التمثيل في مصر

وأما عن التمثيل في مصر، فلست أرى في تخطيط مراحله العامة خيرًا من أن أثبت هنا مقالًا لناقد واسع الثقافة الغربية كتبه في سنة ١٩١٨ بمجلة «السفور»، هو المرحوم محمد تيمور، الذي مارس التمثيل والتأليف والنقد، وعاصر تلك المراحل وانفعل بها وحكم عليها بثقافته الغربية الواسعة في الأدب عامة، والأدب التمثيلي خاصة، فقال:١

التمثيل في مصر وليد الأمس وطفل اليوم، ولا نعلم شيئًا من أمره في الغد، هو اليوم كما يتراءى لنا طفل عليل تحيط به الأمراض وتكتنفه الأوبئة من كل جانب، ويُخشى كثيرًا على حياته أن تذهب بها يد المطامع الشخصية، التي تثور في قلوب قوم قاموا لاستدرار المال من جيب الجمهور، بوسائل لا صلة بينها وبين الفن الصحيح، لقد عرفوا أميال الجمهور وكوَّنوا من وراء إقباله ثروة طائلة، وليس في مقدوري أن أقف في وجههم وأغلق بيدي باب مكاسبهم، ولكن أريد أن أهتدي معهم إلى وسيلة نحوِّل بها ميل الجمهور من الفوضى التمثيلية الحاضرة إلى شبه الفن، ثم من شبه الفن إلى الفن الصحيح، أريد أن نسير بالجمهور تدريجيًّا حتى نصل به لغايتنا المنشودة؛ إذ من العبث مصادمة تياره الجارف، وإن فعلنا ذلك فنصيبنا الفشل، وفي ذلك القضاء على فن من الفنون، نود من صميم قلوبنا أن تزدهر في بلادنا حدائقه وتينع زهوره.

أتانا التمثيل من إيطاليا عن طريق سوريا، وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال النقاش وأديب إسحق والخياط والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية؛ لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، ولقد نجحوا في بناء أساس ذلك الفن نجاحًا كبيرًا، ودع عنك ركاكة أسلوبهم وتعمدهم السجع الممل في رواياتهم، بل دع عنك مجموعة رواياتهم التي عفت آثارها ولم يبقَ منها إلا نذر يسير غير صالح للتمثيل أو المطالعة، لقد أرادوا إحياء فن التمثيل في مصر وجاهدوا كثيرًا في سبيل ذلك، فاقتحموا الصعوبات التي كانت تلاقيهم غير هيَّابين ولا خائفين، وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا نعلم من أمره شيئًا كبيرًا، هذه هي نتيجة مسعاهم ونحن مدينون لهم بهذه النتيجة.

انتقل التمثيل بعد ذلك من طوره الأول إلى طوره الثاني في يوم احترف المرحوم الشيخ سلامة حجازي التمثيل العربي؛ ففي عهده ارتقى أسلوب المعربين وتُرجمت عدة روايات فنية عن الفرنسية والإنكليزية، فرأينا على مسرح عبد العزيز روايات شكسبير وهيجو وكورنيل وديماس الكبير، ولكنهم كانوا يعمدون إلى مزجها بالألحان، وتشويه بعض مشاهدها إرضاء للجمهور، وكان هذا التغير نتيجةً لسماع الألحان الشجية التي ينشدها الشيخ سلامة حجازي، ثم انفصل الشيخ سلامة حجازي عن مديره إسكندر أفندي، وبانفصاله انتقل من طوره الثاني إلى طوره الثالث.

مثَّل الشيخ مع جوقه على مسرح دار التمثيل العربي، بعد أن أعد له أجمل المناظر والملابس، حتى ساوى مسرحه مسرح دار الأوبرا؛ فكان فنُّه فنًّا من الألحان والمناظر والملابس، ولكنه لجهله بالروايات الفنية لم يخرج على مسرحه روايات تختلف عن رواياته الأولى التي كان يمثلها في عهد مديره السابق.

ومكثنا عهدًا طويلًا ونحن نرمي جمهورنا بالسذاجة والجهل لإقباله على الألحان والمناظر وإهماله الروايات الفنية، التي لم نرَ منها على المسارح غير رواية «النجم الآفل»، وكان نصيبها الفشل المريع، ثم قدم جورج أفندي أبيض لمصر حاملًا معه بضاعته الفنية من أوروبا، وألَّف جوقًا ضم تحت لوائه كثيرًا من شبابنا المتعلمين أمثال عبد الرحمن رشيدي وعبد القدوس وزكي طليمات وفؤاد سليم، وفي عهده ارتقى فن التمثيل ارتقاءً كبيرًا؛ فهو المدير الوحيد الذي أخرج على مسرحه روايات فنية لا يعتريها أي نقص، وهو الذي شجَّع المعرِّبين على تعريب أعمال الغربيين، والمؤلفين على تأليف روايات مأخوذة مواضيعها من التاريخ الغربي، لكنه مع الأسف لم يُصادف إقبالًا إلا على مسرح الأوبرا؛ حيث يذهب شبابنا الراقي.

وأيام التمثيل في دار الأوبرا معدودة لا تكفي لسد حاجات جوق كبير يضم العدد الكبير من الممثلين والممثلات.

ولو نظرنا إلى هذه الأطوار نرى أن التمثيل لم ينجح في الطور الأول، إلا لكونه شيئًا جديدًا لم تره العيون من قبل، أما في الطور الثاني فكان نجاحه من أجل الألحان، وفي الطور الثالث من أجل الألحان وجمال المناظر والملابس، وأما الطور الرابع طور الفن الصحيح، فنحن فيه أقرب إلى الفشل منا إلى النجاح، كل هذا نتيجة سذاجة الجمهور وانحرافه عن الفن الصحيح، والبرهان على ذلك إقباله في عصرنا الحاضر على دار «الريحاني» و«الكسار» ليرى نوعًا من التمثيل يُسمى بالفرنسية «الريفو» وهو عبارة عن مشاهد مفككة العُرى، مشوَّهة التأليف تجمع بين المواقف المخجلة والنكات القبيحة، ليس فيما يقدمه لنا الريحاني وعلي الكسار من الروايات شيء؛ فهي خالية من كل بحث أخلاقي، وليس فيها من المواقف التمثيلية ما يصح أن نطلق عليه كلمة «رواية»، ولكن جمهورنا يقبل عليها إقبالًا كبيرًا؛ ليقضي ساعة من وقته يغسل فيها قلبه من أدران الهموم والأحزان، وما هذه الروايات إلا تلك الأمراض والأوبئة التي قلنا عنها في صدر مقالنا إنها تكتنف التمثيل من كل جانب، فواجبنا اليوم أن نبحث عن الوسيلة التي نصل بها إلى القضاء على هذا النوع، وأكبر ظني أن خير وسيلة لذلك هي الاتفاق مع أصحاب هذه الروايات على الرجوع تدريجيًّا إلى الفن الصحيح، لو كنا نعلم قبل إيجاد هذه البدعة الجديدة أن بين الممثلين من يفكر في إخراج هذا النوع، لكنا حاربناه بكل وسيلة مشروعة، ولكننا اليوم لا حول لنا ولا طول، بعد أن نجح هذا النوع اللافني نجاحًا يكاد يقضي على كل رواية فنية، نحن نخشى أن تُرِغم الظروف جورج أبيض وعبد الرحمن رشدي على السير على آثار الريحاني وعلي الكسار بحثًا وراء المال، والمال كما تعلم قوام كل مشروع حيوي، فنكون قد قضينا على التمثيل بأيدينا بعد أن عاش بيننا عهدًا طويلًا، ما ضرَّ الريحاني لو بدَّل قليلًا في نوع رواياته، وتحوَّل عن تلك الروايات التي لا نرى فيها غير مجموعة من ألحان السوقة، ما ضره لو قدم لنا نوعًا يجمع بين الفن واللافن، ثم يسير في طريق التغيير والتبديل إلى أن يصل إلى الفن الصحيح، ولكنه يخشى أن يُصادم تيار الجمهور، فيفقد في سبيل ذلك ما أتاه به مجهوده الكبير، نحن نسأله بعض التضحية، وليس ذلك بعزيز، والجمهور طوع إشارته في كل حين، وليعلم بأن للتضحية لذة تعادل لذة النجاح وتزيد عنها، إذا كان لهذه التضحية نتيجة محمودة كالتي ننتظرها من وراء تضحيته القادمة.

١  أُعيد نشر هذا المقال في كتاب «حياتنا التمثيلية» لمحمد تيمور، ص٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤