الفصل السابع

شوبنهاور وكيركجارد ونيتشه

من المُمكن بلا شك وضع نظم لاكان الثلاثة في صورة سرد تاريخي، سرد يتتبع في مجاز ماركسي سوقي صُعودَ وأُفُولَ نَجْم الحضارة البرجوازية. وسيُمثِّل هتشسون وهيوم والنظام الخيالي لحظة تفاؤل وثقة بالنفس بارزة؛ حيث لا يزال على الطبقة الوسطى، التي لا تزال متفائلة وتغمرها روح البهجة، أن تسجل كاملًا النتائج الموحشة لأنشطتها، وتستمتع بمشاعرها الإنسانية، وتظلَّ قادرة على تصور المجتمع باعتباره مجتمعًا قائمًا على الروابط الشخصية. أما ما تلا ذلك مع كانط وهيجل فهو النظام الرمزي الأكثر تجريدًا وتنظيمًا وموضوعية، وهو نظام — للمفارقة — اجتماعي وغير اجتماعي في نفس الوقت. وهذا هو ما يمثل أوج ثقافة الطبقة الوسطى، بأسسها الليبرالية والنفعية العظيمة، وحماسها للمساواة والخير الإنساني، ودعمها الباسل لحقوق الإنسان والحريات الفردية.

ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور أفكار شوبنهاور وكيركجارد وماركس ونيتشه التراجيدية أو المتشكِّكة أو الثورية، أخذت تبرز تدريجيًّا أفكارُ الجُمود والتأزُّم والتناقض، لتصل لأَوْجها، في نهاية عهد الأزمة الرأسمالية والصراع الإمبريالي البربري، في تأملات سيجموند فرويد الشديدة التشاؤم. إن هذه الحقبة بالكامل هي ما تمثل — إن جاز التعبير — فترة سطوة النظام الواقعي؛ حيث إن الرغبة، التي كانت مبهجة وإيجابية، قد كشفت الآن عن شيء مريض في جوهرها لا يمكن علاجه، وأخذت المفاهيم الحميدة عن السلطة تتراجع أمام مفاهيم القوة المفترسة أو السادية. ومع مجزرة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تبعات سياسية، يدخل النظام الرمزي الأوروبي في أزمة مطولة، في حالةٍ تأمُلُ الفاشيةُ أن تنقذه منها بإجبار موارد النظام الخيالي (الدم والأرض والشعب والأمومة) على خدمة النظام الرمزي. وفي خلط قاتل بين النظم اللاكانية، يُستغل ما هو بدائي ومهجور في سبيل السيادة والتأويل العقلاني. وتُطوَّع الأساطير لخدمة عقلانية ذرائعية على نحو وحشي. وفي قلب هذه التجربة البربرية، في معسكرات الموت في وسط أوروبا والافتتان الفاشي بالموت يَكمُن الجانب المُرعِب في النظام الواقعي الذي يَستَعصِي على التصوير.

يعجُّ هذا السرد — شأنه شأن معظم الأساطير الكبرى — بما هو شاذٌّ، فماذا عن كبار الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر؟ ماذا عن ديكارت ولايبنتس وسبينوزا؟ هل كانت فلسفة القرن الثامن عشر بكاملها أكثر وعيًا؟ هل كان كل ما جاء بعد هيجل قصة بالغة الرعب؟ مع ذلك ما من شك بالتأكيد في أن المشروع الكبير للتنوير بَدْءًا من شوبنهاور إلى فرويد قد رَسَا على شاطئ عالم واقعي عَصِيٍّ أو على جوهر صلب لإرادة أو رغبة أو دين أو تاريخ مادي، وهو ما يُخلُّ بتوازنه على نحوٍ مُقلِق. فما يظهر عند هيجل في صورة العقل الخيِّر يتحوَّل على يد شوبنهاور إلى الإرادة المتلهِّفة التي لا تشبع، وهو ما أثر في أفكار فرويد نفسه عن اللاوعي. في حقيقة الأمر، يُمكننا قراءة كتاب شوبنهاور المبالغ في الكآبة «العالم إرادة وتمثلًا» باعتباره سخرية مريعة من فكر زميله الأكاديمي هيجل، سخرية أُبْقِيَ فيها على الصُّور العامة لعدد من مفاهيم هيجل (الحرية، والعدل، والعقل، والتقدم)، لكنها فُرِّغت من مضمونها الجليل، ومُلئت في المقابل بمحتويات الحياة اليومية المنحطَّة للطبقة الوسطى؛ الطمع والشهوة والصراع وما شابه. إذ لم تزل الفلسفة مع شوبنهاور تتمتَّع بثقة كافية في صورها بحيث تقوم بالتوحيد والتعميم، لكن مضمونها لا عِظَة فيه. الأمر يبدو وكأن الضراوة الفظة للبرجوازي العادي قد ترقت لتكتسب مكانة كونية، لتُعتبر المحرك الغيبي الأساسي للكون بكامله.1
إن الإرادة عند شوبنهاور — شأنها شأن الرغبة عند لاكان — يُحرِّكها النقص: «كل «الإرادة» تنبع من النقص، من العَوَز؛ ومِن ثَمَّ من المعاناة.»2 فهي تلك الرغبة الراسخة العمياء التي هي أصل كل الظواهر، القوة التي تَبني مجرى دمنا وأحشاءنا، والتي يُمكن ملاحظتها في تلاطم الأمواج أو تمايل أوراق الأشجار بقدر ما يمكن ملاحظتها في أي حركة أسمى للروح الإنسانية. أما شمول الإرادة لأفكار شوبنهاور عنها من عدمه فهو مسألة مُثيرة للاهتمام. لكن بعكس العقل الهيجلي، فالإرادة هنا هي قوة خبيثة معاندة، قوة تَكمن في لُبِّ الذات الإنسانية نفسها لكنها غير مبالية مع ذلك في قسوة بازدهارها. إن هذه الإرادة التي تكمن في منبع الذاتية — التي يُمكنني أن أشعر بها داخل جسدي في قرب أكبر لا يُضاهيه أي شيء أعرفه — عديمة الرحمة والهُوِيَّة كما الإعصار أو البرق، فهي — كما هو حال الرغبة بمعناها في مجال التحليل النفسي — بلا معنًى إطلاقًا وتتَّسم بلامبالاة باردة تجاه كل الأشياء التي تتعلق بها، والتي لا تستخدمها إلا في تكاثُرها الذاتي غير النافع.
إن فكر شوبنهاور — بعكس هيجل — معارض صلب للغائية؛ إذ يتمتَّع بتماسُك وحيوية أي سرد عظيم لكن دون أن يكون له أي نفع، فالإرادة نموذج ساخر خبيث لمفهوم «الفكرة» عند هيجل. والإنسان ما هو إلا حاملها المؤقت، الذي يُنحَّى جانبًا بمجرد تحقيقه لأهدافها؛ إلا أن أهدافها تَكمن بالكامل في الاستمرار الأبدي لذاتها الذي لا نهاية له. فما نحن إلا مجسمات سائرة لغرائز آبائنا التزاوجية، التي هي بدورها تجسيد للإرادة، فنحن إذًا في عالم من الرغبة غير المتناهية المماثلة لرغبة فاوست، حيث تُعاد صياغة العالم بالكامل من جديد في إطار السوق. ويتحدَّث شوبنهاور، الكاره بشدة للبشر، ببُغض نادرًا ما يَكبِته تجاه «هذا العالم المكوَّن من مخلوقات دائمة الاحتياج، والتي لا تستمر لبعض الوقت إلا بالْتهام بعضها بعضًا، وتُورِّث وجودها في قلق وعَوَز، وغالبًا ما تمرُّ بمِحَن مريعة حتى تسقط في النهاية في براثن الموت.»3 إنها رؤية تَختلِف تمامًا عن «الود» عند هتشسون أو مملكة كانط المسالمة. فالعاطفية قصيرة النظر، عند شوبنهاور، هي وَحْدَها القادرة على تصور أن الملذَّات الزهيدة للوجود الإنساني — تلك المحاكاة الهزلية التي ينقصها حتى «وقار» التراجيديا — يمكنها أن تعوِّض بؤسه غير المنتهي.
يقول شوبنهاور: «تبقى الرغبة لمدة طويلة، وتَستمر مطالبها إلى الأبد؛ والإشباع مؤقت ولا يُمنح إلا بمقادير صغيرة.»4 أو كما يصوغها شكسبير باستفاضة في عمله «ترويلوس وكريسيدا»: «هذه هي بشاعة الحب، سيدتي، أن الرغبة لا متناهية والتنفيذ محدود؛ أن الرغبة لا نهائية والفعل عبدٌ للحدود.» وبمجرَّد دخولك مجال الرغبة، يَفقد العالم المادي قيمته في لحظة، فهو لا يَفعل سوى أن يُذكِّرك بما لا تريد. يقول لاكان: «بالمقارنة بأي شيء تسعى إليه الذات، فإن هذا الذي يحدث في نطاق التفريغ الحركي دائمًا ضئيل القدر.»5 فالذي يتحدَّث عن الرغبة يقول هزلًا. لقد كان فرويد هو من ذَكَّرَنا بأنه بينما ركز القدماء في حكمتهم على الغريزة، فنحن المتأخرين قد ركزنا في حماقة على الإنسان.

لكن شوبنهاور سيقلب هذه الأولويات، فيصير نموذجًا متقدمًا لفرويد نفسه. وكما أن الهدف الوحيد من تراكم رأس المال هو الاكتناز من جديد، فكذلك تبدو الإرادة — في نقض كارثي للغائية — مستقلة عن كل الأشياء المحددة التي تركز عليها؛ لذا تبدو الرغبة غارقة تمامًا في ذاتها، ساكنة في كيانها كرُوح نرجسية شريرة. وفي ظل نظام اجتماعي تُعتبر فيه الفردية التملُّكية قانون العصر، ربما يكون شوبنهاور أول مفكر معاصر كبير مَكَّنَهُ الظرف التاريخي من أن يضع مفهوم «الرغبة ذاتها» المجرَّد في محور عمله، مقارنة بغيره من أشكال التَّوق. وهذا التجريد الشديد هو ما سيرثه لاحقًا فرويد، الذي اعتبر شوبنهاور — في زَلَّة فكرية غريبة — أحد أعظم ستة رجال على وجه الأرض. لكن سنرى بعد قليل كيف أصبح من الممكن أن نفهم فكر كانط الأخلاقي بصورة مشابهة.

الإرادة إذًا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذَّر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كَبْتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حِملًا لا يُطاق من اللامعنى، ونعيش مَحصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يُمكن أن نَعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمَّة مُتبرِّعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.

إن ما يُميِّز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئًا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يُمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقُوَّتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يَسمح لها بأن تتباهى بِخُلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التامِّ. إن مبعث الرَّتابة الذي لا يُطاق في وجودنا هو أننا لا يُمكن أن نتحرَّر من أنفسنا؛ إذ نَجُرُّ وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدلُّ على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نُحيل بها جبرًا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفكُّ الرغبة عنا، وتُعلَّق الإرادة مؤقتًا، ونتمكَّن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلِّي الثمين ليست أقل من التفكك التامِّ للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صارَ يتماهى في تضحية بنفسِه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرَّر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تَنسحِب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فَناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نُشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التَّوْق، ونُخلِّصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامَّة للأشلاء الإنسانية برباطة جَأْش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يَعُدْ موجودًا.

ليس ثمَّة ما هو أشق في نظر شوبنهاور من تلك الموضوعية العسيرة المنال التي هي ثمرة الانضباط الأخلاقي أكثر من مجرد نزعة موضوعية ساذجة أو ملاحظة سريعة قليلة الخبرة. فالموضوعية كما يقول شيء عبقري، فهي شأنها شأن الفكر البوذي، الذي مَيَّزَهُ بصورة كبيرة، عبارة عن «عدم التدخل» وهو ما لا يُمكن المحاربة من أجله؛ حيث إن مثل هذا العمل لا يكون إلا في الأنا، وبذلك فهو جزء من المشكلة التي تَسعى لحلِّها. فلا بد من اختراق حاجز الوهم أو الخداع التقليدي وإدراك وهم الأنا بطريقةٍ ما؛ لكي نتصرَّف تجاه الآخرين دون لا مبالة حقيقية، وهو ما يعني انعدام التمييز الحقيقي بينهم وبين النفس. وعلى هذا الوجه يظهر النظام الخيالي من جديد في كتابات شوبنهاور. وبمجرَّد انكشاف «مبدأ الفردية» المخادع على حقيقته يُمكن للأنفس أن تتبادَل العواطف في رحمة وحب. فالمصدر الرئيسي لكل الأخلاق — كما يقول شوبنهاور — هو مشاركة معاناة الآخر بعيدًا عن الدوافع الأنانية، فالتصرُّف السليم أخلاقيًّا لا يعني التصرف من وجهة نظر معينة، بل يعني التصرف دون وجهة نظر إطلاقًا، فالذات الخيِّرة حقًّا هي ذاتٌ ميتة، أو على الأقل تعيش في حالة معلَّقة دائمًا. وحيث إن الذات هي وجهة نظر معيَّنة للواقع، فكل ما يبقى بعد التغلُّب عليها نوع من السلبية الخالصة أو النيرفانا بالمعنى البوذي. إن فلسفة الذات عند شوبنهاور تُدمِّر ذاتها، غير تاركة وراءها سوى تأمُّل إيثاري لا يتعلَّق بأي شخص على وجه التحديد.

إلا أنه ليس من الدقيق تمامًا أن نزعم أن النظام الخيالي عند شوبنهاور علاج للنظام الواقعي بل إنَّ النظام الواقعي ينقلب ببراعة على نفسه، ويقع أسير قوته فينهار. يرجع هذا إلى أن القوة التي تُحلِّل الذات إلى رمز كُودي غير أناني — ومِن ثَمَّ تُتيح لها الاندماج الرحيم مع الآخرين — هي نفسها ما سيُسميه فرويد لاحقًا «دافع الموت». فمن خلال اعتبار عالم الصراخ البشري عرضًا خاملًا، نحقِّق الانفصال عنه ونتخلَّص من ذاتيته، وهو ما يشبه الموت كثيرًا؛ لكننا في الوقت نفسه نتمكَّن من الانغماس في تصور للخلود، وتملؤنا السكينة؛ إذ نعلم أن مسرح الشر هذا لم يَعُدْ يؤذينا. ولأننا موتى بالفعل من ناحية ما، نصير مُحصَّنين مثل شخصية شكسبير بارناردين، وباكتساب هذه الميزة السامية ننتقم انتقامًا لذيذًا من كل القوى التي تقودنا إلى الفناء. إنَّ هذه الحالة من الانغماس في الاستمتاع غير المباشر بالدمار — مع الاستمتاع بمناعتنا ضد القتل كشخصيات الكارتون — هي ما يميز مفهوم السمو في القرن الثامن عشر.6
إن إضفاء شوبنهاور طابع جمالي على الواقع — الذي نستمد فيه الحياة من فنائنا — يتضمن لعبة مطاردة بين إيروس وثاناتوس، بين غريزة الحياة وشهوة الموت؛ لهذا، فهي إلى هذا الحد تخصُّ النظام الواقعي. لكن لأن موت الذات يتَّخذ صورة التعاطف، فهي أيضًا كما رأينا قضية تخصُّ النظام الخيالي؛ إذ يُهجر وهْمُ الفردانية البائس بكامله، حيث نتعاطف مع معاناة الآخرين على مستوًى أعمق كثيرًا من الأنا. وينتهي بنا الحال بالتبعية إلى تسامٍ من دون ذات؛ إذ يبقى فضاء المعرفة المُطلَقة لكن لا يبقى أحد ليشغله، فالتنزه عن المصلحة يُعَلِّمنا التخلي عن عواطفنا المدمرة والعيش في تواضع بلا طمع، وذلك في بساطة القديس. فأنا أعاني كَرْبَك لأنني أعلم أن جوهرك — الإرادة القاسية — يخصني أنا أيضًا. وكما الحال عند هيوم وهتشسون فإنني أعرف هذا بفضل وجود سبيل مباشر إلى نفسي ونفسك معًا، وليس من خلال حرص العقل المضني. ويُعلِّق شوبنهاور في صياغة مميزة للنظام الخيالي قائلًا: «كل كائن حي يماثل وجودنا في ذاته بقدر شخصنا نفسه.»7 إلا أننا يمكننا أن نتلاقى في اتحاد عاطفي ليس كما في المرآة ولكن على أرض النظام الواقعي، وهو الشيء المشترك بيننا شأنه شأن جوهر الذات. إن تضمين النظام الخيالي في النظام الواقعي يَعني تعزيز المودة التامة، فلا يسعنا إلا بالتقارب في منطقة محايدة غريبة علينا، وأقرب إلينا من أنفاسنا في الوقت ذاته؛ أن تكون روابطنا الشخصية أو السياسية متينة.
هذا هو ما يفهمه لاكان من وصية الكتاب المقدس بحب الجار كحبِّ النفس، وهي وصية لا ينبغي تفسيرها في النظام الخيالي باعتبارها حب الأنا البديلة بل في النظام الواقعي الأقل وضوحًا. يستبعد لاكان التفسير الأول متهكمًا، حيث يكتب: «ما أريده هو الخير للآخرين بشرط أن يظلَّ في صورة خير لنفسي.»8 إذ يوضح أنه ثمة «فرق كبير بين استجابة النزعة الإنسانية واستجابة الحب.»9 فحب الآخر يعني إدراك أن ما يجعله غير محبوب أبدًا — ما يسميه لاكان نفسه متعته الخبيثة الضارَّة، أو ما يُسميه فرويد نفسه الخبث والشر والعُدْوان المطلق في داخله — يكمن كذلك في قلب النفس. فعندما أُعرض في خوف عن هذا الآخر الخبيث، فإنني أترك شريان النظام الواقعي المميت بداخلي الذي يفيض ويهدد بإغراقي مع اقتراب الجار. وهذا بلا شك ما يقصده لاكان بتعليقه المبهم بأنه «لا قانون للخير إلا في الشر ومن خلال الشر.»10 أو كما قد تُترجِم المسيحية هذا التعليق، لا قيامة إلا من خلال السلبية المؤلمة للمعاناة وفقدان الذات.
فالحب إذن يُوضع في الناحية المقابلة للقانون، بلا سبيل إليه إلا بالمتعة الوضيعة الخاصة بالنظام الواقعي — التي هي أثر دافع الموت بداخلنا — بالأمل الضعيف في الخروج من الجانب الآخر من النفق. فرفضنا للوصية المخزية بأن نحب أنفسنا رفض في نظر لاكان للمواجهة مع متعتنا المريعة، عندما تلوح «صورة من القسوة التي لا تُطاق» في الأفق. وعلى هذا الوجه كما يحذر لاكان فإن «حب الجار قد يكون أقسى الخيارات.»11 فالجار دائمًا غريب، والغريب في نظر فرويد عدو بصورة ما دائمًا؛ لذا فإن الوصية المَسيحية بحب المرء عدوَّه ليست صادمة كما قد تبدو، فمن يكون من نُقابلهم سوى أعداء مُحتمَلين؟ لكن ليس من السهل أن يحب المرء نفسه كذلك إن كان ذلك يعني تقبل الذات بالمعنى الواقعي وليس الخيالي؛ فالإنسان لا يود أن يحبه الآخرون كما يحبون أنفسهم. وقد أخطأ كينيث رينهارد — في مقال مفيد من أوجه أخرى — في زعمه أن حب المرء لنفسه هو حب خيالي بالضرورة، «الانعكاس البصري لنفسي الذي يكون الأنا النرجسية في طور المرآة.»12 فالتوبة هي قبول النفس الذي ينبع من الإقرار بتشوه الذات، وهو قبول يتضمَّن حبًّا صادقًا للذات، لا حبًّا نرجسيًّا.

إن كان للنظامين الواقعي والخيالي دور في عمل التعاطُف عند شوبنهاور، فكذلك النظام الرمزي، وهو عين ما تتضمَّنه الرؤية المحايدة المجرَّدة من وجهة نظر شوبنهاور. فللنظام الرمزي دور في رؤية العالم على حقيقته، بعيدًا تمامًا عن احتياجاتنا ورغباتنا، وتأكيد الحقيقة المدهشة القائلة بأن الأشياء تكون على ما هي عليه دائمًا، مهما كانت مزاعمنا الملِحَّة بخصوصها، وهو ما يُسميه شوبنهاور التجرُّد الجمالي أو السامي، وهي الحالة التي نتخلَّى فيها عن تذمُّر الأنا الصبياني ونُسَرُّ على نحو جانح بحقيقة أن الواقع ليس بحاجة إلينا على الإطلاق، وهذا أفضل بالنسبة له بلا شك.

•••

ثمَّة تناظر بين مستويات الخيالي والرمزي والواقعي عند لاكان ومستويات سورين كيركجارد الثلاثة: الجمالي والأخلاقي والديني. والتشابُه بين المستويين الخيالي والجمالي ربما يكون الأقل دقة، فالإنسان الجمالي عند كيركجارد يعيش حياة بلا هدف أو اتجاه، حيث يَنتقِل بلا تَوَانٍ من حالة مزاجية أو شخصية إلى أخرى، ويقف عاجزًا أمام عدد كبير من الاحتمالات، وهو أكثر تقلبًا وتشتُّتًا من أن يكون ذاتًا حرة. فهو يعيش في فضاء من الفورية الحسية التي لا تعرف أي ثبات على مدار الزمن أو التاريخ، وهي منطقة لا تُنسب فيها أفعاله إليه إلا على نحو مشكوك فيه. فالذات الجمالية — إذ يعوزها هدفًا محدَّدًا في الحياة وإذ تتماهى مع اللحظة أو الانطباع العابر — هي قشرة بلا مضمون، فالمظاهر هي حقيقتها الوحيدة. فهي بكونها مجرد فريسة للظروف كائن يخدع ذاته بلا أي استقلال أو مسئولية، فجُلُّ الوجود الاجتماعي عند كيركجارد الناقد اللاذع لا يعدو كونه صورة «أسمى» لهذه السلبية الحسية: «الآنية مع إضافة جرعة صغيرة من الانعكاس الذاتي» كما يقول متهكِّمًا في كتابه «المرض طريق الموات».13 إلا أنَّ ثمة صورة أكثر سموًّا من عدم التمحور حول الذات هذا تُسمى الإيمان الديني، فالحقيقة عند قاطِني العالم الخيالي أو الجمالي — كأوسكار وايلد — ما هي إلا المزاج الحالي. أما عند المتدينين، فهي تَكمن فيما وراء النفس في الرب، الذي يُبدل حالنا في سعينا وراءها.

إلى هذا الحدِّ يتشارك المُستويان الجمالي والخيالي في عدد من السمات، أما اختلافهما العميق فيَكمن في أن المستوى الجمالي عند كيركجارد نوع من «اللانهاية الشريرة» الهيجلية وكذلك «الآنية الشريرة» التي تَغرق فيها الذات؛ إذ ينقصها مركز واضح للنفس، في هاوية الانعكاس الذاتي اللامتناهي التي تتعثَّر فيها المفارقة الذاتية في مهرجان من الاحتمالات غير المتحقِّقة. ومن هذه الزاوية لا تملأ الذات الجمالية فراغها باستغلال الإحساس الهارب، بل بإعادة اكتشاف نفسها من العدم من لحظة للحظة التي تليها، ساعية للحفاظ على حس حرية غير محدودة هي في الحقيقة سلبية تستنفد ذاتها. فالشخص الساخر الجمالي؛ إذ يخدره فراغه الزائد، يعيش حياة احتمالية لا دلالية، فيُخفي عدمه وراء زُخرف هذا التكوين الذاتي اللامع. فبينما تجمع الذات المتدينة بين المتناهي واللامتناهي في مفارقة «التجسُّد» غير المتصوَّرة، تترنح الذات الجمالية بينهما، فهي إما تغوص في عالم المحدودية الحسية طامسةً نفسها في انسياق جبان للنظام الاجتماعي، أو تنتفخ وتطير على نحوٍ كبير، فتهجر الحاجة للتماهي مع النفس، في دوامة لا تنتهي من المفارقات التي تلغي الذات.

إن المستوى الخيالي اللاكاني يجد نفسه وقد غطى عليه المستوى الرمزي، بحيث إن الاغتراب الذي يتضمَّنه مثلًا يُبشر بأنواع الاغتراب المختلفة للمستوى الرمزي، أو إن وجود الأم في المرآة يؤشِّر بتحول التكوين العائلي إلى تكوين ثلاثي، أو إن التنافس مع الآخر الخيالي يؤشِّر للصراع الأوديبي. وبطريقة مشابهة، فإن المستوى الجمالي عند كيركجارد يقهره ضرب مشئوم من السلبية، وهو ما يطلق عليه الهلع. فالهلع هو لقاء النفس بعدمها، ذلك اللاوجود الذي يطارد حتى عالم الآنية الحسية ذاته. والهلع، أو القلق، هاجس خافت بشأن النظام الرمزي الذي لم يأتِ بَعْدُ، وصورة مسبقة مشئومة للحرية والاختلاف والاستقلال والغيرية. إن عينَ التشبُّع في الحالة الجمالية يصير موحيًا نوعًا ما بالنقص، وإن كان نقصًا لا يمكن تسميتُه بالتأكيد؛ فالآنية كلها تحمل هلعًا من العدم، بل ربما حتى نجد في مفهوم كيركجارد هذا صدًى لمفهوم جوليا كريستيفا «النبذ»، ذلك الشعور الأصيل بالرعب والاشمئزاز الذي يخالط جهودنا الأولى في فصل أنفسنا عن الأمِّ فيما قبل الأوديبية.14 فالسقوط باختصار قد وقع بالفعل في كل مرة. فإن لم يكن آدم يحمل استعدادًا لارتكاب الخطيئة فكيف كان له أن يستهين بأمر الرب في المقام الأول؟ إنَّ تعدِّي آدم للحدود — كما يقول كيركجارد — هو أول ما يَفتح باب الاختلاف؛ ومِن ثَمَّ يدشن (بلغة لاكان) النظام الرمزي؛ لكنه لم يكن ليقع إلا إن كان لديه بالفعل إحساس غامِض بالحرية الممكنة، وفهم أوَّلي لإمكانية الاختلاف من قبل حدوثه. نحن لا نتحدَّث عن ظهور الإمكانية بل بزوغ فجرها، إن جاز التعبير. ففي البداية لم تكن البراءة بل كانت الإمكانية البِنيوية لتعدِّي الحد التي تُسميها المسيحية الخطيئة الأولى.

إن كان الاتفاق بين المستوى الخيالي عند لاكان والمستوى الجمالي عند كيركجارد لا يكاد يكون تامًّا، فإن الصلة بين دائرته الأخلاقية والدائرة الرمزية اللاكانية تتضح أنها مباشرة أكثر. فالملتزم بالأخلاق — كما يبين كيركجارد في عمله «إما/أو» — اتَّضح أنه الفرد المستقل الحر الذي تعبر أفعاله، بطريقة كانط، عما هو عامٌّ. فالرجل الملتزم أخلاقيًّا رجل اجتماعي مسئول برجوازي، مُستقر في زواجه وعمله وأملاكه، وقائم بواجبه والتزاماته المدنية. وبعكس الكائن الجَمالي المتقلِّب فهو يوجه نفسه باستمرار، ومتصف بلا مبالاة رواقية لتقلُّبات القدر. وفي ظل تواطؤه مع الأعراف والمعايير العامة، تُجسِّد حياته الأخلاقية مثالًا صادقًا على النظام الأخلاقي عند هيجل. وبعكس الشخص الجمالي، فإن العالَمَين الداخلي والخارجي مُتوازنان بتناغُم في شخصيته. إن الشخص الأخلاقي عند كيركجارد متآلف تمامًا مع مفاهيم القرار والالتزام والعمومية والموضوعية والتأمل الذاتي والهوية المركزية والثبات الزمني.

إلا أن هذا الشخص ليس حَسَن السمعة كما يبدو، فمن ناحية، إن إيمان كيركجارد بأن الذات الأخلاقية يجب أصلًا أن «تَختار» نفسها — رغم أنه بالمعنى التامِّ للكلمة لا توجد الذات فيما قبل فعل الاختيار — يتجاوز الاستقلال عند كانط إلى مفهوم وجودي للأصالة. فهو يتضمن مفهومًا لتشكيل الذات أقرب لنيتشه منه لكانط، وإن كانت الذات المختارة لذاتها عند كيركجارد — وهي أبعد ما يكون عن أن تُجسِّد تصورًا للابتكار الذاتي الحر الجمالي — يجب أن تتبنَّى حقيقتها الشخصية بكل ما فيها من يأس من الإصلاح، وتواجه النفس باعتبارها ضربًا من الضرورة كما أنها ضرب من الحرية. إن النفس عند كيركجارد أمر لم يُكتشَف بعد وهدف لم يتحقَّق بعد. وبمجرد اتخاذ القرار الأخلاقي، باعتباره خيارًا أساسيًّا يتعلق بكيان الفرد وليس بشيء محدَّد، يجب أن يُعاد بلا توقُّف، في عملية تجمع تاريخ الذات في ظل هدف متَّسق ذاتيًّا. وسنجد صدًى لعقيدة التكرار هذه لاحقًا في كتابات آلان باديو، فالعيش في العالم الأخلاقي يعني الاهتمام غير المُنتهي بالبقاء في الوجود، فالبقاء عند كيركجارد يمثل مهمة لا منحة، شيئًا نُحقِّقه لا نتلقاه. وفي هذا البعد من اللانهائية يغطي المستوى الأخلاقي على المستوى الديني، مثلما يحمل المستوى الجمالي أثرًا مسبقًا للمستوى الأخلاقي.

وطالَما كان المستوى الأخلاقي مُرتبطًا بما هو عامٌّ وكلي وجماعاتي، يجدُ فيه كيركجارد، البروتستانتي المؤمن بالمذهب الفردي، القليلَ مما يَستحِق إنقاذه. وهو بذلك ليس إلا وعيًا جمعيًّا زائفًا. لكن طالما أنه يدلُّ على الانشغال بالتوجه للداخل في الإنسان، فهو يشير بصورة غامضة إلى المعتقد الديني الذي يتجاوَزه. ويكسر هذا الإيمان أنماط المُستوى الأخلاقي، ويهزُّ دعائم النفس الراضية باستقلالها، ويُمثِّل فضيحة بالنسبة إلى الفضيلة المدنية، فاتجاهه الفردي المُكثف للداخل يتعارَض مع العالم الاجتماعي، ويُدير ظهره باحتقار للحَضارة الجماعية. وكما سنرى لاحِقًا مع مُناصري أخلاق الواقعي الفرنسيين، لا يُمكن أن تُعاد صياغة الإيمان بحيث يتلاءم مع أعراف النظام الاجتماعي ومنطقه، فهو انحراف دائم عن التوافُق وسُبَّة في جبين التقاليد الاجتماعية. فالإيمان قضية متعلِّقة بأزمة داخلية مزمنة بحيث لا يُمكنه أن يسهل دوران عجلة الحياة الاجتماعية مثلما تفعل بعض النظريات الأخلاقية الأكثر مدنية أو اجتماعية. إنه الوقت المُعين وليس التقاليد، الخوف والفزَع وليس الأيديولوجيا الثقافية، فهو لا يُمكن أن يتجسَّد في العادات أو التقاليد أو المؤسَّسات؛ ومِن ثَمَّ فهو معادٍ للتاريخ على نحو شديد. فحال الإنسان — كما يقول كيركجارد في عمله «المرض طريق الموات» — دائمًا في خطر.

إن هذه الذاتية المتوهِّجة مُتشدِّدة في خصوصيتها؛ إذ تكره أي منطق أو نظرية أو عمومية أو موضوعية. يكتب كيركجارد: «لا يُمكن إدراك الواقع» و«لا يُمكن فهم الخاص.»15 فالوجود مختلف جذريًّا عن الفكر، وهو أسلوب في التفكير سيصير تيودور أدورنو وريثه الأكبر في القرن العشرين، فهو يمثل أزمة الفصل بين الذات والشيء، بدلًا من الجمع المُتجانس بينهما. ومُثير القلق الفلسفي هنا هو هيجل، الذي لم يدرك أن كل السرديات العظيمة والكُليات العقلية تتحطَّم على صخرة الإيمان. إنَّ هذه المثالية الراضية غير قادرة على الاعتراف بوقوع الخطيئة والذنْب؛ أننا مخطئون دائمًا أمام الرب، وأن النفس تحمل على كاهلها ثقل الضرر والبؤس اللذين لا يمكن إنكارهما. كما أنها غير قادِرة على استيعاب حقيقة أن التاريخ محض صدفة؛ فالخطيئة — انحراف الإنسانية الوجودي المحض — هي حَجَر العَثْرة الذي تصطدم به كل النُّظُم الأخلاقية أو المخططات التاريخية العقلانية الصِّرفة. فقلب المسيحية — أي التجسُّد أو الحُلول — يقضي على المنطق؛ إذ كيف لِلَّامحدود أن يحل في المحدود؟ فالحقيقة ليست نظرية بل هي ذاتية تمامًا. فهي «المشروع الذي يختار شكًّا موضوعيًّا بعاطفة اللامحدود.»16 فالإيمان هو الوجود.
يكتب كيركجارد: «المسيحية هي الرُّوح، والروح هي التوجه إلى الداخل، والتوجه للداخل يعني الذاتية، والذاتية في جوهرها العاطفة، وهي في أقصاها اهتمام شَغوف شخصي لا نهائي بسعادة الإنسان الأبدية.»17 وبينما يتميَّز المستوى الرمزي أو الأخلاقي بعدالة القانون وتجرُّده، فإن الإيمان يتصف بالتحزُّب المحموم؛ وبينما يتميَّز المستوى الرمزي بأنه مجرَّد وعام ومؤكَّد على المساواة، فإن الإيمان وجودي ومُطلَق ولا يُمكن قياسه. فالنفس في المستوى الأخلاقي — الأنا المتلاحمة الشفافة الواضِحة المضيئة لقلب الوجود البرجوازي اليومي — تَنفصِل بحاجز لا يمكن عبوره عن الذات العاطفية وغير المُستقرَّة والمتناقضة والغامضة في عالم الإيمان أو المستوى الواقعي. فالأخيرة تَظلُّ دائمًا لغزًا ووصمة في جبين الأولى؛ إذ هي مُبتلاة بصراعات لا يُمكنها حلها من الناحية النظرية بل من الناحية الوجودية، فتُطلق العِنان لها جميعًا على نحو مؤقَّت في مشروع دائم من الوجود الفعلي بدلًا من حلها في هدوء الفكر. فالذات المؤمنة تجمع بين متناقِضات وهي تعيشها، فالإيمان — كما حال الرغبة عند لاكان — أساسه في ذاته ومشروعيَّته في ذاته، وهو مُستحيل دائمًا. يقعُ المستوى الواقعي على الجانب الآخر من اللغة — التي هي العلامة الحية على المستوى الرمزي — فهو يُشبه النبي إبراهيم الذي يتجاوَز حدود الكلمات في إخلاصه لأمر الرب غير المنطقي بذبْح ابنه. فهو صورة من التفرد البحت يكمن فيما وراء ما هو عامٌّ، وانتصار للا منطقية حكيمة على عقلانية حمقاء. ويرفض النبي إبراهيم؛ إذ هو بين أنياب المستوى الأخلاقي — في مواجهة كلِّ أدب إنساني — أن يتخلى عن الرغبة المبهمة المتمثِّلة في الإيمان.
إلا أن هناك صورة إيجابية وأخرى سلبية للمستوى الواقعي عند كيركجارد مثلما هو الحال — كما يمكننا أن نقول — عند لاكان. فالمستوى الواقعي بصفة مؤكدة هو الرب — الهُوَّة اللانهائية في جوهر النفس — لكن ثمة سلبية أكثر شؤمًا في قلب الإنسانية يُسميها كيركجارد باليأس، في كتابه «المرض طريق الموات»، وهي في الحقيقة صورة من دافع الموت عند فرويد. إنه — على وجه أكثر دقة — الإحساس الغائر بالعدم عند الذين يَعجِزون عن أن يكونوا من يُريدون، فيرغبون في التخلُّص من أنفسهم، لكنهم عالقون في حالة العجز عن الموت الشيطانية. وقد ذكرت في موضع آخر بالكتاب أن هذا العالم المكوَّن من أموات أحياء — الذين لا يمكنهم إثبات أنهم أحياء إلا بالمتعة التي يُحصِّلونها من تدمير الآخرين — قريب جدًّا مما عُرف كلاسيكيًّا بالشر.18 ورغم أن اليائسين في نظر كيركجارد نادرًا ما يكونون كذلك — نظرًا إلى أن ما يَتَغَذَّونَ عليه ليس الآخرين بل أنفسهم — فهم يمثلون ما يصفه بأنه «جنون شيطاني» يَنقِم بشدة على الوجود ويعشق الفناء، إلا أنهم يَحفظون أنفسهم من الفناء بفضل هذه الضغينة العميقة ذاتها. وتُوصَف هذه الحالة عادةً بأنها شيطانية، وبأسلوب لاكان، فإن هؤلاء الرجال والنساء عالقون بلا حيلة في مأزق القانون والرغبة، وهم مِن ثَمَّ الضحية الرئيسية للمُستوى الواقعي، فهي حالة لا يُمكن في نظر كيركجارد التخلُّص منها إلا بهذا الجانب القاتل من المستوى الواقعي المُتمثِّل في الفضل الإلهي؛ إذ يرى كيركجارد أن من خلال الابتلاء بهذا اليأس بصورة أو بأخرى — اليأس الذي يمثل «مَعبرًا إلى الإيمان» — وَحدَهُ يكون النفاذ إلى الحياة الأبدية. وهذه رؤية تراجيدية ما دام الأمر يتطلب أن يخسر المرء حياته ليُنقذها، فهي تشبه الإيمان اللاكاني في أنه بالتعلق العنيد بسلبية المستوى الواقعي وَحْدَهُ يمكن أن نكون في صورة كائن ملتزم أخلاقيًّا تمامًا، فالإيمان عند كيركجارد — كما حال المستوى الواقعي عند لاكان — يقدم أزمة واضطرابًا دائِمَينِ في تأكيدات المستوى الأخلاقي التي لا معنى لها.
تتجاوز كتابات كيركجارد حُدود الحياة الأخلاقية الجمعية في النظام الأخلاقي عند هيجل إلى طلاق كانط البروتستانتي القاسي بين الواجب والسعادة؛ فالإيمان لا علاقة له بالرفاهية أو بالإشباع الحسي؛ فالمسيحي الحقيقي «يُبعد نفسه عن الملذات والحياة والمسرات المادية.»19 فالمستوى الواقعي مُعَادٍ للمستوى الجمالي وإن كان يشترك معه في بُعْدِهِ عمَّا هو عامٌّ. كما أن الإيمان ليس عاطفة، فهو «ليس الميل الفوري للقلب بل هو مُفارَقة الوجود.»20 وليس ثمَّة طريق مباشر كما عند شافتسبري أو هتشسون من عواطف القلب إلى المُطلَقَات الأخلاقية، إلا أن كيركجارد بتحوُّله بهذه الصورة إلى كانط لا يكتفي برفض تحويله المُجمِّل للدين إلى الأخلاق، بل إنه يُفكِّك الذات الأخلاقية المستقلة الحرة، وكذلك رؤيته لهذه الذات باعتبارها مُتناغمة مع الآخرين في مملكة العام؛ إذ يكتب في عمله «المرض طريق الموات» أن النفس بوصفها سيدة نفسها كالملك بلا مملكة، فهي نوع من الحكم على لا شيء، حشو رنان. أما بخصوص الاعتماد على الغير فإن كيركجارد يصيب في رؤيته أنها سابقة جذريًّا على الاستقلالية، رغم أن الاعتماد في حالته يكون على الرب المانح الأكبر للذاتية وليس على الناس. فبطريقة بروتستانتية تقليدية، تَعلَق الذات المؤمنة في اعتماد مُكره على رب لا تفهم منطقَه على الإطلاق. وعلى هذا الأساس وَحدَهُ يمكنها أن تُكوِّن لذاتها نوعًا من الفردية الحرة، فالفرد يخضع لدعوة أو مهمة فريدة، أمر إلهي موجه إليه وَحدَهُ لا يمكن موائمته مع مثل هذه الأمور الحضرية كالمبادئ العامة والالتزامات المدنية. وسنرى لاحقًا صورة أخرى من هذا الأمر الفريد في ظل «قانون الذات»، هذا الذي لا يُضاهى الذي هو رغبة المستوى الواقعي.
إذًا فالمستوى الواقعي يدحض المستوى الرمزي؛ إذ إن موقف النفس مما هو مطلق يسبق ارتباطها بالمستوى الأخلاقي. وهذا النظام الأخلاقي — كما هو الحال عند مؤيديه الفرنسيين اللاحقين — له أبعاد سياسية. فليس ثمة إمكانية لوجود ما قد نُسمِّيه المستوى الخيالي الاجتماعي، الذي يمكن من خلاله للرجال والنساء أن يُحقِّقوا بعض الإشباع الجماعي من خلال رؤية صورة بعضهم المنعكسة في بعض، فجميع أشكال الجماعية صارت متهمة بالإيمان الفاسد والوعي الزائف، كما هو حالها بوجه عام في رأي إيمانويل ليفيناس، ولاحقًا جاك دريدا. فكلما زاد إظهار الإنسان لهُوِيَّته الاجتماعية، زاد وقوفه عاريًا مرتجفًا بوصفه روحًا وحيدة أمام الرب. فالبطولة الحقيقية هي المخاطرة بأن نَظهَرَ على حقيقتنا دون تحفظ. وهي حالة باتفاق — كلٍّ من ليفيناس ودريدا لاحقًا — تتضمَّن ما يصفه كيركجارد ﺑ «المسئولية الضخمة». فالأفراد ذرات وحيدة مستغلقة على ذاتها ومستغلق بعضها على بعض؛ فالخصوصية لا يمكن الحفاظ عليها إلا على حساب الاجتماعية، «فالتجربة المحدودة» كما يقول كيركجارد «لا مأوى لها.»21 فواقع أي شخص آخر ليس حقيقة عندي، فما هو إلا «احتمال»؛ إذ لا يمكن أن يوجد تواصُل مباشر بين الأفراد المحدَّدين غير القابلين للاختزال، ولا تعاطف خيالي أو إحساس فطري بالألفة فيما بينهم. ويتضمَّن هذا الاعتقاد أيديولوجيا الهوية القاتلة، أسطورة أن الذات يُمكن أن تتَساوى مع نفسها أو مع الآخرين، وليست غير قابلة للقياس على أي شيء سواها في الكون. إن فكرة الفضيلة — الاعتياد التلقائي على فعل الخير — يتمُّ رفضها باعتبارها عقيدة وثنية، فهي خالية تمامًا من الجهد مقارنة بفكر كيركجارد شديد التزَمُّت، حتى وإن كان — كما يقول معلِّق — «كل اهتمامه منصب على إثبات الذات وسعي الفرد للرضا.»22 فالمحاكاة — وهي حَجَر الأساس في المستوى الخيالي — مرفوضة رفضًا قاطعًا، فلا يوجد فرد قادر على محاكاة أو تقليد الواقع الداخلي لغيره، فكل الناس «هويتهم غير معروفة». ويُمكن للمجتمع في أحسن الأحوال أن يتطلع إلى «الوَحْدَة السلبية للتبادل المشترك بين الأفراد»، وهي تبادلية ليست جزءًا جوهريًّا من وجودهم من أي وجه.23
يبرز كيركجارد إذن بصورة مناصر مبكر لهذا النموذج من الأرستقراطية الروحية المعروف ﺑ «النقد الثقافي»، وهو إرث سنُلقي عليه نظرة لاحقًا. فهو نُخبَوِيٌّ عابس يهاجم «الرعَاع» دون تقيُّد؛ إذ يؤمن بأن عددًا قليلًا جدًّا من الرجال والنساء قادرون على أن يظهروا بحقيقتهم. فالديمقراطية هي عكس الوجود الحقيقي للفرد، والمُناداة بالمساواة البشرية نوع من التسوية المشينة التي تقوض الروابط الإنسانية الملموسة وتبطل الاختلاف الفردي البَحْت. فالذات المجردة العامة في الحضارة البرجوازية ستُنبذ في احتقار، فالتقدم الاجتماعي والنظام المدني والرأي العام والإصلاح الإنساني كلها شئون وضيعة تليق بالمستوى الرمزي التابع، الذي هو أدنى من المجال الرفيع للإيمان الفارس. يُكِنُّ كيركجارد احتقارًا لما هو إنساني وخيري، وما هو سنراه لاحقًا عند أتباع لاكان؛ إذ يقول إن «الإنسانية المتأصلة» في الإيمان «أثمن من هذا الاهتمام الأحمق بسَرَّاء الآخرين وضَرَّائهم الذي يُحترَم تحت اسم التعاطُف لكنه ليس إلا عبثًا في الحقيقة.»24 فالعاطفة مفهوم لاكاني خالص.

فالرجال والنساء في العصر الحديث إذ يَعجِزون عن «الوجود» الحقيقي قد استسلموا دون مقاومة لدائرة المجهول واللاإنساني، للعموميات الوحشية وللكليات الجامدة، في عصر قضى بنحو تناسُبي على الحكمة الروحية بتراكمه للمعرفة. إنها السيادة الصماء ﻟ «المرء» عند هايدجر، انتصار الكمِّي والعمومي على الفريد ومنقطع النظير. وباللجوء للإيمان السيئ، يهجر الناس قضية الوجود الشخصي الحقيقي الإشكالية لينغمسوا في حلم أو آخر بالكُليَّة: الخير العام، روح العصر، مجرى التاريخ، تقدم الإنسانية. وهم بذلك يَتَماهَونَ بطريقة خيالية مع نظام اجتماعي دائمًا ما تختلف معه الذات المؤمنة في تشكُّك، فالتاريخ بعد هيجل لم يَعُدِ المكان الذي تجد فيه الذات انعكاس صورتها ولا غايتها. على العكس فإن الناس يجب أن يَستَمِدُّوا الآن إيمانهم من منطق عامٍّ أكثر وضوحًا وواقعية، فينسحبون من عالم أدنى إلى أعماقهم الداخلية. وسيلاقي المصير نفسه الفن في عصر الحداثة، وما قدمه كيركجارد هو تحويل عين الحرج واللاعقلانية المحيطة بالإيمان في حقبة عقلانية إلى نوع مُنحرف من الدعاية له.

قد لا يكون كيركجارد بصفة عامة مناصرًا للمستوى الخيالي؛ لكن ثمة موضعًا يلتزم به فيه بلا تحفظ، وهو في فعل الكتابة نفسه. فالقارئ — حسبما يقول كيركجارد في عمله «وجهة نظري بصفتي مؤلفًا» — يجب ألَّا تُقَدَّمَ إليه الحقيقة المطلقة بأسلوب فَظٍّ، وهو ما سيرفضه حتمًا، بل يجب أن يؤخذ بيده إليها بصورة غير مباشرة، ويخضع لنوع من المفارقة السقراطية لكي يَنكشِف وعيُه الزائف من الداخل بدلًا من مواجهته مباشرة. فمن خلال تقديم سلسلة من الحُجَج الجزئية وتقَمُّص شخصيات مستعارة، يُمكن للكاتب أن يُطلق سلسلة من الغارات غير النظامية على القارئ، فيَسحبه من خلال الخيال والمفارقة والحِيلة إلى لحظة قرار لا يَسَعُهُ سوى أن يكون قراره هو وَحْدَهُ. وكما يقول سارتر بعدها بقَرْن، فلكي تكون الكتابة مفيدة أخلاقيًّا عليها أن تخاطب حرية القارئ. فهي — كما يصيغها كيركجارد — مسألة «تماشٍ مع وهم الآخر»، مسألة دخول من باب التقمص العاطفي الخيالي إلى دائرة القيمة لديه مثلما يفعل الروائي مع شخصياته. وهذا باعتراف كيركجارد يشمل عنصرًا خداعيًّا لا بد منه، تمامًا مثلما الحال في المستوى الخيالي. فالكتابة من هذا المنطلق عملٌ حواريٌّ يَستَرِق باستمرار السمع لنفسه في آذان مُتَلَقِّيهِ ويراجع نفسه بالتبعية. الحقيقة هي الحقيقة بكل تأكيد؛ لكن في عالم الخطاب الإنساني الحقير يجب أن تتصرف بحكمة ملتوية، مثلما يتسلل الكاتب إلى «الأرض المجهولة» للقارئ كمُندَسٍّ في معسكر الأعداء.

ثمَّة تداخلات معقدة بين مُستويات كيركجارد الثلاثة كما في مستويات لاكان الثلاثة، فالمستوى الديني يجب أن ينحنيَ أمام المستوى الجمالي، وهو ما يعني أن المادة الخام التي يَعتمِد عليها المُبشِّر في دعوته هي الجوانب الرديئة للتصور والرغبة. وينبه كيركجارد إلى أن الإيمان يجب أن يَستوعِب ما هو لا مُتَناهٍ لكن عليه أيضًا أن يتمسَّك بقوة بما هو مُتَناهٍ: «إن عيش الإنسان حياته اليومية في ضوء جدلية اللامتناهي الحاسِمة، واستمراره في الحياة مع ذلك، لهو فن الحياة وصعوبتها معًا.»25 وثمَّة بعض من هذه المفارقة — مفارقة الوجود في هذا العالم دون أن نكون جزءًا منه: الانفصال عنه وفي نفس الوقت المبالاة به — في فكر أتباع لاكان. عندما يلفت كيركجارد في كتابه «خوف ورعدة» إلى أنه «من العظيم أن يَزْهَدَ المرء في رغبته، لكن الأعظم أن يلازمها بعد أن يَزْهَدَ فيها»،26 فهو يفكر في حب النبي إبراهيم لابنه إسحاق وأمله في سلامته، وهما حب وأمل يتمسك بهما حتى وهو يتخلى عنهما باسم إيمانه بيَهْوَهْ. وكذلك يؤمن لاكان هو الآخر بوجود الرغبة التي هي مستحيلة والتي ينبغي مع ذلك التمسك بها.

ثمة علاقات أخرى بين الأبعاد الثلاثة؛ فقد يكون الإيمان والجمال في صراع لكنهما مشتركان في قُرْب يفتقر إليه البُعد الأخلاقي، فاختيار النفس هو العمل الأخلاقي الأسمَى، وهو يُؤْذِن بظُهور الذات القوية في إيمانها؛ لكن بما أنه يَتُوق للنفس بكل ما فيها من انحلال «جمالي» مُخيف، فهو لا يُغادر هذا النطاق. وكذلك فإن البُعد الديني «يُعلِّق» البُعد الأخلاقي بدلًا من أن يُصفِّيه. مع ذلك لا يفهم كيركجاردر العلاقة بين الأخلاق والبُعد الواقعي بالطريقة المسيحية التقليدية، فالإيمان في العهد الجديد ليس شيئًا يتجاوَز البُعد الأخلاقي بقدر ما هو كشف لأساسه المُطلَق، المتمثل في حقيقة أن الذين يُحبون دون تحفظ مآلهم الموت. ومن هذا المنطلق يُمثل المسيح تحقق القانون الأخلاقي؛ إذ يكشف عن منطقه الداخلي المريع بدلًا من أن يهدمه، فالإيمان لا يتعارَض مع الأخلاق لأنه إيمان برب العدالة والحرية والصداقة والمساواة. إن ما يفرق الالتزام الإنسانوي بهذه القيم في الإيمان بالمفهوم المسيحي هو أن الأخير يتمسَّك بافتراض لا عقلاني هو أنه برغم كل الشواهد التاريخية فالغلبة لتلك القيم. وهذا — كما يرى هذا الإيمان في حمق أكثر — يرجع إلى أنها قد غلبت فعلًا من وجهٍ ما.

•••

أما نيتشه فهو مفكر راديكالي على نحو مدهش، وليست نظرته للأخلاق استثناءً في هذا الإطار، فبدلًا من أن يتدخل في النقاش الأخلاقي ويزن هذه القيمة أمام تلك، فهو أحد أوائل المفكِّرين المعاصرين الذين تَحَدَّوْا مفهوم الأخلاق في حد ذاته. وثمة متشكك آخر هو معاصره كارل ماركس الذي يرى أن الأخلاق في جوهرها أيديولوجيا. وهكذا هي عند نيتشه، وإن كان لا يستخدم هذا المصطلح. فالأخلاق عند هذَين الفيلسوفين ليست قضية تتعلق بالمشكلات بقدر ما هي مشكلة في حد ذاتها. وكلاهما يربط بين الأخلاق والقوة بروابط جديدة لافتة للانتباه، فإن كان الخطاب الأخلاقي في نظر ماركس يَنتمي للبنية الفوقية الاجتماعية التي تُعيق — من بين أشياء أخرى — تطور قوى الإنتاج، فإن وظيفته الأساسية في نظر نيتشه هو منع ازدهار إرادة القوة. فالأخلاق كما نعرفها هي أخلاق «القطيع»، وهي تناسب بقدر كافٍ الجموع الجبانة المُتدنية روحيًّا لكنها عائق أمام تلك الأرواح النبيلة الاستثنائية التي تتَّسم بأكثر من مجرَّد شبه عابر بنيتشه نفسه. فالأخلاق مؤامرة على الحياة من جانب الخائفين من المتعة والمخاطرة والبهجة والمشقة والوحدة والمعاناة والتغلب على الذات، فهي وهمية بقدر الخيمياء. ويجب أن تنهار هذه المنظومة المتعَفِّنة الآن؛ حيث إن دعاماتها الغيبية آخذة في الضعف بصفة متزايدة.

إن كان كيركجارد يحتقر العامة، فإن نيتشه يتخطَّاه بسهولة في ذلك وبحقد بالغ، فكلا المفكرين يَريَانِ في الأعراف الاجتماعية تجنبًا جبانًا للمخاطرة المميتة التي هي أن يكون الفرد إنسانًا. فالأخلاق في نظر نيتشه طغيان وحماقة وإذعان عبودي وكراهية سادية مازوخية. فهي غريزة القطيع الموجودة بداخل كل فرد التي تضبطه لئلا يكون أكثر من مجرد جزء من كيان جماعي بلا هوية. فهو كيان، إذ يخلو تمامًا من أي حقيقة أو أساس ويمثل انتصارًا للجماعي على الفردي، لا يوجد إلا من أجل نمو المجتمعات والحفاظ عليها وحمايتها وليس التعزيز الضروري للحياة في حد ذاتها. وبذلك فإن الأخلاق من وجهة نظر نيتشه، المناصِرة بشدة للمذهب الطبيعي، وظيفة علم الأحياء وعلم النفس والفسيولوجيا والأنثروبولوجيا والصراع اللانهائي على الهيمنة. فجذورها لا تكمن في الروح بل في الجسد، فهي لا يُمكن اعتبارها بأسلوب كانط ظاهرة في ذاتها، بل لا يمكن تفسيرها إلا من منظور خارجها باعتبارها وظيفة ﻟ «الحياة والطبيعة والتاريخ». يهتمُّ نيتشه شأنه شأن ماركس بالتاريخ الطبيعي أو بالظروف المادية للأخلاق، ويرى أن الأخلاق لا تُمثِّل سوى عَرَض لها، فالأعراف الأخلاقية ليس فيها أي شيء مُهذِّب بل هي طاعة عمياء للعادات والتقاليد وما يمكن أن نسميه اللاوعي الاجتماعي؛ إذ تنبع القيم الأخلاقية المطلقة من الخضوع المستسلم للتقاليد والعواطف التي هي عشوائية كليًّا، فتاريخ الحكم الأخلاقي كله كان خطأً واحدًا استمر طويلًا، وإن كان — كما سنرى بعد قليل — خطأً بِناءً على بعض الجوانب. فعلينا أن ندمِّر الأخلاق إن أردنا تحرير الحياة، وذلك كما يؤكد نيتشه في كتابه «إرادة القوة».

لا يَكاد يوجد جانبٌ واحد في نُظُمِ الأخلاق التقليدية إلا واستنكره نيتشه بِتَعَجْرُفٍ؛ فالقيم الأخلاقية تضرب بجذورها في تاريخ من المعاناة والصراع والاستغلال: «فكَم من الدَّمِ والقسوة يَكمُنَانِ في أساس كل «الأشياء الجيدة» كما يعُلِّق في كتابه «في جنيالوجيا الأخلاق» بأسلوب فالتر بنجامين.27 إذًا فكل نظام أخلاقي يكون غير أخلاقي عندما يُقيَّم بمعاييره الرفيعة الخاصة. فانتصار فكرة أخلاقية كما يشير نيتشه في كتابه «إرادة القوة» يتحقق بنفس الطريقة التي يتحقق بها أي انتصار آخر؛ بالقوة والأكاذيب والافتراء والظلم. فما من حقائق ولا دوافع ولا نَوايا ولا سِمَات أخلاقية ولا حتى ظاهرة أخلاقية على وجه التحديد من أي نوع.

وإذا لم تُوجَد أيُّ أفعال أخلاقية أو غير أخلاقية فذلك يرجع إلى أن هذه الأيديولوجيا للسُّلوك الإنساني تقوم على مفهوم خاطئ للإرادة؛ إذ ليس ثمة إرادة حرة، وإن كان القول إن الإرادة غير حرة ما هو إلا عكس نفس المفهوم الخاطئ، فمفهوم الإرادة الحرة نتيجة للرغبة المَرَضية في المعاقبة والإدانة. فإن كانت الأفعال الأخلاقية تقتصر على الأفعال الناشئة عن حرية الإرادة — كما يعلِّق نيتشه ساخرًا في عمله «الفَجر» — فليس إذن ثمة أفعال أخلاقية على الإطلاق. إن تصور أن الناس يتحركون بإرادتهم ويقررون مصيرهم بصفة كلية؛ ومِن ثَمَّ فهم مسئولون مسئولية كاملة عن أفعالهم، لهو بقعة عمياء للأخلاق «الرمزية». على العكس، فإن كل ما هو واعٍ ومعروف ومرئي ومقصود في الفعل — كما يكتب نيتشه عمله في «ما وراء الخير والشر» على طريقة فرويد — يخص ظاهره فقط. وما يسمى بالإنسان الحر ما هو إلا شخص يستوعب بداخله قانونًا بربريًّا؛ ومِن ثَمَّ يوجه نفسه باعتباره مواطنًا خاضعًا؛ ومِن ثَمَّ لم يَعُدْ في حاجة إلى قَسْر خارجي. وحيث إن القانون في حاجة لموضع كي يزرع نفسه فيه، فهو يطرق بداخلنا باب الندم والمرض والضمير الفاسد الذي يفضل البعض تسميته بالذاتية. إن هذه الجوانب من فكر نيتشه — مِن بَينِ أخرى — هي ما سيرثه لاحقًا ميشيل فوكو؛ إذ يتوسع العالم الداخلي ويتمدد مع انقلاب الغرائز — الصحية في الوضع الطبيعي — الموجَّهة للخارج على نفسها تحت سطوة قوة القانون القهرية لتتمخَّض عن «الروح» والضمير، هذا الشُّرطي الموجود بداخلنا جميعًا. وفي نفس الوقت تُحصِّل الذات المتعة المازوخية من القانون التأديبي أو الأنا العليا المُثبتة بداخلنا. فالحرية هي معانقة الإنسان للأغلال المُصَفَّد فيها.

لا يُقصد من هذا القول أن نيتشه مؤمن متعصِّب بالجبرية، بل يُقصد أنه يسعى لوضع نظرية في علم النفس أكثر دقة من الأفكار شديدة التبسيط التي يجدها جاهزةً أمامه، نظرية تَنقض التعارض التقليدي بين الحرية والضرورة. وسيقوم بهذا من خلال دراسة عملية الإبداع الفني، التي هي من ناحية دافعه من البداية إلى النهاية، والتي لا ترتبط بأفعال الإرادة ولا بالضرورة، فمعظم الناس على أي حال لا يرقى فكرهم إلى هذه المثل العظيمة كالاستقلال والمسئولية، فما أفعالهم إلا ردود فعل شرطية لطبائعهم، بحيث يصير المدح أو الذم الأخلاقي في حالتهم في غير محلِّه إطلاقًا. فالجموع ليس من الممكن تحميلها المسئولية عن الشبَكة المعقدة من القوى الخفية التي تُشكِّل شخصيتهم شأنهم في هذا شأن النمر مثلًا.

إن كان نيتشه قد هاجم النظام الرمزي، فقد هاجم أيضًا النظام الخيالي. ومثلما يزعم سبينوزا أن أخلاق الجَماهير تكمن في التعامل مع العالم باعتباره مرآة لتحيزاتهم وميولهم، فإن نيتشَه يعتبر أن الأحكام الأخلاقية تنبع من النزعة إلى الشعور بأن كل ما يؤذي النفس شر وأن كل ما ينفعها خير. كما تتَّخذ هذه الأنويَّة صورة جماعية في المجتمع نفسه؛ إذ يرى أن فكرة وجود ملَكة أخلاقية فِطرية هي فكرة في قمة السذاجة. فعندما يتصور الإنجليز أنهم يعرفون ما الخير وما الشر على نحو فطري، كما يقول مُتهكِّمًا في كتابه «أُفُول الأصنام»، فهم ضحايا الخداع الذاتي. فالفضيلة التقليدية أكثر من مجرد «محاكاة» كما يقول في نفس الكتاب؛ ومِن ثَمَّ فهو يُنكر رؤية بيرك الخاصة بالتبادلية الأخلاقية، بل إن إحدى نقاط اتفاقِه النادرة مع فلاسفة أخلاقيِّين مثل هيوم هي معاداته الشديدة للواقعية، فالقيم الأخلاقية عنده — كما عند سلفه في القرن الثامن عشر — ليست موجودة مسبقًا في العالم، فهي أجزاء من محتويات العالم التي نصنعها بأنفسنا، وليست أشياء نجدها على نحو مسبق أمامنا.

كما أنه رافض بنفس القدر للإحساس والعاطفة، فالعواطف ما هي إلا أعراض شعورية لما تعَلَّمنا اعتقاده، فإن بَدَتْ طبيعية وتلقائية كما الحال عند هيوم وهتشسون فذلك لأننا ببساطة نجحنا في أن نستوعب بداخلنا قانونًا أخلاقيًّا لا أساس له. ويقول نيتشه في عمله «الفجر»: إنَّ وراء الافتراض المهذَّب بأن الأفعال الأخلاقية أفعال تقوم على التعاطف مع الآخرين يكمن خوف أساسي مما يُمثِّله الآخرون من تهديد لنا. فحب الجار، كما يشير نيتشه في عمله «ما وراء الخير والشر»، سببه الأساسي الخوف من الجار. فهو حذَر ثانوي اعتباطي تقليدي تمامًا؛ فالخوف هو «أبو الأخلاق» لكنه يتنكَّر عادةً في صورة حب. ولا يَختلِف هذا المَنطق كثيرًا عن فرويد الذي يتبنَّى عددًا من أفكار نيتشه.

إذًا فالإيثار عند أنصار مذهب الخير مرفوض باعتباره كله خرافة، فأفكار التضحية والإيثار وإنكار الذات والنزاهة زائفة تمامًا، فالذات العاطفية هي ذات تعرضت للإخصاء؛ إذ ما مِن قدرة ذاتية داخلية على فعل الخير، فالناس بطبيعتهم حيوانات تنافسية أنانية، ودائمًا ما تنبع أي نزعة لإفادة الآخرين من المصلحة الشخصية. وإن كانت الأفعال الأخلاقية هي الأفعال التي نقوم بها بالكامل لمصلحة الآخرين، فهي إذن غير موجودة. فالشفَقة الإنسانية مبالغ في قيمتها جدًّا، فهي رابطة تجمعنا بمن هم أقرب لإفسادنا؛ فالعاطفيون يتمتَّعون بالمعاناة البشرية، وهي ظاهرة يرى نيتشه أن أهميتها مبالغ فيها، فالإنسان الأعلى أو الأرقى يتقبَّل المِحَن، معتبرًا إياها درسًا ضروريًّا للإنجاز الإبداعي. من المُمكن — قطعًا — أن يقدم المساعدة للمحتاج، لكنه يقدمها بكرم الأرستقراطي الذي لا يَنحني لا بحماس الشخص المحب للخير المُنتمي للطبقة الوسطى. إن هذه الكائنات الروحية الضعيفة التي لا ترى أن الأخلاق هي السيطرة على النفس والتغلب عليها هم من «يمجدون العواطف الطيبة التعاطفية الخيِّرة لذلك النظام الأخلاقي الفطري الذي لا عقل له، بل هو ببساطة مكوَّن فقط من قلب وأَيْدٍ مساعِدة.»28
وفيما يتعلق بهذه المسألة، يَميل نيتشه الذي ألَّف كتاب «في جنيالوجيا الأخلاق» لتمجيد «كل ما هو رفيع وشجاع ومقدام ومهيمن.»29 فإرادة الخطر والإخضاع والألم و«المكر السامي» تستنزفها على نحوٍ ماكرٍ الإنسانوية الأخلاقية الجبانة؛ فالتعاطف والرحمة كما نعرفهما هما الفضيلتان المريضتان لدِين العوام هذا — المسيحية اليهودية — وعَرَضا كره الذات والاشمئزاز من الحياة، اللذين أقنعت الطبقات الدنيا، ببُغضها وحِقدها، أسيادَها بأن يتبنوهما. وبضربة عبقري شرير، نقل الضعفاء إلى الأقوياء عَدوَى عدميتهم المتقَرِّحة وأطلقوا على هذه الحالة الكارثية اسم الأخلاق. وردًّا على ذلك يجب على الإنسان الأعلى أن يُحصن نفسه ضد معاناة الآخرين، داهسًا برَكبه المرضى والضعفاء.
إن كانت الشفقة والتعاطف مقصورَينِ على العَوَامِّ، فكذلك مُثُل السعادة والمنفعة والرفاهية والخير العامِّ. يكتب نيتشه ساخرًا في عمله «ما وراء الخير والشر» قائلًا: «وكيف يُمكن ﻟ «الخير العامِّ» أن يوجد؟! فالمصطلح يناقض نفسه: فكل ما هو عامٌّ قيمته دائمًا ضئيلة.»30 أما مفهوم الرفاهية العامة كما يُشير في عمله «ما وراء الخير والشر» فليس قيمة مُثلى بقدر ما هو شيء مثير للاشمئزاز، في الوقت الذي لا يعكس فيه مبدأ المنفعة أكثر من تطلعات هزيلة للمنتهَكَة حُقوقهم والمظلومين. أما فيما يخص قضية السعادة التي لا قيمة لها، فالإنجليز وَحْدَهُم — كما يسخر واضعًا نُصب عينيه أتباع بنثام — هم من يشغلون فكرهم بها، فالقواعد الأخلاقية — شأنها شأن المفاهيم — تبالغ في التبسيط بطبيعتها، فتَختزل ما هو شديد الخصوصية في أشياء أدنى عامة أو كلية. إن هذه الاسمية المتحفِّزة هي واحدة من بين آراء نيتشه العديدة التي انتقلَت إلى الفكر ما بعد الحداثي، وهو تيار كان هو في واقع الأمر مُحَرِّكَهُ الأول. فبإيمانه بأن العامَّ سطحي ومُزيَّف في جوهره، فهو يشترك في أمور كثيرة مع كيركجارد، بل إنه يتخطى هذا الفيلسوف الدنماركي المؤمن بالمذهب الفردي باعتقاده أن الوعي نفسه تسطيح للعالم؛ إذ يحيل غابة الواقع الغني إلى مجرد ظل هزيل لنفسه. يتَّسم التفكير حتمًا ببعض البلادة والإبهام، أما الجسد فهو ظاهرة أكثر ثراء ووضوحًا وجدارة بالثقة.

مع ذلك فإن نيتشه أبعد ما يكون عن مجرَّد الهجوم على النظام الرمزي أو سيادة الأخلاق الجماعية. فمن ناحية، النظام الرمزي أفضل ما يمكن لمعظم الناس أن يتعاملوا معه، فهو من الناحية التطورية عالم يتلاءم بنحو يثير الإعجاب مع حالتهم الروحية البدائية، فالجنس البشري لا يمكنه تحمل قدر كبير من الواقع، وسيهلك على يد الحقيقة إن دفعه حظه العاثر لمواجهتها مواجهة مباشرة؛ لذا فإن ميلاد الذات الإنسانوية ليس مدعاة للندم. ويختلف نيتشه في هذا اختلافًا واضحًا عن الكثير من أتباعه الأقل حذرًا. ومن ناحية أخرى فإن النظام الرمزي — بأعرافه المجرَّدة ومعاييره التي تقوم على المساواة وتقديسه لما هو عادي وتقويضه لما هو استثنائي — له نتيجة بَنَّاءة في نهاية المطاف؛ نتيجة تغيب عن رؤية كيركجارد المريعة له. وهذا يرجع إلى أن نيتشه — على عكس معظم مناصريه المعاصرين — غائي حتى النُّخاع يرى أن الأخلاق تمرُّ بثلاث مراحل تاريخية. وليست تلك المراحل الثلاثة تمامًا هي الخيالي والرمزي والواقعي، بل يُمكن وَصفُها بدقة أكبر بأنها الحيواني والرمزي والواقعي.

غالبًا ما تُعتبر المرحلة الحيوانية — على نحوٍ خاطئ — المرحلة الأخلاقية المثالية عند نيتشه، فهي المرحلة البدائية التي يعيش فيها «الناس أحرارًا، وجامحين، وهائمين»؛ يقاتلون كالطغاة الذين لا يعرفون أي ندم، ويعيشون بغرائزهم الجميلة البدائية في تحرر رائع من القيود، ويؤذون ويستغلون دون أدنى اعتبار. وهؤلاء كائنات أكثر جاذبية من الإنسان الأخلاقي، لكنهم كذلك أقل سحرًا وتعقيدًا منه؛ إذ يبرز الإنسان الأخلاقي عندما تدفن الهيمنة القاسية لتلك الوحوش الشقراء الغرائز الحرة لمَن يَخضعون لهم؛ ومِن ثَمَّ يولدون تلك الحالة الخطيرة المؤذية للنفس من الندم والإيمان الفاسد التي تشكِّل «أخلاق العبودية» في المجتمع التقليدي. وإذ تَعلَق الكائنات الأخلاقية التقليدية في شباك هذا التواطؤ المؤذي بين القانون والرغبة، فهي تَذبل في قبضة الواقعي بالمعنى السلبي للكلمة، بينما يتحرَّك الإنسان الأعلى — كما سنرى في تلك المنطقة الغامضة — بصورة أكثر إيجابًا، بصورة أقرب في عدة جوانب إلى النموذج المثالي لأنتيجون عند لاكان (وإن كانت مجرَّدة من تجهُّمها وعنادها) من نموذج أتباع المسيحية اليهودية التي تُسبِّب الإخصاء لذواتهم.

إلا أن ضبط النفس السادي المازوخي عند الحيوان الأخلاقي هو أيضًا — بطريقته الخاصة — عملية رائعة. فثمَّة جمال في الضمير الفاسد؛ فالإنسانية تستمد استثارة شهوانية من تعذيب النفس تمامًا مثلما يستمدُّها نيتشه المنحرف الشرير من تصوره. وبالإضافة إلى ذلك، ورغم أن الفساد المنتظم للغرائز يجعل الحياة الإنسانية أكثر هشاشة وتقلبًا، فهو أيضًا يفتح الباب أمام احتمالات جديدة للتجرِبة والمغامرة، فهذا الكَبْت للدوافع هو أساس كل فن وحضارة عظيمة. فإن أُضعفت عواطفنا فقد زادت تهذيبًا ودقة كذلك، والانضباط الذاتي العقابي الذي يفرضه علينا هذا يمهد لنا الطريق للوصول إلى السيطرة على الذات المتصف بها الإنسان الأعلى، فاعتمادنا الخطير على العقل الحسابي في حقيقته إضعاف ماكر للعواطف وبداية لوجود ثري لا يُضاهى. إن نيتشه ليس مُفكرًا لا عقلانيًّا بسيطًا؛ ففي أعماقه نفسه تجري كراهيته لعصر التنوير. وهو جدَلي في هذا الجانب على الأقل بقدر ماركس، فسقوط الإنسان — الذي هو غائي عند الكثيرين — يتضح أنه سقوط سعيد؛ إذ فقط بانضباط العواطف الهمجية القديمة وتساميها عن طريق فرض أخلاق «القطيع» ينفتح الباب أمام الظهور الكبير للإنسان الأعلى، الذي يتولى هذه النزعات ويُطَوِّعُها حسب إرادته المستقلة. فالذات الإنسانية تُولَد في حالة من المرض والخضوع؛ لكن هذه الإرادة تَثبُت أنها أداة ضرورية لاستغلال القوى المدمِّرة في العادة.

يكتب نيتشه في كتابه «إرادة القوة»: «نحن مُمْتَنُّونَ بشدة لما حقَّقته الأخلاق … لكنها لم تَعُدِ الآنَ سوى عبء قد يتحول إلى فاجعة!»31 ويُشير في عمله «المسافر وظله» قائلًا: «وُضع الكثير من القيود على الإنسان لدرجة أنه قد ينسى السلوك الحيواني؛ فقد أصبح الإنسان في الحقيقة أكثر اعتدالًا وروحانية وسعادة وحرصًا من أي حيوان؛ لكنه لا يزال يُعاني الآن من تحمل قيوده طويلًا …»32 ويذكرنا هذا بموقف القديس بولس من شريعة موسى التي كان الهدف منها — شأنها شأن كل القوانين الفعالة — إيصال الإنسان إلى مرحلة لا يحتاج فيها إليها. وكما حال العهد الجديد، يؤمن نيتشه على طريقته الإلحادية الخاصة بأن القانون يجب أن يخدم رخاء الحياة لا أن يخدم نفسه. وبمجرَّد أن يُحقق هدفه يمكن التخلي عنه؛ فالفرد الحر — عند نيتشه إن لم يكن عند كيركجارد — هو نتاج لعادات مُقيِّدة، وإن كان يسمو عليها أيضًا، فالوحش الأشقر يجب أن تُنزَعَ قُوَّتُهُ ليكون ملائمًا للمجتمع المتحضِّر، فمن دون القدرة على التفكير الحسابي والتبادُلية المجردة يظل الناس حيوانات ضارية تَعيش تحت رحمة غرائزها، ولن يُرسى أساس الإنسان الأعلى المتحضِّر أبدًا. فالنظام الرمزي له فوائده على كل حال، ففقط بتعلُّم استيعاب قانون زائف يُمكن للإنسان أن ينال السيطرة الذاتية على هذا الكائن الرائع الجديد الذي لا يعيش بأخلاقيات حضرية عامة بل يَعيش تبعًا لقانون ذاتي ليس له مثيل؛ فالأرستقراطي لا يشارك قيمه الأخلاقية مع الأدنى منه مرتبة مثلما لا يُشارك طعامه معهم. فمن أكثر ما يُغضب نيتشه القول إن الأفراد قد يكونون مُتساوِينَ من بعض النواحي. وهو في تلك النقطة قرين فلسفي بحق لكيركجارد، فالإنسان الأعلى باعتباره قانون نفسه يتحرَّك في نطاق البُعد الواقعي «الإيجابي»، فخورًا وواثقًا وفريدًا تمامًا يتخطى نطاق المعايير الأخلاقية الجماعية وجسورًا في مواجهة الموت والعدم؛ لكن لا يُمكنه فعل ذلك إلا لأنه تعلم في مدرسة النظام الرمزي الشاقة؛ فالحضارة نِتاج البربرية الأخلاقية، وفقط بخسارة نفسك، تستطيع أن تنالَها.

تتَّسم غائية نيتشه إذن بشيء من التراجيديا؛ فحياة الإنسان في نهاية الأمر لا يمكن أن تزدهر إلا بقدر مُريع من العنف والبؤس واحتقار الذات؛ لكن ما من أثر للتراجيديا في الإنسان الأعلى نفسه، الذي يشعُّ فيضًا من اللطف والسكينة وسموِّ الأخلاق وما يسميه نيتشه على نحو غريب «سمو الروح». وإذ يبعد كل البعد عن أن يكون كائنًا وحشيًّا مفترسًا، فهو خبير في البهجة والانضباط والشهامة، يكرس نفسه فقط لازدهاره الذاتي بوصفه فنانًا يرسم لوحته الخاصة؛ فالإنسان الأعلى أو الإنسان الأسمى؛ وإذ يدخل في المغامرة التي لا نهاية لها المتعلقة بالإبداع والتجرِبة الذاتيين، هو فنان وتُحفة فنية في جسد واحد. فهو — إن جاز التعبير — قطعة من الصلصال في يَدَيهِ هو نفسه، وله الحرية في تشكيل نفسه على أي صورة بديعة تُناسب الحياة والنمو والقوة بالقدر الأكبر؛ إذ يجب علينا أن نكون «شعراء نكتب قصيدة حياتنا» بأدق تفاصيلها. إن وجود الأخلاق واجب؛ لكنها يجب أن تكون مصنوعة خصيصى كي تُناسب شخصية الإنسان الفريدة وليست معدة مسبقًا.

ليس هذا شكلًا خاطئًا من أشكال المذهب الفردي؛ فالإنسان الأعلى يُهذِّب ويُثري قُواهُ لا من أجل نفسه، بل من أجل الازدهار الأكبر للنوع البشري، فهو كالقربان على هذا المذبح شأنه شأن تلك الكائنات التي وجَب هلاكها باسم التطور. وفي هذا الإطار يمثل نيتشه نموذجًا فيكتوريًّا بارزًا؛ فالإيثار إذن مَردوده يكون على مستوًى أعلى. فمن ناحية يخضع الإنسان الأعلى لقانون حاكم شأنه شأن أكثر المواطنين المُمتثلين خنوعًا؛ لكن هذا قانون يضعه لنفسه؛ ومِنْ ثَمَّ فهو صورة فريدة لا مثيل لها من القانون العامِّ الذي يُصِرُّ كانط (الذي هو عجوز جبان مخصيٌّ من وجهة نظر نيتشه الساخرة) على أن نخضع له؛ لذا فإن القسر الوحشي هذا يؤدِّي إلى الهيمنة على الذات. ومثلما يَستعير نيتشه من كانط مفهوم الواجب — بينما يُنكر أن ذلك قد يعني واجبًا على الجميع إطلاقًا — فهو يقتبس من سَلَفه رؤية التطويع الحر للقانون؛ لكنه إذ يُطوعه يُجرِّده من وَحْدَتِهِ وعُموميته. فالقانون في المستقبل سيكون ذا طابع لا قانوني غريب، يلائم كل فرد على حدة؛ فالإنسان الأعلى مُقرِّر لكل شيء؛ حيث يَستمد دليله من التدفُّق السعيد لِقُوَاهُ وليس من مبدأ مسبق أو قاعدة عامة، فهو كالعمل الفني يضع قوانينه وأعرافه الخاصة. إن ما يؤكد عليه الفلاسفة الحقيقيون هو تنوع الحياة وليس نمطًا سلوكيًّا معينًا؛ إذ ليس من الواضح أي المعايير تحدِّد ما يُعد «تعزيزًا» لجودة الحياة. ولا يسع نيتشه أن يخاطب الفطرة هنا أكثر من مخاطبته للأعراف السائدة. وكذلك إن كانت إرادة القوة تشمل كل الظواهر بحيث لا يتبقى أي معايير أخلاقية فيما وراءها يمكن بها الحكم عليها، فلن يُمكننا معرفة ما إذا كانت نافعة، وفي تلك الحالة ما المثير للإعجاب في دعمها؟

لا يؤيد نيتشه مفهوم الفضيلة، الذي ينحدر من الفكر الأخلاقي الأرسطي الذي سنتناوله فيما بعد. ويُخبرنا في عمله «إنسان مفرط في إنسانيته» أن الأخلاق تبدأ في صورة إلزام، وتتحوَّل إلى عادة، ثم تُحَوِّل نفسها إلى غريزة، وأخيرًا تربط نفسها بالإشباع تحت مسمى الفضيلة؛ فالفضيلة ما هي إلا صورة سامية من الإلزام الأعمى، مثلما تبدو أحيانًا عند جاك لاكان. مع ذلك توجد عناصِر مما يُسمى بأخلاق الفضيلة في حياة الإنسان الأعلى. وكما الحال عند أرسطو، فإن الهدف الأسمى للإنسان الأعلى هو تحقيق الذات؛ رغم أن نيتشه بعكس سلفه القديم يغمره شك عميق في الوجود الفعلي لأي شيء في صورة نفس مستقلة، وعلى أي حال لا يكون تحقيق الذات هذا في نظره هدفًا في نفسه — مثلما يرى أرسطو — بل لتحسين «الحياة» ككل. مع ذلك فثمَّة مواضع يتحدَّث فيها بأسلوب يُذكِّر بأرسطو عن «أسمى صور الرخاء» وعن «الإنسان الكامل»، ويذكر عبارات مثل «مزيد من التطوير الحر للنفس» التي كانت شائعة تمامًا في أعمال ماركس، المؤيد الخفي لأرسطو. فالإنسان الأعلى شأنه شأن الإنسان الفاضل صنيعةُ عادةٍ، عادة تعيش طبقًا للغرائز التي غرست في نفسها أرقى القيم الثقافية والحضارية. ومن هذا المنطلق هو يجمع بين الطاقة الغريزية للمرحلة «الحيوانية» من الوجود الإنساني وبين اختياره الخاص للقيم في حقبته «الأخلاقية».

توجد نقطة اتِّفاق أخرى بين نيتشه وأخلاق الفضيلة، فالأخيرة — كما سنرى لاحقًا — لا تتعارَض مع القوانين والوصايا الأخلاقية، بل إن هذه — بعكس الأخلاق الكانطية — ليست نقطة انطلاقها، فهي تبدأ بتصوُّرات معينة عن الفضيلة والتفوق والرفاهية وتحقيق الذات وما إلى ذلك، وتُقيِّم وظيفة الأعراف والوصايا في إطار السياق الأوسع هذا؛ فالأوامر والنواهي لا ينبغي اعتبارها هدفًا في ذاتها. ويستمر نيتشه في نفس الإطار قائلًا: ستظل القوانين موجودة في مملكة الحرية المقبلة، لكن وجودها سيكون من أجل إثراء الحياة بصورة أكبر. لكن لو كان نيتشه قد استوعب فكر أرسطو على نحو تامٍّ، فلربما أدرك أنه حتى أخلاق الحاضر المنحل ليس من الضروري أن تكون متعلِّقة بصورة رئيسية بالقوانين والإلزام. وهذه إحدى أكثر النقاط الضمنية إيجابًا لفكر الفيلسوف القديم. وللمفارقة، يؤيد نيتشه فرضية كانط المريبة التي مفادها أن الأخلاق قضية متعلِّقة بالواجبات والوصايا، فقط ليستبعد تصور الخاص بالأَنَا العُليا كله من أجل رؤيته الخاصة شديدة الاختلاف؛ إذ يرى أن الأخلاق هي قبل كل شيء قضية فرض مسارات معينة للفعل، وإنكار أنواع معينة من الفعل ومن الأشخاص، وهو ما يرفضه كله بطبيعة الأمر. لكنه إن لم يكن قد عرَّف الأخلاق بمثل هذا الشكل الضعيف من البداية، فربما ما كان عليه أن يتبرَّأ منها على هذا النحو الصارخ. وهكذا يقع نيتشه فريسةً لأخلاق القطيع باستنكاره إياها. وثمة مفارقة مشابهة عند ماركس الذي يبدو أحيانًا أنه يَختزل الأخلاق في التقييم الأخلاقي، والذي يَعجِز عن استيعاب أن عمله يمثل دراسة أخلاقية بالمعنى التقليدي غير الأخلاقي للمصطلح.33

إن الإنسان الأعلى كائن شديد الإيجابية؛ إذ يفيض بالصحة والبهجة الشديدتين. إلا أنه يختلف جذريًّا عن الإنسان ذي الروح العظيمة عند أرسطو في الثمن الفادح الذي يجب أن يدفعه لإيجابيته الأبدية. والثمن هو مواجهة مخيفة مع النظام الواقعي؛ أي إدراك أنه لا حقيقة ولا جوهر ولا هُوِيَّة ولا أساس ولا غاية ولا قيم فطرية في الكون؛ فالإنسان وهم، وكذلك الأشياء التي تبدو راسخةً أمامه. إن إدراك كل هذا يُمثِّل التحديق في الهُوَّة الديونيسيوسية المظلمة عند المذكورة في عمل «مولد التراجيديا» مع رفض كل مسكنات الوهم الأبولوني. فهو يعني تحويل حتى هذا الإدراك المريع لدافع الموت إلى عادة غريزية، والرقص دون أي يقينيات على حافَّة الهُوَّة؛ فالإنسان الأعلى هو من ينتزع الفضيلة من الإلزام الشديد، ويُحوِّل انعدام وجود أساس للواقع إلى حالة من المتعة الجمالية ومصدر لعملية ابتكار الذات التي لا توقف. فهو شأنه شأن أبطال النظام الواقعي الأخلاقيين عند لاكان قد تخطَّى مرحلة التعميد بالنار التي هي مأساة في مكان فيما وراء هذه المحنة السعيدة، إلا أن الوصول إلى تلك الحالة التي يُحسد عليها يتطلب من النوع البشري أن يستعد لدروس النظام الرمزي القاسية.

إذًا ثمة تفسير يرى أن نيتشه يعتقد أن الإنسان حقيقي الوجود يتقدَّم من السُّقوط السعيد الخاص بالنظام الرمزي، إلى مواجهة مهذِّبة مع النظام الواقعي، ثم إلى حالة من الفضيلة تُحيل العقل الخطابي إلى غريزة تلقائية. فالإنسان الأعلى منَّان وكريم، لكن ذلك مقرون بلا مبالاة السيد النبيل الراقية الخالية من الهموم. وفي هذه الحالة تكون الدوافع والعواطف الجسدية مهمَّتين، وهو ما يجعل هذه الحالة من بعض الجوانب نموذجًا أرقى للنظام الخيالي. وسنرى لاحقًا أن الأخلاق عند جاك لاكان وآلان باديو تكمن في الإخلاص الثابت للنظام الواقعي، الذي يجب أن يتمسَّك به الفرد رغم فخاخ النظام الرمزي وأوهامه؛ فالفعل الأخلاقي الحقيقي عند الطليعة الباريسية هو الفعل الذي يرفض زَيْف وملل ما هو معتاد من أجل الالتزام المستدام بهذه الحقيقة السامية؛ لكن ليس هذا هو الحال عند نيتشه. صحيح أنه من خلال المواجهة المكلفة مع النظام الواقعي وَحْدَها يمكن للإنسان أن يدرك أن العالم بلا أُسُس أخلاقية، وأن الرب ليس ميتًا فقط بل لم يكن حيًّا يومًا، وأن الأنظمة الأخلاقية التقليدية بغيضة ومنحطة في جُلِّها، إلا أنه بمجرد أن يصبح الإنسان سيد نفسه روحيًّا بهذا النحو، تكون النتيجة حياةً تملؤها الفضيلة بطريقة ربما يفهمها إدموند بيرك. على أيِّ حال، فإن بعضًا من فضائل نيتشه المفضلة تتفق بصورة كبيرة مع الفضائل التقليدية؛ الشجاعة والبهجة واللطف والشهامة وما شابه. لذا، فإن أحد الانتقادات الموجهة لنيتشه ليس أن كتاباته تمثل نهاية الحضارة كما نعرفها، بل إن الإنسان الأعلى يحمل شبهًا مخيبًا للآمال بالشخص الأرستقراطي القديم المعهود، فهو أحد شخصيات دزرائيلي أكثر منه شخصية شيطانية.

هوامش

(1) Some of the material on Schopenhauer which follows is adapted from my The Ideology of the Aesthetic (Oxford, 1990), Ch. 6.
(2) Arthur Schopenhauer, The World as Will and Representation (New York, 1969), vol. 1, p. 196.
(3) Ibid., vol. 2, p. 349.
(4) Ibid., vol. 1, p. 196.
(5) Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis (London, 1999), p. 42.
(6) For a fuller discussion, see Terry Eagleton, Holy Terror (Oxford, 2005), Ch. 2.
(7) Schopenhauer, World as Will and Representation, vol. 1, p. 231.
(8) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 187.
(9) Ibid., p. 186.
(10) Ibid., p. 190.
(11) Ibid., p. 194.
(12) Kenneth Reinhard, ‘Towards a Political Theology of the Neighbor’, in S. Žižek, E. Santner and K. Reinhard (eds), The Neighbor (Chicago and London, 2005), p. 71.
(13) Søren Kierkegaard, Fear and Trembling and The Sickness Unto Death, ed. Walter Lowrie (New York, 1954), p. 191.
(14) See Julia Kristeva, Histoires d’amour (Paris, 1983), pp. 27–58.
(15) Søren Kierkegaard, Journals (London, 1938), p. 151, and Concluding Unscientific Postscript (Princeton, NJ, 1941), p. 290.
(16) Kierkegaard, Concluding Unscientific Postscript, p. 182.
(17) Ibid., p. 33.
(18) See Terry Eagleton, Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003), Ch. 9.
(19) Kierkegaard, Journals, esp. p. 363.
(20) Kierkegaard, Concluding Unscientific Postscript, p. 390.
(21) Quoted in Mark C. Taylor, Journeys to Selfhood: Hegel and Kierkegaard (Berkeley and Los Angeles, 1980), p. 64.
(22) Anthony Rudd, Kierkegaard and the Limits of the Ethical (Oxford, 1993), p. 135.
(23) Quoted in Taylor, Journeys to Selfhood, p. 57.
(24) Kierkegaard, Fear and Trembling, p. 107.
(25) Kierkegaard, Concluding Unscientific Postscript, pp. 78–80.
(26) Kierkegaard, Fear and Trembling, p. 52.
(27) Walter Kaufmann (ed.), Basic Writings of Nietzsche (New York, 1968), p. 498.
(28) Quoted by Richard Schacht, Nietzsche (London, 1985), p. 468.
(29) Kaufmann, Basic Writings of Nietzsche, p. 265.
(30) Ibid., p. 330.
(31) The Will to Power (New York, 1968), p. 404.
(32) Quoted by Schacht, Nietzsche, p. 370.
(33) For an excellent discussion of Marx’s ethical thought, see R. G. Peffer, Marxism, Morality, and Social Justice (Princeton, NJ, 1990).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤