الفصل الثامن

النظام الواقعي في الأعمال الأدبية

هناك موضع في مسرحية «الصاع بالصاع» يسعى فيه الدوق لإقناع كلاوديو المُدان بقبول مصيره:
أقْبِلْ على الموت بقلب خالص؛ ولسوف ترى
أن الموت أو الحياة قد أصبح أحلى.
قُل للحياة: إنْ فَقَدْتُكِ، فإني أفقد شيئًا
لا يحرص عليه سوى المغفَّلين …
لستِ سعيدة؛
فأنت تَشْقَين من أجل ما ليس لديك
وتَنْسَينَ ما لديك …
(٣، ١: ٦–٨، ٢١–٢٣)
ويَقبل كلاوديو كلام الدوق بعد أن اقتنع بهذا الدفاع البليغ عن الموت:
شكرًا لتفضلك.
إنني إذ أتلمس الحياة، أجدني أسعى إلى الموت،
وإذ أسعى إلى الموت، أجد الحياة. فأهلًا به.
(٣، ١: ٤١–٤٣)

بالإقبال على الموت، والاستِغناء عن عدم الرضا الدائم عند الأحياء، يكتشف كلاوديو نوعًا من الحياة أعمق وأحلى. ولا يعني هذا مقارنة بين الموت والرغبة، بل إقرار بأن الرغبة ذاتها، بشكلها الدُّنيوي، ما هي إلا سلسلة تافهة من «الميتات الصغيرة» (إفراغ اللذة)، وهي بذلك تُنْبِئ بتوقُّفها، فحب الموت بدلًا من الحياة، ومعانقة ظَلَمته كما يعانق المحب حبيبه، لا يعني رفض الرغبة بل التطلع إليها في أنقى صورها. فذلك يعني رفض المساومة على الرغبة؛ الإقرار بطبيعتها السامية بدلًا من ملء فراغها المؤلم بهذا الصنم أو المعبود أو ذاك. فقانون الرغبة قانون متمرد، يرفض الآلهة الزائفة والتماثيل المنحوتة، فالإقبال على الموت ليس حبًّا مرضيًّا للموت، بل إخلاص محب لجوهر الهُوِيَّة الذاتية، جوهر يتجاوَز كل الأشياء التي تتعلق بها الرغبة وهو ليس إلا فائضًا فارغًا يسمو فوقها. فبعكس المفكرين ما بعد الحداثيين، فإن لاكان أحد الأنصار المخلصين للمذهب الجوهري؛ فبالنسبة له، جوهر الإنسانية — الرغبة — نوع من العدم. إن من يبذلون الكثير في الحياة، ويستوقفهم هذا الشيء المحبوب الفاني أو ذاك، هم غير المخلصين للشيء الأكثر اتصافًا بالحياة في داخلهم.

إلا أن الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء الإخلاص كبير، فكما يكتب سلافوي جيجك، فهؤلاء الناس — الذين يُعتبر أوديب، الشخصية التي أبدعها سوفوكليس، أحد أعظم نماذجهم — «قد عاشوا «الحالة الإنسانية» حتى نهايتها المريرة، مدركين احتماليتها الأساسية؛ ولهذا السبب لم يعودوا من ناحيةٍ «بشرًا» وتحوَّلوا إلى وحوش غير إنسانية، لا تردعها أي قوانين أو اعتبارات إنسانية.»1 وهم يُجَسِّدون في بؤسهم الشديد رعبًا لا يوصف؛ الإنسانية العارية غير المزينة التي تحتاج — شأنها شأن ضحايا معسكرات التعذيب النازية المخيفين — لشجاعة رهيبة لكي ننظر إليها ونتابع العيش. فهي تكون عندما نصبح في أنقى صور إنسانيتنا، عندما نُجَرَّد من كل الأوسمة الثقافية، لدرجة أن نصبح أبعد ما يكون عن الإنسانية وأشد وحشية وتشوُّهًا؛ فهؤلاء الذين يواجهون النظام الواقعي يتحرَّكون كما رأينا في منطقة رَمادية بين الموت والحياة، الإنسان فيها «يواجه دافع الموت باعتباره أقصى التجارِب الإنسانية، ويدفع الثمن بمروره ﺑ «فاقة ذاتية» شديدة؛ إذ يُختزَل إلى فضلات متحللة.»2 وبلغة المسيحية فإننا نتحدث عن نزول المسيح إلى الجحيم، وهي علامة التضامن مع العذاب واليأس البَشَرِيَّيْنِ اللذَين من دونهما لا يمكن أن يوجد بعث من الموت.

تلومنا الرغبة — كما يفعل السمو الكانطي — على انخراطنا في الواقع العادي، حيث تُذَكِّرنا في صرامة أن مكاننا الحقيقي في الأبدية. وهي ليست أبدية يمكننا نَيْلها كما في العقيدة المسيحية، بل هي أبدية السعي إليها، كما عند شخصية فاوست لجوته، فالرغبة الدائمة هي النسخة العلمانية من الخلود. فهي أبدية تلوح في شكل سلبي في عجزنا الدائم عن الوصول للرضا، كما لو كان هذا الإحباط عينه يشير فيما وراءه لنوع من الرضا لا يمكن تصوره الآن، وهو أقصى ما سنعلمه عنه. فالإخلاص لعدم الوجود الذي يمثلنا لا يعني السعي للحياة الجيدة (وهو السعي التقليدي للأخلاق)، بل يعني تعلم كيفية التعايش مع هذا الإحباط الأساسي فينا. إنه باختصارٍ نوعٌ من اللاهوت السلبي الذي نظل مؤمنين فيه برب قد فشل. وهذا أيضًا فيه صدًى للعقيدة المسيحية التقليدية التي ترى أن الرب الوحيد الجيد رب ميت، والانتصار الوحيد الذي نحققه هو ذلك الذي يُنتزَع من الفشل.

ويعني عدم التخلي عن رغبتنا أن نعيش في انتظارٍ يملؤه السُّرور لقدوم مُخلص لن يفعل أي شيء حاسم بخلاف قدومه، ومع ذلك يظل مُنتظرًا بفارغ الصبر لهذا السبب بالتحديد. فنحن بوصفنا مخلصين مطيعين للنظام الواقعي نظل متمسكين بعدم الرضا، كما فُتن القديس أوجستين بإلهٍ، عندَه وَحْدَهُ، تحط الرغبة رِحَالها. فرغبة النظام الواقعي هي نسخة — على طريقتها الخاصة — من عبارة القديس أنسلِم الغريبة: «إنني مؤمن لأن ذلك مستحيل.» فعلينا أن نجتهد لنصل إلى الكمال في نقصنا، فيترسخ مكاننا دائمًا في غياب الوجود المأساوي الذي يمثلنا. إن لزوم الرغبة للذات هي ما يجب علينا أن نرفض إفساده، فاستهداف خير أسمى — فلنَقُل خيرً عامًّا أو حبَّ الجار — في إطار هذه النظرة هو اختصار سلسلة الدلالات التي قد تمتد لما لا نهاية التي هي الرغبة، والسعي لمواجهة الشيء الكبير المفقود والمُطارَد وجهًا لوجه؛ ومِنْ ثَمَّ المخاطرة بالوقوع في الاضطراب النفسي بلغة لاكان، تلك المواجهة المباشرة الصادمة مع النظام الواقعي عند الذين تعطلت لديهم القدرة على الترميز.

ليس من الغريب إذن أن شخصِيَّتَيْ شكسبير، كلاوديو وإيزابيلا، أخوان؛ حيث إن إيزابيلا مستعدة مثله لتفضيل الحياة على الموت. ولما واجهت الاختيار بين الموت أو الشرف، اختارت الأول دون تردد:
وبذلك تعيش إيزابيلا عفيفة ويموت الأخ:
فأولى من أخينا عفافنا.
(٢، ٤: ١٨٤-١٨٥)

ليست هذه عاطفة أخوية؛ إن كلاوديو ما لبث أن تعافى سريعًا من تقبله اللحظي للإعدام حتى لامَها على ذلك بشدة. فإيزابيلا مستعدة للموت في سبيل ذلك الشيء بداخلها — بلغة لاكان — الذي يتجاوزها، هذا «الشيء الذي بداخل الذات» المعروف بالعفة أو الشرف أو الاستقامة أو الصدق، أو ببساطة الفردية، الذي ما من اختيار حقيقي بشأنه في المقام الأول؛ إذ إن الإنسان من دونه ميت في الحقيقة؛ ومِنْ ثَمَّ تنتفي مسألة الاختيار بالتبعية. فالشيء الوحيد الذي يجب منطقيًّا التضحية بالحياة من أجله هو عين الشيء الذي يجعل الحياة تستحق أن تُعاش. فهو نفس حال الشهيد وقضيته. فمن ناحية، لا يسعه ألَّا يموت في سبيلها؛ إذ إنه يواجه نوعًا من اختيار هوبسون: فإن لم يَمُتْ فسيُصبِح عدمًا عبثيًّا لا عدمًا له معنًى. فالشهيد يختار الموت لأنه في ظروف معينة شديدة هو الوسيلة الوحيدة ليكون شاهدًا على قضية تؤدي إلى استمرار حياة الآخرين. فهو يرفض العالم بدافع حب العالم، وهو ما يميزه عن المنتحر، فالمنتحر يَهِنُ في قبضة دافع الموت، فيحوله ضد جسده في نوبة من المتعة المفرِطة؛ بينما يجد الشهيد وسيلة لاستغلال هذا الدافع من أجل الآخرين، ضاغطًا على ثاناتوس لخدمة إيروس أو المحبة.

تكون الحياة عند المنتحر عديمة القيمة ولا تُحتمل، ويمكن أن نفرق بين هذه الحالة وبين حالة شخصية سوفوكليس أنتيجون التي رغم إعلانها منذ البداية «أنا ميتة وأرغب الموت»، يُتاح لها في اللحظة الأخيرة أن تندم على حياة الزواج والأطفال الكاملة التي تتخلى عنها، وذلك إشارة لاختلافها عن المنتحر. فلا يمكن لموت يرى الحياة بلا قيمة أن يكون ذا قيمة، فالشهيد يتطلع إلى المعنى على حساب الوجود، فيتيح للدالِّ أن يلمع أمام الخلفية السوداء لفنائه هو. فالإقبال على الموت ليس رفضًا للحياة بل هو أُسلوب حياة قائم بذاته، أُسلوب حياة يُثْرِيهِ ويُغَيِّر شكله أنه مُنتزع من الموت. أما الذين يتصرفون كما لو كانوا سيعيشون إلى الأبد فهم خطر على المجتمع المتحضر. فبارناردين البليد لا يَأْبَهُ بالموت، وهو ما لا يجعله يَأْبَهُ بالحياة كذلك. فعدم اعتبار الموت حدثًا فارقًا يعني التقليل من أهمية الحياة، فالكائن الأخلاقي وَحْدَهُ — وهذا آخر ما يكون بارناردين — يمكنه استدعاء شيء ذي معنًى من فنائه، فالانعدام القاتل للقدرة على الاختيار عنده الذي يمنعه من انتزاع موته يمنعه كذلك من أن يعيش حياة أقل وضاعة من حياة الخنزير.

إن «شجاعة النقص» هذه — كما يسميها سلافوي جيجك3 — هي باختصار نظام أخلاقي واقعي، وأحد أكبر روادها — للغرابة — في نظر لاكان هو كانط. ففي مقال مهم بعنوان «كانط مع ساد»،4 يزعم لاكان أن الفيلسوف الألماني هو أول من غرس بَذْرة التحليل النفسي بتصوره للقانون الأخلاقي، الذي يصور في نظر لاكان الرغبة في أنقى حالاتها، فهو نوع من الرغبة يتجاوز تمامًا مبدأ المتعة؛ مثل سعي ساد إلى صورة خالدة مستحيلة من المتعة تتجاوز كل المُتَع المادية، فهذا النوع من الرغبة كما يقول لاكان في موضع آخر «يبلغ أقصاه في التضحية — على وجه الدقة — بكل شيء يتعلق به الحب في ظل ضعف الإنسان، ولا أقول في رفض الشيء المَرَضي فحسب بل في التضحية به وقتله.»5 وهذا يختلف تمامًا عن عالم التعاطف عند هتشسون أو عالم الود عند ديفيد هيوم، فالرغبة باختصار هي آخر أشكال السمو؛ سمو يتسم بالحذر الزاهد لراهب كرملي، يجب أن يحفظ نفسه من كل الأشياء «المرضية» (وهو ما يعني كل الأشياء التي يتعلق بها الحب والشهوة والعاطفة)، ولا يستند إلا إلى ذاته وافتقاره لغاية نهائية. وهذا أيضًا هو السبيل الذي يمكن لفاوست أن يأمل من خلاله الوصول إلى الخلاص. وحيث إن قانون كانط الأخلاقي يتجنب بصورة مشابهة كل الغايات وأشكال الخير الخاصة في شكليته الصارمة؛ إذ يُضحي بالنفس وملذاتها في سبيل سيادته ولا يؤسس لنفسه إلا في أمره الفارغ البراق، فإن التشابه بين المفهومَيْنِ واضح، فكلاهما فارغ من المضمون، وكلاهما يتفادى الدالَّ، وهما مِنْ ثَمَّ سامِيَانِ.

كما أن القانون والرغبة كليهما يتضمنان إلزامًا شديدًا، فأكثر أفعالنا حرية هي تلك الأفعال التي لا يسعنا سوى أدائها لكي نكون على حقيقتنا، فهي ليست نتيجة «أفعال الإرادة» بل نتيجة للخضوع لقانون وجودنا الذي لا يقبل المساومة، وهو خضوع لذلك الذي بداخلنا الذي يمثل حقيقتنا أكثر من مجرد أي انعكاس. ومع وجود الرغبة — كما هو الحال مع القانون — تصير الذات مجرد حامل لقوة لن تسمح بأي إنكار، فالرغبة سيادتها مستبدة. ومن الواضح أيضًا، مثلما أن أمر كانط المطلق مستحيل من جهة — حيث إنه لا يمكن لأي فرد التأكد من أن فعله «غير مَرَضي» — فإن المطلق الأخلاقي عند لاكان كذلك؛ الأمر بعدم تخلي المرء عن رغبته. والقديس أو الشهيد وَحْدَهُ من يمكنه العيش بتلك الطريقة، فهي ليست أخلاقًا للناس العاديين. إن ما فشل كانط في إدراكه في رأي لاكان هو أن الرغبة بتجاهلها للدوافع والأشياء والآثار المادية هي في ذاتها قانون مطلق، صارم ونهائي، مثل شخصية أنجيلو. وعليه ينتفي الاختلاف بين القانون والرغبة؛ فالالتزام بقانون الرغبة الذي هو جوهر فردية الإنسان يعد واجب الإنسان الملزم.

كما أن التصرف تبعًا لهذه الرغبة يعني أيضًا الجمع بين الحرية والاعتماد على الغير، فإن كانت الذات في النظام الخيالي مفرطةً في الاعتماد على غيرها؛ إذ تأسرها صورة خارج نفسها، فإن الذات في النظام الرمزي شديدة الاستقلال. وإن كانت الذات الخيالية تفتقر لحس الفاعلية، فإن نظيرتها الرمزية تحلم بالتحرر التامِّ من الجبر. لكن الذات في النظام الواقعي تظهر بصورتها الحقيقية بوصفها فاعلًا من خلال الإنصات إلى ذلك الشيء الذي بداخلها ويتجاوز حُدودها، فالتخلي عن تلك القوة الحاسمة يعني التخلي عن نفسها. ومن هذا الجانب، كما من الكثير غيره، فإن التحليل النفسي في حقيقته علم لاهوت خارج عن نطاق الدين، فالذات في النظام الواقعي تسترشد بالذات في المسيحية اليهودية، التي تكمن حريتها في الإقرار باعتمادها على أساس الوجود الذي هو الرب، ويُعرف هذا الإقرار أيضًا بالإيمان. ففي كلا العقيدتين، يتم رفض الاعتمادية الشديدة والاستقلال الزائف في سبيل صورة أعمق من الجبرية، صورة تمثل مصدر الحرية الشخصية عينه.

ربما يتخذ القانون الأخلاقي موقفًا متعجرفًا تجاه اللذة؛ إلا أنه ملوث هو ذاته بتلك اللذة الصارخة التي «لا طائل منها» التي تقف وراء كل أشكال اللذة التقليدية في نطاق دافع الموت، والتي يصفها لاكان بالمتعة. فهذا الجانب السفلي الغائم من القانون هو اللذة السادية للأَنَا العُلْيَا، التي لا تُبالي بشدة — شأنها شأن القانون الأخلاقي — برفاهية الذات، والتي لا تكتفي بأن تأمرها بالخضوع لأحكامٍ يستحيل الالتزام بها، بل تحمل بداخلها ثقافة ندم قاتلة على العجز عن فعل هذا المستحيل. وكما لو أن هذا لا يكفي، فإن الأَنَا العُلْيَا تفرض أيضًا أن تُحصِّل الذات المتعة من الدراما الكئيبة التي تسمح فيها لهذا الندم بأن يسوقها إلى موتها. إلا أنه في إطار أخلاق النظام الواقعي، ليس عدم التخلي عن الرغبة أمرًا يفرضه الأنا العليا؛ حيث إن الذات التي تحمل الرغبة النقية — الذات التي صوَّرَتْها عند لاكان تصويرًا بليغًا أنتيجون شخصية سوفوكليس — لا تشعر بأي ندم في القيام بواجب الحفاظ على رغبتها؛ فالأخلاق الحقيقية تأخذنا إلى ما وراء الأنا العليا؛ إذ تُثبت الذوات المخلصة للنظام الواقعي أنها مستعدة للمخاطرة بالموت في سبيل إعادة ميلاد رمزية. إنه الفارق في مسرحية «الصاع بالصاع» بين أنجيلو وإيزابيلا؛ إلا أن ما يلهم إيزابيلا التطلع للموت هو نفسه — كما سنرى لاحقًا — ما يُحرك واحدًا من أكثر شخصيات شكسبير الغامضة: شايلوك في مسرحية «تاجر البندقية».

•••

يبدو الإخلاص لرغبة الإنسان كافيًا في الغالب ليشمل نوعًا من العناد الخارق للطبيعة أو الهوس الأحادي، كما قد يوحي مثال لاكان على ذلك: شخصية أنتيجون؛ رغم أن لاكان نفسه — إذ يعارض سماع أي كلمة قاسية عن شخصيته المحبوبة — يرفض تمامًا وجهة النظر المشهورة بمنطقيتها أنها عنيدة بالفعل، وهو بذلك يبالغ في تبسيط التقلبات المعقدة في تدفق العواطف الدرامية. وهو متحيز بنفس الشكل مع أوديب الذي يرى أنه يسير إلى موته بطريقة أخلاقية واقعية، فهو «عنيد حتى النهاية، يرغب في كل شيء، ولا يتخلى عن أي شيء، وغير راضٍ مطلقًا.»6 يبدو هذا أشبه بمغنية أوبرالية أولى باريسية رابطة الجأش، تفصلها ربما مئات السنين عن لاكان نفسه، أكثر من فارماكوس أو كبش الفداء الذي يصير في «أوديب في كولونوس» أساس النظام السياسي الجديد. إن جسد أوديب النجس يمثل من بين أشياء أخرى وحشًا مرعبًا يدق الأبواب، يجب على المدينة — إن أرادت أن يُتاح لها فرصة ميلاد جديد — أن ترى فيه تشوهها الخبيث. إن هذا البُعد السياسي العميق لهذه المسرحية التراجيدية لا يحظى سوى بتناول قصير في تأملات لاكان.
لكن ما من شك في أن النظام الواقعي والعناد متلازمان. فلتنظر مثلًا إلى رواية هاينريش فون كلايست القصيرة الغريبة عن الإرهاب السياسي «ميكائيل كولهاس». نُشر هذا العمل لأول مرة عام ١٨١٠، قبل عام من إتمامه اتفاقًا بالانتحار مع شابة تعاني من سرطان لا شفاء منه؛ حيث أطلق الرصاص عليها فأرداها قتيلة ثم أطلق النار على رأسه ومات. لقد كان موته دراميًّا ومبالغًا فيه مثل فنه؛ إذ استعد الاثنان للموت بميعاد في حانة وبشرب بعض زجاجات النبيذ والروم وحوالي ستة عشر كوبًا من القهوة، بينما كانا يُغَنِّيَانِ ويُصَلِّيَانِ معًا. وكما ذكرَتْ إحدى الصحف في صرامة — وإن كان بلا داعٍ: «إن الناس أبعد ما يكون عن الإعجاب أو حتى الموافقة على هذا العمل الجنوني.»7

كان كلايست قد انضم لجيش نابليون أملًا في أن يُقتل، لكنه نجح لغمه الشديد في البقاء حيًّا. وهو أيضًا ربما الشخص الوحيد المعروف الذي قادته دراسته لإيمانويل كانط للموت؛ إذ فسر كلايست نظرية كانط المعرفية بأن الحقيقة على الدوام مراوغة، وأن العقل معيب ولا أساس لأفكاره، وأنه لا يمكن التمييز بين المظاهر والواقع، وأن مجمل الواقع ملتبس وغامض على نحو محير. وحيث إن الوجود يفتقر لغاية معروفة فقد بدا الانتحار فعلًا مقبولًا كغيره وأكثر تحقيقًا للرضا من معظم الأفعال.

ميكائيل كولهاس تاجر خيول محترم ذو عقلية متمدنة من براندنبرج في القرن السادس عشر والذي يتعرض حِصاناهُ الأسودانِ لمعاملة سيئة على يد أحد النبلاء. ويلجأ كولهاس صابرًا إلى القضاء ليحصل على عدالة القانون على هذه المعاملة السيئة، ويتحمل تُرَّهَة وتسويفًا تِلْو الآخر؛ لكن زوجته ليزبيث تُقتل على يد أحد حراس الحاكم وهي تدافع عن قضية زوجها. ويصبح من الواضح أن المحكمة متواطئة مع النبيل، وأنها رفضت التماس كولهاس لسماع دفاعه. عندها يجمع كولهاس فرقة مسلحة ويحرق قلعة النبيل ومعها عدة أجزاء من مدينة فيتنبرج. تَقْتُلُ الفرقةُ المسلحةُ التي كوَّنها النساءَ والأطفالَ بلا رحمة. ويتحول كولهاس إلى نموذج من شخصية روبن هود، فنشر الفوضى العسكرية وشن حربًا شاملة على الدولة، حربًا لاقت دعمًا شديدًا من العوامِّ. وفي نوبة عابرة من جُنون العظمة، يعلن أنه أسس حكومة جديدة للعالم، ويطالب بأن يُسلَّم النبيل إليه ليلقى عقابه. ويُضرم النيران في فيتنبرج ثلاث مرات، ويُغِير على لايبتسيج، ويهزم بعض الحملات العسكرية القوية التي أُرسلت إليه.

ويتصاعد طلب كولهاس التعويض عن حِصَانَيْهِ اللذين تعرضا للتجويع بصورة غريبة إلى مرحلة يستنجد فيها بمارتن لوثر وحاكم ساكسونيا وحاكم الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ويرى الأول أن التاجر قد تعرض لمظلمة فعلًا. وبِناءً على نصيحة لوثر، يصدر حاكم براندنبرج عفوًا عن كولهاس وفرقتِه المسلحة، الذي يُسرِّح رجاله بدوره ويواصل بحثه عن العدالة بالوسائل القانونية. لكن الأفعال الوحشية التي ارتكبتها فرقةٌ مُغِيرةٌ منشقة عن رجال كولهاس تعطي ذريعة للمحكمة أن تنقض العفو بهذه الحُجة، وتقدم تاجر الخيول إلى المحاكمة. لا يقدم كولهاس أي دفاع عن أفعاله، ويصدر الحكم بحرقه وتقطيع جسده إلى أربعة أجزاء. وبعد التدخل السياسي لحاكم براندنبرج تُبدل العقوبة إلى قطع الرأس، وهو حكم يَتَلَقَّاهُ كولهاس في سكينة، وهو يعلم أن مطالبه ضد النبيل الذي ظلمه ستتحقق بالكامل. وفي مكان الإعدام، يُقدم إليه حِصاناه — وقد صارا لامِعَيْنِ ولَعُوبَيْنِ — بعد أن استعادا عافيتهما بالكامل، وخبر يفيد بأن السيد النبيل قد حُكم عليه بالسجن لعامين. ويرسل إليه حاكم براندنبرج رابطة الرقبة والنقود وحُزمة من الملابس وغيرها من الأشياء الصغيرة التي أُجبر كبير سائسيه على تركها في قلعة النبيل. ويعلن كولهاس رِضَاهُ التامَّ عن هذا الحكم، واستعداده بدوره لأن يموت تعويضًا عن خَرْقه للقانون. وتنتهي الرواية القصيرة بقطع رأسه.

هذه ليست أحداثًا تنتمي للواقعية الاجتماعية، فبينما تزداد أفعال كولهاس شذوذًا وغرابة وتتعمق الدسائس السياسية المسعورة للسلطة حول زوج من الخيول المنهَكة مع كل صفحة من الرواية، فإن المفارقة الغريبة بين إصرار تاجر الخيول العنيد على العدالة وقضيته التافهة تكشف بوضوح عن أن السَّرْد لا ينتمي لمدرسة الواقعية بل للنظام الواقعي. ومع تراكم جرائم تاجر الخيول ومكائده على الدولة بمعدل رهيب وبإيقاع سريع مدهش، يتضح أننا أمام مزيج جامد من المأساة والهزل والتجسيد المنفر. إن حصانَيْ كولهاس البائسَيْنِ عندما يراهما لأول مرة على الملأ جمهورٌ يعرف كمَّ قدر اللغط الذي سَبَّبَاهُ تسري بين أفراده نوبةُ ضحك عارمة لرؤية «الحصانين اللذين اهتزت بسببهما أركان الدولة نفسها، زوج الخيول الذي كان بالفعل مملوكًا لتاجر الخيول!» تتسم الرغبة بشيء من التفاهة، تسبب عند اجتماعها مع ما يسميه الراوي «العناد الجنوني» ضجيجًا غيرَ عاديٍّ حول لا شيء تقريبًا. لكن هذا كما سنرى؛ لأن هذا «اللاشيء تقريبًا» هو فرصتها وليس هدفها.

ورغم أن كولهاس قاتل جماعي متوحش يتسبب في إفقار أهله ليوفر المال من أجل قضيته فهو في واقع الأمر شخصية عقلانية جدًّا؛ إذ يُعتبر على نطاق واسع «نموذجًا مثاليًّا للفضائل المدنية» إلى أن يسيء النبيل معاملة حِصَانَيْهِ، ويظل على هذا الوضع من ناحيةٍ ما طوال الرواية. فهو على كل حال في خِضَمِّ سعي راسخ مثير للإعجاب نحو تلك الفضيلة المدنية المثالية المهمة المعروفة بالعدالة، حتى وإن كانت الوسيلة التي يسعى بها للوصول إليها غير تقليدية بعض الشيء، فهو مستعد باسم العدالة العامة أن يتحول إلى تجسيد حي لنقيضها تمامًا؛ إذ ينجح بذبح وتدمير عدد لا يُحصى من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء في إثبات كيف أن العدالة فضيلة مطلقة، وهي الظاهرة الوحيدة — كما يزعم جاك دريدا — التي لا يمكن تفكيكها.

لقد كان حس العدالة عند كولهاس كما يخبرنا الراوي «نقيًّا كنقاء الذهب الخالص.» فرَدُّ فعلِهِ على غضب النبيل عقلاني تمامًا، بل يكاد يكون متسامحًا؛ وهو يسعى وراء قضيته متبعًا القنوات القضائية المشروعة، وبتدقيق نموذجي. وهو لا يفعل ذلك بدافع شخصي بالأساس، بل باسم مواطنيه الذين تعرضوا لقهر هذا النبيل صاحب النفوذ، فتاجر الخيول ليس مجرد مواطن خاص بل مصلح سياسي يعمل لحساب نفسه يسعى إلى «معاقبة … الخداع الذي أصبح يحيط بالعالم كله» ويطالب الناس بالانضمام إليه في تأسيس «نظام أفضل للأشياء.» وقد نجح باختصار في تعميم مظلمته الشخصية في صورة رؤية للعالم من منظور طبقي. ولم يلجأ إلى السلاح إلا عندما اصطدمت تطلُّعاته نحو تحقيق العدالة من خلال النظام القضائي بالفساد والمحسوبية في الدولة.

مع ذلك، وبرغم الإفراط المحموم في عملياته العسكرية يظل دقيقًا في حصر مطلبه بالتعويض على ما أُخِذَ منه بالضبط، وهذا مزيج من الإفراط والدقة سنلاحظه كذلك في شخصية شايلوك التي رسمها شكسبير. فمن الواضح تمامًا رغم غمغمة الراوي الموجهة حول «عذاب الجحيم بسبب القصاص غير المتحقق» أن سعي كولهاس ليس للانتقام بل للعدالة. ولقد تعلمنا تمامًا من الإرهاب في عصرنا الحالي أن عرقلة السعي للعدالة لديها القدرة على خلق وحوش. إن هذا «الرجل المجنون وغير المفهوم والمريع» كما يصفه لوثر، يُعِدُّ بهدوء قائمة بالأشياء التي تركها كبير سائسِيهِ مع الحصانين ومعها قيمتها؛ لكنه يرفض أن يطلب تعويضًا عن خسارة كل ثروته وأملاكه ولا حتى عن تكلفة جنازة زوجته. فرغبته الوحيدة هي أن يُسمِّن النبيل الحصانين اللذين أمر بتجويعهما ثم يعيدهما إليه. وعندما يرفض النبيل بتعجرف الاستجابة لهذا الطلب، يُضْرِمُ كولهاس النيرانَ في قلعته ويتحول لإرهابي أو قائد فرقة مسلحة. إنها حملة ضد السيد الممقوت يدعمها العامة بكل ما أُوتوا من قوة. إن النبيل وليس كولهاس، في نظرهم، هو من تسبب في قتلهم وإحراق منازلهم. وحتى سكان فيتنبرج عاثِري الحظ — إذ تُحرق منازلهم علي يد جنود كولهاس ثلاث مرات على الأقل — لا يَنْفَكُّونَ يؤيدونه بأقصى حماس.

وكما سنرى في حالة هيثكليف الشخصية التي أبدعتها إميلي برونتي، فإن إخراج كولهاس من حُدود المجتمع الإنساني باعتباره منبوذًا هو السبب الوحيد في إيمانه بأن من حقه شن الحرب على هذا المجتمع. في واقع الأمر، فإن الدولة ذاتها، رغم أنها في أَمَسِّ الحاجة لاحتواء عنفه، تعتبره «غازيًا أجنبيًّا» بدلًا من متمرد محلي. أما كولهاس، قائد المتمردين، فيعامل لوثر بأشد احترام، رغم الإهانات الشنيعة التي يمطره بها ورفضه الاستماع لاعترافه. وكان كولهاس هو من اقترح على لوثر فكرة العفو واعدًا إياه بإلقاء السلاح مقابل جلسة استماع منصفة في المحكمة. ربما يكون كولهاس خارجًا على القانون، ورمزًا تَجَاوَزَ حُدود النظام الرمزي؛ لكنْ ثمة عنف بالغ يكمن في قلب هذا النظام؛ سلسلة من أعمال الانتقام وفيض من الشر في القانون نفسه؛ ودور تاجر الخيول السياسي هو أن يكشف ذلك على حقيقته. إن مسئولي الدولة هم المخادعون والخَوَنة وليس البطل. ولا يكتفي الراوي بالتأكيد على معرفتهم بأن الاتهام الذي وجهه كولهاس إلى النبيل صحيح تمامًا، بل على شعورهم بالحرج من أنهم هم أنفسهم — بتواطؤهم مع الظلم — الذين وضعوا في يده السيف الذي يستخدمه ضدهم. ولا يوجد الكثير من بين القوى الحاكمة المعاصرة التي تتمتع بنفس الإحساس.

وتنتهي قصة «ميكائيل كولهاس» بإعلان البطل السعيد تحقق كبرى أمنياته على الأرض؛ إذ تنبش خيوله الأرض بقوة أمامه وقد عادت لعافيتها السابقة. لكن لا شك أن استعادة الحِصانين لعافيتهما بهذا الشكل ليست الشيء الذي تتعلق به رغبته. فما من شخص قد يحرق فيتنبرج لمجرد أن شخصًا تسبب في إعياء حِصانَيْهِ. فربما يمكن اعتبار الحِصانين مثالًا لمفهوم لاكان عن «موضوع الرغبة المستحيل». هذه القطعة العادية العشوائية من المادة التي تصير مكمنًا لكل قوى النظام الواقعي العارمة، فإنْ كان كولهاس يهلِك في سعادة مأساوية، فذلك ليس لأنه نجح في الحفاظ على ما يمتلكه من خيول؛ بل لأنه نجح في ألا يُفرط في رغبته. (في مسرحية كلايست «أمير هومبرج» يُقبل البطل بإصرار على الموت بصورة مشابهة، مثل النبي إبراهيم فيما يتعلق بالتضحية بابنه إسحاق، وقد أتاح له هذا الإصرار عينه ميزة الإعفاء من العقاب في اللحظة الأخيرة.) صحيح أن مطلب كولهاس المباشر — المتمثل في تعويض خسارته — يتحقق؛ لكنه كان على استعداد للعيش دون إشباع هذا المطلب ومواجهة الموت بنفس الروح ما دام مُنع عنه. فأصبح الحِصانان عند مالكهما الشيء الذي يتجاوز حدود نفسه؛ حيث يرمز لطلب العدالة والتقدير، وهو المطلب الذي في نفس الوقت عقلاني بشدة ومفرط في جنونه، وهو بارع على نحو كافٍ لأن يُطوع دافع الموت المريع في خدمته. إن شغف كولهاس لا يقبل المساومة لأنه — كما الدافع عند فرويد — لا يُعرف بالشيء الذي يتعلق به. فالعدالة مطلقة، وإنكارها يدفع الرجال والنساء إلى غضب من الصعب جدًّا السيطرة عليه؛ لكن ورغم أن إنكار العدالة في حالة فردية يقوِّض فعلًا مطالب العدالة عند الجميع، فكيف يمكن التضحية بحقوق هؤلاء الآخرين — كما في حالة كولهاس — في سبيل حق الفرد في الإنصاف الذي (كما يعرف كولهاس نفسه) لا يمكن أن يخصه هو وَحْدَهُ؟ فإن كانت الرحمة والتسامح صورًا إبداعية من الإفراط، فإن التعطش الذي لا يتزعزع للعدالة قد ينقلب لضده، فمن الممكن أن تُسرف في طلب الدقة. إلا أن التسامح قد يزيد عن الحد هو الآخر: فكما رأينا في مسرحية «الصاع بالصاع» لا يمكن السماح بتجاوز مطالب العدالة تمامًا، فالأشرار يجب أن يُحاسَبُوا، وهو ما لا يعني أنه يجب عدم مسامحتهم. ويبدو أن كولهاس لا يفهم هذه النقطة؛ إذ يتوسل للوثر من أجل أن يُسمح له بالعفو عن كل المسئولين الفاسدين المتورطين في قضيته لكنه مع ذلك ما زال يرغب في إجبار النبيل الذي ظلمه على تسمين حِصانيه من أجله. إلا أن إجبار خصمه على فعل ذلك ليس أكثر من العدل، وليس بالضرورة رفضًا للعفو (كما يرى هو نفسه على ما يبدو).

عندما نصادف في الأعمال الأدبية رغبة تعزل البطل بنحو صارخ وتجعله غريبًا عن نفسه، وتعبر عن احتياج داخلي حَتْمي، وتجسد رفضًا قاطعًا للتنازل، وتكرس نفسها لهدف أثمن من الحياة نفسها، وتوقع الشخصية فيما بين الحياة والموت، وتأخذ به لا محالة إلى موته، يمكننا أن نتأكد بقدر كبير أننا في حضرة النظام الواقعي. وتُعَدُّ شخصية لورد جيم التي أبدعها جوزيف كونراد مثالًا على هذا أكثر من كونها شخصية تتمثل فيها مواصفات البطل عند إبسن. وتمثل مسرحية كلايست التراجيدية البديعة «بنثسيليا» — وهي مسرحية مطعَّمة بالنشوة أو المتعة الديونيسيوسية، يبين أحد التعليقات عليها أنه يحركها «دافع أولي لا يتوانى تمتزج فيها تمامًا الرقة وشهوة التدمير والافتراس امتزاجًا عميقًا»8 — عملًا دراميًّا عن نموذج ثاناتوس؛ حيث تتحدث ملكة الأمازون التي تحمل المسرحية اسمها عن تمزيق أحبائها بأسنانها. ويستحوذ على كولهاس هو الآخر نفس هذا النوع من الشغف الحانق؛ إذ يمكنه أن يذبح أي أحدٍ بلا أي وازع من الضمير؛ حيث إن كل شيء دنيوي تمامًا يفقد قيمته تمامًا في إطار النظام الواقعي الصارم.

ثمة حبكة ثانوية في أسطورة كلايست تتعامل مع الواقعية الأدبية بازدراء أكبر من الحبكة الرئيسية. وقد تجاهلها بعض الباحثين على هذا الأساس، لكن هذا التجاهل ينم عن قصر نظر بالغ؛ فهذه الحبكة الثانوية الرائعة — التي تأبى أن تكون مقبولة واقعيًّا — تدور حول قطعة من الورق جاءت في حوزة كولهاس مكتوب عليها نبوءة بخصوص المصير المستقبلي لحاكم ساكسونيا، الرجل الذي خدع تاجر الخيل بعرض العفو عنه ونكث وعده. يعلم الحاكم بوجود قطعة الورق، وإن لم يعلم ما كتب عليها، ويحاول جاهدًا الحصول عليها؛ فهي كما يشير أهم عنده من حياته. وتعذبه فكرة أن كل هذه المعلومات ستختفي باختفاء مالك الورقة الذي يوشك أن يُرسَلَ إلى العالم الآخر، ويحضر إعدام كولهاس ليستعيد الورقة من جثته. أما كولهاس فبعد أن نُبِّهَ إلى هذا المخطط مسبقًا فيسير إلى الحاكم المتطلع في فضول في لحظة موته ذاتها، وينظر في عينيه بثبات، ويُخْرِج الورقة من قلادة مدلاة في رقبته ويقرؤها ويبتلعها.

ليس من الصعب أن نرى النبوءة المكتوبة نموذجًا للأمر الذي يحكم على العبد بالموت؛ لكنه إذ كُتب على رأسه وهو نائم يظل وصوله إليه مستحيلًا. يستخدم لاكان كما رأينا تلك الصورة اللافتة ليبين الطريقة التي نعتمد بها في معرفة هُوِيَّتنا على شيء ذي دلالة (الآخر الكبير) الذي هو مُسْتَعْصٍ علينا. ومن هذا المنطلق فإن كولهاس نفسه — وهو شخصية خاضت بُحور الدم في طلبه التقدير من الآخر الكبير — قد أصبح يجسد الآن الآخر الكبير المستغلق الغامض بالنسبة للحاكم؛ إذ يحمل معه دالًّا يمثل سِرَّ مصير الحاكم لكنه يبقى مستعصيًا عليه إلى الأبد. فكأنما يستغل هذا المُدان موته ليجرد الحاكم من قدر من السيادة على موته هو. وفي انعكاس فريد للقوة يُنزل المظلوم انتقامه بالظالم باطلاعه على معرفة تنبؤية، معرفة يموت من أجلها الحاكم طواعية. إنها معرفة مستحيلة لا يمكن نَيْلُها عن نظرة الآخر الكبير إليه؛ سر ماهيته الحقيقية الذي لا يمكنه أبدًا الوصول إليه. إلا أن كولهاس يمنع هذا الكشف؛ إذ يدمر الدال ويمنع معرفته إلى الأبد. إن هذا — وليس استعادة حِصَانَيْهِ — هو ما يمثل انتصاره الحقيقي. فالفراغ الناتج عن موت تاجر الخيول يتحول لغياب عدُوِّه عن نفسه، مغلقًا منفذه للوصول إلى البعد الواقعي من رغبته. إن كولهاس يسير — كما ينبغي لبطل تراجيدي ألماني — منتصرًا إلى موته؛ لكن بعد صدمة فعله الأخير يعيش الحاكم في انكسار. فكلتا الشخصيتين، بطرق مختلفة، مثال على الميت الحي. وفي التلميح الساخر للتغذي الذاتي لرجل ميت، يبلع كولهاس في جسده الذي في طريقه للموت الدالِّ الرهيب الذي يمثل مِفْتاح هُوِيَّة الآخر؛ ومِنْ ثَمَّ يقتل الحاكم لبقية عمره. فكأنما يتحول تاجر الخيول حرفيًّا إلى تجسيد للبعد الواقعي عند خصمه؛ إذ يبتلع موضوع الرغبة المستحيل الذي هو النبوءة في جسده. فهو يبتلع هُوِيَّة الحاكم كآكِل لُحوم البشر فلا يترك قطعة باقية منه؛ وبذلك ينال القوة العليا للعدم التام، وهو ما لا يستطيع حتى النبيل نفسه أن ينتزعها منه. ويُذكرنا كلايست في سرده بملاحظة لاكان أن «الاستمرار في التحليل حتى نهايته ليس إلا الوصول إلى الحد الذي تظهر فيه إشكالية الرغبة بالكامل.»9
إن كانت قطعة الورق تمثل موضوع الرغبة المستحيل الذي يقدره الحاكم أكثر من حياته فثمة وثيقة أخرى مكتوبة — عقد شايلوك القانوني — تؤدي دورًا موازيًا في مسرحية «تاجر البندقية». ففي تجسيد شهير لفكرة العَيْن بالعَيْن، يُتم شايلوك صفقة تِجارية مع أنطونيو يقتطع بموجبها الأخير قطعة من لحمه لصالح الأول إن لم يَرُدَّ المال الذي اقترضه منه. وعندما تغرق سفن أنطونيو، يرفع شايلوك قضية ضده بإصرار لا يرحم:

ليحذر الإخلال بالعقد … اعتاد في الماضي أن يدعوني المرابي. فليحذر الإخلال بالعقد … واعتاد أن يُقرض المال كمسيحي دون فوائد. فليحذر الإخلال بالعقد!

(٣، ١: ٥٠–٥٤)
ولاحقًا يصبح تكرار كلمة «عقد» أكثر إلحاحًا، قارعًا جرس الإنذار المشئوم لأنطونيو المهدد:
ستُنفذ شروط العقد، فلا أسمعك تُسَفِّه عقدي:
وقد أقسمت على إتمام عقدي.
كنتَ تدعوني كلبًا قبل أن يكون لديك سبب يدفعك إلى هذا،
وحيث إنني كلب فاحذر من أنيابي:
سيلتزم الدوق بمقتضيات العدالة …
سأنال حقي، ولن أسمعك:
ستُنفذ شروط العقد، فلا معنى لمزيد من الكلام.
ولن أسمح لنفسي بأن أَلِينَ أو أن أُخدع،
فأهز رأسي وأتراجع وأتنهد وأستجيب
لشفاعة مسيحيين. لا تتبعني؛
فلن أقبل حديثًا منك، وسأنال حقي.
(٣، ٣: ٤–٨، ١٢–١٨)
إن عقد شايلوك — شأنه شأن أي مستند قانوني — يتجسد في شكل لغوي؛ إلا أن دلالته يبدو أنها تكمن فيما وراء الكلمات وتُخرس اللسان («لن أقبل حديثًا منك»). ففي إطار السياق الدرامي، تعني العبارة السابقة من بين أشياء أخرى أن الدائن لن يقبل أيًّا من الخطاب المداهِن ولا التَّمَلُّق الأيديولوجي اللذين سيتوَسَّل بهما إليه الآن المسيحيون الذين كانوا يبصقون على وجهه في الماضي لكي يُبْدِيَ رحمة ثَبَتَ أنهم مفتقرون إليها. إنه دالٌّ على الرغبة التي تقود شايلوك، الرغبة في العدالة كما حال ميكائيل كولهاس (يصرخ شايلوك مناوئًا لمحكمة مليئة بمتعصبين أعداء للسامية: «إنني أطالب بالعدالة؛ أجيبوني: أأنالها؟») لكنها كذلك طلب من منبوذ للتقدير من مجموعة من أولياء الأمر عديمي الضمير؛ إذ يريد شايلوك — مثل كولهاس — حقه دون زيادة؛ إلا أن هذه المبادلة المحسوبة بدقة غير متناسبة كذلك على نحو مخيف:
لو أن كل دوقية من هذه الآلاف الستة
تحولت لستة أجزاء، كل جزء منها دوقية،
لما أخذتها ولظللت أطالب بتنفيذ شروط العقد.
(٤، ١: ٨٩–٩١)
إن قطعة اللحم البشري التي يريدها شايلوك قطعة من اللحم عديمة القيمة والفائدة، لكنها في نفس الوقت شيء لا يُقَدَّر بثمن، ولا يمكن أن يُباع ويُشترى، ويسمو فوق مستوى السلع العادية المتداولة. فهي بالنسبة لشايلوك تعمل في إطار النظام الرمزي عمل صك الاتفاق القانوني أو بديل الثروة المادية؛ إلا أن هذه القطعة التافهة العزيزة تدل أيضًا على صورة من السلبية في قلب هذا النظام، وكسر لمداولاته المضبوطة بدقة لا يمكن تمثيله. إن الحدة التي يطلب بها هذا اليهودي دون رحمة قطعة اللحم تماثل الدقة الصارمة التي تأمره بها المحكمة المسيحية بألَّا يَزِيدَ أو يُنْقِصَ شعرة في حقه؛ لكن الطلبين ينتميان لنظامين مختلفين تمامًا، الأول للنظام الواقعي والأخير للنظام الرمزي. ويمكن توضيح سلوك شايلوك بتعليق من لاكان على ممارسة التحليل النفسي: «إن كان للتحليل معنى، فهو أن الرغبة ليست سوى ما يدعم فكرة لا واعية، يربطنا التعبير عنها بمصير محدد، ويتطلب هذا المصير بأن يُرَدَّ الدَّيْن، وتظل الرغبة تعود وتعود، وتضعنا مرة أخرى في مسار محدد، مسار يؤدي إلى شيء يخصنا بالتحديد.»10

يرفض شايلوك الذهب من أجل قطعة اللحم البشرية؛ حيث إنه يدرك على نحو محق أنه لا يمكن قياس الأخيرة كَمِّيًّا. وبرغم إشارة جراشيانو الحمقاء إلى «امرأة لا تُباع ولا تُشترى» فإن الأجساد وأكياس النقود لا يمكن المقارنة بينهما. لكن جزءًا من عظم صدر بشرية ليس ثمة ما هو أسوأ منه، كما يقول باسانيو عن حالته التي أثقلها الدَّيْن عندما غرقت سفينة أنطونيو؛ حيث إن الأنواع الأخرى من لحم الحيوان يمكن بيعها كما يقول شايلوك. إن ما يرغبه شايلوك هو العالم الواقعي لجسم الإنسان، وهو ما ترمز إليه قطعة اللحم البشرية التي يريدها من أنطونيو أو موضوع الرغبة المستحيل. وبصورة أدق فهو يطلب اعترافًا بأنه يتكون هو الآخر من لحم ودم شأنه شأن هؤلاء المسيحيين، وبأنه حتى اليهودي الملعون يضحك عند دغدغته وينزف عندما يُجرح. إن المكونات المشتركة للجسم المادي وليس الانتماءات الثقافية هي ما يضعها شايلوك نُصب عينيه في جدله المميز ضد معاداة السامية.

فرغبة شايلوك إذن هي رغبة في التبادلية الإنسانية التي يُعَدُّ طلبه لقطعة من اللحم المسيحي سخرية مريعة منها. فهو كأنما يحاول تغيير النظام الرمزي على نحو مباشر إلى النظام الواقعي؛ إذ يستبدل بتشابه الأجسام التبادل المادي. فاتفاقه مع أنطونيو نوع من المحاكاة المبالغ فيها للرفقة الأفخارستية، التي لا يمكن فيها لشايلوك أن يمتلك جسد أنطونيو إلا من خلال علامةٍ عَلَيْهِ أو بقايا رمزية منه. فالصراع القاتل بين اليهودي والمسيحي هو قلب ساخر للرفقة الحقيقية التي جزء من شايلوك يرغبه. وبهذه الصورة السلبية وَحْدَهَا — وبدافع اعتداء وحشي أو دافع موت يستهدف أنطونيو لسوء حظه — يُتاح لشايلوك فرصة تبادلية حقيقية. وفي ظل هذه الظروف لا يمكن للحب أن يُعَبِّرَ عن نفسه إلا في صورة كراهية تلازمه بصورة مرعبة. وكما هو حال كولهاس وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فإن شايلوك آكل لحوم بشر رمزي، وكذلك الذين يشاركون في وليمة المحبة الأفخارستية. لكن إن كانت أفعاله تنتمي من هذا المنطلق للنظام الرمزي، فهي كذلك تستهدف المواجهة المباشرة مع البعد الواقعي للجسد والموت؛ وحيث إن ما يرغبه شايلوك ليس أقل من امتزاج الأجساد فهو ذو بعد خيالي أيضًا. فخصومته الضارية مع أنطونيو تعود لهذه العلاقة الخيالية بقدر رؤيته له باعتباره تاجرًا زميلًا وأنا بديله.

إذًا فهي قضية جسدية بين رجلين بكل المعاني، فحتى كراهية شايلوك للتاجر تتجسد في صورة تَبَنٍّ واستيعاب له: «فلو أني تمكنت منه، لأطعمت وحش حقدي القديم من لحمه» (١، ٣: ٤٧-٤٨). ويتحدث لاحقًا عن «الأكل من مائدة المسيحي المبذر» (٢، ٥: ١٤-١٥). فإنكار قطعة اللحم على شايلوك يعني إنكاره، وإنكار جسده، وإنكار طلبه المتعطش للتقدير. فالعالم الواقعي الذي يرفض شايلوك التخلي عنه هو جسد رجل آخر؛ وهو ما يعني الإنسانية المشتركة التي يدين بها أنطونيو ومقربوه من الطبقة الحاكمة لليهودي النجس لكن يرفضون منحه إياها. يزعم شايلوك أنه يريد أن يكون صديق أنطونيو ويفوز بحبه؛ ورغم أن هذا الزعم قد يكون كاذبًا جزئيًّا، وليس سوى طُعم مراوغ لإيقاع أنطونيو في الشَّرَك، فلا ينبغي التغاضي عنه كليًّا.

يزعم شايلوك أن لحم أنطونيو مِلْكه، وهو كذلك على أية حال من وجه ما؛ وتبرز أهمية عقده في المسرحية لأنه دالٌّ على هذه الملكية الجوهرية، فكلمة «العقد» بمعنى الاتفاق القانوني الملزِم هي كلمة «العقد» بمعنى الرابطة الإنسانية؛ وهذا هو السبب في أن شايلوك يستثمر قدرًا مريعًا من الطاقة العاطفية في قضيته المنحوسة. وتعكس حيادية اللغة القانونية حيادية روابط إنسانيتنا المشتركة التي لا يمكن لأي تحيز ثقافي أو نزوة ذاتية أن تُنَحِّيَهَا جانبًا؛ فالجسد البشري في النُّصوص اليهودية المقدسة التي يثق بها شايلوك ليس شيئًا ماديًّا في المقام الأول بل مبدأً للاتحاد مع الآخرين. إن التواصل الأصيل مع أنطونيو وأمثاله هو ما يسعى إليه شايلوك، بعكس الاتفاقات النفعية والإهانات العنصرية والإقناع الخادع والدوال المبتذلة. يغرق شايلوك في صراع حياة وموت هيجلي من أجل تقدير النخبة الحاكمة في البندقية. فهو يرغب في أنطونيو رغبة شديدة لدرجة أنه مستعد لأن يلتهمه، وينفث عنفه المميت في وجهه وهو يمتزج بجسده. فإن كانت تلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنه بها انتزاع لمحة تقدير من ظالميه المسيحيين فهذا أسوأ. فربما لا يمكن لأنطونيو إلا كعدو — بوصفه رجلًا تحت التهديد — أن يكون صديق شايلوك؛ بمعنى أن مصير أنطونيو مقترن حتمًا بشايلوك.

إن مما يميز أخلاق النظام الواقعي أنه مهما كانت المواجهة مع الحقيقة صادمة، فهي تُطلق قوة غريبة تدشن بها نظامًا إنسانيًّا جديدًا، فمن خلال التضحية أو الموت الرمزي فقط — من خلال تجريد النفس من الهُوِيَّتَيْنِ الخيالية والرمزية — يمكن للإنسان أن يخوض مثل هذا التغيير الذي يسميه العهد الجديد بالميتانويا أو التحول الروحي. إن الأفخارستيا المسيحية احتفال بالرفقة، فهي طريقة جديدة لانتماء كل منا للآخر، تمثل صورة مسبقة للمجتمع العادل أو مملكة الرب المستقبلية؛ لكن هذا النموذج الثوري من الحياة ليس ممكنًا إلا من خلال المشاركة الرمزية في عبور المسيح الدامي من الموت إلى البعث. وعلى هذا المحمل يمتزج النظامان الرمزي والواقعي في فعل واحد، فالخبز والنبيذ اللذان يمثلان لغة تضامن في الأفخارستيا دالَّان أيضًا على جسد مشَوَّه، يكمن فيهما كما يكمن المعنى في الكلمة. وهذا هو السبب في أن سر التناول (وهي المكافِئ اللاهوتي لكلمة «العلامة») يتضمن الأكل والشرب؛ ليس فقط لأن هذه الأشياء تعبير تقليدي عن الصداقة؛ بل لأن التغذية التي تقدمها لا تنفك عن الهلاك. ولو أن أنطونيو وباسانيو وزملاءهما المعادِينَ للسامية كانوا قادرين على استيعاب المعنى الحقيقي لمطالبة شايلوك بالحصول على رطل من لحم أنطونيو (وهو ما لا يفترض أن شايلوك نفسه يعرف دلالتها الحقيقية، فضلًا عن أنه يريد بفكره الواعي أن يقضم قطعة من أنطونيو)، فلربما أدى هذا الإدراك إلى تأسيس نظام أخلاقي وسياسي من نوع جديد؛ نظام مبني على الصداقة السلمية بدلًا من الخصومة والانقسام.

بالطبع ربما يكون رطل اللحم ذاك مرتبطًا بالإخصاء بقدر ما يرتبط بأكل لُحوم البشر؛ إذ إن شايلوك في نهاية الأمر مسموح له بأن يقتطعه من أي جزء من جسد أنطونيو يختاره، ويمكنه أن يختار مازحًا أربية التاجر. إن كان هذا هو الحال فإن شايلوك يظهر بمظهر القانون الأبوي التأديبي أو «اسم الأب» المهدد بالإخصاء؛ لكن قد لا يقتصر الأمر على هذا؛ إذ يعتبر جاك لاكان وهو يكتب عن مسرحية «هاملت» أن الشيء القادح للرغبة هو أي شيء يملأ فراغ الخسارة الأولى، شيء يصفه بأنه «هو تلك التضحية الذاتية، رطل اللحم هذا الذي يُرهن في العلاقة مع الدالِّ.»11 فالدخول إلى النظام الرمزي أو تأسيس علاقة مع الآخر الكبير يعني استبدال العلامة بالجسد؛ أي التخلي عن الحق في جسد الأم باعتباره ثمنًا للحصول على اللغة والممارسة الجنسية والوجود الاجتماعي. أما الوعد المثالي للأفخارستيا في المقابل فيكمن في اتحاد الجسد والعلامة في شيء واحد. فوَحْدَهُ من يتخلى عن تصور زنا المحارم — كما يرى لاكان — هو من يستطيع الكلام. وبفضل هذا العبور وَحْدَهُ من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي يمكن للفرد أن يكون ذاتًا ومِنْ ثَمَّ تكون لديه رغبة. إذًا فشايلوك قد يكون داعيًا أنطونيو لأن يخضع لمثل هذا التحول؛ للتضحية بجزء من هُوِيَّته والامتناع عن جزء من متعته الجسدية من أجل تكوين علاقة مع الآخر الكبير الذي يمثله شايلوك بالنسبة له من أكثر من جانب. إن رطل اللحم هو «الشيء الجيد» بتعبير لاكان الذي يجب على الفرد التخلي عنه من أجل تحقيق رغبته. إنه الدالُّ — في صورة عقد شايلوك — الذي يعتمد أنطونيو تمامًا عليه؛ لكن مثلما تقتل الكلمة فهي قد تَهَبُ الحياة أيضًا. وصار هذان الرجلان مرتبطين ببعضهما بقطعة من الورق المكتوب عليها التي قد تكون قاتلة و(بتعبير شايلوك) «تسلية بهيجة» معًا، دعابة لا تضر، وسخرية مسلية من عقد تِجاري مباح في اليهودية. إن الاعتباطية الحمقاء لطلب شايلوك تتعارض مع قوالب النظام الرمزي بقدر ما تتعارض مع النظام الواقعي الذي تستدعيه.

يبين لاكان في تأملاته لمفهوم فرويد عن التسامي هذا التحويل لرغبة أولية إلى شيء أعلى في إشارة إلى سفر الرؤيا (١٠: ٩) الذي يأمر فيه مَلَكٌ الراوي بأكل لفافة من الورق. إن عبارة «خُذْهُ وكُلْهُ!» ملخص تهذيبي كافٍ للعملية التي يصفها فرويد. فكأنما شايلوك يرغب في أكل أنطونيو على المستوى الرمزي، على مستوى الدال في عقده. فعلامات العقد — بطريقة أفخارستية — تمثل جسدًا مقَطَّع الأوصال، فنصه تَسَامٍ سيميائي لتعطش شايلوك للحم أنطونيو؛ حيث يستوعب جسده في خطوة تذكر بالألفة والعدوان في النظام الخيالي. إذًا فجميع نظم لاكان الثلاثة للوجود حاضرة في هذه الصفقة المركبة. بل إن لاكان نفسه يزعم أن الكلمة التي استخدمها سوفوكليس لوصف عناد أنتيجون الشديد قد تشير أيضًا إلى آكل اللحوم النيئة.

يرى شايلوك أن اتفاقه مع أنطونيو اتفاق ودي («إنه إكرام مني لك»)، وهو تقييم ليس ساخرًا تمامًا؛ فكلمة إكرام هنا تعني القرابة والإنسانية المشتركة كما تعني العطاء. من المدهش أن المرابي اليهودي سيئ السمعة يعطل حساباته الربوية المعتادة من أجل فعل مجاني أو مشهد كوميديا سوداء غريب، فيطلب أكثر وأقل مما يطلب عادة في مثل هذه الأحوال. صحيح أن أنطونيو يُطلَب منه مغازلة الموت كما هو الحال عامة عندما يواجه المرء النظام الواقعي؛ إلا أن احتمالات عجزه عن سداد دَيْنه ضعيفة بدرجة تجعل العرض سخيًّا على نحو غير عادي. إن أنطونيو نفسه يرى ذلك، وإن كان بأسلوبه المتعالي يوافق على الصفقة متخذًا صورة عدو لا صديق. إن المعاملة التي تحوي بعضًا من النظام الواقعي عند شايلوك نفسه يعتبرها أنطونيو معاملة رمزية أو عملية بحتة، ويرفض في تعالٍ روحَ الاتفاق، كما يرفض الدفاع المراوغ لبورشيا لاحقًا روح اتفاق شايلوك أو معناه البديهي.

إن فكرة بورشيا عن أن العقد لا يشير إلى الحديث عن الدم هي مراوغة انتهازية مستفزة، فهي خلط قانوني يحرر به المسيحيون واحدًا منهم من المساءلة بينما يسلبون شايلوك بضائعه تحت غطاء من الحديث عن الرحمة. إن العقد بالتأكيد لا ينص على أن الدائن له أن يريق دم أنطونيو وهو يقتطع جزءًا من لحمه، لكن هذا استنتاج منطقي من النص، كما قد تقر أي محكمة في الواقع؛ فمن غير المعقول القول إن الوثيقة لكي تكون سليمة قانونًا يجب أن تذكر كل ظرف ممكن للموقف الذي تشير إليه. وكما تقر بورشيا نفسها، فإن العقد لا ينص على حضور جراح، وإن كان هذا — كما تقول هي نفسها — بندًا جيدًا. فهي بالمبالغة في التفسير الحرفي لعقد شايلوك يخونها معناه على نحو واضح. من الممكن أن يوجد إفراط في التدقيق (الذي يمثل تشدد شايلوك نفسه مثالًا آخر عليه) مثلما يوجد تفريط (مثل تبذير تيمون الأثيني العُصابي) يُبْطِل الإجراء بصورة مدمرة. إن تدقيق شايلوك في تحديده لما لا يزيد عن الرطل من لحم خصمه مفرط في دقته؛ حيث إنه شبه مؤكد أنه بأخذه الرطل سيأخذ في الغالب قطعة أكبر منه.

لا يسع شايلوك أن يفوز؛ لأن مطلبه الحقيقي هو التقدير لا الانتقام. لكنه لا يمكنه أن يخسر كل شيء أيضًا؛ حيث إن قضيته تخاطر بإجبار السلطة في البندقية على تشويه صورتها؛ إذ بمعاقبتها إياه على إلحاحه اليهودي ينكشف عنادها هي الأخرى، وتتفوق على تقيده «اللاإنساني» بالقانون. وفي النهاية وبسبب تجَرُّؤ شايلوك على السعي لاسترداد دَيْن ملزم قانونًا، تُصادر بضائعه على يد السلطات، ويُجبر على التحول للمسيحية. ويأتي رده اليائس بأن يطلب من المحكمة أن تنهي حياته بدلًا من ذلك. إلا أن اليهودي في تلك اللحظة قد كشف زيف عدالة المسيحيين، فضبطه لهم متلبسين في احتيال قانوني محدد يعني وصم قانونهم عامةً بالعار، مثلما يؤثِّر إقراض المال دون فوائد كما يفعل أنطونيو على سعر الفائدة العامِّ في المدينة. ولا يكاد يستغرق شايلوك أي وقت ليدرك هذه الحقيقة:
رطل اللحم الذي أطالبكم به قد بذلت فيه ثمنًا غاليًا،
فهو لي إذن وسآخذه.
فإن أَبَيْتُمْ، فاللعنة على قوانينكم!
قوانين البندقية التي لا تُطبق.
(٤، ١: ٩٩–١٠٢)

إنها نقطة قوية، ومفحِمة على نحو كافٍ لتقنع أنطونيو نفسه، فيرى أنطونيو أن الموقف سيبدو في صورة سيئة في أعين شركاء البندقية التِّجاريين؛ وقد يؤدي مِنْ ثَمَّ إلى كارثة اقتصادية. فهل ستظل السلطة إذن غير مبالية بالأفراد، فتعاقب واحدًا من المنتمين المحترمين إليها من أجل شخص غريب مكروه؟ إن لم تفعل فهي تخاطر بتفكيك نظامها ذاته، وتسمح لبورشيا باستخدام عين المراوغة اللاموضوعية التي من المفترض أن يمنعها القانون. وقد تكون النتيجة النهائية لهذا العبث في التأويل هي الفوضى السياسية، وهما نوعان من عدم الالتزام يتلازمان بشدة في ذهن شكسبير.

أما فعل شايلوك في المقابل فهو ليس فوضويًّا بل هدامًا، فهو باعتباره مواطنًا منبوذًا — شخصية مهمة في اقتصاد المدينة لكن لا يمكنه الاندماج اجتماعيًّا — يدخل في منظومة رد العَيْن بالعَيْن في النظام الرمزي ليشجع انهياره من الداخل بسبب شيء تافِهٍ، فكما يقول لأحد أصدقاء أنطونيو، «الغلظة التي علمتموني إياها ستشهدونها؛ بل وأشد منها.» فالمحاكاة هي أكثر أشكال العدوان صدقًا. فالمسيحيون — كما يوضح — يشترون الأجساد (العبيد) الذين يمانعون تركها؛ فلِمَ عليه إذن أن يتخلى عن تلك القطعة من أنطونيو التي أصبحت مِلْكه قانونًا؟ فهو بتطَرُّفه في منطق التبادل إلى حد ساخر من الذات يكشف خَوَاء النظام الواقعي في جوهره.

هذا لا يعني الزعم أن شايلوك يرفض نظام أخلاق رمزي، وإن كان يزلزل دعائمها. على العكس، فإن إخلاصه المحموم للنظام الرمزي هو ما يكشفه على حقيقته، فالعقد الذي يمثل مشاركته في هذا النظام لا داعي لوجوده في هذا الاقتصاد الرمزي، ويرمز من بين عدة أشياء إلى «النظام الواقعي» للجسد. إذ يكشف شايلوك أن هذا النظام الرمزي الخصوصي — الموجود كأي نظام من هذا النوع تحت مسمى حماية الجسد — يُخفي ظلمه الفعلي للجسد؛ لكنه لا يستنتج من ذلك أن القانون والواجب والشرف والعدالة والالتزام والاستحقاق والتعويض الدقيق وغيرها هي قضايا جانبية أو حِلية أيديولوجية. فهو ليس من «غير المخدوعين» عند لاكان الذين يتصورون أنهم لم يَرَوْا في النظام الرمزي أكثر من مجرد خداع صريح، ولهذا السبب يقعون في فخ الوهم الشديد. على العكس فإنه يرسخ لدقة لا تبدو بأي نحو متفقة مع ذوق الأنصار المبالغين في دعمهم للأخلاق الواقعية في الوقت الحاضر. فهو لا يؤمن مثل إيمانويل ليفيناس وجاك دريدا بأن الالتزام لا محدود، فهو لا يطلب سوى حقه مثل كولهاس. إن العدالة التي تسعى تلك الشخصيتان إلى تحقيقها ليست إفراطًا في الحساب الدقيق بل إن الإفراط هو التعنت الذي يتمسكون فيه بهذه الدقة. فشايلوك وكولهاس أبعد ما يكونان عن التحرريين السذج: فكلاهما يحترم قواعد النظام الرمزي ويقدر هدف القانون والسلطة. فيصرخ شايلوك في احترام وتمرد معًا قائلًا: «أريد تطبيق القانون.» لكن لما يتعارض القانون مع العدالة التي يُفترض أن يصونها، عندها فقط يكشف هذان الرجلان عيوبه. وعند هذه النقطة، يصبح طلب العدالة في ذاته شكلًا من أشكال التخريب، وفضيحة وحَجَر عَثْرَة في طريق المجتمع المتحضر. فمن خلال أخذ خطاب المجتمع الأيديولوجي هذا على مَحْمَل الجِدِّ، ينجح هذا المطلب في كشف وحشيته الكامنة، فشايلوك وكولهاس ينجرفان فيما وراءَ حُدود الأخلاق باسم ما هو أخلاقي.

يتبنى دريدا وزملاؤه — كما سنرى بعد قليل — نظرة أكثر استعلاء نحو الأخلاق الرمزية أو أخلاق التكافؤ. فإمكانية المحاسبة، التي يرى دريدا أنها قد تُعتبر في الغالب نفعية فظَّة، تدخل ضمن سلسلة من المفاهيم الْمُشَيْطَنَة ضمنيًّا في معجمه: القانون والتسوية والهوية والإنصاف والاقتصاد والمنطق والاستقرار والمعيارية والإجماع والنظرية والمعرفة والتقليد وقابلية البَتِّ والقياس والكلية والعمومية والصياغة المفاهيمية وما شابهها. إذًا فوضع هذه المصطلحات أمام مقابلاتها (اللاهوية واستحالة البَتِّ، إلى آخره) يعني الانغماس في نوع من التقابل الثنائي الذي من المفترض على ممارسي التفكيك بوجه عام أن يُبْطِلوه. يفضح فكر دريدا تجنبًا يكاد يكون مَرَضيًّا لما هو محدد، مثلما تنطوي أعمال ميشيل فوكو على احتقار يكاد يكون مَرَضيًّا للذاتية. فالهوية والقابلية للتحديد وما شابه — كما يعترف الفكر التفكيكي في حذر — هي مفاهيم لا مَفَرَّ منها أبدًا. وهو اعتراف يسعى من بين عدة أشياء إلى وقاية الفكر التفكيكي من اتهامه بأنه ليس إلا صورة حديثة من التحررية الرومانسية. لكن برغم كل تلك التنازلات الحَذِرَة، يكمن لُبُّ الفكر التفكيكي بلا شك في مفاهيم الانحراف والزيادة واللانهاية واللاتحديد والاستحالة. إذًا هو فكر تحرري يملؤه الخزي لا الفخر بذاته.

لكن شايلوك بصفته عضوًا في جماعة منبوذة لا يسعه أن يمنح نفسه هذه الرفاهية، فالليبراليون من الطبقة العليا في البندقية هم مَنْ يعتبرون المطالب المحددة — كتلك الواردة في عقد شايلوك — بلا قلب ولا إنسانية. فهم يَرَوْنَ أن مثل هذه الصرامة ما هي إلا مثال آخر على التقيد اليهودي الصارم بالقانون، وهي العقلية التي لم يتأمل صاحبها بالقدر الكافي كتابَه المقدس بحيث يتوصل إلى أنه يحثُّ على فضيلة التسامح. فحتى صخب أهل البندقية المطالب بالرحمة معادٍ للسامية. أما شايلوك فعلى العكس من ذلك، يفهم أن حقوق الضعيف تحتاج إلى الحماية من خلال التدوين، فما هو إنساني عند بورشيا وأمثالها هو من يراوغ حرفية النص المريعة. ويتضح هذا في البلاغة المتَّقِدَة لخطابها في المحكمة وليس في حرفية نص العقد المستبدة. فهي تطرح سعة الرحمة مقابل دقة العدالة. وفي إطار تلك النظرة، فإن رجلًا كشايلوك يقضي حياته في اتفاقات دنيئة لا يمكن أن يمتلك بكل تأكيد مفهومًا للفضل؛ وهو افتراض فيه مفارقة قطعًا بالنظر إلى اعتباطية صفقته وعناده الغريب الذي لا مبرر له، والذي يكاد يصل به في سعيه وراءها إلى الموت.

لكن شايلوك في حاجة لهذه الورقة لأنه سيكون غبيًّا إن اعتمد على طيبة قلب من يفوقونه اجتماعيًّا. فالنظام الرمزي يمكن أن يعمل على حماية الضعفاء كما يستغلهم؛ لذا لا ينتقده على حاله هذا إلا مذهب يساري عقلاني، فأعضاء اتحادات العمال مثلًا من غير الحكمة أن يركنوا إلى الطيبة العابرة لصاحب العمل من أجل زيادة أجورهم. فالمظلومون بحاجة لعقد لا لبس فيه، وإن بَدَا ذلك شديد التحديد للنخبة المثقفة المتفتحة؛ حيث إنه لا يمكنهم أن يعرفوا متى تنتاب أسيادهم نوبة كرم أو بخل. فتسجيل الحقوق ليس أمرًا «غير إنساني» بل هو قضية متعلقة بالجسد. إن باسانيو يتحدث عن الرسالة التي تحمل خبر خسارة بضائع أنطونيو مشبهًا إياها ﺑ «جسد صديقي؛ كل كلمة فيها كالجرح الغائر، يقطر دمًا» (٣، ٢: ٢٦٧–٢٦٩). الكلمات بالقطع لا ينبغي أن تختلط بالأجساد، رغم أن شكسبير لا ينفك يبدلهما بعضهما في كتابته؛ لكن الدلالة الصادقة — وخاصة القانونية — هي دلالة تتسق مع الجسد وتتشكل من خلال احتياجاته المادية. فإن كان النص غير شخصي فذلك فقط في إطار القانون المحايد فعلًا، فالعقود المكتوبة تحميك من تقلب الآخرين وشرهم. فالقانون لا يتعارض في الأساس مع الحب والرحمة، فالنظام الرمزي الذي يعتمد على الأوراق والنصوص لا يمكن التخلي عنه ببساطة باسم المواجهة المباشرة مع النظام الواقعي. فمن ناحية التحليل النفسي، فإن النتيجة المحتملة لهذا الطريق المختصر هي الاضطراب النفسي؛ أما سياسيًّا فالنتيجة هي الاضطراب الصبياني لليسار المتشدد، وهو نوع من التحررية البريئة.

لذا فإن التماس بورشيا الشهير للرحمة يزداد إثارة للريبة، فضلًا عن أنه من الناحية السياسية أكثر أنانية مما يفترض النقاد:
لا دخل للإلزام في مشاعر الرحمة؛
فهي تهبط من السماء كالرذاذ
على ما تحتها …
(٤، ١: ١٨٤–١٨٦)

تهدف بورشيا إلى التفريق بين الرحمة في جانبها المطلق والإلزام، وهي الكلمة التي خرجت لتَوِّها من بين شَفَتَيْ شايلوك. إلا أن الرحمة في الإنجيل ليست غير متوقعة مثل المطر. والإشارة إلى أن علم الأرصاد الجوية علم غير دقيق ليس هو الهدف من الكلام هنا. فيسعى تشبيه بورشيا الرائع إلى إقناعنا بأن التسامح متقطع وتلقائي، على عكس الرؤية المسيحية الشائعة بأنها التزام أكثر منها اختيار. فلو عاملنا كل امرئ بموجب استحقاقه، كما يقول هاملت، فمن ينجو من الجَلْد بالسِّياط؟ فالتراحم في العقيدة المسيحية اليهودية يعني عيش حياة الرب؛ لذا فهو ليس نزوة عنده، وإن كان كذلك عند بعض مخلوقاته. وعلى نحو مشابه، فإن اهتمام الفرد الشديد بمصلحته جزء إلزامي من أي اتفاق تِجاري، وهذا سبب يقدمه شايلوك لِمَقْت خَصْم يتحلل من هذه الأنانية.

إن ما لا مبرر له في المسرحية ليس الرحمة — التي يُلزم المسيحيون ببذلها ولا يفعلون — بل عناد شايلوك المخيف؛ إذ يُقدم مع سير الأحداث عددًا كبيرًا من الأسباب لرفضه التخلي عن رغبته: أن أنطونيو مسيحي بغيض؛ وأنه شخصيًّا مكروه؛ وأنه معادٍ للسامية؛ وأنه يُخفض سعر الفائدة في البندقية بتقديم قروض دون فوائد؛ وأن المسيحيين عادتهم الانتقام الصارم، فلماذا لا يفعل هو الآخر نفس الشيء؟ وأن أنطونيو منافس تِجاري خطير ينبغي التخلص منه؛ وأنه لن ينخدع، وهكذا. إلا أن شايلوك يفهم الطبيعة الحقيقية لهذا الشيء الذي بداخله ويتخطى حدوده أكثر ممن ظلموه. إنه، كما يقر مضطرًا أمام المحكمة، عاطفة لا يمكن تفسيرها مثل الرغبة في الابتعاد عن الخنازير أو آلة مِزْمار القِربة. أما أنطونيو فمن ناحيته يرى منذ البداية أن الشيء الغامض الذي تتعلق به رغبة خصمه لا يقبل التداول، شأنه شأن البحر والريح، ويتوسل إلى أصدقائه المسيحيين أن يَتَخَلَّوْا عن محاولتهم تليين قلبه «العنيد». فشايلوك، كما تقول إحدى الشخصيات، شخصية «عصيَّة»؛ إذ يمثل لغزًا غير مفهوم في قلب النص. إن المسألة التي تتناولها المسرحية هي التعطش للنظام الواقعي الذي لا يقبل أي تنازل، والذي يقترب بدرجة خطيرة من أن يدفع شايلوك إلى الهلاك؛ إذ يرفض شايلوك العفو عن أنطونيو؛ ليس لأنه واقع في قبضة الشعور بالنفور بقدر ما هو واقع تحت حكم الضرورة.

وفي الحبكة الثانوية للمسرحية، يهدف باسانيو تابِع أنطونيو، بعد أن أسرف في تبديد ماله، إلى استمالة بورشيا الثرية. وكان يجب أن يتعرض حبه لها للاختبار في مشهد الصناديق الشهير؛ حيث يُطلب من هذا العاشق الجشع أن يختار من بين ثلاثة صناديق من الذهب والفِضة والرَّصاص. فالصندوق الذهبي الذي كُتب عليه: «من اختارني نال ما يتمناه الكثيرون» (٢، ٧: ٥) يدفع باسانيو لجعل رغبته موافقة لرغبة الآخر، وهو بذلك يرمز لعالم التنافس والمحاكاة الذي نسميها النظام الخيالي. أما الصندوق الفِضي الذي كُتب عليه «من اختارني نال بمقدار ما يستحق» (٢، ٧: ٧) فيلمِّح إلى العالم الرمزي القائم على التكافؤ والتبادل؛ فالفضة كما يعلق باسانيو «شاحبة ومتداولة، فيما بين الناس» (٣، ٢: ١٠٣-١٠٤)، وهي السلعة العامة التي تربط بيننا بروابط مجهولة تبدو مناقضة تمامًا للحب. إنها بالتأكيد المادة التي تدور في فلكها مدينة البندقية التِّجارية، الساعية وراء الربح، المهووسة بالثروة في المسرحية. أما الصندوق الرَّصاصي فهو يتركب من المادة التي تُبَطَّنُ بها النُّعوش، وهو يحمل عبارة تناسب تلك المادة المُذَكِّرة بالموت: «من اختارني عليه أن يعطي ويخاطر بكل ما عنده» (٢، ٧: ٩). إنه في نطاق النظام الواقعي الذي يجب فيه أن يخاطر المرء بحياته من أجل رغبته. إذًا فباسانيو بتطلعه إلى الصندوق الرَّصاصي يتطلع إلى نوع من اللاشيء؛ أي مادة رديئة ورخيصة مثل رطل اللحم عند شايلوك. إلا أنه كما عند شايلوك ثمة معنًى لا محدود يرتبط بهذه المادة الزهيدة؛ لذا يتمكن باسانيو أيضًا من تحويل اللاشيء إلى كل شيء، فيحول الرَّصاص كما بالخيمياء إلى الثروة المذهلة لزوجته التي استطاع الفوز بها، فبعد أن وصف بورشيا في إشارته الأولى إليها بأنها «تُركت غنية» (أي أنها وريثة ثرية) فإن هذا المغامر البائس حكيم بدرجة تكفي للفوز بقلبها بتخَلِّيه المتظاهِر بالوَرَع عن إغراء الذهب والفضة. فإن كان الرَّصاص لا يُقَدَّر بثمنٍ بمعنَى أنه بلا قيمة، فإن الحب عند الرومانسيين لا يُقدر بثمن بمعنَى أنه يتخطى كل المقاييس («ما أفقر الحب الذي يُقاس ويُحْصَى» كما يقول أنطونيو المتهور في مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»). أما باسانيو فيرى أن الحب أسمى من العالم الأدنى للسلع في نفس اللحظة التي يتزوج فيها امرأة لمالها. إذًا، حسب عبارة ماركس، فإن «النظرة الرومانسية … ستلازم (النظرة النفعية) كنقيض لها حتى نهايتها السعيدة.»12 فالرغبة التي من المفترض أنها فوق كل الحسابات والمنفعة تُستغل في الحسابات الدقيقة لسوق الزواج، وهو المكان الذي يتجمع فيه الجسد والعلامة في شكل أجسام ونقود تُشترى بها.

بتبادل الأجسام تنتهي مسرحية «تاجر البندقية» مثل معظم مسرحيات شكسبير الكوميدية، فاللحظة الأخيرة من هذه المسرحية الكوميدية هي توزيع الأجساد على أماكنها المناسبة من خلال الزواج. لكن إن كان الزواج مسألة قانون وعقد وتبادل رمزي، فهو كذلك مسألة رغبة، والرغبة تتسم بتقلب يهدد دومًا بتدمير هذه المنظومات. إن الرغبة التي تنتج المجتمع الإنساني شأن يصعب تنظيمه. فما يقوم عليه النظام الرمزي هو عينه ما يهدد بتدميره، مثلما أن إصرار شايلوك العنيد على حقه يدق مسمارًا في نعشه؛ ومِنْ ثَمَّ فإن بشجار العاشقين تنتهي المسرحية، موحية بالخيانة الزوجية. إن الزواج من وجهة نظر النظام الرمزي مسألة متعلقة بما هو عادل وملائم؛ لكن نظرًا لأن الحقيقة الهدامة هي أن أي شخص يمكن أن يرغب أي شخص آخر — كما توحي الوتيرة السريعة لمكائد الحب في مسرحية «حُلْم ليلة صيف» — فدائمًا ما توجد مسحة من الاحتمالية أو لمسة من النظام الواقعي في هذه الزيجات المفترض أنها متلائمة. فالنظام الواقعي هو المرحلة التي تفشل فيها أفضل الخُطط الرمزية الموضوعة، فشايلوك نفسه — وهو أرمل خسر ابنته لصالح مسيحيٍّ وخسر بضائعه لصالح الدولة مع سَيْر الأحداث — منبوذ جنسيًّا كما هو منبوذ اجتماعيًّا من قِبَلِ النظام الرمزي.

يعود شكسبير عبر هذه المسرحية مرة بعد مرة إلى قضية الفضل مقابل العدل، أو كما يمكننا أن نقول: قضية النظام الواقعي مقابل النظام الرمزي. لكن بعكس معظم المعتنقين المعاصرين لأخلاق النظام الواقعي، فهو لا يسمح لما هو زائد عن الحاجة ومبالغ فيه بأن يقلل من قيمة وظيفة النظام الرمزي الجوهرية. فهو يرى جيدًا أن الرغبة في النظام الواقعي يمكن أن تكون علامة تُميز المصاب بالهَوَس الأحادي كما تميز الشهيد، وأن الفرق بين الاثنين أحيانًا ما لا يكون واضحًا. فثمة فارق — غير مرئي أحيانًا للعين المجردة — بين من يموتون في سبيل سعة الحياة، وهؤلاء الذين يهلكون لأنهم مغرمون على نحو مَرضي بالموت. كما يوجد فرق بين الرغبة المطلقة نحو العدالة، والرغبة التي لها غاية مطلقة لا تتعدى ذاتها؛ إذ توجد أشكال غير إنسانية لائقة للتبادل الدقيق كما توجد أشكال لا إنسانية قاسية منه. وهناك أشكال من الطيش تمنح الحياة كالتسامح، كما توجد أشكال مؤذية لها كالانتقام. فالمطلب الشريف لما لا يزيد عن حق الفرد يمكن أن يَثبُت إفراطه القاتل، فالنظام الواقعي — شأنه شأن ما هو مقدس أو سامٍ — عالم من الرعب كما هو عالم من الرِّفْعة.13 والأخلاق المبنية عليه لا ترى ضرورة للتحول الثوري إلا على حساب المخاطرة بمغازلة تطرف نُخبوي وحشي، وسنلقي نظرة أقرب على هذه النُّخبوية فيما بعد.

يسخر باسانيو من أن صديقه جراشيانو «يحوي حديثُه دائمًا قدرًا لا نهاية له من الهُراء» لكن كذلك يفعل صديقه أنطونيو بنحو ما مختلف. فمنذ كلماته الأولى («صدقاني حين أقول إنني لا أعلم ما سبب هذا الحزن الذي أَلَمَّ بي») التي هي أيضًا أولى كلمات المسرحية، يكشف تاجر البندقية عن أنه يَرْزَح تحت نِير الميلانخوليا أو السوداوية، وهي شُعور يصفه فرويد بأنه «الحزن بلا سبب»؛ وهو مِنْ ثَمَّ يعد ضجة كبيرة على لا شيء. وعليه سارع النقاد بملء فراغ السبب المجهول لحالة أنطونيو العاطفية؛ حيث خمَّنوا أن سبب بؤسه يكمن في حبه المِثليِّ لباسانيو المنغمس في حب الجنس الآخر. ربما يكون هذا صحيحًا؛ لكن من المنطقي أن يكون أي تاجر سوداوي، أن يعوز رغبته شيء محدد؛ حيث إن هذه على كل حال هي الطريقة التي يكسب بها قُوته. إن القيمة التبادلية للأشياء هي ما يهمه، وليس سماتها الخاصة أو غاية متصورة من كَنزها، فالسوداوية تعتبر الأشياء وسيلة، فتستنزفها لتتغذى عليها. فجاك في مسرحية «كما تشاء» قادر على «امتصاص الكآبة التي تذخر بها أغنية ما، بطريقة تضاهي قدرة ابن عرس على امتصاص البيضة» (٢، ٥: ٩–١١). وتزداد تلك الحالة كلما بَدَتْ أشياؤها أكثر نفادًا، وبهذا المعنى تمثل السوداوية صورة ملائمة من الرغبة نفسها.

إذًا فشكسبير يعي التشابه بين التجارة والرغبة، فكلاهما يتعامل مع الأشياء على نحو مجرد باعتبارها مجرد فرص لزيادتهما. وينطبق نفس الكلام على السوداوية، فمثلما يكنز التجار البضائع من أجل المزيد من الكَنز، يبدو أنطونيو مغمومًا للغَمِّ في ذاته، فليست المخاوف المالية هي السبب في انخفاض معنوياته كما يؤكد لأصدقائه. لذا تفتتح المسرحية أحداثها بقدر لا نهائي من اللاشيء، تفتتح بفراغ يبدو عاريًا عن أي سبب أو شيء، لدرجة أن أنطونيو يبدو أحيانًا مستمتعًا بفكرة سِكِّين شايلوك القاطع؛ لكنه بالتأكيد يتخذ عددًا من الإجراءات ليتجنب موته.

إن أكثر شخصيات شكسبير اشتهارًا بهذه السوداوية ليست أنطونيو بل هاملت. فإن كان بكلام جاراشيانو قدرٌ لا ينتهي من اللاشيء فإن هاملت هو تجسيد لِلَّاشيء. فكما حال سوداوية أنطونيو، يقلل شعوره بالملل من قيمة العالم كله، فيختزله في ظل لتلك السلبية الفاترة التي تتمثل في الذات الإنسانية:
آه ليت هذا الجسد يذوب،
يموع ويَنْحَلُّ قطرات من ندًى!
أو يا ليت الأزلي لم يضع شريعته
ضد قتل الذات! رباه، رباه!
كم تبدو لي مضنية، عتيقة، واهية، عابثة،
عاداتُ الدنيا هذه!
(١، ٢: ١٢٩–١٣٤)
يُولي هاملت وجهه من البداية شطر الموت، الموت المتمثل مسبقًا في الخَواء الذي هو هاملت نفسه. فبمجرد تمزق الرابطة الخيالية بينه وبين أمه جرترود بدخول كلوديوس، فهو يَهِيم بلا هدف على حافَة النظام الرمزي غير راغب في احتلال موقع محدد داخله. فهاملت — الذي هو لا شيء محض — يرفض التضحية بالبعد الواقعي لرغبته ببذلها تجاه أي شيء محدد تافه. فهو لن يتصرف بصفته وريث العرش ولا عاشقًا فارسًا ولا موقِّرًا للكبير ولا تابعًا مطيعًا للملك، ولا ابنًا عَفُوًّا ولا ابن زوجة متسامحًا ولا طفلًا منتقمًا. فانطوائه الذي يستميت عليه يمثل — فضلًا عن كل هذه الأدوار — سلبية خالصة ترفض إشارة الدال. والنتيجة سقوطه في الفجوات التي بين الهُوِيَّات العامة المختلفة المعروضة عليه، التي لا يمكن لأي منها — بعبارة تي إس إليوت — أن تقدِّم معادلًا موضوعيًّا مناسبًا لفرديته. وهو إذ «في نفسه ما يعجِز عنه كل مظهر» يصد هؤلاء الساعين لانتزاع جوهر غموضه، فكما الممثل الذي لا يمكنه التماهي مع دوره ومطابقة الفعل بالقول والقول بالفعل، يظهر الأمير نتاجًا لتدمير الهُوِيَّة والتبادل الرمزيين؛ إذ ينكر عدالة الانتقام الزائفة، ويرفض في مقت التناسل ويأبى الانحناء لرغبة الآخر الكبير. فهو، إذ يتسم بميوعة شبح أبيه وسرعة حديث مهرج في أعمال شكسبير، يتحسس طريقه ويتهكم ويناور لئلا يُشار إليه بدالٍّ محدد. وبذلك يظل مخلصًا للشيء المحير المستحيل الذي تتعلق به رغبته، محققًا انعدامًا للوجود يظل غير تامٍّ حتى في الموت. فهو كما يقول لاكان، «يرتب كل شيء بحيث يصبح الشيء الذي تتعلق به رغبته دالًّا على هذه الاستحالة.»14

•••

إن شخصية أنتيجون التي أبدعها سوفوكليس هي في نظر لاكان التجسيد الأوضح لأخلاق النظام الواقعي؛ إلا أن لها نظيرًا إنجليزيًّا في هذا الجانب. فكلاريسا هارلو — البطلة في رائعة صامويل ريتشاردسون التي ظهرت في القرن الثامن عشر «كلاريسا» — هي نموذج أنثوي آخر متميز في الأدب العالمي التي تموت لرفضها التخلي عن رغبتها.15 فبعد حادثة اغتصابها الأليمة على يد لافليس، تتابع كلاريسا سبيلها بأسلوب شعائري دقيق لتسحب جسدها من النظام الرمزي؛ إذ تصف نفسها ﺑ «العدم» وتعلن أنها «ليست ملكًا لأحد.» وفي ظل تطلعها للموت ترفض أن تظهر باعتبارها غرضًا قابلًا للتبادل بالعملة الرمزية لثقافتها. بل إنها — في انسحاب سريالي من نظام القوة التي هي جزء منه — تصير عدمًا، شاردة، فصامية، لا مكان، لا شخص. فكلاريسا بتخطيطها وتنفيذها لموتها بهذه الدقة تجعل منه معنى حياتها. فموتها، بعكس بارناردين، حدثٌ في حياتها — بل حدث حياتها — وليس مجرد نقطة نهايتها البيولوجية. وليس من الغريب أن يهاجم العديد من النقاد الروايةَ باعتبارها كئيبة بدرجة لا تُطاق؛ إذ بتخلي بطلة ريتشاردسون عن جسدها من أجل المتع الصارخة لدافع الموت، تنقلب على لحمها ودمها في عدوان قاتل يوجهه المعتدون من أمثال لافليس في قسوة إلى الآخرين. وهي بذلك تمارس شَعيرة تضحية تُنفَّذ على الملأ، تكون هي فيها الكاهن والضحية المُقطعة في آنٍ واحد. وهي تعبر بذلك كما القربان في العصور القديمة، من الضعف إلى القوة، ومن الموت إلى المجد. وتدرك كلاريسا أن هذا البعث لا يمكن تحقيقه في مجتمعها — الموصوم بخطيئة أولى تتجسد في حالتها من خلال «البريء المذنب» — إلا بالعبور من بوابة الموت على هيئة قربان.16 وكنموذج لفارماكوس، كبش الفداء الذي يحمل على كاهله خطايا المجتمع جميعها، يمثل جسدها المدنس الجرائم والتناقضات لنظام رمزي أكثر قربًا من الحاضر؛ إذ يرمز جسدها المنتهك لوحش النظام الواقعي الذي تجب مواجهته إن كان لهذا المجتمع المهووس بالملكية أن يعيد تشكيل نفسه. إنه الميتانويا أو التحول الروحي الذي سيُطلق عليه لاحقًا اسم الثورة السياسية.17

وإذ كلاريسا تدرك أن هذه ليست حضارة مناسبة لتعيش فيها امرأة، فإنها تنأى بجسدها المستنزف بعيدًا عن الأذى، فتحول موتها إلى مشهد احتفالي عامٍّ رافضة بثبات كل نداءات أصدقائها وأهلها الذاهلين بالتراجع، فهي تصير — شأنها شأن معجبي النظام الواقعي — من الموتى الأحياء، فموتها الجسدي يتمم فقط موتها الروحي. وفي هذا الموقف العصيب فإن السبيل الوحيد لحماية النفس يكون بتسليمها، فبطلة ريتشاردسون تسلِّم نفسها طواعيةً لإغراء دافع الموت، فتحول جسدها إلى نفي صامت للنظام الذي جرَّها إلى الموت تاركة معذبيها المذلولين وأيديهم تخضبها الدماء. لم تُثْبِت المازوخية فيما قبل أعمال هنري جيمس أنها سلاح سياسي شديد الفاعلية، حيث تَنتزع كلاريسا على طريقة البطل التراجيدي الكلاسيكي قوة عارمة من ضعفها الشخصي. ويمكن لنظام اجتماعي عادل أن يقوم على هذا الإخلاص المنعزل اللااجتماعي للحقيقة. إن مازوخية كلاريسا متطرفة؛ لكن هذا التطرف مؤشر لما يتطلبه الأمر في تلك المواقف لكي تولد الحقيقة والعدالة.

يأخذ الشهيد بيد نفسه لمواجهة النظام الواقعي مباشرة، متجاوزًا النظام الرمزي وشاهدًا على حقيقة بديلة بإنكار قوانين العالم حتى في الموت. فالشهداء يؤدون ما يسميه فالتر بنجامين بقفزة نمر إلى المستقبل ناظرين إلى الحاضر كما لو كانوا موتى بالفعل، وكما لو كان الحاضر ماضيًا. فالشهيد يستغل دافع الموت في سبيل قضية قد تعني حياة أكثر وفرة للآخرين؛ وفرة في الحياة مصدرها توقف حياته هو. تبدو تلك حتمًا كذبة يسارية متطرفة للذين يَسْعَوْنَ عمليًّا في سبيل نظام اجتماعي أكثر إنصافًا، والذين يجب مِنْ ثَمَّ أن يلتزموا بدرجة ما بقواعد لُعبته. لكن ثمة فارقًا بين السعي لتحقيق العدالة وتجسيدها، بغض النظر عن السلبية التي قد يُفعل بها الأمر الأخير. وفي المجتمعات التي تُستبعد فيها النساء من الحياة السياسية فإنهن — مثل كلاريسا هارلو — الأقرب إلى ضرب مثل لهذه الصورة الثانية من المعارضة السياسية. تشهد كلاريسا على الحياة الكريمة ليس من خلال التَّوْق إليها ولا الوعظ باسمها، بل بتحويل جسدها إلى دالٍّ سياسي، فتكشف عن الغياب المؤسف للعدالة من حولها من خلال عرض جسدها المنتهك على الملأ. فكما يقول ديفيد وود: «إن تقديم النفس قربانًا يعني تحويل حياة الفرد إلى شيء تتجاوز دلالته هذه الفردية.»18
ثمة وجه معين نَمُرُّ فيه جميعًا بهذا التحول من الجسد إلى الرمز خلال عملية دخول النظام الرمزي؛ لكن الشهيد هو شخص يسلط الضوء بشدة على هذا التحول. فكما هو الحال بالنسبة لكبش الفداء، فإن كلاريسا «تصبح خطيئة» كما في وصف القديس بولس للمسيح. وكلما زادت في ذلك — أي كلما زاد تجسيدها للعنف الإجرامي للنظام الاجتماعي في جسدها ذاته — زادت مكانتها الروحية. فكلما زاد كبش الفداء تلطخًا بالدم زاد طهارة. وفي هذه الحالة يصبح الداء هو الدواء، فمن خلال تنقية جوهر المجتمع الظالم، يشير كبش الفداء إلى ما وراءه. إن ما يكتبه لاكان عن أوديب ينطبق على بطلة ريتشاردسون أيضًا: «ليس موته كموت أي شخص آخر؛ أي، ليس صدفة؛ فهو يموت ميتة حقيقية يمحو فيها وجوده، فاللعنة قُبلت طواعية في سبيل الخلود الحقيقي لإنسان، الخلود القائم على إخراج النفس من نظام العالم. إنه عمل جميل …»19 يذكِّرنا هذا بتفريق ريلكه بين «الموتة الصغرى» بمعنى الموت بصفته حدثًا بيولوجيًّا بَحْتًا، و«الموتة الخاصة»؛ أي الموتة الإرادية المكتسبة صفة الشرعية التي تُخرج الفرد من الحياة بمنطق أخلاقي معين. يكتب لاكان عن أنتيجون أنها تبلغ منتهى الرغبة الخالصة للموت، وهذا كذلك هو الحال مع كلاريسا الملعونة والطاهرة.

تموت كلاريسا لأن قيمة الوجود البيولوجي عندها أقل من قيمة ذلك الشيء في داخلها الذي يتعدَّى حدودها، والذي تطلق عليه الرواية اسم الشرف أو العفة، فالنظام الواقعي الذي ترفض التخلي عنه — جوهر وجودها الذي لا يمكن إنكاره — يسميه صانعها البروتستانتي المتدين باسم الرب. إن روحانية البطلة لا تنبع من رفض الرغبة بل من الإخلاص لها، فقد أدركت أنه لا شيء في ثقافة الاستغلال هذه يستحق أن تشتهيه، وهذا هو السبب في تخليها عن جميع الأشياء. إن هذا النموذج الورِع بشدة، الثوري — الذي ينتصر كبطلة من أبطال ويليام جيمس من خلال الامتناع الواعي عن الفعل — هو ما يصفه النقاد بأنه بليد، مفرط الاحتشام، كئيب، عنيد، نرجسي، مازوخي، مدعي الورع، مفتقر للمرونة. إلا أن ما لا يلتفتون إليه هو أن بعضًا من هذه الصفات محمودة عند امرأة ضعيفة في مجتمع إنجلترا الأبوي.

•••

ما انفك نقد ويليام ووردزوورث خلال معظم القرنين الماضيين ينظر لعمله بعين خيالية. إن الاتحاد التعايشي المحكم بين الطبيعة الكريمة والإنسانية الخيِّرة هو ما لفت انتباه النقاد في عمله، وهو ما يمكن أن نعتبره قراءة ملائكية له. ولم تتراجع هذه النظرة المتفائلة للعالم مفسحة المجال لقراءة أكثر تشككًا وشيطانية إلا مع ظهور كتاب جيفري هارتمان ذي العنوان المباشر «شعر ووردزوورث ١٧٨٧–١٨١٤» عام ١٩٦٤، والذي ربما يعد أفضل دراسة أحادية الموضوع عن هذا الشاعر. إن الخيال في أعمال ووردزوورث (وهو الملكة الإنسانية التي تحظي بالتبجيل الشديد للنقد الأدبي التقليدي) ينفضح في دراسة هارتمان في شكل قوة قاتلة هوسية مدمرة. إنه باختصار انبثاق للنظام الواقعي وليس مبدأ توحيديًّا للنظام الخيالي.

ثمة نمط متكرر في شعر ووردزوورث — يحدده هارتمان بوضوح رائع — يحمل كل علامات المواجهة الصادمة مع النظام الواقعي، ففي لحظة من التفكك المدمر، لحظة تُذكرنا فورًا بالموت والحساب، تشهد النفس لحظة تجمد أو ارتباك عجيبة، يتفتت فيها فضاء الوجود اليومي فجأة وتُشَوَّش فيها الحواس وتنفتح أبواب هُوَّة الخيال من تحت قَدَمَيِ الفرد. فالخيال قوة تُولد نفسها «بلا أب»، تشبه في إفراطها (كما يعلق ووردزوورث) فيضان النيل، ونتيجتها تتمثل في انتزاع النفس في عنف من الطبيعة — موطنها المألوف والوجود المستقر — وغمسها في المقابل في إحساس حادٍّ بالضياع والوَحْدَة. وفي هذه «التجرِبة النهائية» كما يصفها هارتمان، تشعر الروح بأنها غريبة عن العالم، منفصلة عن الوجود اليومي الذي يبدو غير حقيقي وبالغ العبثية. لكن الوجه المقابل من هذا الإحساس بالتفكك الذاتي — كما عند اختبار ما هو سامٍ — هو نجاح إثبات الذات؛ حيث إن الإنسان، إذ هو مغترب عن كل ما كان يعتمد عليه في السابق، يسعد بقوته الداخلية، ويشعر بوعيه وقد ارتفع إلى مستوًى مرتبط بنهاية العالم، ويرى نفسه وقد انفصل إلى الأبد عن كل الظروف المجردة. بوجه خاص، هو يشهد نفسه وقد انفصل إلى الأبد عن الرفقة البشرية، فالخيال في شعر ووردزوورث ليس في جوهره قوة تواصلية بل قوة عازلة. فهو كما يرى هارتمان مرتبط بنهاية العالم بالأساس، وينتهك قطعًا عالم الأشياء والعلاقات؛ إذ يقترن بالقتل والدمار والتضحية واللاإنسانية ونوع من «الجرح التدميري»، وليس (كما قد يفضل الشاعر نفسه أن يراه) بالربط السعيد للنفس بالآخرين وبالأشياء المحيطة، فشعر ووردزوورث يعج بالشخصيات الصارمة الجامدة المنعزلة، وكلها لديها قوة عجيبة على تمزيق الوعي اليومي وتحويله. فعندما يرى الشاعر متسولًا أعمى في لندن في عمله «المقدمة»، فإنه «يستدير بعقله، كما لو بقوة المياه» لرؤية هذا الطلسم العجيب.

إن ما لُمح في هذا الومضات الكشفية المخيفة والملهمة هو قوة خيال لا ترضى بأي شيء في الطبيعة حتى وإن كان ساميًا، وهذا ربما هو نظير الرغبة في علم النفس التحليلي عند ووردزوورث. فكما يكتب الشاعر في الجزء السادس من عمله «المقدمة»:
مصيرنا، جوهر وجودنا وموطنه
في اللاتناهي، وهناك فقط؛
فمعه يوجد الأمل، الأمل الذي لا يمكن أن يموت أبدًا،
والجهد، والتوقع، والرغبة،
وكل ما يمكن أن يُوجد.

لا شك أن مثل هذه العواطف كان لها صدًى إيماني كبير عند قراء ووردزوورث المسيحيين؛ لكن الإشارات الضمنية لهذه الفقرات هدامة أكثر مما يتصور هؤلاء الأشخاص المحترمين. فرسول الطبيعة القدير — برسالته الداعية للخير والسكينة — يُحَذِّرنا من أن الطبيعة مفعمة بالتناقض مع قوةٍ ما غير معروفة، تؤدي إلى التشويش على رؤيتنا وقطع أوصال إشباعنا الذاتي وجعلنا في غير رضًا أبدي. صحيح، كما يصر هارتمان، أن قَدْرًا كبيرًا من جهد ووردزوورث ينصَبُّ على مقاومة هذه الحقيقة الصادمة، وامتصاص هذا التشويش واستئناس مخاوف الخيال. وسيشك ووردزوورث في أن الثورة الفرنسية عمل من صنع الخيال التدميري، يصده فكر عضوي إنجليزي، فمهمة الطبيعة أن تغري الإنسان بنسيان لا محدوديتها الخفية، وأن تربطه بدلًا من ذلك بالعالم الدنيوي. لكن هذا ليس هدفًا سهلًا، فملكة الخيال — كما يشير هارتمان — شديدة التحفظ؛ إذ تسعى لأن تغرس في الناس ذكريات وصورًا لوجود أزلي سابق، كما في قصيدة «إرهاصات الخلود». وهي عند هذه النقطة ليست بعيدة تمامًا عن دافع الموت عند فرويد، وهو قوة أخرى حافظة تسعى لإعادتنا إلى أصولنا الأزلية. فالشاعر يريد أن يؤمن بأن الطبيعة والذاتية شريكانِ، وليسا عَدُوَّيْنِ أَبدِيَّيْنِ. لكن إن كان ووردزوورث يسعى جاهدًا في هذا الإطار لأن يكون شاعرًا للنظام الخيالي أو النظام الرمزي، فهذا لأنه بالأساس رسول للنظام الواقعي.

إن لحظة الرُّكود أو التجمد الكارثي هي أيضًا لحظة تحول روحي، فالذات تزيل أي شيء قد يحول بينها وبين اللانهاية، أيًّا كانت المخاطرة. ففي إطار ما يعتبره هارتمان «التحول الكارثي إلى الجمال المريع» ينتهي عالمٌ قديم ويولد شكل جديد من الوعي. وثمة انطلاق «يعمي البصر» يتخطى فيه الشاعر حدود مشهد مألوف إلى (بحسب كلمات هارتمان مرة أخرى) «مضيق بين صورتين من الوجود». فالنفس التي يستحوذ عليها الخيال تصير نفسًا لأحد الموتى الأحياء، وتهيم في مطهر أو منطقة حدودية بين المحدودية واللانهائية. وكما يقول أوزوالد — الشخصية الشريرة التي رسمها ووردزوورث في مسرحية «الحدود» — عن نفسه: «بَدَوْتُ كائنًا عَبَرَ وحيدًا، إلى فضاء مستقبلي.» يرتكب أوزوالد واحدًا من أفعال الخيانة الكثيرة الموجودة في أدب ووردزوورث، وهو مصطلح يستخدمه لاكان مع النظام الواقعي. فقد خلع عباءة العادات والتقاليد والقانون الطبيعي، وهو عصيان يذمه ووردزوورث ظاهريًّا لكن داخليًّا يُكِنُّ له كل تعاطف، بل إن ووردزوورث في وقت كتابة هذه المسرحية، ظن أن الحياة والوعي والحضارة جميعها كانت قائمة على جريمة أو حالة قتل أُولى في حق الطبيعة.

تسعى الذات، إذ يفصلها عن الطبيعة والحياة اليومية حاجز لا يمكن عبوره، إلى قهر إحساسها بالاغتراب بالتعلق الشديد بشيء أو فكرةٍ ما، في عناد يعتبره هارتمان مثيرًا للشفقة ومخيفًا في آنٍ واحد. ويعج عمل ووردزوورث «أناشيد غنائية» بمثل هذه النماذج التي ليس من الصعب أن نرى من بينها شبحًا لموضوع الرغبة المستحيل عند لاكان، فحتى عندما تعاني شخصيات ووردزوورث من خسارة عادية جدًّا، فإن العاطفة التي يشعرون به تجاهها تكون غير عادية؛ حيث يربطون مثل هذه الأشياء العادية برغبتهم. ويشير هارتمان إلى أن العناد والإصرار سمتان أساسيتان في شعر ووردزوورث؛ حيث إنهما يرمزان لرغبة النظام الواقعي، فثمة إصرار هوسي عنيد لا إنساني يتسم به العديد من شخصيات ووردزوورث؛ إصرار من النوع الذي رأيناه عند كولهاس وشايلوك.

وفي حلم الدمار المخيف الوارد في الجزء الخامس من عمل «المقدمة»، يجد الشاعر نفسه في بَرِّيَّة بلا دليل ولا علامة؛ «كلها مظلمة وخاوية»، وهي إشارة شائعة في شعر ووردزوورث للعزلة والضياع المقترن بظهور النظام الواقعي. ويظهر مرشد حاملًا رمزين لما يربط الإنسان بغيره: حجرًا، وهو ما يرمز إلى الهندسة؛ ومِنْ ثَمَّ — وبعبارة هارتمان — إلى العلاقات الأزلية المجردة؛ وصدفةً، ترمز للشعر أو العلاقات الإنسانية العاطفية. يمكننا القول إن غَرَضَيِ المرشد الرمزيين يشيران إلى البعدين الرمزي والخيالي من الوجود الإنساني: العلاقات المجردة من ناحية والعلاقات العاطفية من الناحية الأخرى. إلا أن الحُلم يتضمن صورًا للدمار الوشيك لكل من الطبيعة والإنسانية، صورًا للمواجهة الحادة مع النظام الواقعي الذي يخشاه الشاعر ويصبو إليه معًا، في الوقت الذي يسرع فيه المرشد الذي يمكن أن ينقذه من الكارثة مبتعدًا، وبعجز الحالم عن اللحاق به يستيقظ فزعًا. إن أعظم شاعر إنجليزي للطبيعة والشعور الإنساني والوحدة العضوية تحركه للكتابة قوةٌ تتنافى مع تلك الثلاثة جميعًا.

إن كانت «كلاريسا» واحدة من الروايات التراجيدية القليلة في إنجلترا قبل أعمال توماس هاردي، فذلك بالأساس لأن فن الطبقة الوسطى في ذلك العصر كان يهدف للتهذيب لا لنشر اليأس. ومثال آخر مهم على تلك الروايات رواية إميلي برونتي «مرتفعات ويذرنج».20 لا شك أن انتماء عَملي ريتشاردسون وبرونتي للنظام الواقعي هو السبب في اتصافهما بالسمة التراجيدية الفريدة المميزة لهما، في ظل مجتمع يفضل أن يُنْهِيَ كُتَّابُهُ أعمالَهم بإشارة إلى الزواج وتأمين الممتلكات ونجاح أهل الخير وفشل أهل الشر. أو بحسب صياغة هنري جيمس: «بذكر توزيع الجوائز والمنح والأزواج والزوجات والأطفال وملايين الأموال والفقرات الملحقة والملاحظات البهيجة.»21 إن رواية «مرتفعات ويذرنج» تقدم بالفعل في تردد لمحة تفاؤل في ختامها؛ لكنه خيط أمل ضعيف وهش، يختفي في ظل المأساة العاصفة لكاثرين وهيثكليف.

من الصعب وصف الرابطة بين الشخصيتين بأنها علاقة؛ حيث يبدو إنها تفتقر لحس الاختلاف. كما أنها رابطة غريبة لا مكان للجنس فيها. وإن كان من الأصعب ذلك أن نطَبِّق عليها خطاب حب أو عاطفة أخلاقي تقليدي؛ فذلك لأن ثمة شيئًا لا إنسانيًّا غريبًا يميز هذا التعايش العنيف لهاتين الشخصيتين الذي يتضح أنه مُنافٍ للأخلاق الرمزية. فكاثرين وهيثكليف، إذ يحركهما تعطش أولي لا يعرف الرقة واللطف، أقرب إلى تمزيق كل منهما الآخر من أن ينتهي بهما الحال أمام كاهن يزوِّجهما، وهما يتخذان طوال الرواية سبيلًا متعذر تغييره نحو الموت. فما يحركهما ليس دافع الحياة بقدر ما هو دافع الموت، كما في سعي كاثرين الساخط لتشق طريقها وَحْدَها، أو عندما يقف هيثكليف — وهو صورة من الموتى الأحياء — متصلبًا كالتمثال أمام نافذتها، فاحتياجهما المحموم لبعضهما بعضًا هو شغف بالنظام الواقعي، شغف يتجاوز لُطف النظام الرمزي إلى بَرِّيَّة بلا معالم تسميها الرواية بالطبيعة.

تمثل روايات شارلوت أخت إميلي برونتي استراتيجيات للمواءمة بين الرغبة والأعراف الاجتماعية؛ إذ يتاح لجين إير أن تُشْبِعَ تطلُّعها لنَيْل روتشستر المتسم بسحر لورد بيرون لكن بطريقة لا تتعدى اللياقة الاجتماعية؛ وبذلك تتركها في وضع مكشوف خطير. ولا يوجد مجال لمثل هذه المواءمة الحكيمة بين الرغبة والعرف في رواية «مرتفعات ويذرنج». فتُجبر كاثرين للاختيار جنسيًّا بين هيثكليف وإدجار لينتون، وهي إذ تصبو إلى لينتون، أغنى مالك أراضٍ في المنطقة، تأمل أن يتحمل عنها أعباء النظام الرمزي بجانب الحفاظ على الرابطة الخيالية مع رفيق صِباها. وبهذا الأسلوب تمتلك — إن جاز التعبير — ذاتين: ظاهرية وواقعية، في الوقت عينه. فنداؤها الشهير «أنا هيثكليف!» يرمز للتعايش الخيالي مع حبيبها، تعايش يرتبط بالعدوان القاتل بقدر ما يرتبط بالاحتياج المتبادل. تختار كاثرين لينتون على هيثكليف في نوع من التعقل الاجتماعي؛ لكن أيضًا لأنه عندما يتعلق الأمر بهيثكليف، الرفيق الذي يمثل وجودُه ضرورةً وجودية لها تضاهي ضرورة التنفس، فإن الاختيار ليس مفهومًا ذا صلة بأي نحو. من الممكن أن يكون الحبيبان أخوين غير شقيقين وهو ما قد يشير إلى إحساسهما المتبادل بأن كلًّا منهما ذاتًا بديلة، وكذلك على أفلاطونية علاقتهما. لكن إن كان هذا هو الحال، فإن التلميح بزنا المحارم يخَيِّم على علاقتهما؛ لكن بما أن زنا المحارم علامة على الرعب الصادم الكامن في قلب النظام الرمزي، وإمكانيته المستبعدة بشدة، فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام الواقعي. وفي هذه العلاقة التي يحركها دافع الموت، يُطوَّق النظام الرمزي من قِبَلِ كلٍّ من النظام الخيالي والنظام الواقعي.

هذا هو السبب في أن سعي كاثرين لمواءمةٍ كمواءمة شارلوت محكومٌ عليه بالفشل؛ إذ إن النظام الواقعي لا يتيح مثل هذه المساومات أو أنصاف الحلول. فهيثكليف زائر قادم من هذا العالم الغريب، وكذلك مكمل خيالي لحبيبته، وهو شخص بربري غير متمدن يظهر في صورة شخص ينتمي للنظام الرمزي لا يُعرَف تأثيره على الأحداث؛ إذ لا مكان له في اقتصاد العزبة الصغير، ويتسبب وجوده هناك في إيقاع سوق الزواج والأملاك في اضطراب عنيف؛ فهو يمثل عند كاثرين الصخور الأبدية الموجودة تحت الغابة، القلب الصلب للنظام الواقعي لمادة الثقافة اللينة. يجسد هذا البربري طليق اللسان، بصفته منبوذًا تتبناه العزبة لكن منفيًّا محبوسًا داخل أسوارها، الحالةَ الملتبسة التي للطبيعة ذاتها التي تجمع بين الاجتماع والانعزال، فالطبيعة تظهر في الرواية نفسها في صورة العزبة المزروعة؛ ومِنْ ثَمَّ كبعد من الثقافة الإنسانية، وفي صورة منطقة موحشة لكن خصبة تتجاوز حدود الوجود المتحضر.

يمتلك هيثكليف سمة من النظام الواقعي تُذكر بالإله يانوس، باعتباره قاتلًا وواهبًا للحياة معًا، فعندما كان طفلًا كان نموذجًا يشبه فارماكوس، الذي هو — بحسب كلمات إيرنشو العجوز — هبة من الرب لكنه شرير كالشيطان. أما وهو بالغ فهو يقدم كلًّا من الحياة والموت لكاثرين بصفته ممثلًا لرغبة تدمر وتُنشئ من جديد في نفس الوقت. فهو شأنه شأن أي نموذج للنظام الواقعي شخص بربري مريض بالهوس الأحادي، يفضل خوض بُحور الدم على التخلي عن رغبته. إن حِدَّة رغبته غير الطبيعية دالَّة على الموت المطلق الذي سيشتهيه. لكن الرواية لا تتعجل إقرار ما يمثله هيثكليف، فهي لا تفصح تمامًا كرهه الذُّكوري لإدجار لينتون المفرط في التهذيب، الذي قد يصل إلى الضعف، لكن الذي حبه لكاثرين حنون وثابت. ومقابل قراءة «عزبة ويذرنج» لشخصية هيثكليف باعتباره مصدرًا للطاقة السامية، يقدم النص في المقابل رؤية «عزبة جرانج» له باعتباره ذئبًا استغلاليًّا، بارون ثَرِيٌّ وبلا رحمة لا يقدس أي رابطة أو عرف. يعد هيثكليف شخصية لا إنسانية لأن ما يمثله يتسامى فوق مستوى ما هو شخصي؛ لكنه شخصية لا إنسانية كذلك بالمعنى الأدنى للكلمة؛ أي رجل يدفعه رفض كاثرين له إلى التفوق على ظالِمِيه في مكائدهم الخاصة بالزواج والأملاك.

مع ذلك وبرغم كل مكره، فإن هيثكليف يتصرف كرجل ميت يمشي على قدمين، فروحه دُفنت مع كاثرين الميتة، والثروة الثقافية التي يجمعها خلال غيابه الغامض عن العزبة لا تُستخدم إلا لهدف تركيع الذين انتزعوها منه، فكلما زاد استثماره باعتباره رأسماليًّا بلا قلب، قل استثماره الروحي في مثل هذه المخططات؛ إذ يحركها دافع الانتقام الخالص من الذين فرقوا بينه وبين حبيبته. فتخطيه للصعاب الدنيوية يتم باسم العالم الآخر، فالنظام الواقعي الذي يتمسك به هيثكليف بهذا الإصرار المَرَضي يختزل بيئته المحيطة الفعلية في اللاواقع حيث تستولي عليه رغبة لا تعرف أي قيد دنيوي. إن رغبة هذا الخبير العنيد في القانون والمال والأملاك لا تنتمي لهذا العالم كما إيمان الناسك؛ ولهذا يأتيه الموت في صورة صديق لا غريب.

إلا أن الرواية تدرك الجانب المُجْدِب والرائع في أخلاق النظام الواقعي هذه، فمن وجهة نظر جرانج بعواطفها المتحضرة وأعرافها المتمدنة، يُعَدُّ كاثرين وهيثكليف طفلين متجادلين، يعد رفضهما للنظام الرمزي علامة على عدم نضجهما الأبدي. وبعجزهما عن تناسي طفولة مثالية تتحول هي إلى مراهقة مشاكسة مدمرة لذاتها، ويتحول هو إلى وحش مفترس. وفي هذا الإطار فإن حب كل منهما للآخر حب ارتدادي ونرجسي في الوقت نفسه، يقع في شَرَك عالم أسطوري ضائع لا يمكنه من خلاله أن يتحول إلى جزء من التاريخ ذاته، فمن الصعب تصور هيثكليف وهو يُشغل غسالة الأطباق مثلًا أو يُحمم طفلًا.

إلا أن نظرة عزبة ويذرنج — أو نظرة المدافعين عن المكان على الأقل — تختلف. فإن كانت علاقة البطلين متجهة نحو الدمار الذاتي، فهذا لأنه ما من مكان لهذا التبادل النقي بين النفوس في المجتمع التقليدي. فالاتحاد الشديد بين هذين الشخصين صعب، ليس لأنه ارتدادي بل لأنه مثالي. وإن كانت علاقتهما سابقة على التواصل الاجتماعي أو مضادة له وليست علاقة ثقافية؛ فذلك لأنها الصورة الحقيقية الوحيدة للوجود المتاحة أمامهما في نظام اجتماعي استغلالي. ولأن الاحتمالات الجديدة التي يشيران إليها لا يمكن أن تتحقق بعد، فعليها في المقابل أن تنتقل إلى نطاق الطبيعة والأسطورة والخيال. وبوصف هيثكليف «هبة من الرب» فإن وجوده في العزبة منحة زائدة في الأساس؛ إذ يُستقبل في هذه الوحدة المنزلية/الاقتصادية باعتباره دخيلًا، بلا دور مخصص له في بنيتها الثانوية المتمحورة حول العائلة. فهو باعتباره فائضًا في نظام العزبة الاقتصادي وغريبًا في عالمٍ تاريخُه قائمٌ على سلالة معينة، فهو يُرحب به أو يُنبذ لذاته هو؛ إذ لا يتمتع بأي وضع سوى كونه إنسانًا. إن نموذج فارماكوس الملوث المخيف يمثل بقايا وفضلات الإنسانية؛ لكن إن أمكن النظر إليه دون خوف واستيعابه داخل حدود الفرد، فإن هذا الغريب الواقف على الأبواب قادر على إطلاق قوة غامضة نافعة.22

كاثرين هي الأخرى وجودها زائد عن حاجة اقتصاد آل إيرنشو المنتمين لطبقة صغار الملاك؛ فهي لأنها مجرد ابنة فهي لا ترث. لكن العزبة لا ترى أي فائدة من هاتين الشخصيتين الجامحتين بخلاف استغلالهما وتجاهلهما، وتتركهما ليديرا شئونهما. فالحب شيء جميل لمن يملكون الرفاهية والموارد للاستمتاع به. فأهل العزبة البخلاء جامدو الفكر لا يمكنهم فهم أي علاقة ليست لها أساس اجتماعي أو أسري أو اقتصادي؛ أي علاقة تتضمن فوق ذلك مساواة حقيقية بين أطرافها في ظل ما تصوره الرواية على أنه نظام طبقي شديد السُّلْطَوِيَّة. إن من بين الإنجازات الجريئة لرواية «مرتفعات ويذرنج» هي تعرية بيت العائلة الفيكتوري باعتباره مسرحًا للعنف البغيض وصراعات القوة البائسة. هذا هو السياق الذي يمكن فيه اعتبار العلاقة بين كاثرين وهيثكليف مثالية، فالنظام الواقعي يتضمن احتمالًا هو تدشين شكل جديد من الوجود تنقطع صلته بالماضي الجائر، وكذلك واقعًا هو إطلاق دمار مرعب في الحاضر.

وكما توجد في قلب رواية إميلي برونتي رغبة تقاوم الدلالة، فإن النص ذاته — بما فيه من رواة شديدي التحيز وأصوات متنافسة وإدراج قصص داخل قصص كحكايات الجدات — كافٍ هو الآخر ليربك أي قراءة مباشرة للقصة. فآلية دمج سرد ربما يكون غير موثوق في سرد آخر يتأكد عدم مصداقيته تتضمن تفكيكًا للترتيب الزمني؛ حيث يلتف التاريخ في النص على نفسه في حركة إلى الأمام وإلى الوراء. وهذا أيضًا يتناقض بكل وضوح مع تكشف قصة شارلوت غير الخطي، بما فيه من ثقة ضمنية في التطور الأخلاقي والتاريخي؛ إذ يوجد في البعد الواقعي ما يربك البعد التاريخي، حيث تدور شخصيات ومواقف وأحداث متنوعة حول دوامته لتشكل دوامة من الزمن.

في أي من روايات شارلوت برونتي، ليس أمامنا مجال كبير للشك فيما علينا اعتقاده بشأنها؛ حيث يُلَقِّننا الراوي العالِم بكل شيء ردودَ أفعالنا في سلطة مفرطة تليق بناظر المدرسة. لكن رواية «مرتفعات ويذرنج» في المقابل تفتقر للسرد الكبير أو الفوقي، كما لو كان الغموض في قلبها لا يمكن تناوله بصورة مباشرة بل بصورة منظورية؛ إذ يُلمَح في الفجوات بين قصة متحيزة وأخرى. لذا فإن الرواية لا تتيح أي اختيار مباشر بين النظام الرمزي والنظام الواقعي، بين هيثكليف باعتباره شخصًا استحواذيًّا بشدة وهيثكليف باعتباره أفقًا ثوريًّا جديدًا، فالمقصود أن نرى الرجل نذلًا ساديًّا، وليس شاردًا لافتًا للانتباه أو جوهرة غير مصقولة. إلا أنه مطلوب منا أيضًا أن ندرك أن سوء المعاملة على يد آل إيرنشو هو ما حوَّله من طفل جريء إلى محتال بلا قلب، فبمجرد أن تُرفض رغبته في كاثرين، تتحول تلك الرغبة إلى دافع مَرَضي للموت والنفي والعنف الذاتي، إلا أن الرغبة نفسها عقلانية تمامًا، لا يعوقها إلا عقبات النظام الطبقي. لقد حُرم هيثكليف الاحترام والتقدير، أولًا من قِبَل آل إيرنشو ثم من قِبَل محبوبته، وقد رأينا من قبل كيف يمكن لهذا الرفض أن يُحَوِّلَ شايلوك وكولهاس وكلاريسا من مواطنين مسالمين إلى رُسُل موت ودمار؛ إذ يوجد في الظلم، أكثر مما في الحقد أو السخط أو حتى في الكراهية، ما قد يدفع الرجال والنساء إلى الجنون.

وبنفس الطريقة غير المتحيزة تريدنا الرواية أن نرى أن الثقافة ليست كل شيء، أن الوجود الإنساني يتسم بشيء من المادية ثَبت أنه يتعارض معه. إلا أنه يراد منا أيضًا أن نُقِرَّ بأن الثقافة ليست على الإطلاق قشرة سطحية، وأن سخط أمثال هيثكليف عليها واعتبارهم أنها جافة لا مبالية، ما هو إلا حكم متحيز. وفيما يتعلق بالغموض، يكون من الصعب على القارئ تحديد طبيعة الحدث الذي أمامه، فهل هو عبارة عن قصة بطولة مأساوية أم قصة خصوم متنازعة؟ هل تكمن الحقيقة — في النهاية — عند نيلي دين المتواضعة الحال وغير المبالية؟ لقد انكشف أن الرغبة قوة مدمرة في جوهرها لا تبالي على نحو خطير بالفُروق الاجتماعية، إلا أنه ليس كل أشكال الرغبة يجب تحقيقها ودعمها، وليس كل التقاليد الاجتماعية زائفة؛ فالنظام الرمزي يوفر الحماية كما يفرض القمع، مثلما أن النظام الواقعي تحويلي وصادم.

•••

بعد أربع سنوات من ظهور رواية إميلي برونتي، ظهرت أسطورة أكثر روعة للنظام الواقعي في ساحة الأدب، فالحوت الأبيض الذي تطارده الشخصية الشريرة آهاب في رواية «موبي ديك» حتى موتها، «مبهم» عَصِيٌّ على المعرفة، بقدر مفهوم كانط «الحقيقة الأساسية أو الماهية الجوهرية»، فكما يقول الراوي إسماعيل عنه: «فكلما أخذته بالتحليل والتشريح، لم أتجاوز في العمق سُمك بشرته، فأنا أجهله وسأظل أجهله أبدًا.» فلون موبي ديك الأبيض علامة على قدسيته، على شيء «جميل وشريف وسامٍ»؛ لكن «ثمة شيئًا مراوغًا في جوهر فكرة لونه يُفْزِع الروح أكثر من اللون الأحمر الذي يعني الدم.» فالأبيض لون النقاء، لكنه لون النفي الخالص، وموبي ديك — مثل سمو الرب وقوة النظام الواقعي — مريع مثلما هو آسر، ملعون مثلما هو مقدس، عدم غريب أجوف لا يَسَع من ينظر إليه سوى أن يُخاطر بالإصابة بالعمى. فالحوت — كما النظام الواقعي — سلب خالص وقوة إيجابية معًا؛ شفرة تستعصي على الإدراك، لكن قوة تدمير عارمة يقع آهاب — الذي استحوذ عليه الموت — في حبها الكارثي. إن الغموض الرهيب لموبي ديك ولا محدوديته التي تبطل كل التصنيفات الحيوانية يُذكر الراوي بالفناء، و«ما في الكون من خلاء ساكن لا ينبض، ومن انفساح لا يحدُّ.» فغياب وجود الأرض، كما يشير إسماعيل، أمر غامض مثل الرب.

إن كان الحوت يضرب استقرار عالم الحيوان، فهو يربك كذلك البطل التراجيدي للرواية الذي يرى فيه تجسيدًا حيًّا ﻟ «كل ما يسلب العقل ويستفز العذاب؛ كل ما يعكر صفو الأشياء؛ كل حقيقة يستكِنُّ فيها الحقد؛ كل ما يفتت القوى العضلية ويضرب العقول؛ كل ضروب الشيطنة الماكرة التي تعشش في الحياة والفكر؛ كل الشر …»؛ إذ يمثل موبي ديك لآهاب التائِهِ طبيعة النظام الواقعي المتعرجة غير المنتظمة، والعيب الخفي في منظومة الطبيعة. وكما يقهر النظام الواقعي الدال بهُناكيته أو الوحشية والمراوغة في نفس الوقت، فإن حتى أكبر المباهج على الأرض — كما يشير آهاب «تتسم بتفاهة معينة لا دلالة لها تكمن فيها.» فهو يرى في «الصفحة البيضاء» للحوت الشرَّ الخالص لدافع الموت، جلبة اللامعنى الشيطاني التي تتردد عبر الكون. إلا أن هذا يرجع إلى أن رؤية القبطان لموبي ديك تمثل رؤية إبليس للرب؛ أي رؤية الرب باعتباره ظالمًا، باعتباره حَكَمًا ورقيبًا وليس صديقًا ومُحبًّا. فموبي ديك في نظر آهاب «شيء ملعون» وإن كان يلمع ببريق سَامٍ عندما يُنظر إليه بعين أقل شرًّا. يمكنك — كما تخبرنا الرواية — أن ترى الحوت شيطانًا أو ملاكًا مقربًا، بحسب حالتك المِزاجية.

إن هذا الوحش شأنه شأن كل الأشياء المقدسة مبارك وملعون معًا، ورغبة آهاب المصابة بالهَوَس الأحادي تجاهه تمثل حبًّا وعدوانًا قاتلًا معًا، مزيجًا من العشق والموت. فآهاب مثل أي شخص شيطاني، لا يمكنه أن يُحصِّل حيوية اصطناعية إلا من الألم الذي تتيحه له كراهيته الممزقة لذاتها نحو الحوت. إنها تلك الحالة من العذاب الذاتي التي يُنظر إليها عادة باعتبارها الجحيم، والقبطان واحد من السلالة الأدبية المهيبة من الشياطين المتعدية للحدود؛ إذ ينتمي إلى النخبة الشيطانية؛ فهو كما يقول عن نفسه: «وُهبت الإدراك العالي … وملعون على نحو خبيث وماكر!» وَحْدَهُ الشيطان — الملاك الساقط — هو من يتقبل حقيقة خالقه، فيقدِّر الدمار لذاته كما يخلق الرب من أجل الخلق ذاته. لقد تجاوز آهاب حدود البشرية إلى أرض لا يصلها إنسان، فيها يتحول — كما يقول على غرار شيطان ميلتون — «كل جمال إلى مصدر شقاء لي.» فهو واحد من الموتى الأحياء، ويتحول وجوده المدمر للذات إلى وجود يتعصب للموت. فحتى ساقه الصناعية العاجية — التي تُصْدِر مع خطواته على متن السفينة صوتًا يشبه الدق على تابوت — هي قطعة من شيء ميت مُدمج مع لحمه ودمه. فقد فعل القبطان ما طُلِبَ من أنطونيو في مسرحية «تاجر البندقية»: لقد ضحى بجزء من جسده من أجل الآخر الكبير، إلا أنه لا يزال لم يَتَلَقَّ أي تقدير من الشبح العملاق الذي يطارده بلا طائل. وكما هو الحال مع هذه الرغبات عسيرة المِرَاس، يُختزل الواقع اليومي في مجرد واجهة مُبَهْرَجَة مُفَرَّغَة من أي مضمون وُجودي: «فكل الأشياء المرئية» كما يقول آهاب «ليست سوى أقنعة كرتونية»، فكل أتباع النظام الواقعي أفلاطونيون بطبيعتهم.

يقول إسماعيل، متأملًا حالة قبطانه البائسة: «لقد خلقت أفكارك مخلوقًا بداخلك.» إنه وتد النظام الواقعي الدخيل الموجود بداخل آهاب الذي يمزق ذاته، فيدفعه نحو السعي لشيء مستحيل؛ لكنه كذلك هو تلك الرغبة المسعورة المحددة التي تتمثل فيها عظمته؛ إذ يستحوذ عليه — شأنه شأن كل أبطال النظام الواقعي — تطلع شغوف للانهاية فيقول: «الحقيقة لا تعرف القيود.» فهو على استعداد للمخاطرة بحياته في سبيل السعي نحو رغبته. ومن هذا المنطلق يدفع إلى حد مأساوي العمل الروتيني لبحارته، الذين يحصلون الحياة من الموت باستخراج قُوتهم من المحيط، فهم أيضًا تجسيد للفارماكوس مثله، وهم مطرودون من الإنسانية، تتميز تجارتهم ﺑ «انعدام الطهارة»؛ لكن، ورغم أن العالم يُقصي هؤلاء المهربين إلى نطاق اللاإنساني، فهو يُجلُّهم كبروميثيوس سارق النار، باعتبارهم موفِّرين للزيت من أجل إضاءة المصابيح التي في البيوت والأعمال. فالحضارة الإنسانية نفسها قائمة على استخراج الحياة من الموت؛ إذ تجبر الطبيعة صعبة المِراس على خدمة الثقافة؛ وهكذا تعكس ازدواجية آهاب عرفًا متحضرًا وليس انحرافًا غير اجتماعي. إن الإنسانية — إذ يصنعها البعد الواقعي اليانوسي المستحيل لرغبتها — هي التجسيد الحقيقي للفارماكوس؛ حيث تقدر على الفداء واللعن بدرجة تتجاوز أعظم مخلوقات البحر. إن كان آهاب تشوهًا في وجه الأرض فذلك لأنه يتمادى في منطق الإنسان إلى حَدٍّ لا يُتصور، حدٍّ تكشف الإنسانية عنده عن نفسها باعتبارها لا إنسانية بقدر ما هي إنسانية في أصدق صورة. هذا هو نطاق النظام الواقعي الذي — لحسن الحظ وسوءه أيضًا — لا يقدر مناصرو النظام الخيالي ولا المدافعون عن النظام الرمزي على الدخول إليه.

وفي رواية أقل تألقًا من رواية ميلفيل، تتضمن رواية «حكاية الزوجات العجائز» لأرنولد بينيت لحظة استثنائية، يتحول فيها هارولد بوفي — وهو تاجر أقمشة عسير الوصف من نورث ميدلاند يتسم بعادات خاصة بالبرجوازية الصغيرة — من خلال حكم الإعدام الظالم لابن عمه إلى شخص غريب على نحو مخيف. يترك هارولد الذي أنهكه الالتهاب الرئوي فراشَه بصعوبة لزيارة قريبه المُدَان في السجن، ثم يذهب إلى كاهن البلدة ليتشاور معه بخصوص عمل مظاهرة سياسية معارِضة للحكم. وتكون نتيجة ما بذله من جهد خارق في سبيل قضية العدالة ميتتين وليس ميتة واحدة؛ حيث يموت بوفي بسبب تسمم الدم. ويعلق الكاتب عليه قائلًا: «لقد افتقر للفردية، فقد كان ضئيل الحجم … لكنني أحببته واحترمته … لطالما أسعدني أن أفكر أن القدر في نهاية حياته قد تولى أمره وبيَّن — لمن يرى — عرق العظمة الذي يجري في كل روح دون استثناء، فقد تبنى قضية وخسرها ومات بسببها.» ويكتب لاكان: «إن الطريق لتحول كل منا لبطلٍ مرسومٌ بداخلنا، فقط علينا أن نكمله حتى نهايته.»23

•••

وفي ختام مسرحية آرثر ميلر «مشهد من الجسر» يدخل المحامي ألفيري ليُلقيَ كلمة خالدة في تأبين بطل المسرحية الذي رحل؛ إيدي كاربون:

إننا نرضى في معظم الأوقات بأنصاف الحُلول، وهذا يناسبني. لكن الحقيقة مقدسة، ومع أني أعلم كيف كان (إيدي) مخطئًا، وكيف كان موته بلا فائدة فإنني أرتجف؛ لأنني أعترف أن ثمة شيئًا نقيًّا يناديني من ذكراه، ليس شيئًا جيدًا خالصًا؛ لكنه شيء منه هو وَحْدَهُ؛ إذ عرَّف بنفسه تمامًا، ولهذا سأحبه أكثر من كل عملائي المتعقلين. ومع ذلك فالأفضل الرضا بأنصاف الأشياء؛ حتمًا. وبهذا أرثيه، عليَّ أن أعترف، ببعض … الحذر.

لا تختلف نغمة ما سبق عن رثاء رواية «حكاية الزوجات العجائز» لهارولد بوفي المقهور لكن العنيد؛ إذ يعكس رد فعل ألفيري المتحير تجاه كاربون ازدواجية خاصة بالنظام الواقعي. فبطل المسرحية يندفع في إصرار نحو موته باسم سمعته التي تلطخت؛ وتبدى المسرحية إعجابًا بالإصرار في تمسكه برغبته، وإن كانت تُظْهِرُهُ بمظهر المغرور إلى حد المأساة. نفس الأمر ينطبق على نظرة مسرحية «موت بائع متجول» لبطلها ويلي لومان، وهو شخصية تموت غارقة في مستنقع الوعي الزائف، لكن عظمته المأساوية تكمن في أنه يعجِز عن تجاهل مشكلة هُوِيَّته. يمكننا القول إن هذا النموذج الأولى للبطل المعاصر يحافظ على «الموضع الأصلي لمتعته حتى وإن كان فارغًا» كما يقول لاكان في سياق آخر.24 فلومان شخصية أدبية أخرى تتحرك بين صفوف الموتى الأحياء؛ حيث يسير بلا تردد نحو مواجهته مع الموت الذي يخبئه له عنوان المسرحية — وهو جزء من القدر في حد ذاته — منذ البداية. أما ما يعجب به ميلر نفسه في بطله فهو «الحدة، الشغف الإنساني بتجاوز الحدود الموجودة، الإصرار المتشدد على دوره الذي وضعه لنفسه.» فويلي مثله مثل العديد من أبطال النظام الواقعي تطارده تفاهة الحياة اليومية ويريعه التناقض بين مطلبه السامي الذي لا يتزحزح وبين «خَوَاء كل ما آمن به» بحسب عبارة المؤلف. ويتابع ميلر: «أرى أنه كلما قلَّت قدرة الإنسان على تجاهل الصراع الجوهري في الرواية اقترب من الحياة المأساوية. ومِنْ ثَمَّ فهو يشير ضمنيًّا إلى أنه كلما اقترب الإنسان من المأساة زادت حِدَّة تركز عواطفه حول النقطة الأساسية لالتزامه، وهو ما يعني أنه يقترب أكثر مما نسميه في الحياة بالتعصب.»25
من السهل إذن أن نفهم حيرة ألفيري الحزينة بشأن عميله المقتول في مسرحية «مشهد من الجسر»، وليس أقل أسباب ذلك أن المحامي شخصية كتبها نفس القلم الذي ألَّف مسرحية «البوتقة». وفي ظل عصر مجرد من المُثُل البطولية، فإن النبل الوحيد الذي يمكن للإنسان إدراكه لا يكمن في طبيعة رغبته، بل في شدة إخلاصه لها. إلا أن هذا الإخلاص يَحْتَمِلُ دائمًا أن يكون مَرَضيًّا. إذًا فنحن بصدد أخلاق شكلية خالصة، أخلاق تتمتع بلمسة من البريق ومسحة من التهور أيضًا. إن مذهب لاكان الذي يقول «لا تَتَخَلَّ عن رغبتك» هو واحد من سلسلة من تلك المذاهب الشكلية، الذي يُعْتَبَرُ المذهبُ الوجودي القائل «تَصَرَّفْ بطبيعتك» أوَّلَها. يسأل لاكان: «ما الذي يجعل فيلوكتيتس بطلًا؟» ويجيب: «ليس سوى بقائه مخلصًا لكراهيته حتى النهاية.»26 أما ما إذا كان إخلاص الفرد الشديد للعشق الجنسي للأطفال يُعَدُّ سُلوكًا بطوليًّا من الناحية الأخلاقية فيظل مسألة غامضة. إن هذه الأخلاق الشكلية هي ما يُعجب بها لاكان عند أنتيجون، وهي إذ تقف على حد من حدود النظام الرمزي بعيد لدرجة أنه يمكنها إثبات القيمة الفريدة لأخيها المقطوعة رأسه دون الإشارة إلى الجانب الأخلاقي أو الآثار الاجتماعية لأفعاله. وفي تقليد امتد من هايدجر إلى سارتر ولاكان، فإن التفرقة المهمة ليست بين الخير والشر بل بين الحقيقي وغير الحقيقي، بغض النظر عن مدى عدم دقة الصفة الأخيرة في حالة لاكان. فنحن يُطلب منا الإعجاب بالشكل السامي أو الجميل للفعل أو الثناء على تطرفه الجريء، بصرف النظر عن محتواه الخطير أو المبتذَل.
إلا أن الأشكال الأدبية للنظام الواقعي تميل للاختلاف قليلًا في هذا الصدد عن بعض النظريات الخاصة به، فكل من لومان وكاربون يفعلان الشيء الخاطئ للسبب الصحيح؛ لكن المسرحيتين اللتين يظهران بهما بدلًا من أن تؤكدا على إصرارهما الشديد على رغبتهما تضعان تلك الرغبة في مواجهة الشيء عديم القيمة الذي تتعلق به. إن عجز هاتين الشخصيتين عن الانفصال عن نفسيهما حماقة وانتصار معًا، وهذه الرؤية المزدوجة جزء من ميراث ميلر الذي ورثه عن إبسن. فالذين يقتربون كثيرًا من النظام الواقعي أقرب إلى الهلاك لرؤية الحقيقة؛ لكن الهلاك لرؤية الحقيقة قد يكون مع ذلك أفضل من عدم رؤيتها مطلقًا. فأبطال ميلر من ناحيةٍ واقعون بين الفريقين؛ إذ يركزون على أشياء مرغوبة زائفة متعددة لكنهم ينتظرون حقيقة بشغف من هذه الأصنام المزينة. من هذا المنطلق فإن لومان — بعبارة لاكان — لم «يبلغ منتهى رغبته»، وهي نقطة — حسبما يشير لاكان — يرى الإنسان فيها أن الحياة ليست مفروشة بالوُرود لكنه ينتبه مع ذلك «للقيمة النسبية تمامًا للتعلقات أو الاهتمامات المَرضية أو الأسباب النافعة.»27 فويلي محق في طلبه التقدير لكنه مخطئ في تصوره أن أشكاله المتاحة له اجتماعيًّا تستحق نيلها. وكاربون مصيب في طلبه استعادة «سمعته» أو شرفه لكنه لا يدرك أنه ضاع نتيجة لأفعاله. وفي ظل مجتمع أصبحت فيه سلعة الأخلاق التقليدية أكثر تزينًا، وزادت فيه حِدَّة الخلاف بين هذا التصور للحياة السليمة أو ذاك، فقد كان من اللازم أن تتحول الأخلاق على نحو كبير لقضية تتعلق بالشكل. وأخلاق النظام الواقعي هي أحدث صور هذه الشكلية.
ويكتب لاكان في إحدى فقرات كتابه «أخلاق التحليل النفسي» عن الخيانة المرتكبة بالتخلي عن الرغبة قائلًا:

إن ما أسميه «التراجع عن الرغبة» دائمًا ما تصحبه خيانةٌ ما في مصير الذات، فستلاحظها في كل الحالات، وعليك أن تَعِيَ أهميتها. فالإنسان إما أن يخون مسعاه وإما أن يخون نفسه، والعاقبة تكون كبيرة بالنسبة له، أو أنه ببساطة يتقبل أن يتخلى شخص قد اتفق معه على شيء معين عن أمله ولا ينفذ اتفاقه، أيًّا كان هذا الاتفاق، مقَدَّرًا أو غير مقَدَّر، أو خطيرًا أو قصير النظر، أو مسألة متعلقة بتمرد أو هُروب، فذلك لا يهم.

ثمة خيانة إنْ تسامح المرء مع هذا، إن كان دافعه فكرة الخير، وأقصد بهذا الخير لأجل الشخص الذي ارتكب فعل الخيانة؛ فالمرء يتنازل لدرجة التخلي عن مطلبه، ويقول لنفسه: «حسنًا، إن كان هذا هو الحال فعلينا أن نتخلى عن موقفنا؛ فلا يستحق أيٌّ منا هذا العناء، وخاصة أنا؛ لذا علينا أن نعود إلى طريقنا المعتاد.»28

والشخص الذي يخون نفسه هو إيدي كاربون، بينما يواجه شايلوك وكولهاس العدو الذي ينكث الاتفاق المُوثق معهما. أما أولئك الذين يَسْعَوْنَ إلى التخلي عن مطالبهم وقبول أنصاف الحلول، فإن الجملة الأخيرة من فقرة لاكان يمكن أن تكون شبه إعادة صياغة لتوسل بيف لومان اليائس إلى أبيه ليتراجع عن قدره: «أبي، أنا بلا قيمة، وكذلك أنت!» أما نظرة ويلي للمسألة في المقابل فتتبلور في الحوار المقتضب مع ابن أخيه برنارد:

برنارد : لكن من الأفضل أحيانًا يا ويلي أن يتراجع الإنسان.
ويلي : يتراجع؟
برنارد : نعم.
ويلي : وماذا إن لم يستطع التراجع؟
برنارد : أظن أن هذا يكون عندما يتأزم الأمر بشدة.

هوامش

(1) Slavoj Žižek, The Ticklish Subject (London, 1999), p. 156.
(2) Ibid., p. 161.
(3) Slavoj Žižek, The Indivisible Remainder (London, 1996), p. 96.
(4) The essay is included in Jacques Lacan, Écrits (Paris, 1966), and translated into English in October, 51 (winter 1989).
(5) Jacques Lacan, The Four Fundamental Principles of Psychoanalysis (London, 1977), pp. 275-6.
(6) Jacques Lacan, The Ethics of Psychoanalysis (London, 1999), p. 176.
(7) Quoted in D. Luke and N. Reeves (eds), Heinrich von Kleist, The Marquise of O—And Other Stories (London, 1978), p. 8.
(8) Ibid., p. 1.
(9) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 300.
(10) Ibid., p. 319.
(11) Jacques Lacan, ‘Desire and the Interpretation of Desire in Hamlet’, Yale French Studies, 55/56 (New Haven, CT, 1977), p. 28.
(12) Karl Marx, Grundrisse (London, 1973), p. 162.
(13) See Terry Eagleton, Holy Terror (Oxford, 2005), Ch. 2.
(14) Lacan, ‘Desire and the Interpretation of Desire in Hamlet’, p. 36.
(15) See Terry Eagleton, The Rape of Clarissa (Oxford, 1982).
(16) The phrase ‘guilty innocent’ is Paul Ricoeur’s, in his The Symbolism of Evil (Boston, 1969), p. 225.
(17) For the political implications of sacrifice, see Terry Eagleton, Sweet Violence: The Idea of the Tragic (Oxford, 2003), Ch. 10.
(18) David Wood, The Step Back: Ethics and Politics After Deconstruction (Albany, NY, 2005), p. 89.
(19) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 303.
(20) See Terry Eagleton, Myths of Power: A Marxist Study of the Brontës (London, 1975), Ch. 6.
(21) Henry James, ‘The Art of Fiction’, in Henry James: Selected Literary Criticism (London, 1963), p. 82.
(22) See Eagleton, Sweet Violence, Ch. 9.
(23) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 319.
(24) Ibid., p. 190.
(25) Arthur Miller, Collected Works (London, 1961), pp. 33, 37.
(26) Lacan, Ethics of Psychoanalysis, p. 320.
(27) Ibid., p. 323.
(28) Ibid., p. 321.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤