(6) Gopal Balakhrishnan, ‘The National Imagination’, New Left Review, 211 (May/June 1995), p. 56.
(7) Edmund Burke, A Letter to a Member of the National Assembly (Oxford and New York, 1990), p. 44.
(8) Richard Steele, A Nation A Family, in Rae Blanchard (ed.), Tracts and Pamphlets by Richard Steele (Baltimore, MD, 1944).
(9) Ibid., p. 43.
(10) Ibid., p. 35. The notion that Rousseau preached universal benevolence, however, is arguably a misinterpretation of his work.
(11) L. G. Mitchell (ed.), The Writings and Speeches of Edmund Burke (Oxford, 1989), vol. 8, p. 498.
(12) Edmund Burke, A Philosophical Inquiry into the Origin of our Ideas of the Sublime and the Beautiful (London, 1906), vol. 1, p. 101.
(13) Theodor Adorno, Minima Moralia (London, 1974), p. 154.
(14) Quoted in John Willett (ed.), Brecht on Theatre: The Development of an Aesthetic (London, 1964), p. 106.
(15) Ibid., p. 95.
(16) Ibid., p.102. I have discussed these ideas in The Ideology of the Aesthetic (Oxford, 1990), Ch. 2, a discussion which some of the material here rehearses in rather different form.
(17) See Philippe Lacoue-Labarthe, ‘On the Sublime’, in Postmodernism: ICA Documents 4 (London, 1986), p. 9.
(18) Adam Smith, The Theory of Moral Sentiments, in L. A. Selby-Bigge (ed.), British Moralists, vol. 1 (New York, 1965), pp. 315-16. Further references to this work will be provided in parentheses in the text.
(19) For a recent study of his moral thought, see Jerry Evensky, Adam Smith’s Moral Philosophy (Cambridge, 2005), especially Ch. 2.
(20) Jean-Jacques Rousseau, Émile, ou de l’éducation (Paris, 1961), vol. 4, p. 261.
(21) David Hume, An Enquiry Concerning the Principles of Morals (Oxford, 1998), p. 47.
(22) Walter Benjamin, Charles Baudelaire: A Lyric Poet in the Era of High Capitalism (London, 1973), p. 147. I discuss this idea more fully in my Walter Benjamin, Or Towards a Revolutionary Criticism (London, 1981).
(23) Maurice Merleau-Ponty, The Visible and the Invisible (Evanston, IL, 1968), p. 139.
(24) Quoted in ibid., p. 149.
(25) Ibid., p. 150.
(26) Bertolt Brecht, Arbeitsjournal (Frankfurt-am-Main, 1973), vol. 1, p. 16.
(27) Jacques Lacan, The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis (London, 1977), Ch. 6.
(28) Benjamin, Charles Baudelaire, p. 49.
(29) Ibid., pp. 146-7.
(30) Max Scheler, The Nature of Sympathy (London, 1954), p. 9.
(31) Gladys Bryson, Man and Society: The Scottish Inquiry of the Eighteenth Century (Princeton, NJ, 1945), pp. 146-7. I have discussed this question more fully in my Crazy John and the Bishop (Cork, 1998), Ch. 3.
(32) I have explored this question further in my Scholars and Rebels in Nineteenth-Century Ireland (Oxford, 1999).
(33) John Dwyer, Virtuous Discourse: Sensibility and Community in Late Eighteenth-Century Scotland (Edinburgh, 1987), p. 39.
(34) Thomas Bartlett, The Fall and Rise of the Irish Nation (Dublin, 1992), p. 311.
(35) Alasdair MacIntyre, Whose Justice? Which Rationality? (London, 1988), p. 223.
(36) Alexander Campbell Fraser (ed.), The Works of George Berkeley DD (Oxford, 1871), vol. 1, p. 460.
(37) Fredric Jameson, ‘Imaginary and Symbolic in Lacan’, Yale French Studies, 55/56 (New Haven, CT, 1977), p. 355.
(38) Campbell Fraser, Works of George Berkeley DD, vol. 3, pp. 160-1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤