الفصل التاسع

ليفيناس ودريدا وباديو

ما من نظريتين أخلاقيتين تبدوان أشد تباعدًا من المذهب الخيري البريطاني في القرن الثامن عشر وفلسفة إيمانويل ليفيناس.1 إلا أن فكر ليفيناس يمثل — من بين ما يمثله — عودة إلى مذهب أخلاقي قائم على الإحساس والشعور، يخرج من عباءة إيمانويل كانط ليعيد القيم الأخلاقية مرة أخرى إلى سياق الجسد الخاضع للاحتياج والبؤس والعاطفة. ويمكن أن نضيف أن ثمة مشروعًا هامًّا من هذا النوع سابقًا على هذا: محاولة ماركس اليافع أن يُحوِّل أخلاق الجسد والإحساس إلى أخلاق شيوعية في كتابه «مخطوطات عام ١٨٤٤ الاقتصادية والفلسفية». إن ليفيناس نفسه — الذي يرى (شأنه شأن آلان باديو) أن الأخلاق تتعارض مع الطبيعة — يعارض بشدة أي نظرية طبيعية من هذا النوع، بل والنظرية الأخلاقية في حد ذاتها. فهو يرى أن مثل هذا الحديث عن الأنواع البيولوجية به صدًى لا يمكن تجاهله من الفكر النازي؛ فالأخلاق عنده أصلها الجسد، لكنها أيضًا متسامية عنه. وهذا النوع من السمو يُعرف بالبعد الشخصي.
إن وجود الذات يعني عند ليفيناس الخضوع؛ وهو ما يعني التعرض للطلب المجحف للآخر الكبير، وهو طلب لا يُخزَّن نفسه في العقل بل «على البشرة، عند أطراف الأعصاب».2 فكما يعلق سايمون كريتشلي: «الذاتية أساسها الإحساس.» ويشترك ليفيناس في الكثير من النقاط مع كانط؛ لكنه لا يشاركه عدم ثقته في الإحساس؛ فالحياة عند ليفيناس هي — كما يقول كريتشلي: «الإحساس والمتعة والطعام. هي المتعة ولذة الوجود.»3 رغم أنه بالنظر إلى التعقيد الشديد لأعمال ليفيناس عصيَّة الفهم عن عمد فإنه يُغفَر للمرء تغاضيه عن الحقيقة؛ فالطعام والمتعة في نظر ليفيناس بنية سابقة على التاريخ نوعًا ما، تتغذى عليها الحياة الواعية، لكنهما سابقان دائمًا عليها. فكما هو الحال مع النظام الخيالي في القرن الثامن عشر فإن الإرادة والتفكير والإدراك كانت عناصر حديثة في المشهد الأخلاقي، وهي مشتقات باهتة من شيء أكثر أولية على نحو كبير. لقد أصاب كريتشلي في رأيه أن الذات الأخلاقية في فكر ليفيناس هي مخلوق من لحم ودم، مثلما يظهر من تعليقات شهيرة له يقول فيها بأن «المخلوق الذي يأكل هو وحده مَن يمكنه أن يتعاطف مع الآخر.» وكذلك (في تعارضٍ مع هايدجر) «الكينونة لا تأكل». فالأخلاق بحسب قوله «ليست هبة القلب بل القدرة على العطاء».4 أما الآخر فهو بالنسبة له إنسان تكمن بداخله صورة توحي باندماج مضطرب وليس متجانسًا للذوات. فمقاربة الأخلاق تكون بالإحساس لا بالإدراك؛ فوجودنا يرتبط بالإحساس، والإحساس نفسه باعتباره انفتاحًا لا نهائيًّا على «الخارج» يعدُّ صورة من السمو في ذاته؛ فالسمو مغروس في أحاسيسنا.

إذًا ففي رد فعل مبالغ فيه بشدة على فكر عصر التنوير تخلينا عن عالم الفواعل الحرة التطوعية المقررة لمصيرها في سبيل دائرة أخلاقية تقوم على إلقاء اللوم على الآخرين والاعتماد على الغير وتتضمن التزامات وليس اختيارات، ولا تسودها حرية الإرادة بل الحساسية المخيفة. فالموت بحسب ما يكتب ليفيناس هو استحالة وجود خطة عمل؛ فالسؤال الأخلاقي التقليدي: «ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟» يتحول إلى: «ماذا يريد الآخر الكبير مني؟» فالأخلاق لم تعد مسألة تحديد ما ينبغي فعله بل ما يمثل حياة جيدة. يتسم ليفيناس بنفور لاكاني لمثل تلك المفاهيم عن الخير الأسمى، وهو ما لا يؤدي في نظره إلا إلى الفشل والإحباط؛ فالأخلاق قضية أهم من أن تُختزل في مثل تلك الاعتبارات الدنيوية مثل السعادة أو الإشباع أو الرفاهية. كما أنه لا يكاد يطيق صبرًا على التصور التقليدي للأخلاق بوصفها تأمُّلًا لمواقف معينة بهدف التوصل إلى التصرف الأنفع فيها؛ ففكرة تحديد مبررات سليمة من أجل تحقيق أهداف عقلانية ليست فكرة يُولَع بها كثيرًا؛ فالأخلاق قضية متعلقة أكثر بوقوع الاختيار عليك وليس صدوره عنك. وقد رأينا كيف يمكن أن نجد نفس تيار السلبية الحكيمة في عالم الإحساس الخاص بالعاطفيين الذين يرَوْن أن مشاعر الشفقة أو النُّفور تتجاوز سيطرة الإنسان الواعية؛ فأخلاق ليفيناس هي أخلاق انهيار وضعف وليس أخلاق إنجاز كبير؛ وهي بذلك لا تنتمي لعالم السياسة والتكنولوجيا ولكن لهؤلاء القلة من اليهود من أبناء بلاده الذين قضَوْا نَحْبهم في سبيل هذه الأشياء. فهو يسعى لاستعادة تناهي الوجود الإنساني من بين أنياب الإرادة المطلقة المتغطرسة؛ لكن اللاتناهي — كما سنرى — سيتسلل عائدًا رغم ذلك في صورة المسئولية — التي لا تنتهي — بعضنا عن بعض. إنه، حسبما يكتب ليفيناس، في لغة تُذكر بالنظام الواقعي عند لاكان «الشيء الكبير بداخلي الذي لا يمكنني أن أحتويه.»

يكمن في قلب فكر ليفيناس الأخلاقي علاقة مع الآخر الكبير، هي لا علاقة أيضًا؛ حيث إن الآخر الكبير مختلف تمامًا وغامض ومستغلق. فليفيناس شأنه شأن لورانس في روايتَيْه «قَوْس قُزَح» و«نساء عاشقات» يسعى نحو علاقة تتجاوز نطاق العلاقات؛ علاقة تتخطى بأسلوب لورانس الخطاب التقليدي المستهلك للإرادة والوعي وعلم النفس والعاطفة والأعراف الاجتماعية والقوانين الأخلاقية والعواطف الإنسانية وما شابه في سبيل عالم فيما وراء الوجود ذاته، ومملكة للروح تتخطى الوجود بكثير. فمخاطر الهيمنة البشرية قد صارت راسخة الآن لدرجة أن العلاقات نفسها، التي لا يمكن أبدًا أن تكون بريئة من القوة، يجب تجنبها. إن الانفتاح على الغيرية الذي لا يمكن السيطرة عليه — على السمو الموجود في قلب الذاتية التي لا تقبل (كما هو الحال مع الرب السامي) المقايضة ولا التلاعب ولا المبادلة ولا التبادل — هو الأساس الذي ينبني عليه وجودي الغارق في الإحساس بالذنب. فنحن بعبارة أخرى لا نتحدث عن العلاقة الفعلية مع هذا الشخص أو ذاك، بل عن العلاقة الأولية أو السامية التي هي شرط لأي علاقة واقعية والتي تمثل مصفوفة تتحرك خلالها مثل تلك الروابط. فالنفس ما هي إلا صدًى لشيء يتخطاها؛ فحتى الآخر الكبير ليس هو ما يستثير حس المسئولية عندي، بل القانون أو اللامتناهي الذي يوجه بطريقته المستبدة الآخر الكبير لمسئوليتي. وإن لم يكن هناك قضية تماثُل أو مساواة أو مبادلة في هذا السياق، وهو ما يعني عدم وجود أخلاق رمزية؛ فذلك لأن الآخر الكبير في ظل تلك الحساسية النابضة الخالصة التي يدل عليها «الوجه» يجردني من استقلالي ويُلقي بي في إذلال صادم. فأنا أسيرٌ لهذا الآخر الكبير الذي يلقي بالاتهامات دائمًا، يأخذني وأنا أعزل تمامًا إلى معنًى فيما وراء الوجود. وهذا التجلي للامتناهي؛ إذ هو علامة على ما تَستحيل تمامًا معرفته الذي يُضعف سيطرتي على نفسي، يُمثل كذلك نذيرًا بموتي.

إذًا فالصدمة — أي تعرض الإنسان لغيرية مطلقة لا تكاد تُطاق، غيرية هي عند لاكان المؤشر على الاضطراب النفسي — تمثل أصل الأخلاق اللاإنساني؛ فالوجود يعني الانفتاح. إن ما يُغرق النفس في الذاتية هو ذلك التعرض دون وسيط للآخر الكبير — حدَّة العواطف غير المحتملة التي ينتجها — وهو ما يتملص من المبادلات غير الشخصية للنظام الرمزي ولا يمر ببوابة الدالِّ. وحيث إن تلك المواجهة هي ما يمثل ميلادي — بصفتي ذاتًا — فإن «اختياري» هو إخضاعي كذلك. فالخير سابق على الوجود؛ إذ إننا بالإخلاص للآخر الكبير نصل إلى الوجود الذاتي، وبما أنني لن أقدر على فهم أو معرفة أو استيعاب أو تصور الآخر الكبير، والذي يعني أيٌّ منها اختزاله في تَماهٍ خيالي مع نفسي، فإن الآخر الكبير يمثل لي غيرية مطلقة؛ غيرية غريبة، مفرطة، غير مشروطة، لا يمكن تمثيلها، فاضحة، لا تُقاس، فردية، مستعصية على رغبتي؛ وبذلك فهو يسمو على فرديتي بصفته الإله الذي يعيش بداخلنا معًا. في الواقع فإن ليفيناس يحول فعليًّا اللاعلاقة الأخيرة إلى العلاقة الأولى. وثمة تيار في الأخلاق المعاصرة يرى أن مفهوم الرب لم يعد له مكان ينقل السمو من الرب إلى شخص الآخر الكبير. ويعمِّق ليفيناس بفعله نفس الشيء لأقصى حد المفارقة المعهودة المتمثلة في أن كل علاقة إنسانية تتطلب بعض الامتزاج غير المقرر بين التآلف والاستقلال، وهو يعمقها لدرجة تقوِّض كلا الأمرين؛ فالأمر لا يقتصر على عدم وجود أدنى تماهٍ أو أرضية مشتركة بيني وبين الآخر الكبير، بل إن خطابه المدوِّي كذلك يصادر على استقلالي؛ فيختزلني إلى نوع من العبد الروحي في حضوره المُبجَّل.

لكن رغم أن الآخر الكبير بعيد وعصِيٌّ على الفهم — لا يُرى إلا كما تُرى الأنا العليا في صورة واجب مستحيل أو قيد يُثقل الكاهل أو اتهام لا سبيل لدفعه — فهو في الوقت نفسه طاغٍ في حميميته، ونوع من الغيرية بداخل جسدي؛ وبذلك يمثل شيئًا يتمتع بطبيعة النظام الواقعي المزدوج؛ فالآخر الكبير قريب وعسير المنال في نفس الوقت، أقرب من أن نتجنبه وأبعد من أن ندركه؛ فهو — إن جاز التعبير — مُعيَّن عندي تلقائيًّا في لا تعيُّنه، دونما إخلال بسموه المطلق عليَّ، وظاهره يبرز خفاءه التام. فالآخر الكبير؛ إذ يواجهني بادعاء ملكية وجودي ملكية مطلقة — وهو ادعاء شأنه شأن القانون الأخلاقي الكانطي لا يمكنني تأكيده ولا تجنبه — فهو يجعل موقعي المستقر في النظام الرمزي مضطربًا، ويَنتهك بقوة كلية عالمي النرجسي، فيُلقي بي في ظلمات الضياع ويطردني من وطني ويجعلني أتحمل عبء مسئولية لا متناهية نيابة عنه. فالإنسان لا يمكنه أبدًا أن يكون على قدم المساواة مع الآخر الكبير الذي يكون من هذا المنطلق في صورة رب لا يمكن استرضاؤه. لا ينظر ليفيناس في هذا الإطار لمفارقة العهد الجديد أن هذا الفرض المريع نوع من الحب؛ الحب الذي برغم استبداديته القاسية يستوعب ضَعفنا من جميع نواحيه، ويَسعد بنا كما نَسعد به تمامًا. ومثلما لا يطلب المسيح من الآثمين التوبة قبل أن يتمتعوا بصحبته، فكذلك الرب يحب مخلوقاته حبًّا غير مشروط؛ وهو ما يعني حبهم بكل خطاياهم. وهذا هو ما يراه الملتزمون أخلاقيًّا، السابقون إلى تطوير أنفسهم، خزيًا أكبر من أن يُقبَل.

تشعر الذات وهي عالقة في هذه المواجهة الأليمة ﺑ «عدم ارتياح في داخلها» وبأنها «مغتربة عن نفسها» وغارقة في الشعور بالذنب الذي لا يُغتفر، كما لو كانت ترتدي قميص هِرَقل السام. وكما هو الحال عند أنصار مذهب الخير، فإن الآخر الكبير يبدأ عملية إخراج النفس من المركز، وإن كانت أكثر رعبًا وقابلية للتغير في أعين ليفيناس من أعين القرن الثامن عشر المشتهر بتحضره؛ فالتزام المرء تجاهه يمتد لما وراء المنطقية الحضرية لهيوم وبيرك، نحو هذا العطاء الذاتي غير المحدود الذي تأمر به المسيحية اليهودية. إن وضع الآخر الكبير المطلق ولا محدودية فروضه هما الشيء الصادم؛ فالذات إذ تواجه هذا الحضور المُشكِل تنقسم في لا تَماهٍ مع النفس؛ فتصير بائسة وليس مستقلة، عاجزة على نحو دائم عن التوافق مع نفسها. وكل هذا — كما في مذاهب الأخلاق العاطفية — يحدث في أعماق النفس السابقة على التفكير وعلى التاريخ، السابقة على المعرفة أو الإرادة أو الالتزام أو الوعي أو القرار الحر. فهذا الآخر الكبير أبَديٌّ على نحو مزعج، وموجود خارج أي سياق اجتماعي أو تاريخي، ومجردٌ من أي دلالات ثقافية محددة، وسامٍ فوق كل العوامل الأخلاقية أو النفسية. لا يبدو أن ليفيناس يدرك أن تجريد الذات من سياقها الاجتماعي يجعلها أكثر تجردًا لا أكثر قربًا؛ وبالتالي أكثر شبهًا بالذات المتحجرة في عصر النهضة التي يبغضها.

إن تاريخ الأخلاق هو ما يسعى ليفيناس لدراسته؛ هذا الكشف عن الغيرية الأصيلة التي تجري في أعماق تكويننا السابق على الوعي لدرجة أنه لا يمكن اعتبارها حدثًا أو تجربة والتي بالتأكيد تتفادى أي شيء مباشر كالتصوير العقلي (وفي الوقت نفسه يرفض ليفيناس الحديث عن العلم الذي من المفترض أن يدرس هذه الغيرية الأصيلة؛ ألا وهو علم التحليل النفسي). وهذه المواجهة الأخلاقية الأولية هي مصدر كل المعرفة والفكر؛ ومن ثمَّ تلوح في صورة أصل الذاتية نفسها. فمن خلالها، تبدأ الحقيقة في التكون؛ فالحقيقة هي التعرض الطائش للفرد للآخر الكبير فيما قبل أي خطاب تأمُّلي. كما أنها منبع الإبستمولوجيا؛ إذ إنه من خلال تعاملاتنا مع الآخرين نؤسس عالمًا موضوعيًّا مشتركًا. إن الحقيقة الموضوعية للآخر الكبير — وطغيانه الفينومينولوجي البحْت على أفق رؤيتي — هي نموذج الموضوعية بصفة عامة.

كذلك فإن الآخر الكبير هو ما يكمن في أصل النفس، والمسئولية عن الآخر الكبير هي شرط للمسئولية عن النفس. فالنفس هي الآخر الكبير وتميزها يرجع إلى تحملها عبء الخطيئة والذنب نيابة عن الآخر الكبير على النحو الفريد الذي لا يطيقه سواك وسواي؛ فمسئوليتي عن هذا الآخر الكبير الفاتن مسئولية أولية، مسئولية سابقة على كل الالتزامات الاجتماعية أو الأخلاقية المحددة، مسئولية سابقة على كل القوانين أو الوصايا الكلية، بل وعلى أي خطاب. في واقع الأمر، إن الآخر الكبير هو من ينشئ اللغة، حيث إن أصل الكلام يكمن في الاستجابة الملفوظة لحضوره المُربك. كما أن الآخر الكبير سابق على الحرية؛ حيث إن الحرية ليست مسألة اختيار فردي بل «إلزام من الآخر الكبير» يحكمه أمره المخيف وتفرضه صرخته التي لا يمكن تجاهلها في أعماق النفس. ففي مواجهة مع الآخر الكبير تكتسب حرية النفس معنى من خلال مسئوليتها؛ فالكائن الحر وحده هو من يمكن أن يكون مسئولًا؛ وهو ما يعني أنه ليس حرًّا على الإطلاق بأي معنى للكلمة مألوف في التراث الليبرالي الحديث الذي يحرص ليفيناس عن إبعاد نفسه عنه. ففي وجود الآخر الكبير لا يمكن للمرء أن يقترف فعلًا إراديًّا بلا قيود أو يتخذ قرارًا محايدًا. إننا نتحدث عن الجبر وليس الاختيار.

إن ما يفرضه الآخر الكبير — مثل ما يفرضه القانون الأخلاقي عند كانط أو الأنا العليا عند فرويد — فرضًا لا محدود ومفرطًا وغير ملفوظ، ولا يمكن الوفاء به، ويتجاوز كل إدراك. وهكذا الحال بالنسبة للاستجابة التي يستثيرها الآخر الكبير بداخلي؛ إذ يجب أن أعتبر نفسي مسئولًا عن كل آخر كبير، بل ومسئولًا عن مسئوليتهم، ومسئولًا عن موتهم (وليس منشغلًا بموتي أنا بالدرجة الأولى، كما عند هايدجر)، ومسئولًا عن الجرائم التي يرتكبها في حقهم الأشرار. بل إنني حتى مسئول عن اضطهادهم لي. قد يتساءل المرء عما إذا لم يكن ثمة أثر ما من جنون العظمة العكسي في هذا نكران الذات المفرط؛ إذ يبدو تحمل مسئولية الجميع نوعًا من العُصاب أكثر منه نظامًا أخلاقيًّا، فأنا متهم ومضطهد بل ومهووس بإلزام الآخر الكبير الذي لا يتزحزح و«منقلب بطنًا لظهر» ومحطم معذب ومرتد بسببه إلى فراغ وجودي الصامت. فأنا مجبر — بسماعي نداءه الصامت — على الشك في قيمة وجودي البائس وأتجه لاحتقار النفس وأُجرَّد من أدواتي المتواضعة في نفس اللحظة التي يستدعيني فيها الآخر للفعل الحاسم بالنيابة عنه. فعين الفعل الذي يمثلني باعتباري ذاتًا يبعدني عن وجودي. فأنا دائمًا ما أكون في نطاق الخطأ أمام الآخر الكبير، دائمًا ما أكون البريء المذنب؛ فالذات تظهر إلى الوجود على هيئة كبش فداء.

إلا أن مسئولية الفرد عن الآخر الكبير لا أصل لها إلا في ذاتها؛ إذ لا يفرضها أي قانون أو عرف أو مجموعة من القيم؛ فهي سابقة على كل هذا. فما هي إلا أمر سامٍ غير معروف — «كن مسئولًا!» — يتردد صداه من مصدر لا نعرفه، ويجب علينا الإنصات إليه دون معرفة السبب. فليفيناس شأنه شأن العديد من المفكرين الفرنسيين المعاصرين يجعل من الجهل فضيلة. إلا أن هذا الأمر الغامض هو أيضًا أساس ما له دلالة؛ أساس القانون والمعرفة والعدالة والأخلاق والأنطولوجيا والسياسة وما شابه. فهذا «الوجه» — أي الضعف المتألم البحت للآخر — يسبق كل الخطاب الأخلاقي والسياسي؛ ورغم أنه يطرح هذه القضايا أمامنا فيجب ألا تنحرف كثيرًا عن أصلها في المواجهة المباشرة. فالنظام الرمزي باختصار أساسه في النظام الواقعي؛ إذ إن البعد الأخلاقي هو نموذج ليفيناس من هذا المفهوم اللاكاني، نموذج تتمتع فيه «العلاقة» مع الآخر بكل سمات القوة الصادمة والاستبداد والاغتراب الذاتي والعناد والاضطراب والتجرد من التاريخ والأبدية والفردانية وعدم الارتباط والاستحالة والهوس والقوة التحولية للأخلاق التي فيما وراء الأخلاق عند جاك لاكان. وكما سنرى لاحقًا في مفهوم «الحدث» عند آلان باديو، فإن الآخر الكبير عند ليفيناس كشف لا يمكن توقعه، ينتهك بعنف حدود المعروف والممكن معرفته، وهو خلال ذلك يؤذِن بميلاد نوع جديد من الحقيقة في منطقة بعيدة جدًّا عن الإدراك التقليدي. فإن كان النظام الواقعي يتضمن أيضًا مراقصة الموت فإن مبالغات المخاطرة والكشف الذاتي هذه موجودة عند ليفيناس في صورة هجرنا لذاتنا من أجل الآخر «الكاره» الذي يُهدد في كل لحظة، مثل الجار العدائي عند فرويد، بتدميرنا بحقده.

في الواقع فإن نظم لاكان الثلاثة جميعًا تتداخل في أعمال ليفيناس؛ ففي قلب فكره تكمن العلاقة الفريدة المباشرة غير القابلة للاختزال القائمة على الشفقة والرحمة والمسئولية، في إشارة واضحة في سياقنا إلى النظام الخيالي. صحيح أن مكان الآخر باعتباره هدف الخير قد شغله الآن الجار الغريب المكروه؛ التجلي المريع للنظام الواقعي؛ لكن الوضع المميز للعلاقة المباشرة يظل ثابتًا إلى حد كبير؛ فوجه الآخر الكبير ظهور أو تجلٍّ «يناديني باسمي» أو «يحييني» أو يستنطقني، كما في نسخة ألتوسير الخيالية من الأيديولوجيا، حتى وإن كان هذا الاستنطاق في حالة ليفيناس يعني تركي معدمًا وليس مرتاحًا في بيئة اجتماعية مألوفة؛ إذ يسعى ليفيناس — مثل أنصار مذهب الخير — إلى تقويض الأخلاق التي تقوم على الأنانية، وإن اختلف كل منهما فيمن يستهدف: فهم يستهدفون هوبز، ويستهدف هو هوسرل. إن التقارب بين الذوات هو محل الجدل هنا؛ «المداعبة» أو «التلامس» أو «التلاصق» شبه الجنسي فيما بينها؛ فالمواجهة التي تتم لا يتوسطها أي محتوى؛ بل إنها ما يصفها ليفيناس بنبرة تحذيرية ﺑ «التواصل الخالص؛ أي تواصل من أجل التواصل».5 فليس ثمة ما هو مبتذَل أو «رمزي» بقدر المحادثة في هذا النطاق المقدس.
يزعم ليفيناس أن «آنية العالم الحسي هي مناسبة للتقارب وليس المعرفة.»6 فلا ينبغي أن نخلط بين العالم الحسي، أو «القدرة على الحس» كما يسميها ليفيناس أحيانًا، وبين شيء أدنى هو نتاج التجربة العملية كما عند هيوم أو سميث. إن «التقارب» شكل من أشكال التواصل بين الناس يعد أكثر قربًا وحميمية من أي إدراك، بل وأكثر من أي شعور أو حدس معروف؛ فحضور الآخر يصلني بنفس السرعة وبصورة سابقة على التفكير كما عند هتشسون أو هيوم؛ فهو لا يعتمد على أي فعل أو نية أو مبادرة من طرفي. ولسنا نتحدث هنا عن وساطات النظام الرمزي حيث يتكون الوعي بسبب انعدام الآنية، ويولد من الفجوة بين فعل الإحساس لدى الذات والشيء المحسوس؛ فالذوات والأشياء بالمعنى المألوف ليست متعارضة إطلاقًا. فإن كان الآخر الكبير شيئًا متعلقًا بالمعرفة، فهو شيء خاص بمعرفتي، وهكذا فهو لن يوجد على الإطلاق لأنه عجز عن الإفلات من الأنا المستهلكة لكل شيء.
إلا أن هناك عالمًا خياليًّا يخرج تمامًا من دائرة الإدراك لا يدعمني فيه الآخر الكبير بقدر ما يتفتت؛ فالعلاقة المميزة بين الذات والآخر الكبير تغادر العالم الخيالي لكن لا يغادر أي مما كان فيها من رضًا عن النفس وتبادلية عفوية؛ فالانعكاس الذي قد يمتد لما لا نهاية للذوات عند فلاسفة القرن الثامن عشر يوقفه الآن عبء مسئوليتي الذي لا يُطاق. يكتب ليفيناس قائلًا: «إن الدوامة … دوامة معاناة الآخر وشفقتي من معاناته وألمه لشفقتي وألمي لألمه، وهكذا تتوقف عندي.»7 فالتبادلية تتحول إلى عدم تماثل؛ فدائرة المواجهة المباشرة تحتفظ بحميميتها السابقة على التفكير المتسمة برُهاب الاحتجاز، لكن الروابط العاطفية المتدفقة بين الذات والآخر تنقطع لدرجة تجعل الآخر الكبير يتراجع هو وهالة النظام الواقعي المهيبة إلى منطقة تتجاوز الإنسانية الطبيعية أو العلاقات المعروفة. إن كان العالم الخيالي مجالًا للتلقائية فإن المواجهة عند ليفيناس تشرد الذات وتزعجها فتلقي بتلقائية النفس بعنف في غيوم الشك. ويصر ليفيناس على أن الآخر الكبير ليس أنا بأي حال وأننا لا نتشارك الوجود. إن ما يربط كل منا بالآخر، إن جاز التعبير، هو اختلافنا؛ إن الحاجز الذي لا يمكن عبوره بين نفسي والآخر الكبير، الاختلال غير المحدود للعلاقة أو اللاعلاقة بيننا، هو الذي يشكل ماهيتي؛ فالرغبة هي رغبة الآخر الكبير تمامًا.

لكن أيًّا يكن الآخر الكبير هذا، فهو ليس مُرضيًا أو مرغوبًا بالمعنى التقليدي. إن الاختلاف والغيرية المؤلمتين الخالصتين وليس الأنا البديلة المبهجة للنظام الخيالي مربط الفرس هنا؛ فنحن في عالم السمو اليهودي وليس عالم الحضور القابل للتحديد الإغريقي. ويحتقر ليفيناس بأسلوبه المعتادِ المعارضِ لفكر التنوير مفهومَ التماهي؛ لذا فإن فكرة التعاطف مع الآخر الكبير ليست محل نقاش إطلاقًا. ومن هذا المنطلق فإن نظامه الأخلاقي يتمثل في الفرضية المضادة للنظام الخيالي. فبينما يعبر وجه الآخر عند فرانسيس هتشسون عن مشاعره، فإن ما يعبر عنه عند ليفيناس هو اللاتناهي؛ فالنظام الخيالي في عمله «الكلية واللانهاية» هو حيث نشعر بالألفة ونعيد اللانفس إلى سيادة التماثل والفردية. وفي هذه الحالة فإن العالم يستسلم لرغبتي ويندمج الآخر في النفس باعتباره مصدرًا للمتعة حتى تصبح الغيرية لذة لا تهديدًا. هنا إذًا يكمن مكافئ ليفيناس لطور المرآة الذي هو بعيد في رأيه عن أن يكون أساسًا لنظام أخلاقي صحيح.

يتسم الآخر الكبير عند ليفيناس بشيء من اللاإنسانية المستبدة، حيث يمثل حضوره الجسدي قانونًا مخيفًا أكثر من كونه أساسًا للصداقة. فكأنما لغة العاطفة تُستخدم في مجالٍ يتجاوزها بقدر غير محدود. إن كان هذا عالمًا جسديًّا فهو عالم جسدي متكلف على نحو مثير للاشمئزاز، وهو بعيد عن مشاعر التعاطف اليومية عند هتشسون وهيوم. فما من تجانس أو دفء هنا، وما من سرور حيوي بوجود الآخر. يذكِّرنا هذا بتعليق بروس روبنز على فقرة من زيجموند باومان: «إن الجانب الآخر لتقديس باومان للموت في سبيل الآخر الكبير هو الاحتقار المتفاخر للحياة التقليدية وعدم الفهم الأعمى لأي سبب آخر قد تستحق من أجله الحياة أن تُعاش.»8 فنحن لا نتحدث عن التناغم والاتحاد والتعاطف وخلافه، بل عن «علاقة» أو تجلٍّ صامت يبدو أنه يسمو تمامًا فوق هذا الخطاب الأخلاقي التقليدي؛ فنحن باختصار على الجهة المقابلة من مبدأ المتعة. يشير ديفيد وود في عمله «الخطوة المتراجعة» إلى أن علاقة الالتزام غير المتماثلة يمكن الجمع بينها وبين علاقات الصداقة والتعاون. لكن ليس هذا الحال بالأساس كما يبدو عند ليفيناس.

يتسم الآخر الكبير في جانبه اللوام الاتهامي بشيء من القانون الرمزي وكذلك بعض من النظام الواقعي القاسي؛ فهو قانون مثل قانون كانط بلا مضمون أخلاقي ملموس. وهذا يحل إشكالية معينة عند ليفيناس؛ إشكالية يشترك فيها — كما سنرى لاحقًا — مع عدد من رفاقه الفرنسيين؛ إذ إن خياله قليلًا ما تستحوذ عليه فكرة النظام الرمزي الذي يرمز بدرجة كبيرة لما تسعى المواجهة مع الآخر الكبير لمنعه: الحرية، والتماثل، والاستقلال، والمساواة، والتبادل، والتمثيل، والمشروعية، والاجتماع، والمعيارية، والمفاهيمية، والحساب، والقياس، وقابلية الاستبدال، وغير ذلك. في معظم الأحوال يتسم ليفيناس بأسلوب كيركجارد النبيل في التعامل مع كل هذه الظواهر الرتيبة. لكن إن اختُزل النظام الرمزي فيما لا يتعدى أمرًا استبداديًّا لكنه فارغًا — إن احتفظنا بمفهوم الواجب الكانطي لكن مع استبعاد الرؤية الملازمة له للناس باعتبارهم أحرارًا متساوين قادرين على التبادل — فإن أبغض ما في النظام الرمزي يمكن استبعاده من تاريخ الفلسفة. فيمكننا أن نقول إن تصور ليفيناس عن واجب كانط شأنه شأن تصور جاك دريدا عنه متعلق بالالتزام دون التبادل. ومن بين نتائج هذا التحول هو أن الإلزام الرمزي يبدأ في الاندماج مع الأمر الغامض للنظام الواقعي؛ فبمجرد تجريده من الأساس العقلاني الذي يوفره له كانط، فهو يظهر في صورة غامضة لا أساس لها، وإن كان مطلقًا في قوته مع ذلك — تمامًا لأن المطلق لا يمكن التعبير عنه — بما يتجاوز كل المنطق أو القواعد. إنه إذن عين الفرض الذي يشترطه مفكرو ما بعد البنيوية الذين يريدون الحديث عن الإلزام الأخلاقي مع التمسك بأفكارهم عن الغموض واللاتعيُّن، وكذلك الاحتفاظ بهالة معينة من اللاتناهي.

من المؤكد أن ليفيناس يمتلك مفهومه الخاص عن قابلية الاستبدال؛ إذ يجب عليَّ أن أكون مستعدًّا لأن أحل محل كل الآخرين لدرجة الموت بدلًا منهم، بل إن هذا الحلول محل الآخرين هو ما يمثل ميلاد الذات. إن بوضع نفسي محل الآخر أكون ما أنا عليه؛ فالحرية هي استبدال حريتك بحريتي. لكن علاقة المسئولية هذه تجاه الآخرين لا يمكن عكسها كما هو الحال في النظام التبادلي الرمزي؛ فهؤلاء الآخرون لا يمكنهم الحلول محلي بدورهم؛ حيث إني دائمًا أكثر مسئولية منهم. وثمة مبالغة غريبة في الزهد هنا؛ حيث يشبه الأمر هنا شخصين يجتهد كل منهما من أجل التفوق على الآخر في الركوع، فاستيعاب موت النفس وإدراك الاستحالة المطلقة لاستبدال النفس يفضيان بدرجة كبيرة إلى الشيء ذاته؛ لذا فإن الآخر لا يمكنه أن يموت من أجلي؛ لكن كذلك لا يمكنني افتراض موت الآخر حتى وإن مُتُّ بدلًا منه، وهذا أيضًا مؤشر على فرديتي التي لا تُختزَل. في الواقع ليس من الواضح أن منطق «لا يمكنني الموت بدلًا من شخص آخر» يختلف جوهريًّا عن منطق «لا يمكنني النوم بدلًا منه» أو «لا يمكنني أن أعزف على آلة نفخ بدلًا منه»؛ لكن الموت في نظر ليفيناس يؤذن بانعزال الذات النهائي. ويشير جاك دريدا على نحو مماثل في عمله «هبة الموت» إلى أن الإنسان يمكنه أن يموت لأجل شخص آخر بمعنى أن يحل محله وليس بمعنى أنه يجنبه فناءه. ففعل هذا — كما في عقيدة البعث المسيحية — هو الهبة المطلقة. إذن فالتبادل الرمزي يتراجع أمام فردية النظام الواقعي. فموتي — بحسب كلمات دريدا — لا يمكن أخذه ولا استعارته ولا نقله ولا الوعد به ولا إرساله. إن استحالة الاستبدال المطلقة للموت هي عند كلا المفكرَين الحجة النهائية التي تدحض النظام الرمزي. ولا يبدو أنه خطر لهما أن الشيء نفسه ينطبق على طريقة المشي أو نمط الحديث. وهذا يرجع ربما إلى أن موضوع الموت — منذ الكتابات الأولى لهايدجر — قد صار مؤشرًا على العمق الفلسفي.

يسري مبدأ الاستبدال عند فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر على مستوى الأنا. أما عند ليفيناس فهو يسري على مستوًى أعمق بكثير، في مكان يكون فيه المرء غريبًا عن نفسه، غير متآلف مع ذاته، كمستأجر ليس كمالك مكان، «مطارد في وطنه» حسب تعبير ليفيناس في عمله «غير الكينونة». فالحقيقة أنني لست مجرد كائن واحد بين الآخرين، وكذلك هم. فأنا لست جزءًا من الكلية التي ينتمي إليها الآخرون وهم ليسوا كذلك أيضًا من منظورهم. لكن النفس لا تساوي نفسها؛ فهي جزء لا يمثل أي جزء، ونهاية كل نسق أو بنية أو سرد كبير، فالأخلاق من هذا المنطلق هي نهاية الأنطولوجيا؛ فالبشر لا يمكن جمعهم في إطار كلي واحد، والأنطولوجيات التي تسعى لفعل هذا يمكن أن تؤدي بسهولة إلى تعزيز الشمولية السياسية. ومن هذا المنطلق فإن ليفيناس أحد أوائل مفكري ما بعد الحداثة، فحذره المفرط من التماهي والكلية ينبع من تاريخ الوحشية الفاشية والستالينية؛ إذ يرى — شأنه شأن بعض من خلفه من مفكري ما بعد الحداثة — أن ما هو كلي يفضي بالتأكيد إلى معسكرات الاعتقال. ولهذا فهو — مثل دريدا — يعتبر فكرة المجتمع قضية خيالية في جوهرها؛ أي انعكاس تأملي لكل فرد على الآخر في إطار مجموع عضوي وشفاف على نحو مشئوم. ولم يعد من المسموح وجود مفهوم معقد أكثر للرُّفقة البشرية؛ فعندما يفكر ليفيناس في التضامن يفكر في الفاشية وليس في حركات المقاومة التي حاربت من أجل التغلب عليها. وكما الحال مع دريدا فإن فكر ليفيناس الأخلاقي يمثل من بين عدة أشياء عرضًا لحقبة تضرر فيها مفهوم الاجتماع الإنساني بأكمله لدرجة يتعذر بعدها إصلاحه، على يد مناصريه ومعارضيه معًا؛ فهو في أشد صوره سلبية يمثل علامة على الضمور التدريجي لفكرة المجتمع؛ فالسياسة هي المشكلة الآن، لا الحل.

إلا أن الفردية الغيورة ليست هي ما وضع حدًّا للستالينية. ولم تكن الجيوش التي سحقت هتلر مصطبغة بغيرية متسامية. إن ما يمكننا تسميته بوجه عام بأخلاق ما بعد البنيوية أو ما بعد الحداثة يعكس من بين ما يعكس نقصًا كبيرًا في مستوى الشجاعة السياسية عند نخبة فكرية أوروبية ليست فقط في مواجهة القوة الهائلة للرأسمالية العالمية لكنها لا تزال أسيرة فكرة معسكرات الاعتقال وغرف الغاز. ولا ينبغي اعتبار نقص الشجاعة هذا مشابهًا للإيمان الضعيف للتروتسكيين المنشقين في ظل علو راية اليسار. إن الإيمان قد يكون مُهلِكًا، ولا نحتاج للتذكير بهذا في حقبة تعج بالتعصبات المجنونة المتنوعة؛ فنحن نحتاج لدرجة من اليقين لكي ننجح، لكن الزيادة عن الحد في هذا الإطار قد تكون قاتلة؛ فالبراجماتية الليبرالية المتحفظة مع التشكك الصحي في السرديات الكبرى قد تبدو هي قانون العصر. لكن رغم أن هذه البراجماتية يمكن أن تصارع اللاعقلانية المتحجرة فهي عاجزة عن تغيير الظروف التي أدت إليها. كذلك فإن كان صراع القرن الحادي والعشرين بين الرأسمالية والقرآن (أو قراءة مغرضة لذلك النص) لا يمثل سردية كبيرة، فمن الصعب تحديد ما هو كذلك.

إن حوَّل الفرد القانونَ الأخلاقي إلى دعوة للآخر الكبير السامي المستغلق، الذي هو مفرد وفريد وليس بعيدًا ومجهولًا، فيمكنه التمسك بالإلزام الكانطي الغامض مع استرجاعه من النظام الرمزي الذي ينظمه. يوظف ليفيناس لغة الواجب الخاصة بالنظام الرمزي باصطلاحاتها عن الإلزام والفرضية والواجب والذنب والمسئولية وما شابه؛ لكنه يفعل ذلك بأسلوب يقوض أطروحات النظام الرمزي المألوفة كالقانون والخطاب الأخلاقي والعلاقات الاجتماعية والممارسات السياسية الجماعية. وهو في نفس الوقت يتبنى اصطلاحات النظام الخيالي — البشرية، والجسدية، والحياة، والمتعة، والحس، والمعاناة، والألم، والسلبية، وغيرها — بأسلوب يباعد أيضًا بينه وبين النظام الرمزي. ويبدو أن ليفيناس — مثل لاكان — يفترض (افتراضًا خاطئًا كما سنرى) أن الأخلاق تتعلق أساسًا بالالتزام؛ لكن طرح هذا الالتزام باعتباره قضية تتعلق بالجسد والعيش، بالنفس والآخر الكبير الذي لا مثيل له، يعني إنقاذ الفكرة مما قد يُعتبر الجانب الأقل استساغة والعقلاني الجاف من فكر كانط.

من ناحية، ليس القانون متماهيًا مع الآخر الكبير؛ حيث إنه منزَّل من مكان يتجاوزه ويتجاوزني على نحو لا متناهٍ. ومن ناحية أخرى فإن القانون ليس أقل من الآخر الكبير هذا عينه. ويصير علم الواجب الأخلاقي هو علم الفينومينولوجيا؛ إذ تتجسد رحا القانون الأخلاقي التي لا تَرحم في إلزام الآخر الحتمي الذي لا يكاد يُطاق. تظل قسوة القانون الأخلاقي الكانطي راسخة؛ لكن انعدام الواقعية الوحشي فيه تخفف من أثره مفردات فينومينولوجية (الانفتاح والغيرية والجسدية وغيرها) تحظى بقبول أكثر في أواخر عصر الحداثة أو بداية عصر ما بعد الحداثة؛ إذ يصير الإحساس وسيلة الإلزام. ويحتفظ القانون بكل تساميه اللاإنساني؛ فهو أمر غير مقيد بقدر قانون كانط؛ لكنه يتجسد الآن في هيئة مخلوق بائس ذي إحساس مثلي. ومن هذا المنطلق يمكننا القول إن القانون الأخلاقي في نفس الوقت يعود إلى النظام الخيالي ويتحول نحو النظام الواقعي. فكأنما لو أن الأنا البديلة المألوفة في النظام الخيالي، بمجرد أن تقترن بالأمر المهيب للنظام الرمزي، تتحول إلى الذات المفردة الغامضة للنظام الواقعي.

ومن هذا المنطلق أيضًا يمكن للعلاقة الهشة بين القانون والحب أن تُحسَم؛ إذ إن الآخر الكبير باعتباره موضع حب الإنسان يتسم بقوة الفرمان المطلقة مثلما تتسم استجابة الإنسان له بوجوب يليق بالقانون. ويقطع ليفيناس على طريقته اليهودية العلاقة العاطفية بين المحبة والحب؛ وهو ما يعني عنده قطع الرابط بين الحب والشيء المحبوب، فنحن نشعر بالآخر الكبير من خلال العاطفة، من خلال خفقان قلبنا أو القشعريرة التي تسري داخلنا؛ لكن يجب التفريق بين هذا وبين العاطفة العادية؛ فالحب الذي يتحدث عنه ليفيناس موقعه في النظام الواقعي، بعيد تمامًا عن مفهوم التعاطف اللطيف عند آدم سميث؛ فالأخلاق هي ما يؤذي. إن كانت العلاقة مع الآخر الكبير تتسم بالقرب الذي في النظام الخيالي فإن الآخر الكبير المقصود ليس الرفيق العزيز الذي تحدث عنه سميث أو هيوم. بل هو — بكلمات ليفيناس — أيُّ شخص «يصادفنا»؛ وبالتالي فالاحتمال دائمًا أنه غريب معادٍ. إلا أنه كما الحال عند فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر ينبغي رسم وجه لهذا الآخر الكبير، غريبًا كان أم لا. لا يؤيد ليفيناس خلال حديثه عن الآخر الكبير نظامًا أخلاقيًّا قائمًا على المجهولية، وهو تعبير سيرى ليفيناس بلا شك أنه متناقض؛ فالغرباء «القريبون» لا البعيدون أو المتصورون تصورًا مجردًا هم من يستحقون استجابتنا؛ فعلاقاتنا المجهولة مع الآخرين في معظم الأحوال تتولاها السياسة لا الأخلاق.

ثمة تداعيات سلبية وأخرى إيجابية في هذه القطيعة مع النظام الخيالي؛ فهي من الناحية السلبية تمثل قطيعة مع الفضائل اليومية للحب والخير والعِشرة والمساواة والمشاركة والحميمية المسلم بها وسرور بالتماثل وبالاختلاف، وهي اللعنة التي ساهم فكر ليفيناس ومفهوم الحس فيما بعد الحداثة في صنعها؛ فالحياة الجيدة تتضمن الاستمتاع برفقة من هم مثلنا طالما أن ذلك لا يؤذي المستبعدين؛ فالرواقيون والعقلانيون المتزمتون وحدهم من يصرون على أن مشاعرنا نحو القريبين منا يجب ألا تختلف أدنى اختلاف عن موقفنا من الغرباء. إلا أن ليفيناس قلق جدًّا من تحويل الآخر الكبير إلى «أنا» بديلة خيالية تقر هذه الروابط التقليدية؛ إذ يعلن أن الفلسفة التقليدية برُمَّتها تختزل الغيرية في التماثل، وهو ادعاء مفرط في زعم التشابه، إن وُجد. فالذات عند ليفيناس قد يبلغ بها الأمر أن تُشنَق من أجلك لكنها من غير المحتمل أن تكون رفيقًا لك مفعمًا بالحياة في حانة مثلًا. وهي كذلك ليست مستشارًا موثوقًا به في مسائل تشريعات الهجرة مثلًا أو حقوق الحيوان أو المسائل المادية التي يترفع عنها فكره؛ فهذه مجرد شئون أخلاقية تناسب الكاهن لا الفيلسوف. وليس من الواضح كيف يمكن للإنسان أن ينتقل من الانفتاح اللانهائي على الآخر إلى مسألة التهرب من الضرائب. وبالنسبة لآخرين كُثُر (الآسيويين على سبيل المثال أو العرب) فإن هذا المفكر المتمحور فكره حول أوروبا يكشف عن مزيج من النفور والكراهية تجاه الآخرين.

تعد الأخلاق بصفة عامة هي علم الفضيلة؛ وهي بالتالي تقف على بعد خطوة من السلوك الفعلي؛ لكن الفلسفة الأخلاقية لليفيناس يُراد لها أن تكون نوعًا من الأخلاق الفوقية؛ أي نظرًا في ظروف إمكان وجود الأخلاق في حد ذاتها؛ وهي بالتالي تقف على بعد خطوتين من السلوك العملي، بل وقد نخاطر بالقول إنها قضية اللاوعي الأخلاقي برغم شك ليفيناس في فرويد المعارض للمذهب الإنساني. ولا ينبغي الخلط بين الفضيلة العادية وسمو الحياة الأخلاقية التي تخلو بدورها من أي محتوًى محدد. إلا أنه كلما زاد الفراغ الغامض للأمر الأخلاقي «كن مسئولًا بلا حدود!» زاد الغموض المربك الناتج عنه، وكذلك زادت سلطويته الجوفاء. فعندما يتواضع ليفيناس وينزل لدائرة الفضيلة الدنيوية فإن أحكامه ليست دائمًا جديرة تمامًا بالثقة؛ فالوصية القائلة: «لا تقتلني!» هي في رأيه ما يتوسل به وجه الآخر الكبير؛ إلا أن القتل — كما يراه الأكويني — قد لا يقتصر على كونه مباحًا بل قد يكون إلزاميًّا. فماذا لو كان «الوجه» الذي أمامك وجه شخص مختل عقليًّا يُمسك ببندقية آلية موجهة لفصل في مدرسة أطفال؟ يمتلك ليفيناس رؤية راسخة للأخلاق؛ حيث يسمع نداء اللاتناهي من المحرومين والمعدمين؛ إلا أن أسلوب تفكيره الذي يصيغ به رؤيته لا يؤدي إلا إلى تجريدها. والمحرومون عند هذا المناصر للصهيونية على سبيل المثال ليسوا الفلسطينيين بالتأكيد؛ فهو وإن كان يطالب الإنسان بالتخلي عن ذرائعه الاستبدادية، لا يوجِّه نفس المطلب لدولة إسرائيل. ومن جانب ما، فإن تعليق المظهر الفعلي على الوجه أو منح درجة من التحديد لمطلبه يعني تقليص سلطته المطلقة؛ فليفيناس شأنه شأن هايدجر يُودِع ما هو عادي عمقًا يعززه ويضعفه في آنٍ واحد؛ فهو — إن جاز التعبير — مفكر عميق أكثر من اللازم.

وعلى أي حال، فمن غير الواضح إطلاقًا أن كل القضايا الأخلاقية يمكن اختزالها في تفضيل الغيرية على التماهي؛ فهذا الاتجاه المعارض للاختزالية هو نفسه اختزالي؛ فالحفاظ على كوكب الأرض أو الحملات المضادة للفساد السياسي أو منع التجارة في السوق السوداء أو الإعلان الكاذب لا يمكن بسهولة اختزالها في توقير الآخر الكبير. فليفيناس بلا شك يعارض الكذب بصفته انتهاكًا لثقة الآخر الكبير، أما توما الأكويني فهو ضده لأنه تقليل من قيمة وسيلة التبادل في النظام الرمزي؛ فإن احترم الرجال غيرية النساء، فهل تظل هناك ضرورة للمساواة في الأجور فيما بينهما؟ وكيف يمكن للأخيرة أن تنتج عن الأولى؟ وماذا إن كان الآخر الكبير معدمًا لأننا لسنا كذلك؟ ماذا لو كانت هذه — أي حالة الاستغلال — هي ما تمثل أهم علاقة أخلاقية بيننا؟ فهل يخبرنا علم الفينومينولوجيا وحده بهذه الحقيقة؟

على أي حال أليس الانفتاح على الغيرية شرطًا للأخلاق بدلًا من أن يكون شيئًا في ذاته؟ ألن يتضح هذا أكثر إن انطلق الفرد على الطريقة الأرسطية من افتراض أن الأخلاق ممارسة وليست حالة، فضلًا عن أن تكون حالة فيما وراء الوجود؟ وماذا يعني الانفتاح على غيرية جوزيف ستالين أو روبرت مردوخ؟ أليس مفهوم الانفتاح المطلق — والغيرية المطلقة والمسئولية المطلقة — سخافة منطقية؟ يؤكد جاك دريدا أنه حيثما كانت الغيرية المطلقة، كان الرب، وهو ما يبدو طريقة مناسبة بالدرجة الكافية لبيان عدم وجوده؛ فالغيرية ليست مُعطًى أوليًّا؛ فهي تتكون من خلال تعاملات بعضنا مع بعض؛ وبالتالي فهي ملازمة للتماهي والتبادل. فالتعامل البشري يشمل التماهي كما يشمل الاختلاف؛ فمفهوم التواصل هو نهاية كل من التماهي المطلق والغيرية المطلقة؛ فصور الغيرية، كالإبريق مثلًا الذي لا يمكنه إجراء حوار مع البشر إلا في الحكايات الخيالية، ليست أبدًا من نفس نوع غيرية البشر الآخرين. فحبات الخوخ تختلف في تفردها عن تفرد الأشخاص. ولاحترام غيرية الآخر، يجب أن أدرك أنني في حضرة استقلالية بشرية على وجه التحديد، وليس مثلًا استقلالية أوراق الأشجار أو أجهزة الكمبيوتر؛ ولا يمكنني أن أعرف هذا من دون إشارة ضمنية للإنسانية المشتركة.

كذلك فإن المسئولية المطلقة هي في الحقيقة مثال لمفهوم «اللاتناهي الزائف» عند هيجل. فمن السخف القول مثلًا إنني مسئول مسئولية مطلقة عن الشرطة السرية التي تعذبني. أما بخصوص الانفتاح والتقبل، أليس من الواجب أن تحكمه سرًّا بالفعل معايير أخلاقية منظمة إن أردنا التمييز بين الانفتاح على الشخص المُعدَم الذي يتسول منا من أجل الحصول على الطعام وبين الانفتاح على من يهرِّبون المخدرات إلى أطفال المدارس؟ لا شك أن علينا احترام الوجود المستقل لهؤلاء المهربين وأن نشعر بالصدمة والاشمئزاز نتيجة وجودهم المتعالي؛ لكن الأخلاق تعني أن نفعل ذلك مع منعهم مما يفعلون وليس في إطار إحساس سامٍ باختلافهم؛ فإياجو يتقبل عُطيل؛ لكن هذه الصورة من الحساسية المفرطة تُعرف بالكراهية الحاقدة؛ فالانفتاح كالإخلاص شرط لا غنى عنه لا يُعد شيئًا في ذاته. فبالنظر المجرد إليه في ذاته نرى أنه أجوف على نحو مبهم كما الأمر المطلق عند كانط. فالوصية المسيحية اليهودية هي حب الجار بما فيه من غيرية، وهو ما يعني حبه «في النظام الواقعي» وليس حب غيريته.

يتمكَّن فكر ليفيناس الأخلاقي أحيانًا من إخفاء تلك الحقيقة؛ حيث إنه يركز على علاقة الإنسان الإيثارية مع الآخر الكبير؛ وهو يفعل ذلك لأن النظر إلى الآخر الكبير من منظور النفس يبدو تكرارًا لخطيئة غربية مُعتادة. فالنفس والآخر الكبير — كما رأينا — من المُفترض أنهما غير مُتناسبَين، بمعنى أنه رغم أنني قد أحلَّ محلك فلا يُمكنك أن تفعل نفس الشيء معي. لكن هذا بالطبع يصحُّ من الناحية الفينومينولوجية فقط. أما من منظور ما يُسميه ليفيناس «الطرف الثالث» أو النظام الرمزي، فمِن الواضح أن الآخر الكبير يتحمَّل تجاهي نفس المسئولية التي أتحملها تجاهه، وهي حقيقة يدركها ليفيناس بطبيعة الحال. إذًا فهو يقدم لنا نموذجًا مُعدَّلًا من فكر سبينوزا؛ فنحن في نظر سبينوزا — كما رأينا — موجودون من الناحية الفينومينولوجية كما لو كان العالم يتمحوَر حولنا في الوقت الذي نعي من الناحية النظرية أن هذا التمركز حول الذات؛ حيث إنه موجود عند كل الناس، يناقض نفسه. أما ليفيناس فيرى أن الحياة السليمة أخلاقيًّا تعني العيش الذي لا يتمحور حول الذات، بإدراك أنني من بين كل الناس الأكثر بؤسًا، مع الوَضع في الاعتبار أن هذا من الناحية النظرية وهمٌ بالضرورة. إنه وهمٌ لأنه إن جرى تعميمه على كل الناس — كما يجب أن يُعمَّم — فهو يَبطُل. فما هو حقيقي عندي من الناحية الفينومينولوجية حقيقي فعلًا لكنه زيف عند الإغريق وليس الحقيقة التي توجد في الفلسفة. إن ما يُبينه علم الأخلاق هو ما لا يؤمل من الأنطولوجيا أن تدركه؛ فالأخيرة تُعنى بما نَشترك فيه بينما يُعنى الأول يما يندرج في نطاق الفردية. لكن ماذا لو لم يكن علم الأخلاق والأنطولوجيا متعارضَيْن لهذا الحد؟ ماذا لو كان البؤس غير المحدود هو ما نتشاركه؟ إن كانت نظرة الآخر الكبير لي (باعتباري منبوذًا ومصدومًا وأسيرًا وغير ذلك) مثل نظرتي إليه، إذًا فاللاعلاقة بيننا — إن جاز التعبير — تُصبح متماثلة؛ فالمساواة والتماثل إذن لا يستبعدهما بسرعة الآخر الكبير المُلِح. إن أرضية صدمتنا المشتركة — أي نطاق النظام الواقعي المشترك — هي التي تصير فيها المواجهة الحرة العادلة المُرضية بيننا ممكنة.

والمفارقة الفينومينولوجية هي أنني لا يَسعُني معرفة درجة الغيرية إلا بقدر ما أشعر بها في نبضاتي؛ وبذلك أخاطر بضياعها من خلال هذا الفعل. وهكذا هناك خطر أن يوجد تناقض بين نهج ليفيناس الفينومينولوجي وعقيدته الأخلاقية. إلا أنه هو نفسه يَزعُم أن هذا لن يؤدي بنا بالضرورة إلى الدخول في مأزق أنويٍّ كالذي يواجهه أحد أتباع هوسرل؛ ليس فقط لأن الآخر الكبير موجود أمامي على مستوًى أعمق بكثير من المستوى الأنوي (بل أعمق بكثير من مجرد «الوجود»)، لكن لأن ما تَكشفه فينومينولوجيا الآخر الكبير هو أن فرديتي الثمينة ما هي إلا ارتباط هشٌّ بالغيرية. فمعنى الحياة بكل جوانبه يتجاوَزُني؛ وبالتالي تُهذَّب الأنا القلقة على ذاتها وينقذها الآخر الكبير من أوهامها النرجسية. لكن هذا كله يبقى في إطار علاقة فينومينولوجية محدَّدة مع الآخر الكبير، وتتقيَّد تأملات ليفيناس الأخلاقية بهذه الحقيقة؛ فبالخروج من هذا الإطار الفينومينولوجي — الذي يُرى فيه الآخر الكبير دائمًا على أنه أعلى منِّي — يُمكنني أن أُدرك أنه في الحقيقة ليس إلا صورة من الخضوع لي، المُمتزجة بالشعور بالذنب، مثلما أنا خاضع له. فإن كان هذا هو الحال إذًا فإن هذه الغيرية أو الخدمة المتبادَلة، إن تغيَّر شكلُها بطريقة ملائمة، قد تُمهِّد الطريق نحو علاقة لها شكل مختلف تمامًا؛ علاقة يتحول فيها الاعتماد المشترك إلى شرط للحرية المشتركة، ويَصير فيها العطاء الذاتي مصدر الرضا الذاتي. وتلك ستكون، من بين أشياء أخرى، إحدى وسائل الاتفاق على التحوُّل من النظام الأخلاقي إلى النظام السياسي، بحسب تعبير ليفيناس نفسه. وبما أن «القانون» الذي يُواجهه الفرد في هذه الحالة لم يَعُد «أنا عليا» مستبدَّة، بل قانون رضا الإنسان برضا الآخر ومن خلال رضائه؛ فالنتيجة ستكون التخفيف من الذنب الذي يَكمُن بنظر ليفيناس في جوهر النظام الأخلاقي. لكن يُمكننا الزعم أن الفضيلة الحقيقية هي بنحوٍ أو آخر نقيض الذنب؛ لدرجة أن أي نظرية أخلاقية — كنظرية ليفيناس أو دريدا التي يؤدي فيهما الشعور بالذنب دورًا محوريًّا؛ فضلًا عن أن يكون مفهوم الازدهار الإنساني فيها غريبًا بصورة كبيرة — هي نظرية بها خلل شديد. فلا يشعر ليفيناس بالذنب في حضور الآخر الكبير فحسب، بل يشعر أيضًا به تجاه أفكار السعادة والحرية والإشباع والرضا الذاتي. ومِن الصعب أن نرى كيف لشعوره هذا بالذنب تجاه هذه المفاهيم — فضلًا عن الكراهية تجاهها في بعض الأحيان — أن يخدم الآخر الكبير فعلًا؛ فمَصلحة الآخر الكبير ليست في تمزُّق الذات.

يُناصر فلاسفة الأخلاق في القرن الثامن عشر الذين تناولناهم وجود تبادُل للتعاطُف مع الآخرين، لكنه تبادُل يتمتَّع ربما بسلاسة مريبة؛ فيبدو هذا النوع من التعاطف على درجة من التلقائية والدفء أكبر من أن يكون تعاطفًا أخلاقيًّا كاملًا. أما كانط وليفيناس في المقابل فهما مُنكبَّان على إخضاع الناس للقانون الأخلاقي أو الآخر الكبير. من وجهة نظر مسيحية يهودية، فإن كلا الاتجاهين في الفكر الأخلاقي — اتجاه التعاطُف واتجاه التضحية — يُشوهِّهما انفصال كلٍّ منهما عن الآخر؛ فمناصرو الرضا الذاتي يَعجزون بصفة عامة عن فهم ما سيترتَّب عليه فعليًّا عدم تقييد الذات المؤلم، وخاصة إن كان ذلك متاحًا من الناحية السياسية للجميع. أما مؤيدو اتجاه التضحية من جانبهم، فيبدو أنهم لا يَرَون أن نكران الذات هذا إذا لم يكن باسم حياة أكثر سعة من جميع النواحي، فإنه لن يتعدَّى كونه إلزامًا رهيبًا؛ فالتضحية مسار ثوري من المظلومية إلى السلطة، وهو انتقال عنيف من البؤس إلى الثراء. وهي ليست هدفًا في ذاتها، لكنها للأسف قد تكون شرطًا مسبقًا أساسيًّا لما قد يبدو نقيضًا لها للوهلة الأولى؛ وهي أخلاق المتعة، والرخاء، والرضا الذاتي بخدمة الآخرين. وهذا شيء باعث على الأسى.

إن اللامتناهي يتجسَّد عند ليفيناس في البشر؛ إذ إن البشرية تعني أن يبدي الفرد غيرية مطلقة لا يُمكن قياسها كما هو حال اللاتناهي ذاته. وهنا تكمن مفارقة من نوع خاص؛ فالفناء يعني أن تكون متناهيًا؛ لكنه يعني أيضًا إدراك التناهي الذي يرمز له موت الفرد؛ ومِن ثَمَّ (بما أنه لا يمكن لأحد أن يموت بدلًا مني) إدراك التفرد الذي لا يُضاهى. لكن هذا التفرد — إذ إنه لا يُعوَّض ولا يُقاس ولا يُستنسَخ — يُمكن اعتباره نوعًا من اللاتناهي؛ فليفيناس مثل كيركجارد تستولي عليه حقيقة تربك العقل — حقيقة هامة وتافهة معًا — هي أن الفرد هو نفسه وليس شخصًا آخر إلى الأبد. لذا فالتناهي — للمفارقة — يغذي الوعي بنقيضِه، مثلما يفعل في نظرية السمو الجمالية عند كانط. لكن هذا ليس لا تناهيًا يتجسَّد بنظر ليفيناس في التاريخ أو السياسة أو الطبيعة أو علم الأحياء أو القضايا الأخلاقية العادية؛ باختصار، في الحياة اليومية التي يُكِنُّ تجاهَها — شأنه شأن عدد من أقرانه الفلاسفة الغالِين — كراهية شديدة. إن السمو لا ينبغي أن تفسده المحايثة؛ فهو لا يُختزَل في الحضور؛ وهو بالتالي غير متجسِّد، إلا في وجه الآخر الكبير غير القابل للتمثيل. وقد يُتيح الآخر الكبير — الذي هو سموٌّ خالص — سبيلًا إلى الخلاص؛ لكن المدينة، بأشكال الحياة فيها المجرَّدة المجهولة، ليست مؤهَّلة لمثل هذه المهمَّة. قد لا يكون ثمة أي خلاص مؤسسي ولا سياسة تحوُّلية على نحوٍ جِذري. فإن تُركت السياسة لحالها — كما يقول ليفيناس — فذلك سيُعرِّضنا لخطر الطغيان؛ فثمة مشكلة بعبارة أخرى بخصوص الشخص المجهول لنا، بقدر ما هو الحال عند هيوم وسميث؛ فبعد رحلتنا في النظام الرمزي يبدو أننا نعود لنفس النقطة من جديد، وإن كان ما يقاوم مجهولية النظام الرمزي لم يَعُد هو النظام الخيالي، بل النظام الواقعي. فكأنما أدار ليفيناس ظهره للنظام الخيالي الذي لا يَحتفظ منه إلا بالقشرة الخارجية؛ لكنه بذلك يتجاوز النظام الرمزي ويتجه مباشرة إلى النظام الواقعي. مِن المؤكد أن ليفيناس قادر على التعامل مع الغريب «القريب»؛ وهو أي عضو في النظام الرمزي يتصادف في اللحظة الراهنة أن يَشغل موقع الجار. وتخلط علاقة الفرد بهذا الشخص بين عناصر من النظام الخيالي والنظام الواقعي الأول؛ لأن القضية هنا تتعلَّق بالتعاطف الجسدي مع شخص قريب مني فعليًّا. والثاني؛ لأن هذا الجار، وإن تصادف أنه ابنتك أو أختك، فهو قناع مُبهَم للَّاتناهي ولا يمكن التعامل معه بصورة سليمة إلا على هذه الخلفية الواضحة. والشيء الأصعب في أخلاقٍ حميميَّة لهذه الدرجة هو فهم مجال النظام الرمزي في حد ذاته، والذي في خطر أن يُحاصَر ويُطحَن بين النظامين الآخرين. لكنَّنا سنرى بعد قليل أن ليفيناس مدرك تمامًا لهذه الإشكالية، وهي لا تَختلف كثيرًا عن إشكالية السياسة، وسيسعى لمواجهتِها دون أن يفقد سيطرته على نموذجه المتفرِّد جدًّا من الفكر الأخلاقي.

وبرغم ما في خطاب ليفيناس الأخلاقي من شهوانية، فهو يتَّسم بحدَّة زائدة وغموض مبالغ فيه؛ فأي مسيحي أو يهودي سيَصر بلا شك على أنه يَمتلك إحساسًا مهيبًا بسموِّ الرب، لكنه لنفس هذا السبب لا يُدرك كيف أن هذا اللغز الذي لا يُوصف لا يقتصر في تجسده على غيرية الآخر الكبير، بل في تَوفُّره المعتاد، في رفقته وألفته؛ فالآخر الكبير عند ليفيناس — بلغة بيرك — سامٍ أكثر منه جميل. إن هذه الرؤية الأخلاقية بعيدة كل البُعد عن المفهوم المسيحي القائل إن الناس قد دُعوا من خلال بشرية المسيح إلى المشاركة في صداقة الرب، وليس مجرد الشعور بوجوده الخارق في الآخر الكبير مثل جرحٍ مؤلم أو الشعور بالذنب عند الاستيقاظ. فالمسئولية الأخلاقية عند ليفيناس ليسَت في واقع الأمر جزءًا من العالم المرئي، وإن كان هذا هو المكان الذي يجب أن تتجلَّى فيه؛ فهو إذن يواجه شيئًا من الصعوبة التي يواجهها كانط في شرح كيفية تحويل رُوح الأخلاق إلى صورة مادية. فهناك كلية الأشياء المتعينة، وهناك — كما في فكر آلان باديو — دائرة منفصلة تمامًا من اللاتناهي تتقاطَع معها بطريقة عنيفة، لكن من الصعب معرفة كيف يمكن التوفيق بينهما.

كيف إذًا نواجه مشكلة المجهولين بالنِّسبة لنا؛ أي الذين يقعون خارج دائرة النفس والآخر الكبير الغامضة؟ إن كانت هذه قضية حيوية كما هي عند مُناصِري مذهب الخير؛ فذلك لأنها تُثير قضية السياسة، أي كيف للأخلاق أن تُؤثِّر في كل القضايا التي تتجاوَز نطاق العلاقات التي بين الأشخاص؟ إن مشكلة ليفيناس هنا هو أنه وضع إطارًا للأخلاق بأسلوب دموي غير اجتماعي، بلغة لا تُبالي بالمجتمع والتوافُق والمساواة والحقوق المدنية والقانون والكلية والتبادلية والسمات الطبيعية وخلافه، لدرجة أنه يجعل من المستحيل تقريبًا على نفسه أن يَستحضِر منها أي أفكار سياسة تتجاوَز أبسط أشكال التعدُّدية الليبرالية. إن هذه حقيقة يعترف بها الجميع تقريبًا من بين المعلِّقين على أعماله. فليفيناس — شأنه شأن دريدا — يُقرُّ بأن البعد السياسي لا مناص منه؛ لكننا نشعر أحيانًا بأنه يفضل زواله. وبصفة عامة، فإن النظام الرمزي يتَّضح أنه حَجَر عَثرة أمام مزجه الرائع بين النظامين الخيالي والواقعي. وثمة تعارُض في كتابات كل من ليفيناس ودريدا بين النبرة الطليعية الجذابة لنظريتهما والشكل المُعتاد من التعدُّدية الثقافية الذي يبدو أنه يوجد بهما من الناحية العملية. فليفيناس شأنه شأن ديفيد هيوم يعاني من صعوبات في التعامل مع الغرباء؛ قطعًا ليس مع «القريبين» منهم، لكن مع الجموع المَجهولة التي يتصادف في أي لحظة ألا تكون كذلك. (تزداد الأمور سوءًا عندما تكون هذه الحشود غير أوروبية؛ تأمَّل نفوره الشديد مما يُسمِّيه «الخطر الأصفر» في عمله «التاريخ غير المتوقَّع»). فإن رأى مناصرو النظام الخيالي أن من الصعب التعامل مع من يتجاوَزُون دائرتهم السحرية الخاصة، فكذلك يرى مناصرو النظام الواقعي ولكن بصورة مختلفة.

مع ذلك فإن ليفيناس أمامه فرص متعدِّدة للوصول إلى حل؛9 ففي المواجهة مع الآخر الكبير المتمتِّع بالأفضلية، يبدو ضمنيًّا الوجود المُحتمَل لعدد لا نهائي من الآخرين. من هذا المنطلق فإن ما يُسميه ليفيناس بالطرف الثالث يظهر بالفعل في هذا المشهد الأوَّلي، الذي يُمكننا أن نُسمِّيه لحظة ليفيناس الأوديبية، ممزِّقًا العلاقة بين النفس والآخر. وفي بعض المواضع في كتابات ليفيناس، يبدو أن الطرف الثالث يدخل في مشهد تالٍ للعلاقة المباشِرة، وهو وضع يختلف كثيرًا عن وضع لاكان. فإن اعتبر لاكان أن الآخر هو الآخر الكبير فذلك لأنه يُصرُّ على استحالة وجود علاقة بدون وسيط معه، فلا يوجد اتصال مع الآخر «الفريد» لا يمرُّ بمؤثرات النظام الرمزي في مجملها. إذًا فما يُسمِّيه ليفيناس ﺑ «الطرف الثالث» موجود في أيِّ مواجهة مباشِرة منذ البداية، باعتباره بُعدًا اغترابيًّا لهذه العلاقة.

إلا أن وجود الطرف الثالث في مواضع أخرى عند ليفيناس يوجه العلاقة مع الآخر الكبير من البداية. وعندما يكون هذا هو الحال فإن تجلِّي الوجه يفتح أمامي باب الإنسانية المعوزة بالكامل بجانب خطاب العقل والعدالة العام. إنَّ وجه الآخر الكبير نفسه يضع الفرد في علاقة مع الطرف الثالث، الذي يفتح بدوره مجال القانون والدولة والمؤسَّسات السياسية. وفي صياغة بديلة، يعلن هذا الوجه وجود «الآخر الكبير للآخر الكبير»؛ أي علاقة أخرى غير متماثلة بين الآخر الكبير وآخره الكبير، بما يوحي بأن المجتمع لم يعد سوى تجمع من النفوس المفردة؛ فالآخر الكبير قد صار الآن وجهًا لا يُنسى بين مجموعة كاملة من الوجوه التي لا تُنسى. إلا أن العلاقة المباشرة وجهًا لوجه تظل أولية، ليس فقط بمعنى أنها — إذ هي سابقة على الحرية والاستقلال واتخاذ القرار وغير ذلك — تسبق زمنيًّا كل قضايا السياسة والعدالة، بل كذلك لأنها الموضع الذي نتحوَّل لأول مرة إلى النظام الرمزي، عندما نُصبح على وعي بوجود شبكة المسئوليات التي تمتدُّ لما وراء الآخر الكبير الذي لا بديل له. فمن خلال وجود الطرف الثالث تبرز العدالة والمعرفة الموضوعية والمساواة والاستقرار الأنطولوجي والتبادلية وباقي هذه المُثل الرمزية.

من هذا المنطلق فإن الطريق من الأخلاق إلى السياسة يكمن فيما يمكن أن نسميه المشهد الأولي، وإن كان هذا المشهد يُمثل نقدًا دائمًا للبُعد السياسي. إن الآخر الكبير في كتاب «الكلية واللاتناهي» هو تجلٍّ للمساواة (في صورة الطرف الثالث) بقدر ما هو تجلٍّ لعدم التماثُل. فالآخر الكبير الفريد يتضمَّن إمكانية وجود آخرين، يُمكنهم أيضًا دائمًا أن يُصبِحوا آخرين كبارًا؛ فالآخرون الكبار إذن يمكن أن يكونوا محل اهتمام للنفس دون أن يدخلوا في علاقة معها؛ وهي حالة تَنتمي لما يسميه ليفيناس «التجسد الخارجي للنفس» الذي يعدُّ — من بين عدة أشياء أخرى — مصطلحه الفريد للنظام الرمزي. إن العلاقة المتميِّزة مع الآخر الكبير الفريد يجب أن «تتوازَن» بحيث يتسنَّى للقانون والعدالة والمساواة والضمير الاجتماعي أن يظهروا؛ فحب المرء لجارِه يتضمَّن بالفعل العدالة؛ حيث إنه يجب أن يكون في إطار علاقات هذا الجار مع الأطراف الثالثة؛ إذ يجب عليَّ ألا أنظر لعلاقتي مع الآخر الكبير وحدها، بل إلى علاقتي مع العلاقات بين الآخرين. فالعدالة إلى هذا الحد «ضرورية»؛ وهو مصطلَح قد نظن أنه ينقل بالكاد التعطُّش اليهودي التقليدي نحو العدالة.

إذًا ثمة مسالك تنقلنا من الأخلاق إلى السياسة، ومع ذلك فقضايا العدالة والتحرُّر والمساواة وغيرها تُستمَد من المواجهة الأولية مع الآخر الكبير (وهي مواجهة ممنوعة على المعرفة الخارجية) ويجب أن تعود إليها كما يجب على المسافر في الصحراء أن يعود إلى نبع الماء من أجل إعادة التزوُّد الدوري بالماء. فالأخلاق هي الأساس الفينومينولوجي للسياسة، والنبي هو الرمز المسبِّب للقلق الذي يأخذنا من تنازلات الأخيرة البالية إلى الصفاء القلبي للأولى. يقول ليفيناس في هذا الشأن: «العدالة مُستحيلة من دون أن يجد الشخص الذي يبديها أنه قريب لي.»10 وهذا لا يعني أننا يجب أن نعرف شخصيًّا من نعدل في تعاملنا معهم، بل يعني أن المسئولية المطلَقة تجاه من هو قريب يجب أن تكون المصدر الذي تنبع منه تعاملاتنا الأخلاقية مع الأشخاص الأقل قربًا. إلا أن العلاقة بين هاتين الدائرتين تظل محيرة؛ فالأخلاق تحكم السلوك التقليدي لكنها لا يمكن أن تُختزل فيه؛ فهي بوصفها التزامًا لا مُتناهٍ تجاه الآخر الكبير تُمثِّل مصدرًا للفضيلة العادية في الحياة اليومية، لكنها كذلك تبدو مجالًا مختلفًا عنها تمامًا؛ فالعالم الأخلاقي يجب ألا يخلط بينه وبين العالم التقليدي للقواعد والقوانين والالتزامات والأعراف والوصايا المحدَّدة. إلا أن القواعد العامة والمؤسسات (السياسة) يجب بصورة ما أن تُستمَد من علاقة مُفرَدة لا تقبل الاختزال (الأخلاق)، فما لا يُمكن قياسه يجب أن يتمخَّض عنه ما يُمكن قياسه.

لقد رأينا مع ذلك أن ليفيناس شديد التشكُّك فيما هو نوعي وكلي ومعياري وعرفي وقابل للقياس ومتبادَل وما شابه، وهو ما يبدو أنه يُخاطر بتقويض عين الأساس الأخلاقي ذاته الذي من المفترض أن تقوم عليه كل هذه المفاهيم؛ فالبُعد الأخلاقي في خطر دائم أن يقوِّضه نظام للقوانين الكلية الذي يحتاجه رغم ذلك؛ فهو يُقاوم الفكر المميز للمدينة الذي يعتمد عليه رغم ذلك. فالحاجة للعدالة تَنشأ في الدائرة الأخلاقية، لكنها أيضًا تُنكر، بل وتُخذَل من قبل طبيعة هذه الدائرة اللاتبادلية. فتنشأ فجوة بين مملكة الأخلاق النزيهة وعالم المصالح الأخلاقية الدنيوية الأقل بريقًا بكثير. ويَنتاب ليفيناس بطريقته الرجعية المعارضة للتنوير الخوف مما يُسمِّيه في كتابه «الكلية واللاتناهي» ﺑ «طغيان الكلي واللاشخصي»؛ لكنه يجب أن يَعترف مع ذلك بأن «المقارنة بين ما لا يُمكن مقارنته» ضرورية إن كان للعدالة أن تَزدهِر. وهذا يتطلب بدوره، كما يقرُّ، شكلًا من أشكال الفكر يقوم على التوليف والتوفيق، وهما عمليتان نظن أن حماسه لهما ضعيف بقدر حماسه للقومية العربية مثلًا. ولن يكون من المبالغة القول إن النظام الرمزي هو العدو اللدود لأهم قيم ليفيناس، وإن كان عليه — باعتباره فيلسوفًا أخلاقيًّا — أن يتناوَله بالطبع.

إن الأخلاق عند ليفيناس هي علاقة بين الفردية المُطلقة لشخص مع تلك الخاصة بشخص آخر؛ أي حب الغريب للغريب، وإن كان الاثنان صديقين حميمَين، والذي يكون خارج نطاق المجتمع السياسي كله. فإن كانت الأخلاق تُعرَّف بأنها اللااختزالية المطلقة للآخر في المثيل (وهي أطروحة تُثير جدلًا شديدًا بالتأكيد)، فهي إذن تَبتعِد عن مقارنات المجال العام. فالإنسان الأخلاقي يَختلف عن المواطن، وإن كانا (مثلما هو حال العالَمَيْن الظاهري والحقيقي عند كانط) يَشغلان نفس الجسد. ورغم أن من الواجب إثبات هاتين الدائرتين، يبدو أن ثمَّة حالة من الصراع الدائم بينهما؛ فالعالم الأخلاقي «يعيق» عالم السياسة؛ وهو وضع يعني ضمنًا أن الاختلاف والغيرية وحس اللاتناهي يجب أن يُستجلَبُوا إلى عالم السياسة من الخارج. وسيبدو أن السياسة ليست قادرة ذاتيًّا على توليد مثل هذه القيم، برغم الانتشار الغريب للتعدُّدية الثقافية وثقافات الاحترام وعقائد الاختلاف الاجتماعي وغيرها التي تحيط بنا من جميع الجهات. فالأخلاق إذن تَقتحم الساحة السياسية، لكنها لا تُغيرها بالأساس؛ فعالم السياسة يَميل بطبيعته إلى ما هو موحَّد ومنحَط، ويبدو أن ما في وسع معظم النُّظُم الأخلاقية أن تفعله هو أن تهزَّ دعائمه من وقت لآخر. وقد نُفرِّق بين هذا وبين الأخلاق الاشتراكية أو النسوية التي يُمثل التغيير السياسي فيها أساس العلاقات الأخلاقية بين الأفراد. إن هذا النوع من السياسة يتضمَّن تحولًا في معنى المجال السياسي نفسه. وليست الأخلاق في إطار هذه النظرة إضافة زائدة للصور القائمة للوجود السياسي؛ فهي — إذ هي أبعد من أن تكون تدخُّلًا خارجيًّا في نظام المدينة — وسيلة محددة لوصفه.

يُصوِّر ليفيناس في أقل أفكاره إلهامًا المجتمع السياسي في صورة مجتمع تُمزِّقه حالة حرب دائمة، صراع هوبزي على السلطة بين ذئاب مُتنافسة؛ فنظام المدينة في أفضل الحالات يُصوَّر في شكل دائرة مُحايدة بدرجة كبيرة، مجالٍ من الأعراف والتبادلات لا غنى عنه لكنه غير تهذيبي. وبينما يتمتَّع العالم الأخلاقي بالعاطفة المتقلِّبة لمسرحية بها أحداث درامية مُثيرة، فإن عالم السياسة يشبه فيلمًا وثائقيًّا رديئًا، فالنظرة التي ترى المدينة باعتبارها مكان اغتراب تَعكس نظرة اغترابية تجاه السياسة. يتحدث ليفيناس في أحد اللقاءات عن «النظام الاجتماعي السياسي الساعي لتنظيم وتحسين استمرار البشرية»، وهو تعبير بلغة بيروقراطية لا يكاد يُمثِّل وصفًا مناسبًا للسياسة عند روسو أو بيرك أو ماركس. فإن بدا أن السياسة قد أُفرغت من قدر كبير من قيمتها واختُزلت في دائرة من القرارات الاعتباطية والآليات الإدارية، فسيُمكِّننا عندها أن نفهم السبب الذي يجعل الأخلاق في حاجة لأن تُدخل مجموعة من القيم القائمة بذاتها من فضاء خارجي رُوحي ما. إذًا فكيفية مزج العالمَيْن ستكون مسألةً معقَّدة. لكن ليس من اللازم أن يكون هذا هو الحال إن انطلقنا من نظرة للمستوى السياسي أقل استهجانًا. يُذكِّرنا هذا بالماركسيين الكانطيين الجدد في أواخر القرن التاسع عشر الذين اتجهوا إلى نظرية كانط الأخلاقية من أجل إضفاء بعض القيمة على تاريخ جردوه — بمَذهبهم الجبري الخاص — من كل غاية أخلاقية. فالمجتمع السياسي من دون أن تُعارضه الأخلاق وتقوِّمه وتُجدِّده لا يمكن أن تكون له قيمة راسخة في ذاته؛ فالأخلاق ضرورية لأسبابٍ من بينها أن السياسة مُفلِسة من الناحية الروحية. أما فكرة أن السياسة قد تُشكِّل بدورها تحديًا للأخلاق؛ أي أن صورة ما من التعامل مع الآخرين مثلًا قد تتغيَّر بسبب تغيير مؤسسي، فتمر دون أن تَسترعي أي انتباه.

يَنطبق نفس الأمر — كما سنرى بعد قليل — مع جاك دريدا؛ ففي أعقاب أحداث عام ١٩٦٨ العنيفة، وفي ظلِّ تعزيز الرأسمالية الغربية لقبضتها واستفاقة قطاعات كاملة من اليسار السياسي من غَفلتِها بالتبعية، تعرَّض مفهوم السياسة بصورة مُتزايدة لنيران الفلسفة، وخاصة في فرنسا التي كانت تَنزلِق بسرعة نُخبتها الفكرية إلى ردود الفعل الحادَّة. قليل من تلك الأرواح الثائرة تطلَّعت إلى عهد سابق متحرِّر من الوهم السياسي؛ تجربة الفاشية والستالينية المَريرة التي بدا في ضوئها أن مصير كل المشروعات الجمعية أو المثالية أن تتمخَّض عن أنظمة استبدادية وحشية. إن ما يَدين به جاك دريدا لإيمانويل ليفيناس — وهو رجل قضى بعض الوقت في معسكر عمل نازي — هو ذلك المزيج بين لحظتَين تاريخيتين مختلفتين.

ثمة فرق عند ليفيناس بين نطاق الآخر الكبير ومجال السياسة وهو أن العلاقات في إطار الأول غير مُتماثِلة، أما في الثاني فهي متعلقة بالمساواة أو التبادلية. لكن هذا الفارق يَحتاج لدراسة، صحيح — كما رأينا — أنَّ الحالة التي يَعتبرها ليفيناس نموذجه الأخلاقي الأولي تتضمَّن لا تماثلًا وبُغضًا؛ حيث إن الآخر الكبير أكثر دناءةً وعوزًا مني؛ ومِن ثمَّ فهو — في حوليات الحكمة اليهودية — أعلى منِّي أيضًا، لكن هذا في الواقع ليس النموذج الأولي للحب البشري، الذي بالمعنى التام له لا يُمكن أن يوجد دون مساواة وتبادُل. صحيح أن العهد الجديد يأمُر بالحب أحادي الجانب للأعداء، مثلما هو صحيح أننا يُمكن أن نُكنَّ حبًّا أصيلًا لمخلوقات كالأطفال الرضَّع، فضلًا عن الأرانب، التي تَعجِز عن مبادلتنا عاطفتنا بصورة كاملة. لكن رغم أن الحب أحادي الجانب — الحب الذي يتضمَّن البذل الذاتي الطائش الذي لا طائل منه، والذي يَصمد في وجه المكْر والسخرية — أكثر قيمة أخلاقيًّا من الحب المتبادَل؛ لأسبابٍ ليس أقلها أنه لا يُضاهَى في تكلفته، فهو من ناحية معيَّنة أقل كمالًا. فهو أقل كمالًا لأنه في هذه الحالة لا يَزدهِر أحد الطرفين بازدهار الآخر (أو الآخرين) على عكس ما يتضمَّنه الحب بمعناه الأكمل. إن عدم وجود الحب بمعناه الأكثر تمامًا إلا بين من هم سواسية، هو السبب — في العقيدة المسيحية — في أن الآب يحب مخلوقاته في صورةٍ، ومن خلال بشرية أخيهم الأكبر الذي هو الابن، الذي من خلاله يُسمُّون من مجرَّد كونهم مخلوقات إلى الصداقة والتساوي معه. وإلا فإن الرب لا يُمكن أن يُحبنا إلا كما نحب نحن حيواناتنا الأليفة أو سياراتنا مثلًا. وعدم إدراك أن الحب والمساواة متداخلان بهذه الصورة يعني تعزيز الحدود الفاصلة بين الأخلاق والسياسة، أو الحب والعدالة. كما يعني أيضًا — كما سنرى لاحقًا — إغفال مفهوم الحب السياسي الذي يُنهي على نحو مُماثل الحواجز التي توجد بين المجالين.

ثمَّة وجْه آخر لا تتعارض فيه المساواة والفردية كما يفترض ليفيناس؛ فالتعامل مع الآخرين بطريقة عادلة لا يعني التعامل معهم بنفس الشكل، وتكون النتيجة النهائية له هو الظلم البيِّن، لكنه يعني تعامل الفرد باهتمام متساوٍ نزيه مع احتياجاتهم المختلفة الفريدة؛ فالتماهي والاختلاف ليسا في هذا الإطار متعارضَيْن. إذًا فسيلفيان أجاسنسكي — التي تفرق مثل ليفيناس بين العلاقات بين الكيانات الفردية المطلقة من ناحية والتكافؤات اللاشخصية للنظام الرمزي من ناحية أخرى — مُخطئة في زعمها أنه «في حالة الاحترام الأخلاقي أو الحب بدافع الواجب، تنشأ علاقتي من ضرورةٍ لا تُراعي فردية الآخر …»11 إنَّ افتراض ليفيناس لمفهوم برجوازي للمساواة باعتبارها تكافؤًا مجردًا هو وحده السبب في أنه أُجبر على التخلِّي عن هذا المفهوم لدائرة السياسة الثانوية، بينما تصير الفردية حصن الأخلاق.

أما عند ماركس — في المقابل — فكل الرجال والنساء يجب أن يُمنَحوا نفس القدر من الاحترام، لكنه احترام يعني الإقرار بأن احتياجاتهم فريدة ومختلفة. وهذا أحد الأسباب التي يُعارض من أجلها فكرة التساوي في الدخل في عمله «نقد برنامج جوتا»؛ فالمساواة المجرَّدة ليست فضيلة اشتراكية، مهما بلغت قيمتها التقدمية في عصرها؛ فالمساواة عند ماركس، وهو مفكِّر يَدين بأفكاره لكل من الخصوصية الرومانسية والعمومية التنويرية، يجب أن تتجسَّد في الاختلاف بين البشر وليس في القضاء عليه. إن النسخة الماركسية من الاشتراكية ترى هذا ببساطة؛ ترى أن الوسائل المادية قد ترسَّخت في المجتمع الإنساني — الذي ازدهر في الغالب على حساب حرية الفرد — لكي يُعاد اختراعها على مستوى الفرد المتميِّز المُتطوِّر. وهذا هو السبب وراء ترحيب الماركسية بتراث الطبقة الوسطى الليبرالي العظيم، وانتقادها له. ففي ظل نظام ديمقراطي اشتراكي سيتمتَّع كل الرجال والنساء بحقٍّ متساوٍ في المشاركة في تقرير مصير الحياة العامة؛ لكن كيفية ذلك تعتمد على قدراتهم الفردية.

•••

ليس لفكر جاك دريدا الأخلاقي أن يشغلنا طويلًا؛ فهو في الغالب مجرد حواشٍ مطولة لتأملات ليفيناس الذي أعلن دريدا ذات مرة — في غرابة سببها انتقاداته المتنوِّعة لأستاذه في الفلسفة — أنه في اتفاق تام معه؛ إذ يكتب دريدا بحماس عن أن ليفيناس قد أحدث ثورة في معنى الأخلاق برُمَّته؛ لكن هذا يُغفل حقيقة أن فكر الأخير كان لا يزال يعتمد على مفهومٍ تقليدي (مثير للريبة بشدة) عن الأخلاق بوصفها التزامًا بالأساس، وكذلك حال دريدا نفسه. إن استحواذ كانط على اهتمام الدوائر الأكاديمية الفرنسية يكفي للتأكيد على أن حتى أكثر المفكِّرين الباريسيين بوهيميةً وغرابة يَدين بالفضل لمفاهيم الواجب الأخلاقي التي دخلت مقبرة التاريخ على نحو دائم في أماكن أخرى. ويفترض دريدا — مستكملًا مسيرة زميله الأكبر دون تردد — أن الأخلاق الصحيحة يجب أن تدور حول فكرة المسئولية. وهو افتراض كان ليفاجئ أرسطو أو هيوم أو بنثام أو نيتشه؛ إذ يظل الفكر الأخلاقي لليفيناس ودريدا أسير قيود علم الواجب الأخلاقي؛ فهو يتمكَّن من ترجمة خطاب تقليدي للقوانين والحقوق والأفراد إلى خطاب أكثر شاعرية أو فينومينولوجية، خطاب عن المخاطرة والحث والأمر والمغامرة والغيرية والغموض واللاتناهي والاستِحالة. ففي فكر ليفيناس ودريدا نجد نسخة روحانية من نظرية كانط الأخلاقية، نسخة تَملؤها بصدًى شعري يَنقصه بشدة بصمة كانط. إن أعمال دريدا الأولى لا تُعرف بتناولها للأخلاق؛ لكنه في مقاله المتأخِّر «قوة القانون» نجد أنه يناقش فكرة أن التفكيكية «هي» العدالة، مثلما يزعم في كتابه «أطياف ماركس» أنه اعتبر التفكيكية صورة متطرِّفة من الماركسية. ومن الصعب أن نُحدد أي المدرستين النظريتين المذكورتين أكثر دهشة من الأطروحة الأخيرة.

يوظف دريدا الأخلاق — شأنه شأن ليفيناس — لمهاجمة العالم الاجتماعي السياسي؛ إذ يكتب: «لا مسئولية من دون انفصام مغاير ومُبتكر عن التقاليد أو السلطة أو المعتقد التقليدي أو القواعد أو العقيدة.»12 فالأخلاق صورة من الطليعة الرُّوحية التي تهاجم بقوة الخمول الراضي للحياة اليومية. ولا يَبدو أن هذا ما يراه دريدا؛ حيث إنه أسير التعارُض الشديد بين ما هو معارض وما هو معياري، لدرجة أن يرى تقاليد مجدَّدة وتقاليد قمعية، أو معتقدات تنويرية وأخرى بربرية، أو أعرافًا ثورية وأخرى كابتة للحرية، أو قواعد وقائية وأخرى بيروقراطية، أو أشكالًا حميدة وأخرى خبيثة من السلطة. وثمة الكثير من صور التهميش غير المقبولة، وأشكال الاعتداء الإجرامية، وأساليب المعارضة المُظلِمة، وأشكال خرق القواعد المؤذية. يمكن للإجماع أن يتطرف، ويُمكن لعدم الالتزام أن يكون مفضلًا على نحو بغيض؛ فالمجتمع — وهو مفهوم يُخبرنا عنه دريدا في كتابه «عن الاسم» أنه طالما رآه مريبًا — يمكن أن يكون بيئة داعمة بقدر ما هي خانقة. لكنه يُعادي هذا المفهوم بشدة لدرجة أن جيه هيليس ميلر يمكن أن يرى على نحو مُنصِف أن عمل دريدا يتميز ﺑ «الافتراض الأساسي أن كل ذات أو كينونة معزولة تمامًا عن كل الآخرين.» فحسبما يقتبس دريدا وهو يكتب كما لو في ملف شخصي: «فبين عالمي وعالم الآخرين … هناك … انقطاع غير مُتناسب مع كل محاولات المرور والتجاوُز والعبور والاتصال والترجمة والمَجاز والنقل. فما من عالم، بل جزر منفصلة فقط.»13 فنحن لا نتعامَل مع الغيرية، بل مع الانعزالية.
أيًّا كان ما يعتقده دريدا، فما هو أخلاقي ليس على خلاف بطبيعتِه مع ما هو شائع، أو محدَّد، أو تقليدي، أو متوافَق عليه. فكلمة «عقيدة» تعني ببساطة «ما يُدرَّس»، دون أي إشارة بالضرورة للدوجماتية؛ فالعمل الذي يسجل فيه دريدا هذه الملاحظة المميزة هو عمل عقائدي، ولا ينقص ذلك منه شيء. ولا يُمكنك الهروب من الفرضيات المحدَّدة عن طريق استخدام الآلية الأسلوبية المستهلكة المفضلة لدى دريدا؛ الاستفهام البلاغي (ماذا يعني الضحك؟ هل يمكن أن يكون هناك نوع من الضحك الصافي المتحرِّر عن القانون، والواجب، والمسئولية، والالتزام؟ بل هل حتى هذا السؤال واضح؟ وماذا عن التساؤل الأول؟)14 وهي آلية تُشير لوجهة نظر مميزة بينما تولِّد إحساسًا بالانفتاح المتحمِّس.
إلا أن العقيدة تَنتمي إلى النظام الرمزي، وهذا هو السبب في خجل دريدا منها؛ فالأخلاق عدو لما هو محدد من الناحية المفاهيمية. وتتضمَّن المسئولية «قرارات مطلقة تُتخذ بعيدًا عن المعرفة وعن الأعراف المقرَّرة؛ ومن ثمَّ فهي تُتخذ في ظل محنة العجز عن اتخاذ القرار.»15 ليس من الواضح ما إذا كان اتخاذ قرار بإجراء عملية إجهاض يَنبغي أن يتمَّ دون معرفة مدى تقدُّم الحمل؛ لكن من الواضح أن دريدا لا يتحدث عن مثل هذه الأمور الدنيوية الفظة، بل هو يَتبنَّى نظرة غريبة تقول إنه حيث لا يُمكن للقرارات أن تُختزَل في أعراف أو معايير فهي شكل من أشكال «الجنون».

أما من الناحية اللاهوتية، فيُعد دريدا شخصًا إيمانيًّا يتمتَّع بارتياب بروتستانتي في العقلانية؛ فهو يرى على طريقة كيركجارد أن قفزة الإيمان المتضمنة في القرارات الأخلاقية مستقلة عن السبب. لكن القرارات قد تَعتمِد على أسباب دون أن تُختزل فيها. ويُشير دريدا إلى أن الخيارات الأخلاقية لا يُمكن «ضمانها» من خلال قاعدة ما؛ ولكن هذا لا يَعني أنه لا يُمكنها الاسترشاد بواحدة منها. فإن كان يشعر بالحاجة إلى فصل هذه القرارات عن السبب، فذلك لأنه يُريد أن ينقذها من خزي كونها ليست إلا استنتاجات من مبادئ مسبقة. ولكن هذا يُشبه إنقاذ سَباح لا يَغرق فعليًّا؛ إذ يُمكن للقرارات أن تكون عقلانية دون أن تُستمَد من المبادئ، مثلما يُمكن للكلام أن يكون سليمًا من الناحية النحوية دون أن يُمكن التنبؤ به آليًّا. لا يبدو أن دريدا يدرك بأن تحديد أسباب لالتزامات الفرد — أسباب لحبه مثلًا لسائقه — لا يَعني اختزال تلك الالتزامات في هذه الأسباب؛ فقد يَشعر شخص ما بالوجاهة الكاملة لأسبابي لكن لا يَشعر بالحب تجاه سائقي، فالالتزامات يجب أن تكون بالطبع عقلانية؛ لكن الإصرار على هذا الشرط لا يحل إشكالية لماذا نَفِي بها؛ حيث إن الحالات غير المتوافقة قد تكون على نفس القدر من العقلانية. إنَّ اهتمامنا بعقلانيتها هو المهم؛ لكن هذا لا يَستوي مع اتخاذ قرار من لا شيء.

إذا كان للمرء حقًّا أن يَختار طريقًا على نحو مُستقل عن كل الأعراف أو المعايير، فمِن الصعب أن تعرف من أي وجهة يُمكن أن يُسمَّى ذلك قرارًا؛ إذ سيكون أشبه بوصف قرقرة البطن بأنه أمر ملَكي. إن ما لا يُدركه ما يُسمى بالقرارية هو أنني لا يُمكنني أن أُسمي ما أقوم به خيارًا إذا لم تكن هناك معايير يُمكن من خلالها الاختيار. فالأخلاق، حسبما يَزعم دريدا، هي مسألة قرارات مُطلَقة ضرورية و«مستحيلة» معًا، وهو نوع من المصير العنيد الذي — كما عند أوديب — نُلام مع ذلك عليه تمامًا. ولا يسع المرء إلا أن يتنفس الصعداء لأنه لم يعد مؤهلًا للانضمام لهيئة المحلفين عندما تُنظَر قضيته.

تقوم النظرية الأخلاقية لدريدا — شأنها شأن تلك الخاصَّة بليفيناس — على نحو كبير على الشعور بالذنب، وهو ما قد يُعتبَر الوجه المقابل للمَسئولية. إن مسئوليتي تجاه الآخر يجب أن تكون مطلقة؛ لكن إن كنت مسئولًا تجاه الجميع، فكيف لذلك أن يكون؟ إن تبديد فرديتي بالمفهوم الجمعي أو العام يعني التصرُّف بطريقة غير مسئولة؛ ولكن من دون هذه المفاهيم العامة، كيف يُمكنني التصرُّف بمسئولية تجاه الجميع؟ إنَّ المسئولية كلها مُطلَقة، وفريدة، واستثنائية، وغير عادية؛ إلا أن أي تجلٍّ محدَّد لها سيُمثل حتمًا خيانة لمَسئوليتي تجاه الآخرين. إن هذه — كما سنرى بعد قليل — مُعضلة زائفة على نحو فاضح، كما أن المسئولية الفعلية يجب أن تتضمَّن الحساب المنطقي، وهو أحد الجوانب المتعدِّدة في النظام الرمزي التي يراها دريدا مَقيتة وحتمية. إن كلمة «الاقتصاد» عنده هي بُعبع آخر؛ حيث تشير إلى التبادل المنظَّم على نحو بائس للسلع أو الواجبات أو الخدمات، وهو تبادُل بعيد كل البعد عن جنون العطاء غير المحدود، والمشروع الخطير لالتزام يتجاوَز الحدود، والخوف والرجفة من التعرض المطلق للآخر الكبير. ولكي يكون هذا التعرض صادقًا، يجب أن يكون من النوع الذي «لا يقدم تفسيرًا أو تبريرًا إلى شخص ولا إلى الناس ولا إلى المجتمع ولا إلى رفقاء الفرد ولا إلى شخصه هو».16 فالمسئولية — كما يصر دريدا — موجودة؛ لكننا نفهم من نبرته أنها تخص إلى حد كبير أطباء الأسنان والبقَّالين؛ إذ لا بد أن نعطي ما لقيصر لقيصر، ونعطي الأشياء المطلقة ما لها. فالمطالبة بالتفسيرات والتبريرات هو شكل من أشكال «العنف»؛ وهو تعبير منمَّق ما بعد بنيوي مبالغ فيه. هل نفس الشيء يَنطبِق على تحميل شركات السكك الحديدية المسئولية عن إهمالها المتسبِّب في الحوادث، أم أننا نتحدَّث عن مستوى أرقى تمامًا؟
إن المسئولية، كما يكتب دريدا، «تتطلب من جهة تقديم تفسيرات؛ أي الرد العام عن النفس فيما يتعلَّق بما هو عام أمام العموم؛ ومن هنا جاءت فكرة الاستبدال، وتتطلب من جهة أخرى التفرد، والفردية المطلقة؛ وبالتالي عدم الاستبدال وعدم التكرار والصمت والسرية».17 وقد رأينا بالفعل أن هذا الاستقطاب يُمكن تفكيكه؛ فالعمومية الحقيقية تنطوي على اهتمام بما هو خاص، وليس غضَّ الطرْف عن المطالبات الخاصة في ضوء السعي الحميم نحو العمومية. إن قوة مصطلح «عام» أو «عمومي» لا تظهر هنا إلا لتذكيرنا بأننا نتكلم عن أي خصوصية، مهما كانت. وما من محاولة هنا من جانب دريدا لإيجاد سبيل من الخاص إلى العام كما هو الحال — وإن كان بمشقة وغموض — في كتابات ليفيناس. وكما هو الحال بالنسبة للنطاقَين الحقيقي والظاهري عند كانط، يتجاور هذان العالمان وتفصلهما هوة غير قابلة للاتساع. إن دريدا ليس برجل قرارات، والتي يُشك — عن غير حق — في أنها دائمًا ما تكون مسكِّنة وعضوانية. فالأخلاق والسياسة في صراع دائم، وكلاهما بالتأكيد لا غنى عنه؛ لكن يبدو أن ثمة أشياء كثيرة تضيع فيما بينهما.
إن أخلاق النظام الواقعي تعارض مظاهر العزاء الزائف للنظام الخيالي، وفي نفس الوقت ترفض ضرورات النظام الرمزي. وهي تُعارض ما يسميه دريدا دون اكتراث «سلاسة عمل» المجتمع المدني، أو «الرضا التقليدي بخطاباته عن الأخلاق والسياسة والقانون وممارسة الحقوق …»18 فهل كل أشكال السياسة والأخلاق إذًا تؤدِّي ببساطة إلى سلاسة الوضع الراهن؟ وهل كل خطابات المجتمع المدني عن السياسة والقانون والأخلاق مَرضية تمامًا؟ ماذا عن الحملات المضادة للحرب والفقر أو القوانين المُجَرِّمة لاستغلال الأطفال أو الكفاح من أجل حقوق المهاجرين؟ أين التناقضات في هذا النظام الاجتماعي المتجانس ظاهريًّا؟ لماذا هذا التأكيد القوي على تجانس الوجود الاجتماعي من قِبَل داعية الاختلاف؟ إن لدى دريدا الكثير ليقوله عن عنف القانون؛ ولكنه مثل معظم اليساريِّين التحرُّريِّين يسكت عن قدرته على الحماية والرعاية والتثقيف. يتَّسم التحرُّر السياسي بإلحاح لا يألفه ليفيناس المحافظ؛ لكن مفهوم اللاتناهي، لا السياسة، هو ما يشعل جذوة خيال دريدا. يتبنى سايمون كريتشلي وجهة نظر مماثلة عندما يكتب عن الأخلاق باعتبارها «سياسة ما ورائية فوضوية»، أو «تشكيك مستمر من القاعدة في أي محاولة لفرض النظام من الرأس … فالسياسة تجسيد للاختلاف؛ غرس لتعدُّدية فوضوية تُشكِّك في سلطة الدولة وشرعيتها».19 لكن ماذا لو كانت الدولة المعنية تُكافح لتتحرَّر من الاستعمار عن طريق القوة الثورية؟ وماذا لو كان تيار معين من المعارضة رجعيًّا؟ أليس من الممكن ألا يوجد ثمة إجماع أصيل؟
إن مقال دريدا «قوة القانون» مثال تقليدي لهذه التحيزات؛ فالقانون عند دريدا متناهٍ ومحدَّد وسلبي إلى حد كبير، في حين أن العدالة لا مُتناهية وغير محدَّدة وإيجابية بامتياز. يبدو الأمر وكأن العدالة، التي تُعدُّ حجر الأساس الثمين في النظام الرمزي، لا بد من إخراجها من هذا المجال السيئ السمعة إلى حدٍّ كبير، وإحاطتها في المقابل بهالة شبه دينية. أما ليفيناس، فهو أكثر التباسًا في هذه المسألة؛ إذ نجده حائرًا أحيانًا بين إدراج العدالة في المجال الأخلاقي وإدراجها في المجال السياسي. إن ما يَسترعي اهتمام دريدا ليس الالتزام بالقانون بالمفهوم التقليدي، بل هو نوع من العدالة «لا يتجاوز ويناقض القانون فقط، بل أيضًا قد لا يحمل أي صلة به أو تكون صلته به غريبة لدرجة أن يتطلب وجود القانون بقدر ما ينبذه».20 إن ما يُقدِّره قبل كل شيء هو كل ما هو مراوغ ومُتسامٍ ولا متعين، وكلها أمور أكثر بريقًا من الأشياء المحددة الرتيبة الموجودة في العالم التقليدي. فالشيء المحدَّد — كطب الأسنان — في نظر دريدا لا مفر منه، لكنه غير جذاب. وبصورة عامة، فإن ما لا لبس فيه في رأيه لا إلهام منه. إنها عقيدة غريبة في جمودها؛ إذ لا يبدو أن دريدا يُقدِّر أن ثمة عبارات مُباشِرة جذابة وأخرى مُتعدِّدة المعنى رتيبة؛ فالتعدُّديُّون الحقيقيون يعرفون أننا بحاجة أحيانًا إلى أن نتحدَّث بكل الدقة والتحديد المُمكنَين، وأحيانًا العكس؛ فالتعريفات قد تكون كاشِفة وقد تكون (كما يشير فتجنشتاين) مجرد نقل منمق. ورغم كل القوة الهائلة والأصالة اللتَين يتميَّز بهما عمل دريدا (فهو بالتأكيد أحد أشهر فلاسفة القرن العشرين)، فهو بكلمات برنارد ويليامز المفكر الذي «يَعتبر عدم اليقين ميزة، وبدلًا من تكوين قناعة، يستمتع … بعدم الحسم المنمق.»21 وهذا لا يعني أن دريدا لا يَمتلِك أي قناعات على الإطلاق.
بالنسبة لدريدا، القانون قابل للقياس، في حين أن العدالة غير قابلة للقياس. ولقد صارت نقاط الاختلاف بين الجانبين متوقعة الآن على نحو واضح؛ فالقانون «آلية تشريعية قابلة للتثبيت والقياس، ومنظومة من الأوامر المحدَّدة والمدونة.» وهذا تَعريف يتظاهَر بالحياد لكنه يكشف عن عداء سرِّي في كلمة من كلماته. أما العدالة، على النقيض، فهي «لا متناهية، وغير قابلة للقياس، وعصيَّة على التطبيق، ولا تتَّسم بالاتساق، ومتباينة العناصر ومتعددة المستويات».22 وهي تتخطَّى القواعد والخطط والحسابات. ومن الواضح بالقدر الكافي أي طرف في هذا المقارنة أكثر جاذبية لدى دريدا، حتى إذا كان هو ذلك الذي يَنطوي على نفور من التحيُّز. وتلا هذه المقارنة محاوَلة فاترة بعض الشيء من جانب دريدا للإنصاف؛ فالمساواة والحقوق العامة، كما يزعم، لهما نفس أهمية ما هو مُتباين العناصر وفردي على نحو مُتفرِّد. فعلى المرء أن يُسلِّم نفسه إلى «القرار المستحيل» مع «مراعاة» القوانين والقواعد. إن فضل العدالة على القانون لا يَنبغي أن يصير ذريعة لتجنُّب المعارك التشريعية السياسية. ولكن هذا الجهد الساعي لتحقيق التوازن بين الطرفين تُقوِّضه القرارية الأخلاقية عند دريدا التي تبدو أنها تعتبر الخيارات الأخلاقية الحقيقية مُتجاوِزة للقواعد والأسباب. ولو أعطى دريدا ما هو محدَّد وزنَه الحقيقي، فقد يَحمِل نفسه على الإقرار بأن الخيارات الأخلاقية تظل خيارات حتى عندما تكون مرتبطة بقواعد ومحكومة بقوانين. فاتباع القواعد، كما يشير فتجنشتاين في عمله «تحقيقات فلسفية»، ليس هو نفسه الالتزام بقانون؛ إذ إن تطبيق القواعد في حد ذاته ممارسة إبداعية، بل لن تكون هناك حرية دونه. لذا، فلا حاجة لإنقاذ القرارات من وطأة القواعد في سبيل الحفاظ على حريتها؛ فالقرارات ليست ضربًا من الجنون، كما يرى دريدا على ما يبدو، بل هو ضرب من الجنون أن يُعتقَد ذلك.

ماذا يَعني الزعم بأن العدالة لا متناهية؟ ربما هي لا متناهية بمعنى أن الرغبة فيها لا متناهية — وذلك كما رأينا في حالة شايلوك عند شكسبير ومايكل كولهاس عند كلايست — أو بمعنى أنه: حيث إنه لا توجد نهاية ظاهرة للظلم، فلا توجد نهاية للعدالة كذلك. لكن من المناسب أكثر أن تُعتبر العدالة متناهية؛ فعطش شايلوك لها قد يكون بلا ارتواء، لكن الشيء الذي تتعلَّق به رغبته شيء يعتبره ببساطة حقه. إن الحياد هو ما يسعى وراءه؛ فالعدالة — كما الانتقام — قضية رد العين بالعين؛ إذ هي مسألة تقدير المزايا وحساب العوائد، وهي المُمارسات التي ليست بأي حال من الأحوال دنيئة أو ضيِّقة الأُفُق بطبيعتها، كما قد يَعتقد الواقعيُّون الأخلاقيون؛ إذ لا غَضاضة في أن تطلب رد دين جعلك شبه مُعدم بعد أن ورث مَدِينك تركة كبيرة. وإذا كانت فكرة العدالة تُسبِّب نوعًا من الإشكالية لكل من ليفيناس ودريدا؛ فذلك لأن كليهما (لأسباب ليس أقلها أصولهما اليهودية) شغوفان بها عمليًّا، إلا أنَّهما في الوقت نفسه حذران من القانون والتشريع والقواعد والتبادُلية، وكلها أشياء يُشوِّهانها ظلمًا باعتبارها أخلاق المدينة وليس التسامي.

ثمة وجه يتمكَّن فيه دريدا من أن يجمع بين أمرين مستحيلَين في نفس الوقت. فإذا تخلى عن الأخلاق — بمعنى الرضا الرتيب بخطابات تجريم استغلال الأطفال — فهو يفعل ذلك من أجل الأخلاق — بمعنى تحمُّل المسئولية أمام أوامر النظام الواقعي. وهو، على هذا المحمل، يكرر مفارقة النبي إبراهيم الذي أوشك على ذبح ابنه في كتاب كيركجارد «خوف ورعدة»؛ إذ هو ممزَّق بين واجبه المطلق تجاه ربٍّ يبدو ساديًّا وحبه لابنه إسحاق. أو هو بتعبير آخر: عالق بين الأخلاق — التي هي مسألة عمومية عند دريدا (وإن لم تكن عند ليفيناس) — وخصوصية الإيمان. يختار النبي إبراهيم، المدفوع بالأمر الإلهي بذبح ابنه، الربَّ على ما هو عمومي؛ يختار الفردية المُطلَقة لإيمانه بالرب على القوانين العامة؛ ومن ثمَّ فهو مسئول وغير مسئول على حدٍّ سواء؛ فهو يصبو إلى النظام الواقعي، الذي طالما هو أسمى من الأخلاق، بدلًا من التزامات النظام الرمزي. يُؤكِّد دريدا على أن «القيم المطلقة للواجب والمسئولية تفترض في الوقت ذاته أن يهجر المرء ويدحض ويتجاوَز كل واجب وكل مسئولية وكل قانون إنساني.»23 لكن تلك الروابط الرمزية يجب أيضًا الحفاظ عليها؛ إذ لو لم يحبَّ النبي إبراهيم ابنه حبًّا جمًّا، لما كان ذبحه يعدُّ بالطبع تضحية. ولا بد له، كما كان، أن يكره إسحاق بقدرِ ما يُحبه، وهو بقتله يضحي بالأخلاق أيضًا. لكن هذه أيضًا لن تكون تضحية حقيقية إلا مع الإقرار كذلك بقيمة الأخلاق.
لم يكن توجُّه النبي إبراهيم عاطفيًّا على وجه التحديد، لكن كان يتمتع بالأمل المُطلَق. وهو تمييز بين الأمل والتفاؤل أوضحه على نحو مفيد الفيلسوف الأمريكي جوناثان لير؛24 إذ يرفض النبي إبراهيم التخلي عن رغبته في المستحيل — في ربٍّ تتفق أوامره مع فروض النظام الرمزي — في المفارقة غير المتصوَّرة المعروفة باسم «الإيمان»، ولأنه تمسك بعناد بالمستحيل؛ فقد تحقَّق هذا المستحيل؛ حيث يرجع الرب في أمره وينقذ عبده. إن تقبل النبي إبراهيم لعدم الجدوى الظاهرية لفعله هو ما يُحقِّق له في النهاية ما يريد. فهو، كما يشير كيركجارد، «عظيم بتلك القوة التي لا حول لها ولا قوة.» وكما هو الحال في العديد من الحبكات التراجيدية، سيأتي شيء فجأة من لا شيء.

إن البطل التراجيدي الكلاسيكي في نظر كيركجارد يتحرك في الدائرة الأخلاقية، وهو ما يعني أن مصيره — وإن كان لا يحسد عليه — واضح على الأقل. أما النبي إبراهيم، في المقابل، فيتجاوز وساطات الأخلاق التي تقبل كل الخصوصيات فيها التبادل فيما بينها دون اختلاف؛ ليؤسس علاقة مباشرة مع المطلق، علاقة تذهب به إلى ما وراء حدود الخطاب الأخلاقي والفهم العقلاني. ومن الناحية الجمالية، يمكن للمرء أن يدَّعيَ أنه يُمثل الرمز الرومانسي أكثر من ممارسته التمثيل الرمزي. إن إبراهيم — باستعداده لنبذ الأوامر الأخلاقية باسم النظام الواقعي — يثبت أنه تحدٍّ حي ليس فقط للأعراف التقليدية ولكن لجدلية هيجل؛ فهو يرفع الخصوصي على العمومي، متطلعًا إلى اللغز المحيِّر لإرادة يهوه مقابل التجليات الواضحة للنظام الرمزي. في نظر الإيمان، يوجد آخر كبير حتى فيما وراء الآخر الكبير الرمزي. ومن هذا المنطلق، يُحاول النبي إبراهيم تحقيق المشروع الأكثر إثارة للرهبة عند كيركجارد: الوجود بصفته فردًا. فالأفراد، كما رأينا بالفعل، من هذا المنظور البروتستانتي المتطرف كيانات متفرِّدة تمامًا، لا يوجد تشابه فيما بينها على الإطلاق؛ وهي بذلك تُمثِّل الدمار المحقق للنظام الرمزي ولأي سياسة عقلانية كذلك. والشيء الذي يظل على حقيقته بصفة خالصة وأبدية لا بد له أن يُفلت من قبضة كل هذا.

إن النبي إبراهيم بسلوكه هذا يَستبِق الدراما المأساوية لصلب المسيح، ففَقط إذا كان المسيح يجهل مصيره — وقوبلت دعوته المُعذَّبة للشهامة بالصمت القوي الذي هو الرب — فيُمكنه أن يعود ممجدًا من بين الأموات. وإلا، سيظل عالقًا في منطق العين بالعين أو التبادل الرمزي. هذا العذاب المؤقَّت في مقابل النعيم السماوي. لكن النبي إبراهيم، بعد أن برهن على إيمانه بالرب الذي يتجاوَز كل هذه الموازنات والمعادلات، أُرجعَ مرةً أخرى للنظام الرمزي، واجتمع من جديد مع ابنه إسحاق. وهذه علامة على أن قانون الحب البشري هو في الواقع وسيلة حضور الرب في العالم. إنَّ قوانين الأخلاق معلقة لكنها ليست غائبة، وبِنية هذه الحكاية ساخرة. إن الحكاية التي تحمل لمسة كيركجارد يخطُّها قلم أحد أكبر أساتذة السخرية في العصر الحديث؛ إذ لا يمكن أن يتحول الإيمان إلى خطاب أخلاقي دون أن يبقى جزء غير مفهوم، ولكن كذلك لا يمكن للاثنين أن يسكنا عالمَين منفصلَين تمامًا. فإن كان الإيمان حماقة عند الحكماء، وضربًا من الغموض والسمو لا يقبل حساب العوائد، فهو كذلك متجسِّد في الحب البشري التقليدي؛ والحب البشري هو ما تذود عنه حكاية إبراهيم في النهاية؛ حيث يُعاد بابتهاج الابن إلى الأب.

إن رحمة الرب إذن هي ما يُنقذ إسحاق من الهلاك؛ لكن ليس لنا أن نفترض قانعين أن منطق الرب يتشابه مع منطقنا؛ وأنه قد أرسل إلى النبي إبراهيم تذكِرة في الوقت المناسب بهذه الحقيقة المزعجة من خلال مطالبته الوحشية له بإنهاء حياة ابنه. أما دريدا — في المقابل — فيسعى لجعل هذه الحكاية في خدمة فكر بروتستانتي متطرف؛ فشخصية الرب في هذه القصة تبدو متقلبة ومتغطرسة، لديها أهواء ونزوات، كنجوم موسيقى الروك المدلَّلين. إن هذا في واقع الأمر هو ما يبغضه بشدة الإنسانوي الليبرالي العادي في هذه الحكاية؛ لكن هذا هو عين ما يراه دريدا جذابًا. وبما أن إعجابه بالفضل أكبر من إعجابه بالعقل — أي بما أنه يربط العقل بالواقع السياسي، لا بالتحول السياسي (كما هو الحال مع هيجل) — فهو لا يرى هذه الصورة المتقلبة عن الرب التي تحمل طابع باسكال غير مستساغة بأي حال؛ فالخوف والرعدة ليسا شعورين مكروهين على الإطلاق.

إن الإخلاص للنظام الواقعي (لا يستخدم دريدا هذا المصطلح، لكنه يتحدث عن شهود الرب باعتباره شهودًا «يُذهل من الرجفة») سوف «يُجبر فارس الإيمان عند كيركجارد على أن يقول ويفعل أشياء ستبدو (بل ويجب أن تكون) فظيعة.»25 من الصعب تحديد ما إذا كان دريدا يعني فعلًا ما يقول — أن «على» الإنسان أن يقوم (فعلًا) بأشياء فظيعة — أو أنه تنميق بلاغي صارخ آخر من جانبه. على أي حال، فهذا غير منصف لقصة النبي إبراهيم الذي يصوره دريدا على نحو فظيع في موضع معين في صورة «قاتل»، لكنه بالطبع ليس كذلك، فهو لا يسعى لقتل ابنه، ويبدو من قصر النظر بعض الشيء أن يتجاهَل دريدا هذه النقطة الحيوية في الحكاية. إن هذا مُشابه لافتراض أن شخصية ديدمونة لم تَمُت وإنما أصيبت ببعض الخدوش الطفيفة. وتقع سيلفيان أجاسنسكي في خطأ مماثل؛ إذ تكتب بصورة متكرِّرة عن «جريمة» النبي إبراهيم. لكن إبراهيم لا يرتكب أي جريمة، إلا إن كان الناظر إليه يَنتمي لما يُعرف بشرطة الأفكار. وفي النهاية، ما من تعارض بين أمر النظام الواقعي وفروض النظام الرمزي؟ فالرب يختبر ببساطة إيمان عبده. والحكاية محاكاة ساخرة للتهوُّر الخلاق الملازم للإيمان؛ فالقانون الرمزي — الأمر بعدم القتل — «هو نفسه» أمر النظام الواقعي. ما من تعارُض على هذا المستوى بين الحلول والسمو؛ فبحسب العقيدة المسيحية اليهودية، إن الربَّ حاضر عندنا بقدر حُضور بعضنا أمام بعض؛ فهو متجسد باللحم والدم، ليس فقط (كما يرى دريدا بأسلوبه الجانسني) باعتباره ذاتًا لا حاضرة مستغلقة أبدًا تضع منطقًا إنسانيًّا بائسًا محلها. فعدم التناقض بين الربوبية والإنسانية يُعرَف في العقيدة المسيحية بعقيدة التجسد؛ فإن كان الرب فعلًا على وجه ما آخرَ مغايرًا تمامًا، فهو يتجسد أيضًا في الجسد المعذب لمجرم سياسي مُهان. وهذا الجسد، شأنه شأن أي فارماكوس أو كبش فداء ملوَّث على نحو رهيب، هو «آخر» أو لا إنساني بدرجة كافية ليكون علامة مناسبة عليه. والخبر الجيد في العهد الجديد هو أن الهلاك على يد الدولة في سبيل المناداة بالحب والعدل هو الحال الذي علينا جميعًا أن نَصبوَ إليه؛ فرسالة العهد الجديد هي أنك إن خلوت من الحب، فأنت ميت، وإن ملأك الحب، فسيَقتُلونك. هذا إذن هو مبتغاك المستحيل ومُسكِّنك الزائف. فهي رسالة مخزية بنفس القدر عند الليبرالي المتحضر، والإنسانوي المناضل والتقدمي البريء.

إن عدم الغموض الكلي للرب نقطة يفهمها ليفيناس جيدًا، والذي يرى أن مبلغنا إلى السمو هو وجه الآخر الكبير. أما دريدا — في المقابل — فيُبالغ في الصراع بين النظامين الواقعي والرمزي، بين الرب والجار، بين الإيمان الديني والأخلاق الاجتماعية، لدرجة الوصول لطريق مسدود غير معقول. والمغزى من قصة النبي إبراهيم هي أن يهوه يتجلَّى فعلًا في الحب البشري، غير أننا لا ينبغي لنا استغلال هذه الحقيقة بأن نعتبره على نحو وثني صورة مُكبَّرة من أنفسنا؛ فذلك يعني رؤيته بعين النظام الخيالي؛ أي اختزال اللا رب هذا في «أنا» بديلة مواسية، قد نتلاعب بعد ذلك باسمها المحظور لأغراضنا الخاصة. هذا التلاعب، الذي يُحوِّل الإيمان إلى أيديولوجيا، يُعرف بتاريخ الدين. لذا، فإن الاختلاف المطلق ليهوه يجب التأكيد عليه مع تجلِّيه؛ مع لا وجوده وتساميه على الخبث البشري، مع الطريقة التي يتفادى بها تصوراتنا وأفعالنا المادية باعتباره ناقدًا قاسيًا لها من خلال ما لديه من حب هائل وغير مشروط. فالربُّ ليس كائنًا أخلاقيًّا في ذاته وإن كان هو مصدر الأخلاق في الآخرين، فهو ليس شخصًا ساميًا منزَّهًا يمكن استمداد الصفات الأخلاقية منه، وهو لا يمكن أن يكون أساسًا لعقيدة عقلانية صرفة مثل فلسفة كانط بكل مَعقوليَّتها المدنية المنمَّقة. كل هذا يُدركه دريدا على وجهه الصحيح. لكن يهوه لا يُمكن فصله عن الأخلاق الإنسانية في نوبة من التسليم الإيماني أو استراتيجية ما بعد بنيوية تلعب على وتر ما هو جنوني وعنيف وسخيف ولا عقلاني وغير مبرر ومستحيل. إن السياسة في نظر دريدا في نفس الوقت مجال «القرار» ومنطقة الإدارة؛ وهو ما يَعني أنه يبالغ في تعظيمها ويُحقرها في الوقت نفسه. إن كانت قرارية الفيلسوف النازي كارل شميت تنبع من نوبة من العقلانية التنويرية، فإن نظيرتها عند دريدا وأتباعه عَرَضٌ لأزمة تاريخية لاحقة؛ فهي تنتمي لعصر يبدو أنه لا يوجد فيه أي أساس عقلي لسياسة راديكالية.

إن المعتقد الديني عند كيركجارد يقابله صورة سامية من الأخلاق عند ليفيناس ودريدا. فإن كان الفيلسوف الدنماركي يَدعم الدين على حساب الأخلاق، فإن نظيرَيه الفرنسيين يبجلان أخلاق النظام الواقعي أكثر من أخلاق النظام الرمزي. فالآخَر الكبير أصبح الآن آخِر آثار السمو في عالم دنِس. لكن من الخطأ اعتبار قصة النبي إبراهيم نموذجًا للحياة الأخلاقية. هذه بدرجة كبيرة هي نظرة هؤلاء الذين يُريدون لنظرياتهم الأخلاقية أن تكون أرقى روحيًّا من الحملات على المراكز التجارية مثلًا، وأن تكون صدًى للامعقول والمُستحيل والمفارقات واللانهايات أكثر من النِّضال في سبيل الإبقاء على إحدى دور الحضانة. إن قصة العهد القديم هذه في واقع الأمر تتعلَّق بلا معقولية الإيمان في أعين المنظِّرين والفلاسفة؛ لكن الإيمان محل النقاش هو الإيمان بيهوه الذي يقدم للجوعى كل ما هو طيب ويرد الأغنياء خالي الوفاض. فالقضية إذًا ليست الإيمان مقابل الأخلاق، ولا الدين في مقابل الفضيلة، بل القضية هي أن النبي إبراهيم — رغم كل الدلائل الملموسة — يتمسَّك برب الأخلاق والسياسة؛ نصير المعدمين ومُعين المهاجرين ومحرِّر المستعبَدين، الرب اللاديني الذي يبغض قرابين اليهود المحروقة ويبطش بالمتجبرين على الفقراء. قد تبدو أخلاق دريدا للوهلة الأولى متفقة مع وصية العهد الجديد بجعل ما لقيصر لقيصر، وما للربِّ للرب. فمَطالب الدائرتين، الرمزية والواقعية، يجب أن تُجاب؛ لكن سيبدو أن هناك عداءً أكثر من الاتفاق بين الاثنتين؛ فالسياسة والدين لا يجتمعان. لكن من غير المرجح على نحو كبير أن هذا ما سيفهمه أحد اليهود المتدينين الأُوَل من وصية المسيح؛ إذ من بين الأشياء التي هي للرب العدل والرحمة والصلاح، وهو ما تجسد في العهد القديم في حماية الضعفاء والترحيب بالمنبوذين؛ فأوجه التمييز الحديث بين السياسة والدين غير مناسبة هنا.

عادةً ما يُعد النبي إبراهيم صورة أخرى من المسيح المصلوب، الذي هو رمز آخر ظل مخلصًا في خضمِّ عذابه وحيرته لربٍّ يبدو أنه تخلى عنه. لكنَّ هذَين الرمزين المذكورين في الكتاب المقدس يَتشابهان من وجه آخر أيضًا؛ فكلاهما ناقد لاذع للنظام الرمزي في ضوء القرابة؛ إبراهيم لأنه مُستعدٌّ لقتل فلذة كبده والمسيح لأن سلوكه تجاه أسرته في أغلب الأمر سلوك رافض، فثمَّة صورة جديدة من النظام الرمزي أو الحركة الجماعية على وشك أن تتشكَّل، صورة ستتعارض بشدة مع دوائر السيادة وروابط الدم والولاءات الراسخة؛ فتفرق بين الأب وأبنائه وتفصل في عنف بين الجيران وتنزع جيلًا من أيدي جيلٍ آخر.

إنَّ الصراع عند دريدا بين الفردية المطلقة والمسئولية العمومية — وهو صراع ينبغي في نظره ألا يُقبَل حلًّا — هو نموذج من التوتُّر عند ليفيناس بين الأخلاق والسياسة، لكنه في الغالب مُعضلة زائفة. ففكرة أنني بإطعامي قطتي (مثال دريدا المبالغ في السخف في عمله «هبة الموت») أتجاهل على نحوٍ حتمي كل القطط الجائعة في العالم ليست مسألة تَستحِقَّ اللوم كما يظن دريدا؛ ولا يسعني أن أشعر بالذنب بصورة معقولة إلا عن الأفعال أو حالات التفريط التي أستحق أن أُلام عليها؛ إذ لا يمكنني أن أطعم كل القطط على وجه الأرض، وإن امتلكت أقوى إرادة في العالم وأسطولًا من الشاحنات مليئًا بلحم الكبد المفروم. والمسئولية بهذا المعنى متناهية، ومن المبالغة العديمة الجدوى الزعم بأنها لا مُتناهية. ثمة مواقف حقيقية كافية للشعور بالندم في العالم دون الحاجة لأن يَختلق المفكرون الباريسيون بعض المواقف المتخيَّلة. ويلاحظ ليفيناس — بنفس القدر من اللاعقلانية الطنانة وعلى طريقة نجمِ روك مرتبك — أننا عندما نشرب القهوة كل صباح، فإننا «نَقتُل» إثيوبيًّا ليس لديه قهوة ليشربها. وهذا كما قد نظنُّ فيضٌ من المبالغة الميلودرامية المُميِّزة لتيار من الفلسفة الفرنسية الحديثة، بمفرداته المبالِغة عن «الجنون» و«الوحشية» و«العنف» و«الاستحالة» و«الاختلاف المحض» و«الفردية المطلقة» وما شابهها. إن الحقيقة العاقلة المنمَّقة هي أنني في لحظة الكتابة لستُ مرتكبًا لظلم بحق طفل لا أعرفه يُعاني في السودان، كما أنني باختياري الإقامة في مدينة جالواي لا أُهين بأي شكل مدينة ناشفيل أو مدينة نيوكاسل. إن الحل الحقيقي للصراع بين الفردية والعمومية حلٌّ عرضناه من قبل. فعلى المرء أن يوليَ اهتمامه الكامل للغريب الذي يتصادَف في اللحظة الحالية أنه يَشغل موقع الجار، مع القيام بالأمر نفسه مع الرجل التالي الذي يَتصادف وجوده في الجوار، أيًّا كان من هو. فالعمومية تعني المسئولية عن أي إنسان، وليس المسئولية المستحيلة عن الجميع في نفس الوقت، فافتراض أنها بالمعنى المستحيل — حتى مع الإصرار على استحالته — يَكشف عن غطرسة معيَّنة للامتناهي، مهما بدت نبرتها اعتذارية ولوامة للذات.

إن ليفيناس مُحق بالتأكيد في اعتقاده أن المسئولية لا مُتناهية، على الأقل بمعنى أن عليَّ أن أكون مُستعدًّا للموت من أجل الآخر الكبير. وهذا حتى إن كان غريبًا أو عدوًّا، وهو حال الآخر الكبير دائمًا من وجه ما. في الحقيقة إن كان الآخرون أعداءً فهذا يرجع جزئيًّا إلى أننا قد يُطلَب منا دائمًا أن نقدم حياتنا فداءً لهم. ولا يسع الإنسان إلا أن يأمل من كل قلبه ألا يواجهَ هذا الواجب غير الملائم إطلاقًا في طريقه، حتى وإن كان يواجهه مقاتلو حروب العصابات طوالَ الوقت. وطالَما يجب على المرء أن يكون على استعداد للموت لأجل أي شخص دون تفريق، فإن المساواة والعمومية — في ظل الظروف المناسبة — ملازمتان للحب أو الأخلاق؛ فهما ليستا محدودتين بمجال السياسة، كما يتصور ليفيناس على ما يبدو، مثلما أن الحب لا يقتصر على الدائرة الشخصية. (آلان باديو فيلسوف آخر يقع في هذا الخطأ الفرنسي الطابع عن الحب؛ إذ يَعرفه بصورة كبيرة في إطار شهواني ويزعم أن الحب يبدأ حيث تنتهي السياسة.) لكن لا يُمكن للمرء على أي حال أن يموت من أجل كل شخص. ولا يَنبغي للمرء أن يُفرِّط في الحرص على إعفاء الآخرين من مسئوليتهم عن أنفسهم. فالمسئولية عن الآخرين شأنها شأن غيرها من الفضائل الإنسانية يجب أن تكون في حدود التعقل والواقعية؛ إذ يوجد نوع ملائم من التهوُّر يكمن مثلًا في الموت من أجل غريب، ونوع غير ملائم يَكمن — لِنقُل — في إلقاء المرء بنفسه أمام شاحنة لكي يتمكن غريب من عبور الشارع دون أن يُسقِط من يده الآيس كريم الذي يمسكه بيده.

إذًا يتَّسم الحديث عن اللاتناهي هنا ببعض المنطقية اليائسة؛ إذ ليس صحيحًا — كما قد يتصور ليفيناس أحيانًا — أن مسئوليتي تجاه الآخر الكبير لا متناهية، بينما واجباتي تجاه المواطنين المَجهولين لي في النظام الرمزي منظمة تنظيمًا صارمًا. فمن ناحية، يجب أن أكون مستعدًّا في أشد الظروف لأن أُقدِّم حياتي فداءً لمن لا أعرفهم، وليس فقط لمن هم على مقربة روحية مني. ومن ناحية أخرى، فحتى عندما يشغل مواطن سابق مجهول لي موقع الآخر الكبير؛ فإن علاقتي به ينبغي أن تستمر في الخضوع لمتطلبات التعقل والعدل. فالعدل ليس مجرد علاقة بين مواطنين يجهل بعضُهم بعضًا. بل هو مرتبط بعلاقتنا بالآخر الكبير أيضًا. وهذا من بين أسباب عديدة تجعل التمييز الواضح بين الأخلاق والسياسة غير ممكن، وهو موضوع سنعود لمناقشته في الخاتمة.

تُمثِّل الغيرية عند دريدا وكذلك عند ليفيناس مسألة متعلِّقة بالفردية المطلقة، التي تتسم بأنها «مستغلقة ومنعزلة ومتسامية ولا متجسدة …»26 إنها تتسم بالانعزال لأنه بينما تختص الأخلاق بالعلاقات السليمة بين الفرد والآخرين، فهي ليسَت في منظور الواقعيِّين قضية مشاركة حياة الفرد معهم. ومن هذا المنطلق، فإن الواقعية الأخلاقية لا اجتماعية بقدر فلسفة كانط التي يظل الجزء الأكبر منها متفوقًا عليها. فهذه الأخلاق ترتبط، بأسلوبٍ واجباتي جيد عتيق الطراز، بالتزاماتنا تجاه الآخرين، لا استمتاعنا بهم؛ فالغيرية هنا ليست في الأساس محورًا للصداقة والألفة؛ بل تتجسَّد في حالة مُطلَقة يصير فيها الأصدقاء والأقارب مُستغلِقين بنفس روعة استغلاق النظرة الشيطانية ليهوه. فالخوف من أن يسعى الآخرون ليَجعلونا مثلهم — العُصاب الرهيب لما بعد الحداثة — قد بلغ الآن في حدَّته مبلَغًا يُرخص للااختراقية المتبادلة. وهنا عند اللاكانيين بداية الأخلاق بالضرورة؛ إذ علينا أن نصيغ وجودًا مع الآخرين ينبني على هذه الغرابة المشتركة. أما عند ليفيناس ودريدا، فإن الاعتراف بهذه العتامة المخيفة يكفي غالبًا ليكون منتهى الأخلاق.

•••

في كتابات آلان باديو، الذي يعد ربما أكثر الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين تأثيرًا، يتحوَّل النظام الواقعي إلى «الحدث»؛ هذه المعجزة التي تنبع من موقف تاريخي لا تنتمي إليه في الوقت نفسه. فالأحداث عند باديو ليست حقائق تاريخية مجردة، بل نقاطٌ إيمانية. إنها وقائع أصيلة بالكامل تقوم بذاتها تمامًا، ومنعطفات وبدايات خالصة ليست مرتبطة ﺑ «موقعها» في التاريخ، وتتجاوز سياقاتها وتنبع عشوائيًّا ومن لا شيء (إن صح التعبير) من إيمان راسخ لا سبيل لديه للتنبؤ بها. إنها أفعال اعتباطية محضة، لا يمكن التنبؤ بها مثلما لا يمكن التنبؤ بالفضل أو استراتيجيات قصيدة لمالارميه.

إن أحداث الحقيقة، كما يدعوها باديو، تأتي بأشكال وأحجام متعدِّدة، بدايةً من قيامة المسيح إلى اليعقوبية، من الوقوع في الحب إلى الاكتشاف العلمي، من الانتفاضة البلشفية إلى المدرسة التكعيبية، من مقطوعات شيونبيرج اللامقامية إلى الثورية الثقافية الصينية، والاضطرابات السياسية في فرنسا في مايو ١٩٦٨ (وهو مثال باديو الشخصي المكوِّن للذات). كل هذه التحوُّلات الطليعية تمثل عنده «فراغًا» في الموقف الذي تُعدُّ جزءًا منه ظاهريًّا، واستحضارًا لللاتَناهي تنسلُّ إلى هذا الموقف لكن لا يُمكن أن يُجرى تمثيلها بوضوح كامل. يرى بايدوا أنه يوجد عدد لا مُتناهٍ من العناصر في أي موقف، وهي حقيقة تطرح احتمال الفوضى أو العشوائية يجب للسلطة التقليدية أن تسيطر عليه. إنها تلك التعددية الفوضوية — التي تظهر في صورة بداهة سامية أو أزلية غير مُتصوَّرة، والتي يراها باعتباره «الفراغ» في الموقف — هي التي تَكمن في الموقف، لكن لا يُمكن تمثيلها؛ وإن نقطة «العدم» المتفردة هذه هي التي يَنطلِق منها ما يُسميه الحدث.

يُمكننا الزعم بأن هذا هو إعادة صياغة باديو للنظام الواقعي اللاكاني؛ فالحدث أمر لا يُمثل أي شيء، ولا يمكن تحديد ماهيته من منظور الموقف الذي يقع فيه. وكما أن أشد اللاهوتيين حرفية وأكثرهم عنادًا لم يمكنهم تصوير قيامة المسيح، فكذلك الحدث لا يمكن تسميته في إطار الموقف الذي يقع فيه؛ فهو — كتحفة طليعية إبداعها يخطف البصر — يمثل أصلًا خالصًا أو بدعة مجرَّدة؛ بدعة ليس لها أي علاقة بالسياق الذي تنتمي ظاهريًّا إليه، ولا يُمكن وصفها أبدًا بمفردات خطابه الضيقة؛ فالموقف لا يمكن أن يعبر عن فراغه الذاتي مطلقًا. فما يعتبره الحدث حقيقة، يعتبره الموقف الذي يقع فيه الحدث فارغًا من القيمة.

إن الكينونة في نظر باديو عبارة عن تعدُّدية لا تنضب، والتي تظهر لنا في أجزاء قابلة للإدراك أو مواقف منفصلة فقط من خلال «الاتحاد» أو التوحيد المؤقَّت من قبل ذات بشرية. بخلاف هذا، فهي مُستغلقة علينا بلا حد مثل دائرة كانط الحقيقية. لكن «التعددية غير الثابتة» التي يُخفيها هذا التوحيد، في وجود الحدث، تبدو كما لو كانت تتفجر لحظيًّا مرة أخرى لتمنحنا لمحة من اللاتناهي غير النظامي للكينونة المحضة؛ فالأحداث استثناءات للقاعدة مُتفجِّرة ومُمتنِعَة عن الوصف، وتجليات للحقيقة دونما أساس على الإطلاق؛ فهي مثل الثورة الإيرانية عند ميشيل فوكو تُمثِّل انقطاعًا لا يمكن تفسيره تمامًا للسببية التاريخية التقليدية.27 وعليه، فهذه الأحداث تُعارض المعرفة والتفكير والأنطولوجيا والقدرة على التنبؤ والقانون والأخلاق. باختصار كل تلك المسميات التقليدية التي يعدُّ عندها عين وجودها — كالمجموعات الرياضية المُنتمية لذاتها تمامًا — مُستحيلًا من الناحية الحرفية.
قد يتوقَّف المرء برهة ليتساءل كيف لنا أن نُحدِّد ما يُعتبر حدثًا، أو كيف لنا أن نعرف مثلًا المواقف التي تتَّسم بالتعدُّدية اللامتناهية دون أن يكون مفهوم الحقيقة حاضرًا منذ البداية. لكن الحقيقة عند باديو أدائية أكثر منها افتراضية، بل والأخطر من ذلك، يمكن للمرء أيضًا أن يتشكَّك في صحة منظومة أخلاقية ترى الفضيلة — بمعنى الحكم اليومي على ما هو صواب وما هو خطأ — مرفوضة على نحو عنيف. ويقول باديو مُدافعًا عن العنف الثوري في ترنيمة مدح لثورة ماو الثقافية إن «فكرة التحرُّر الكامل … مكانها يقع فيما وراء الخير والشر … إن الشغف اللينيني بما هو واقعي … لا يَعترف بالفضيلة؛ فالفضيلة — كما أدرك نيتشه — عبارة عن مجرد سلف؛ فهي من مخلفات العالم القديم.»28 فالأخلاق طليعية، بينما الفضيلة برجوازية صغيرة ومن الماضي. فنُخبوية نيتشه تتماشى جيدًا مع النقائية الثورية.

إن الأصالة المُطلَقة ﻟ «الحدث» عند باديو — في مفارقة — هي «تصور شائع». فليس هناك ما هو أكثر حداثة في العادة من الحلم بهذا الانفصام الذي لا يُوصف عن الواقع. ويُمكن أن نفكر مثلًا في روايات جوزيف كونراد المليئة بالأحداث السردية المحورية — قفزة لورد جيم المهمة والطقوس التي لا تُوصف، المحيطة بكيرتس في رواية «قلب الظلام»، وقتل ويني فيرلوك لزوجها في رواية «العميل السري»، وتفجير ستيفي في نفس الرواية، وتفكُّك ديكود التدريجي في «نوسترومو» — التي كلُّها تحدث، إن جاز التعبير، بعيدًا عن عين القارئ، وتُلمَح بطرْف العين بدلًا أن تُرى مباشرة. وفي عالم حتمي رتيب، فإن الحقيقة والحرية والذاتية ستظل ألغازًا مُستعصيَة على الاختراق مثل مَجاهل أفريقيا. لذا، فإن شخصيات كونراد تُمنَح لحظة سمو عليا لتَشهد فقط هذا الحدث الأقرب إلى المعجزة وهو يغرق حتمًا من جديد في العالم الظاهري، ويُعادُ امتصاصه في سيل المادة الخالية من المعنى والزمن الفاسد إلى أن تُواجه الذات الحرة الآن وجودها الذاتي باعتباره حقيقة محضة. إنَّ القفز ربما يكون قرارًا حرًّا، لكنه يُسلمك لقوى الطبيعة التي ليس لك عليها أي سيطرة.

إنَّ أحداث الحقيقة، كما يُسميها باديو، لا يُمكن معرفتها وقت حدوثها؛ فوجودها لا يمكن القطع به إلا بعد مرور الوقت، مثلما يُعلن القديس بولس أن المسيح الذي لم يُقابله في الواقع قطُّ هو الرب أو الإله؛ إذ لا يوجد حدث مِن أحداث الحقيقة من دون الفعل الحاسم لذات ما، وفي معضلة عويصة، لا توجد ذات غير تلك التي أخرجها للوجود إخلاصها الثابت والمضنى، والبطولي أحيانًا، لهذا الكشف الأوَّلي. يرث باديو العقيدة الطليعية المشكوك فيها القائلة بأن الذات البشرية غير حقيقية إلا عندما تخاطر بوجودها في جرأة في الظروف الشديدة؛ فالحقيقة هي كل شيء أو لا شيء. بخلاف ذلك وفي صورة علمانية نوعًا ما من عقيدة الاختيار الإلهي، فما نحن إلا أفراد بيولوجيون مَحدُودون يحتاجون لأن يتحوَّلوا إلى ذوات لا محدودة أو أصيلة من خلال مثل هذا الالتزام. فالفرد نوع من العدم، شفرة يجب إلغاؤها وولادتها من جديد من رحم إيمانها بحدث شديد الأهمية، والذي يظل مستعصيًا على البيان العقلاني وخارجًا على نظام الوجود؛ فالذات البشرية هي دائمًا ذات لحدث من أحداث الحقيقة. وما يدفعها إلى الوجود هي حقيقة أبدية ونقية واستثنائية وشديدة الخصوصية. فتشكل الذات هو هداية إيمانية. ولا يُمكن لهذه الذات أن تؤكد وقوع حدث الحقيقة فعلًا إلا كما تتحرك معرفتنا عن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية في إطار الإيمان. إن قيامة المسيح بالنسبة لبولس لم تعد قضية رؤية عين أكثر مما تمثله قضية غرف الغاز عندنا اليوم.

إن هذا الإخلاص للحدث الذي يطرح نظامًا جديدًا للحقيقة هو ما يَعنيه باديو بما هو أخلاقي. فهو، كما هو الحال بالنسبة للفضْل الإلهي، دعوة متاحة للجميع، وبهذا المعنى، يُمجد باديو المساواة والعمومية الخاصتين بالنظام الرمزي. لكن بما أن الحقيقة التي يراهن المرء بوجوده عليها دائمًا ما تكون فردية وصادمة ولا محدودة ومُغيرة ويتعذر وصفها في النهاية، فهي تنتمي للنظام الواقعي. وهي تشترك مع النظام الواقعي كذلك في عزلتها البروتستانتية القاسية. وكما أن الذات اللاكانية للنظام الواقعي توجد عند حد متطرِّف ولا اجتماعي، رافضة الاعتدال المغري في مجتمع المدينة، فإن فارس الإيمان عند باديو عبارة عن فردية خالصة. وهذه الحالة ليست حالة أخلاقية فقط بل هي حالة أنطولوجية. إنَّ من بين الجوانب الأكثر إثارة للجدل في فكر باديو هو إصراره على عدم ارتباط الذوات — على انتشارها العشوائي وتقاطُعها — بالصدفة ومواجهاتها العفوية ومقاومتها للاتصال المنظم. قد تتعاون الذوات البشرية في نوع من «الوجود الجمعي» أو «شيوعية من الفرديات» لكن الذوات البشرية لا تَرتبط معًا بصورة تكوينية. إن باديو يؤمن بالجماعات؛ لكن إعطاءها تسمية وشكلًا معينًا طالما يُمثِّل دائمًا كارثة سياسية في نظره. وفي لمحة لا بنيوية، فإنه يرى أن عناصرها المُتمايزة وليس الروابط بينها هي ما يحظى بالأولوية. وليس من العجيب أن فيلسوف الحدث مُعجَب بجيل دولوز.

ونتيجة لهذا الولع بالتمايز، نلاحظ أن باديو الناشط اليساري معادٍ لفكرة وجود «نظام» رأسمالي عالَمي تمامًا مثل معظم المعلِّقين السياسيِّين غير المستنيرين؛ فنظرته للعزلة المنقطعة للكينونة نظرة حداثية تقليدية. ويمكن قول الشيء نفسه عن أبطال لاكان الأخلاقيِّين في المستوى الواقعي؛ عن نماذج أوديب وأنتيجون الذين يُوليهم هذا الثناء. إن الحقيقة — شأنها شأن الرياضيات أو الشعر الرمزي — قائمة بذاتها ومكوِّنة لذاتها ومؤصلة لذاتها ومرجعيتها ذاتها؛ فهي منفصلة عن مجالات الطبيعة والتاريخ والبيولوجيا الدونية، شأنها شأن السياسة التي تُمثِّل عند باديو الماوي السابق علاقة بين الإرادة والروح، بين القرار والاستثناء، والقناعة البديهية، بعيدًا عن النطاقين الدنيوي لعلم الاجتماع والاقتصاد؛ فالسياسة مرتبطة بالذات لا بتنظيم إمدادات الطعام. وكما يُشير بيتر هالوورد، فإن باديو لديه تصور «رفيع» عن السياسة؛29 تصوُّر مقترن بكراهية يسارية متشددة للاتحادات العمالية والأجندات الاجتماعية السياسية والديمقراطية الاجتماعية وغيرها من الظواهر غير البراقة نظريًّا؛ إذ يجب على المرء — على الطريقة البولسية الحقة — ألا يتماهى مع العالم؛ وهي عقيدة تتحوَّل على يد باديو إلى الصفائية اليسارية المتشدِّدة؛ فالقديس بولس على الأقل كان لديه سبب لامتناعه عن هذا التماهي؛ فهو كالكنيسة القديمة بوجه عام كان يؤمن حتمًا بأن الظهور الثاني للمسيح وشيك، وهو حدث كان ليَقضي على الممارسة التاريخية لأنه سيَهدم التاريخ نفسه. وهذا هو أحد أسباب عدم اشتمال العهد الجديد على مفهوم حقيقي عن العمل السياسي؛ فالزمن فيه ببساطة غير موجود. بل يَبدو أن المسيح نفسه كان يعتقد أن التاريخ سيصل إلى نهايته في حياة بعض من تلامذته.

صحيح أن باديو نفسه استمر في مسعاه كناشطٍ سياسي؛ لكنَّنا نتذكر دريدا في عمله «أطياف ماركس» ورغبته في وجود ماركسية دون عقيدة أو برنامج أو حزب أو تطرُّف أو مؤسَّسات. إن هذا أشبه بأنجليكاني ليبرالي مُتطرِّف يبحث عن مسيحية مُتحرِّرة من الأمور المُربكة مثل الرب والمسيح والجنة والجحيم والخطيئة والتوبة. إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه دريدا هو ماركسية بلا اسم؛ اشتراكية يَملؤها الشعور بالخزي تتبرأ من جرائم أسلافها فقط من أجل أن تكون فارغة سياسيًّا. إن هذا يُذكرنا بالحلم الرمزي بالقصيدة المثالية، تلك التي لا تتلوَّث بالعالم الفاسد لدرجة أنها لا تكون سوى ورقة خالية. إن أهل الفكر اليساري الفرنسي، في عدائهم المَرضي لما هو وضعي، ظلُّوا محبَطين بسبب ذنب الستالينية وظل الفاشية. بالنسبة لباديو، لا يُمكن للمرء أن يقول كل الحقيقة، كما لا يجب عليه ذلك، كما لو أن أي إعلان كامل عن الحقيقة يجب أن يكون لا محالة استبداديًّا. أما بالنسبة لدريدا، فيمكن للمرء أن يطرح الحقيقة؛ لكن فقط في خوف ورعدة وسخرية وتقويض للذات. إن هذا الشكل من التحفُّظ (الذي يُمكن للمرء أن يزعم أنه ينطبق أيضًا بدرجة ما على أدورنو) يُمكن أن يشيد بطريقة غير مباشرة بضحايا الاستبداد؛ لكن من الصعب تحديد كيف يمكن أن يُساهم في منع تكرار حدوثه. بهذا المعني لا تُعدُّ إشادته إقرارًا بقدر ما هي نوع من المواءمة.

أقام باديو فكرتَه عن اللاتناهي اعتراضًا على الحسابات الحقيرة للمصالح الاجتماعية. إن عداءه تجاه المصالح الإنسانية هو أحد الأمور التي ظلَّ فيها مخلصًا لفكر كانط، الذي يُعَد — للمُفارقة — الرسول العظيم للتَّناهي الإنساني. إن العدالة مسألة مُتعلِّقة بالخلود وليس بالتناهي. إن الحدث يبدأ الزمن الخاص به، وهو زمن منفصل تمامًا عن التاريخ العادي. إن الحقيقة في هذا المنظور المُتسامي على نحوٍ عميق تكون في عداوة شديدة مع ما هو مُعطًى وغير مُبالية على نحو كبير لما هو محسوس أو تجريبي. إن باديو في هذه النقطة أيضًا متَّفق مع كانط؛ فالأخلاق يجب أن تَنفصِل عن الطبيعة الحيوانية للإنسان. ربما يكون باديو معجبًا بالفردية، ولكنَّ لديه نفورًا أفلاطونيًّا من الخصوصية. إن الأخلاق الطبيعانية، تلك القائمة على التناهي والجسد من ثمَّ ترفض بقوة أخلاق اللاتناهي؛ أي: هذا الالتزام العنيد تجاه أحد أحداث الحقيقة الذي يَسمو بنا فوق طبيعتنا الحيوانية، وبفعله لهذا، يمثل نوعًا من الخلود. إن هذه أخلاق عالم رياضيات، وكذلك مُتبنٍّ سابق لفكر ألتوسير. لكن هناك أيضًا لمحة كانطية في الاعتقاد بأن الأخلاق مُتسامية؛ أي أن حقيقتها تقودنا فيما وراء الطبيعة إلى مكاننا في الأبدية.

كما هو الحال بالنسبة لليفيناس ودريدا، يجد باديو أن الأخلاق تكبح جماح الفضيلة اليومية. ورغم معارضته الشديدة لفكرهما (إذ هاجم بعنف واقتضاب رؤيتهما للآخر الكبير في عمله «الأخلاق» وقال عنها إنها «فاسدة»)، فإن جوانب من نظريته تتوافَق كثيرًا مع أفكار كَبيرَي دعاة الغيرية اللذَين كان وقحًا معهما بشدة دائمًا. ورغم كل نَقدِه لهما، فهو يشاركهما بغضهما الراسخ للنظرية والتوافق والمعرفة والمجتمع والقانون والمصالح والفكر الإصلاحي والحسابات والحقوق المدنية والإحسان والمسئوليات المدنية والعقائد الاجتماعية وباقي هذه الأمور المألوفة. تهتمُّ السياسية بالذات الإنسانية، وليس بحقوق الإنسان أو الديمقراطية الجماهيرية أو الاقتصاد.30 إنَّ كل مساعي التوافُق، كما يلاحظ باديو، تسعى لتجنب الانقسام، متناسية على نحو ملائم التضامن الذي أطاح بالفصل العنصري والستالينية الجديدة. إنه أيضًا يشترك مع زميليه الباريسيين في نظرتهما القاتمة للمتعة والسعادة والرفاهية والمنفعة والعاطفة. وكما هو الحال بالنسبة للاكان، وكما يُشير بيتر هالوورد، فإن باديو يرفض «كل المعايير الاجتماعية المتوافَق عليها (السعادة والمتعة والإيمان وغيرها) من أجل استثناء لا اجتماعي وصادم بنحو أساسي.»31 إن ما يرفضه هو ما يُطلق عليه سلافوي جيجك بفظاظة مماثلة «التسيير المرن للأمور في عالم الوجود»،32 كما لو أن أي شيء آخر غير أخلاق النظام الواقعي يعد ببساطة شكلًا مملًّا من الإدارة التقليدية. يعلق هالوورد قائلًا: «بالنسبة لباديو، وكذلك للاكان وجيجك، تشكُّل الذات لا يُبالي على نحوٍ أساسي بتسيير الحياة ومُتطلباتها في حدِّ ذاتهما.»33 إنها تبدو كنوع غريب من الأخلاق يرى أن تسيير الحياة أمر قليل الأهمية. وبدلًا من تلك الأهداف القليلة القدر، اقترح باديو نفسه أخلاقًا تقوم على «الإصرار الخارق»، تلك التي تتلخَّص في شعار «لا تتراجع!» أو «حافظ على التزامك!» والتي تشتمل على ما هو أكثر من صدًى لشعار لاكان «لا تتخلَّ عن رغبتك.» (إن باديو يعتبر لاكان «أعظم من رحلوا عن عالمنا».) وفي كلتا الحالتين، إنها أخلاق تُعدُّ كمحاولة أخيرة وخط دفاع أخير صارخ في وجه عالم يُرى الآن أن حالته ميئوس منها على نحو مزمن. ومن ثَمَّ فإن دعوات الاستنفار هذه التي تبدو عمومية لها شروطها التاريخية الخاصة بها.

إنَّ التمسك بحدث الحقيقة بالنسبة لباديو — كما هو الحال بالنسبة لباسكال الذي كان باديو مُعجبًا به — مسألة إيمانية خالصة. وفي لمحة من العفوية الماوية، تعدُّ المعرفة والتأمل عدوَّين للإيمان، وليسا من العناصر الأساسية العاملة على تقويته. كما أن التحليل والممارسة السياسية يجب أن يظلا مُنفصلَين. تعد الأخلاق علاقة حية مع الحقيقة، وليست مسألة تحديد ما يجب على المرء فعله. إن الحقيقة في حد ذاتها بدَهية وليست تداولية؛ وهي دوجماتية كان من المُمكن أن يتَّفق معها ماو بشدة. إنها لا تتعلَّق كثيرًا بالتأمل، وتوجد على أقصى حدود المعرفة. وهكذا، تصبح لدينا مجموعة من التقابلات الصارخة والقابلة للتفكيك على نحو بارز: الحقيقة (أو الإيمان) في مقابل المعرفة، والسياسة في مقابل الحياة اليومية، واللاتناهي في مقابل التناهي، والحدث في مقابل الأنطولوجيا، والصدفة في مقابل النظام، والذات في مقابل الموضوع، والتمرد في مقابل التوافق، والاستقلالية في مقابل السببية، والسمو في مقابل الحلول التاريخي، والأبدية في مقابل الزمن. وحيث إن كل أحداث الحقيقة معرضة للخطر الوشيك المتمثل في تحييدها أو استيعابها من قبل العقائد الاجتماعية، فيُمكن أن نضيف ثنائية أخرى مألوفة قدمها ماكس فيبر للأقطاب السابقة، ألا وهي: الكاريزما والبيروقراطية.

كما هو الحال بالنسبة لدريدا — وفي واقع الأمر، بالنسبة للفكر الما بعد حداثي بوجه عام — يتَّفق باديو مع الزعم السخيف القائل بأن كل العقائد مستبدة، وكل وسائل التوافق خانقة، وكل البدع يجب أن يُرحَّب بها. غير أنه من الصعب معرفة السبب وراء ضرورة الهجوم على الاعتقاد القائل بأن العمال يحقُّ لهم في بعض الأحيان الامتناع عن العمل، تمامًا كما هو من الصعب معرفة ما هو مُستنير على وجه التحديد فيما يتعلَّق بالمرتدين العابدين للشيطان. إن هؤلاء الذين من المفترض أن ينظروا بحياد للتقابلات الثنائية يجدون أنفسهم في النهاية أمام نظام سياسي مشيطَن من جانب ومعارضة مبدعة على نحو أصيل على الجانب الآخر. إن الحقيقة قائمة دائمًا على التضاد. وإذا كان بإمكانها تنصيب نظام سياسي جديد، فهي لا يُمكنها إحداث تغيير سياسي عام. يرى باديو أن عصر الثورات انتهى. إن الوضع السياسي القائم يُمكن تحسينه وليس تغييره بالكامل، وهو افتراض ربما كان سيَستقبله قادة الاتحاد السوفيتي في أواخر ثمانينيات القرن العشرين بشيء من الدهشة. إن باديو، في تأييده للتغيير الجزئي دون التغيير الكلي، يتَّفق مع النظرية الما بعد حداثية التي يمقتها. إنه أيضًا يتفق مع لاكان ودريدا فيما يمكن أن نطلق عليه المغالطة الطليعية؛ وهي الاعتقاد بأن البدعة الجذرية يجب دائمًا تثمينها؛ لأنها تخرج عن ماضٍ يُنظر إليه على نحو مشوَّه على أنه عقيم من كافة الجوانب. إن هذا التحطيم الفج للمُعتقدات التقليدية، في تفريقه الساذج ببين التقليد والابتداع، يتجاهل القوة التجديدية للماضي ويغفل الطبيعة المدمرة للإفراط في التجديد. لا يوجد شكل من أشكال الحياة أكثر ابتداعًا وتخريبًا وإخلالًا بالنظام من الرأسمالية. إن هذا الفكر، رغم كل تمجيده للتنوع والتمايز، يرى أن كلًّا من الماضي والحاضر موحَّدان على نحو مخيف، وخاليان على نحو إعجازي من التناقض الداخلي. إن الفلسفة التي تُمجِّد السياسة هي بالتالي عَرَض لأزمة السياسة. إن كل القيم مُتسامية وليست محايثة. وفي دوجماتية الانحراف، تنبع كل حقيقة أصيلة من استثناء للقاعدة. إننا لسنا بعيدين عن التمجيد الرومانسي السخيف للعبقري العنيد (لينين وروبسبيير وسيزان) الذي يَخرج عن المألوف ويكسر كل القوالب.

إن باديو، في رفضه لأخلاق الآخر الكبير، يتَّخذ موقفًا عدائيًّا غير مألوف تجاه سياسة التماثُل. إن الأخلاق باعتقاده قد حلت في عصرنا محل السياسة، حيث حلت أيديولوجية خيرية زائفة قائمة على المظلومية والغيرية والهوية وحقوق الإنسان محل المشروعات السياسية. (ربما كان سيُضيف باديو أن البديل الكبير الآخر للسياسة في عصرنا يحمل اسم الثقافة.) إن شيوع اصطلاحي الاختلاف والغيرية يعكس ما يُسميه باديو «الإعجاب الشديد» بالتنوع الأخلاقي والثقافي، في حين أن تيار حقوق الإنسان يقسم العالم إلى: ضحايا لا حول ولا قوة لهم، ومُحسنين معتدِّين بأنفسهم. وحيث إن التعددية الثقافية لا تحترم إلا الآخر «الصالح» (أي، الشخص الذي يُشبهني إلى حد كبير)، فإنها لا تحترم أي آخر على الإطلاق. وبهذا المعنى، تبقى محصورة في النظام الخيالي؛ فهي لا تستطيع احترام اختلاف هؤلاء الذين لم يستطيعوا احترام اختلافاتها المقدَّرة لديها. يوجد قدر كبير من الحقيقة في هذه الحالة، وكذلك من المبالغة الفرنسية الطابع. وفي عودة جريئة لفكرة العمومية، وهو أمر لم يكن شائعًا بين أهل الفكر الباريسي، يزعم باديو بدلًا من ذلك أن الاختلاف أو الغيرية هي علامة على الوضع الراهن، وأن الكفاح الحقيقي هو كفاح من أجل تحقيق التماثل. إن مهمة السياسة، باختصار، هي ما كانت عليه منذ بدء حركة التنوير الجذرية، وهي مقاومة المصالح الخاصة الظالمة باسم العمومية الثورية. إن مفهوم باديو عن العمومية، بالتأكيد، متفرد بالقدر الكافي؛ فنطاق العمومية عنده لا يُمنَح وإنما يُبنى؛ فهو ليس حقيقةً مسلَّمًا بها وإنما عملية ذاتية. بهذا المعنى، كل ما عمومي استثنائي، مثل نتاج القرار الذاتي. لكن عداءه للاعمومية ليفيناس ودريدا وليوتار وفوكو يظل ثابتًا؛ فهو يرى أن الفلسفة دائمًا ما تؤسِّس نفسها في مواجهة السفسطة؛ بدايةً من مجادلات أفلاطون مع بروتاجوراس إلى خلاف كانط مع هيوم؛ ويعد أنصار ما بعد الحداثة ببساطة آخر ممثلي تيار السفسطة الذين يجب مجادلتُهم.

إن تلك الجوانب العمومية والمساواتية في فكر باديو هي ما تربطه بالأخلاق الرمزية. إن الحقائق واحدة لدى الجميع، ويُمكن لأي شخص أيًّا كان أن يُعبِّر عنها. وهي تتعارَض مع كل الاعتقادات المحلية والعرقية والمُجتمعية. غير أنها في حدِّ ذاتها فردية على نحو عنيد. وهناك في حقيقة الأمر عدد هائل منها بقدر عدد الذوات البشرية. وبخلاف حقائق النظام الرمزي؛ فهي غير نظرية أو افتراضية أو تحكمها القَواعد، لكنها تشبه الحدث وغير مفاهيمية ومُلهمة ومكونة للذات. فالحقيقة كيركجاردية أكثر من كونها كانطية. بهذا المعنى، النظام الرمزي والنظام الواقعي متحدان؛ فالحقائق تنتمي للنظام الواقعي، لكن يجب تعميمها من خلال إجراءات محدَّدة تتم عبر النظام الرمزي. بالنسبة لباديو في دراسته الصغيرة الرائعة «القديس بولس: تأسيس العمومية»، فإن العلاقة بين المسيح والقديس بولس تعد رمزًا لهذا الاتحاد؛ حيث إن الجانب الواقعي لصَلب المسيح وقيامته — الحدثين المستغلقَين على النظرية والمعرفة والخطاب الأخلاقي والرمزية وما شابه — يروج له بولس باعتباره عقيدة عمومية. وهكذا، يظهر شكل جديد من النظام الرمزي أو الكنيسة، كل أعضائه متساوون ومُتماثلون في المسيح، يتجاوَز بعنف فروق النظام الرمزي التقليدية الخاصة بالجنس والقرابة والطبقة الاجتماعية والعِرق. إنه بهذا المعنى يطلق أول حركة عمومية حقيقية في التاريخ الإنساني، وكذلك أكثرها استمرارًا عبر الأمم والقرون. إن النظام الرمزي يواجه النظام الواقعي عن طريقة إعادة تشكيله حسب صورته وهيئه؛ فالكنيسة المسيحية تنشئ من النظم الاجتماعية الحالية شكلًا جديدًا من الاجتماع، ينبني حول الجانب الواقعي لموت المسيح وبؤسه.

وخلافًا لأنصار ما بعد الحداثة والتعددية الثقافية، يتبنى باديو اللامبالاة التي يبديها كانط تجاه الخصوصية؛ غير أنه في نفس الوقت يجرد هذا التوجه الكانطي من معاييره والتزاماته. لقد رأينا نسخة انتقائية مماثلة من الفكر الكانطي في حالة ليفيناس. إن فكر باديو مَزيج مُثير من العقلانية التنويرية والإيمان الرومانسي بالحقيقة باعتبارها وحيًا ساميًا. لكن هناك وجهًا يختلف فيه هذا المفهوم للحقيقة عن ذلك الخاص بأنصار الواقعية الأخلاقية الذين يُفضِّلون الاضطراب على الاستمرار، غموض الوحي على الاستمرار المخيف للتاريخ؛ إذ إن الغرض الأساسي لنظريته الأخلاقية هو محاولة العيش في إخلاص دائم لحقيقة ملهمة — أو «التزام الاضطراب»، بحسب قوله — ومن ثمَّ الجمع بين الاستمرار والتجديد. إن الظهور القوي للحقيقة يجب أن يصاحبه استقرار وضع الأخلاق. وبهذا المعنى، يختلف فكر باديو عن فكر الراديكاليين الذين تُعدُّ المشكلة بالنسبة لهم هي ما الذي يجب فعله عندما ينتهي الإضراب العام، أو عندما تُستهدف الساعات الجدارية العامة أو عندما ينتهي الحدث الدادي تقريبًا بمجرَّد أن يبدأ، أو عندما يتلاشى الوحي أو عندما لا تكون المتعة سوى ذكرى جميلة ترجع لمنتصف العمر. وعلى عكس هؤلاء المُتحرِّرين من الوهم، يرغب باديو في إدخال الأبدية في الزمن والتوصُّل لكيفية الانتقال من حدث الحقيقة إلى الحياة اليومية، وهو ما نطلق عليه بوجه عام اسم السياسة. إن هؤلاء الذين يصرُّون على عدم الارتباطية المحضة للحدث، مما يَعني فصله عن تبعاته الزمنية في النظام الرمزي، سيُجرى تجاهلهم باعتبارهم «متصوفة».

لكن هذا لا يجب أن يبدو كما لو أن الحدث والحياة اليومية متقاطعان بالكامل؛ إذ يختلف «الزمن» الخاص بالتزام المرء الحقيقة عن ذلك الخاص بالنظام الرمزي؛ فهو ينتمي بالكامل للنطاق الشخصي. ولا يوجد تاريخ واحد يُمكن أن ترتبط به الأحداث؛ بل هناك فقط التواريخ المتعدِّدة التي تبدأها الأحداث نفسها. وهكذا يتأكَّد الفرق بين العادي والملهم، بين المحايث والمتسامي. إن باديو لا يثق في العالم العادي بالقدر الكافي بحيث يعتقد بإمكانية وجود قوى محايثة داخله قادرة على تغييره. تتصف الحياة اليومية بنحو شبه بيولوجي بأنها عالم الرغبة والمصلحة الشخصية والإلزام الممل. هناك طابع هوبزي فيما يتعلق برؤيته لما هو عادي. ولو كان يمتلك نظرة له أقل تحيزًا، فلربما كان سيحتاج لبديل أقل سموًّا. ألا توجد حقًّا أي شجاعة أو تعاطف أو إيثار في هذا العالم؟ ألا توجد أي ميزة فيما هو معياري أو إعجاز فيما هو عادي؟ وهل حياة الفضيلة تنبع فقط من الالتزام تجاه أحداث الحقيقة الاستثنائية؟ من وجهٍ ما، أُعطي النظام الرمزي حقه تمامًا؛ حيث نُظر للحرية والمساواة والعمومية باعتبارها أهدافًا سياسية مهمة، غير أن كل هذا يجب، بحسب تعبير هالوورد، أن «ينبني على البعد الواقعي لأُخوة جِذرية»؛ أُخوة لا يُمكن تمثيلها، والتي في عدائها تُدمِّر أنماط التماثل المنمقة الخاصة بالنظام الرمزي.

تجاهل باديو أخلاق الفضيلة الأرسطية، وهو تيار أخلاقي سنلقي نظرة عليه لاحقًا. (يمكن أن نقول نفس الشيء عن دراسة جيه إم بيرنشتاين الرائعة «أدورنو: التحرر من الوهم والأخلاق» التي امتدَّت لنحو ٤٥٠ صفحة ولم تذكر تقريبًا أي شيء عن أرسطو.) في حالة باديو، يرجع هذا التجاهل إلى حدٍّ كبير إلى أن أخلاق الفضيلة لا تهتم بالحقيقة وإنما بالأمور الأخلاقية المدنسة من أمثال السعادة والرفاهية. لكنه يرجع أيضًا إلى أن تلك الأخلاق تتضمَّن أيضًا تكويننا الحيواني أو (بالتعبير الماركسي) جوهر نوعنا؛ ومن ثم فهي تنتمي من وجهة نظر باديو الأفلاطونية العقلانية للنطاق التابع الخاص بالطبيعة والتاريخ والحياة اليومية. إن الأخلاق بالنسبة لباديو تتضمَّن قفزة متحدية للموت من منطقة الزيف البائسة هذه للاتناهي الالتزام تجاه الحقيقة. ففقط من خلال تلك المغامرة المتهوِّرة، يصبح الفرد إنسانًا «خالدًا» وليس حيوانًا معرضًا للموت، ومقيدًا بالأمور البيولوجية. إنه لا يعتقد أن اللاتناهي — إذا كان هذا المُصطلح صحيحًا — يُمكن الوصول إليه فقط من خلال المواجَهة التراجيدية مع تناهي الفرد. يقول ميلان كونديرا في روايته «الخلود» إن «الإنسان لا يعرف كيف يكون خالدًا.» ليس من السهل إدراك أن الخلود هو الوهم الذي نحن مولودون به، وأنَّ التخلُّص من هذا الوهم المدمر، ذلك الذي يمزق الأجساد ويدمر المجتمعات، يحتاج لجهد أخلاقي مُضنٍ. فإذا كنا أكثر إدراكًا لتناهينا، فربما نكون أقل استعدادًا لنسيان أن كل رغباتنا وأحقادنا ستنتهي في النهاية في التراب. لكن التناهي، من وجهة نظر باديو، ينتمي إلى النطاق الوضيع الخاص بجوهر نوعنا. إنه النقيض التام لأي أخلاق صادقة. وهو يُصرِّح بأن مسعاه هو «إنهاء الاهتمام بما هو متناهٍ».34

وهكذا، يتحيز باديو لأحد طرفَي المعركة بين دعاة اللاتناهي وأنصار التناهي. وبداية من عمل هايدجر «الكينونة والزمان» إلى عمل جيورجيو أجامبين «الإنسان المستباح» وعمل آلاسدير ماكنتاير «الحيوانات العاقلة المستقلة»، فإن الإنسان الضعيف المعرَّض للموت هو محط الاهتمام. إن ميشيل فوكو أيضًا بطريقته يعد شاعر التناهي، وإن كان بدافع خفي مجنون يقوم على التطلع لما هو لا محدود. ويرى جيل دولوز بطريقة نيتشوية العملية المادية نفسها باعتبارها تدفُّقًا لا حدود له من الإبداع، ليست حياة الأفراد بالنسبة له سوى نتاجه الفاني. من ثم فإن ما هو واقعي يُجرى التقليل من شأنه من أجل ما هو افتراضي أو محتمل، والذي ليس سوى تسلسل الزمن اللامتناهي بالكامل.

إن إيمانويل ليفيناس حالة أصعب في تصنيفها؛ فهو يعدُّ مناصرًا للضعف والفناء ومع ذلك يدعو للحاجة إلى المسئولية اللامتناهية. وهكذا الحال في واقع الأمر بالنسبة لسورين كيركجارد، المفكر الذي ينبع منه أغلب هذا الحديث عن اللاتناهي، الذي يصر على تناهي حالتنا، غير أنه يرى أنَّ البشر لديهم روحًا لا مُتناهية. إن كانط يعد في نفس الوقت أعظم فلاسفة التناهي الإنساني المحدثين والداعية لعقل بعيد المنال على نحوٍ متسامٍ. فرويد بالمثل شخصية محيرة؛ فكما يشير إريك سانتنر، إن البشر يتميَّزون عن الحيوانات الأخرى، فقط لأن وجودهم تُبرزه فردية يحركها دافع الموت.35 فنظرًا لكوننا الحيوانات الوحيدة القادرة على التفكير في موتها، فإن لدينا ما يجعلنا أعلى منزلة من الكائنات الحية الأخرى؛ لكن نظرًا لأن هذا التفكير يزيد إدراكنا للموت، فإننا نُصبح أدنى مرتبة منها.
هناك أيضًا أولئك الذين تحوَّلوا من تأييد التناهي إلى تأييد اللاتناهي. فقد غيرت المجلة الأدبية الفرنسية الطليعية «تل كِل» (أي، كما هو) — التي كانت تتحدث في سبعينيات القرن الماضي باسم حركة شعرية وسياسية مادية ذات صبغة ماوية — اسمَها، بمجرد أن انحسرت تلك التيارات اليسارية، إلى الاسم الأقل مادية «لي إنفيني» (أي، اللاتناهي). إن جاك دريدا، بحلمه بالمسئولية المطلَقة والرقص اللانهائي للدال، يعدُّ بلا شك أحد أنصار اللاتناهي، وهذا ينطبق أيضًا — وإن كان بطريقة مختلفة — على آلان باديو، الذي يشير على نحو قاسٍ إلى أن الفرد باعتباره ضحية تُعاني بوجه عام لا يقل دناءة عن الجلاد الذي يعذبه. إن هؤلاء مؤيدون للسمو البيركي وليس للتماثل الاجتماعي الذي يسميه بيرك الجمال. إن أخلاق الجسد الفاني غير بطولية للغاية بالنسبة لباديو، وكذلك غير طبيعانية. وكما هو الحال بالنسبة لمعظم الواقعيِّين، هناك لمحة فوق إنسانية في رؤيته؛ رفض للخضوع لأي شيء مُنحطٍّ ودنيء مثل الجسد. تكتب الفيلسوفة اللاكانية ألينكا زوبانتيتش قائلة «إن أساس الأخلاق لا يُمكن أن يكون أمرًا يدفعنا للتأكيد على محدوديتنا والتخلي عن تطلعاتنا «الأسمى» و«المستحيلة»، وإنما أمر يدعونا لأن نعزوَ لأنفسنا «اللامتناهي» الذي يمكن أن يحدث كشيء يعدُّ بالأساس نتاجًا فرعيًّا لأفعالنا».36
غير أن نظرية التراجيديا التي تقوم عليها الأخلاق اللاكانية لا تدعم في واقع الأمر أيًّا من المعسكرين؛ فهي تُعاقب غطرسة هؤلاء الذين يطمحون للمستحيل؛ فتُطلِق العنان لغرورهم المجنون وتُجرِّدهم من فرديتهم وتدخلهم إلى حضرة النظام الواقعي المُخيفة. لكن لو أن بإمكان هؤلاء ملاحظة فظاعة حالتهم دون أن يُصابوا بالعمى أو يتحوَّلوا إلى حجر؛ فيجدوا في مرآة أنفسهم ليس «أنا» بديلة خيالية وإنما شخصًا منبوذًا بَشِعًا، فمن المُمكن أن تكون القوة اللامحدودة التي سمحت لهم بإدراك هذا السواد الذي بداخلهم هي أيضًا تلك التي يُمكن أن تنقلهم فيما يتجاوَز نطاق العظام المحطَّمة والجماجم المدمرة لهؤلاء الذين ماتوا قبلهم، إلى النطاق البعيد لما يُطلِق عليه لاكان «الحب اللامحدود» في عمله «المفاهيم الأربعة الأساسية للتحليل النفسي». وإذا كان يجب تجاوز المتناهي، فإن هذا لا يتم برفضه وإنما بمواجهته على نحو مباشر. لكن لكي يحدث ذلك، فهناك حاجة لحالة من الفاقة أو دخول جهنم وهو شيء لا يُمكن أن تقدمه أخلاق باديو الأكثر إيجابية. وكما كتب سلافوي جيجك عن أوديب المُدمَّر: «إنه «إنسان أكثر من اللازم»، ولقد عاش «الحالة الإنسانية» حتى نهايتها المريرة، مدركًا احتماليتها الأساسية؛ ولهذا السبب، لم يعد من ناحية «بشرًا» وتحول إلى «وحش غير إنساني»، لا تردعه أي قوانين أو اعتبارات إنسانية …» إنه، بمواجهته لدافع الموت باعتبارها أقصى التجارب الإنسانية، «يدفع الثمن بمروره ﺑ «فاقة ذاتية» شديدة؛ إذ يُختزل إلى فضلات متحلِّلة».»37

إن ما لم يذكره جيجك هنا (رغم أنه بلا شك يدركه جيدًا) هو أن هذا، بالنسبة لبطل «أوديب في كولونوس» الملوَّث والملعون، هو مقدمة لنوع من التقديس؛ فبتحول أوديب إلى غثاء ونفاية المجتمع — «خَبث العالم» كما وصف القديس بولس على نحو حادٍّ أتباع المسيح، أو «الضياع الكامل للإنسانية» كما وصف ماركس البروليتاريا، يكون قد تجرد من هويته وسلطته؛ ومن ثمَّ يُمكنه أن يهب جسده الممزق ليكون بمنزلة حجر الأساس في نظام اجتماعي جديد. إن هؤلاء الذي يُعدون لا شيء في أعين نظام السلطة الحالي هم الذين يرفضونه بالقدر الكافي بحيث يُطلقون نظامًا جديدًا على نحوٍ جذري. يتساءل الملك الشحاذ أوديب بصوتٍ عالٍ قائلًا: «هل أُصبح إنسانًا في تلك الساعة التي أتوقف فيها عن أكون أي شيء؟» (أو ربما «هل سأُعد شيئًا فقط عندما أكون لا شيء/لم أَعُد بشرًا؟») إن تجرد الفرد من اختلافه الثقافي ورجوعه لكينونة جنسِه يعني أن يوجد باعتباره لا شيء سوى قطعة من الخَبث التافهة التي لا طائل منها (حيث إن الثقافة هي التي تُشكِّل إنسانيتنا)؛ ولكن أيضًا أن يصبح تجسيدًا حيًّا لما هو بشري على نحو أصيل؛ لدالٍّ لا يُطاق لفنائنا وضعفنا المشترك. إن هذه الجدلية هي التي تَعيها التراجيديا على نحو أعمق.

يُمكن أن يقوم مجتمع بشري دائم فقط على هذا الأساس «اللاإنساني». وإذا كان النظام الخيالي يتعلَّق بالتماثل، والرمزي بالاختلاف، فإن نقطة فناء البشرية غير القابلة للتمثيل تلك، التي أطلق عليها لاكان النظام الواقعي، تتعلَّق بكلٍّ من التماثل والاختلاف؛ مما يسمح لنا بأن نجد أنفسنا مُنعكِسين في مرآة الاختلاف أو عدم الارتباط أو الفردية القاتلة للآخر. إنَّ حب الآخر في فرديته يعني حبه في ذاته؛ لكن حيث إن أهم ما يُمثِّل ذات الآخر هو إنسانيته الخالصة — هذا الفراغ أو نقطة الفناء التي تنصهر في بوتقتها كل الاختلافات — فإن هذا الحب له بُعد لا شخصي على نحو ملائم، وهذا هو السبب وراء إمكانية النظر للإحسان باعتباره قانونًا. ولا عجب بالتالي أن الحب يعد ذلك الأمر المستحيل؛ نظرًا لأن هؤلاء المجرَّدين من أي دلالات ثقافية محددة يُعدون وحوشًا، وشخصيات مستهجنة ومخيفة مثل أوديب الأعمى ولير البائس والمسيح المصلوب. إن السبب وراء اشتمال المسيحية على معتقد الفضل الفدائي هو اعتقادها في نفس الوقت بضرورة واستحالة مثل هذا الحب.

إنَّ الكثير منا، وهو أمر مُرضٍ بالقدر الكافي، ليسوا مطالَبين بأن يكونوا أبطالًا تراجيديِّين. فمُعظمنا ليسوا بمقاتلي حروب عصابات يخاطرون بحياتهم من أجل رفاهية الآخرين. لكن هناك طرقًا بديلة لإحداث هذا التحوُّل من تجريد الذات إلى الحياة الجديدة. تتمثل إحداها في الفن الأدائي المعروف بالتحليل النفسي، وتتمثل أخرى في الممارسة المسيحية المعروفة بالأفخارستيا؛ ذلك العيد الخاص بالحب أو العشاء الممثل للتضحية الذي يتضامن المشاركون فيه بعضهم مع بعض من خلال جسد مشوَّه. وهم، بهذه الطريقة، يتشاركون على مستوى الرمز أو سر التناول في تحول المسيح الدموي من الضعف إلى القوة، ومن الموت إلى حياة مغايرة. إن القديس بولس من وجهة نظر باديو، على العكس، هو شخص يتحدَّث عن قيامة المسيح فقط، وليس الحدث المأسوي بالكامل الذي تنتمي إليه. ويهاجم رايموند ويليامز في عمله «التراجيديا الحديثة» المعلقين الذين يفصلون لحظة الموت والدمار في الفن التراجيدي عن الحياة الجديدة التي قد تنتج عنها. لكن يُمكن للمرء أن يفعل العكس أيضًا؛ أن يَحتفي بتلك الروح الباقية دون النظر إلى الثمن الرهيب التي يجب أن تدفعه لقاء عبورها عبر الجحيم. إن باديو بهذا المعنى ليس بمُفكِّر تراجيدي. إن ويليامز نفسه، الذي عمله مشوب أحيانًا بإنسانوية إيجابية شديدة العناد، ليس بريئًا تمامًا من هذا الخطأ. أدرك دبليو بي ييتس أن لا شيء يُمكن أن يكون مترابطًا أو كاملًا ما لم يكن قد جرى تمزيقه؛ لكن تلك الرؤية أيضًا كثيرًا ما تؤدِّي في أعماله للمحة نيتشوية قائمة على الانتصارية التراجيدية. إن هؤلاء الذين يوازنون على نحو رائع بين المعاناة والأمل — الأبطال التراجيديين الحقيقيين، إن جاز التعبير — هم الذين يتمردون لأنهم ليس لديهم الكثير ليخسروه، غير أنهم لنفس هذا السبب لديهم القُدرة على تغيير وضعهم.

هوامش

(1) See in particular Emmanuel Levinas, Totality and Infinity (Pittsburgh, 1969), Otherwise than Being (Pittsburgh, 1981), Ethics and Infinity (Pittsburgh, 1985) and Time and the Other (Pittsburgh, 1987).
(2) Levinas, Otherwise than Being, p. 81.
(3) Simon Critchley, Ethics-Politics-Subjectivity (London, 1999), p. 189.
(4) Levinas, Otherwise than Being, p. 74.
(5) Quoted in Jeffrey Bloechl (ed.), The Face of the Other and the Trace of God (New York, 2000), p. 99.
(6) Ibid., p. 100.
(7) Ibid, p. 101.
(8) Bruce Robbins, Feeling Global: Internationalism in Distress (New York and London, 1999), p. 172.
(9) For an excellent account, see Howard Caygill, Levinas and the Political (London and New York, 2002).
(10) Levinas, Otherwise than Being, p. 159.
(11) Sylviane Agacinski, ‘We Are Not Sublime: Love and Sacrifice, Abraham and Ourselves’, in Jonathan Rée and Jane Chamberlain (eds), Kierkegaard: A Critical Reader (Oxford, 1998), p. 146.
(12) Jacques Derrida, The Gift of Death (Chicago, 1995), p. 51.
(13) J. Hillis Miller, ‘Don’t Count Me In’, Textual Practice, 2:2 (June 2007), p. 285.
(14) I trust that it is unnecessary to point out that this is my own invention.
(15) Derrida, Gift of Death, p. 76.
(16) Ibid., p. 101.
(17) Ibid., p. 82.
(18) Ibid., p. 71.
(19) Simon Critchley, Infinitely Demanding (London, 2007), p. 13.
(20) ‘The Force of Law: The “Mystical Foundation of Authority”’, in Jacques Derrida, Acts of Religion (New York and London, 2002), p. 223.
(21) Bernard Williams, Ethics and the Limits of Philosophy (Cambridge, MA, 1985), p. 169.
(22) Derrida, ‘Force of Law’, p. 250.
(23) Ibid., p. 78.
(24) See Jonathan Lear, Radical Hope: Ethics in the Face of Cultural Devastation (Cambridge, MA, 2006).
(25) Derrida, Gift of Death, p. 77.
(26) Ibid., p. 41.
(27) See Janet Afary and Kevin B. Anderson, Foucault and the Iranian Revolution (Chicago, 2005).
(28) Alain Badiou, ‘One Divides Itself into Two’, in S. Budgeon, S. Kouvelakis and S. Žižek (eds), Lenin Reloaded (Durham and London, 2007), pp. 13-14.
(29) Peter Hallward, Badiou: A Subject to Truth (Minneapolis, 2003), p. 226.
(30) See, for example, Badiou’s Metapolitics (London, 2005), in which he argues that mass democracy is indistinguishable from dictatorship.
(31) Hallward, Badiou, p. 265.
(32) Slavoj Žižek, The Ticklish Subject (London, 1999), p. 143.
(33) Hallward, Badiou, p. 134.
(34) Alain Badiou, ‘Philosophy and Mathematics: Infinity and the End of Romanticism’, in R. Brassier and A. Tascano (eds), Alain Badiou: Theoretical Writings (London and New York, 2004), p. 25.
(35) Eric Santner, ‘Miracles Happen: Benjamin, Rosenzweig, Freud and the Matter of the Neighbor’, in S. Žižek, E. Santner and K. Reinhard (eds), The Neighbor (London and Chicago, 2005), p. 47.
(36) Alenka Zupančič, Ethics of the Real, p. 97.
(37) Žižek, The Ticklish Subject, p. 156.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤