المسرح النثري

والآن نود أن نحدد موضوع دراستنا، وهو المسرح النثري فنقول: إن ما نريد دراسته هو المسرح النثري؛ أي الأدب المسرحي النثري الذي يمكن أن يعتبر جزءًا من تراثنا الأدبي الحديث، وتحديد ذلك ليس بالأمر السهل؛ لأن الأدب المسرحي كله لا يزال حديث العهد في بلادنا العربية كلها، ولم ينقضِ بعدُ عليه من الزمن ما يُمكِّننا من التمييز بين ما يُعتبر جزءًا من تراثنا الأدبي، وما يُعتبر وثائق تاريخية لا يُنتظر لها أن تظل حية، دائمة التأثير، متجددة في الأجيال المتلاحقة، وإذا كنا نستطيع أن نؤكد أن مسرحيات شوقي قد أصبحت جزءًا من تراثنا، بدليل إعادة طبعها تلقائيًّا، واستمرار تداولها ودخولها في مناهج الدراسة بالمعاهد والجامعات، كدواوين الشعر العربي القديم سواء بسواء، فإننا لا نزال في شك بالنسبة للكثير غيرها مما كُتب من مسرحيات شعرية ونثرية، ومن بينها ما ظل مخطوطًا لم يُطبع، بل ولم يخرج من أدراج الفِرق المسرحية المختلفة، ومن بينها ما كُتب بلغة عامية أو بلغة ركيكة، يرفض المجتمع العربي حتى اليوم أن يُدخلها في التراث الأدبي، الذي يستعين به في تربية الأجيال المتلاحقة.

ومن الاستعراض التاريخي السريع الذي قدمناه يتضح أن أول فن مسرحي عرفه العالم العربي قد كان فن المسرح الغنائي، على نحو يشبه من قريب أو بعيد ما يُعرف عند الغربيين باسم الأوبرا أو الأوبريت، ومن البديهي أن الشعر أو الزجل هما اللذان يلائمان هذا الفن الغنائي؛ ولذلك غلب الشعر والزجل على المسرحيات الأولى التي أُلفت باللغة العربية، ولكن العامية أو الركاكة قد كانا حائلين قويين دون إدخال هذه المسرحيات الغنائية في تراثنا الأدبي، وما أظن أنه سيأتي يوم تُدرس فيه مسرحيات مارون النقاش أو أحمد أبو خليل القباني، أو غيرهما من كُتاب المسرحيات الشعرية الغنائية في المعاهد والجامعات، كجزء من تراثنا الأدبي الذي تنشأ عليه الأجيال، وإنما يمكن دراسة هذه المسرحيات كوثائق للتاريخ.

وإذا قارنا بين نشأة فن التمثيل في عالمنا العربي ونشأته عند الغربيين، استطعنا أن ندرك لماذا توثَّقت الرابطة بين هذا الفن وبين التراث الأدبي للغربيين منذ أقدم العصور، بينما ظلت هذه الرابطة معدومة أو متراخية في عالمنا العربي لزمن طويل؛ ولذلك اكتسب الاحترام، بل التقديس، وإذا كان فن التمثيل اليوناني قد انقرض في القرون الوسطى، فإن فنًّا تمثيليًّا آخر قد نشأ في أوروبا في كنف المسيحية، التي اتخذت من الكنائس وساحاتها دورًا للتمثيل، وعندما بُعث الأدب التمثيلي القديم في عصر النهضة الأوروبية، اكتسب الأدب التمثيلي نفس الاحترام والتقدير الذي اكتسبته كافة فنون الأدب القديمة، التي بعثها عصر النهضة، وقام على محاكاتها محاكاة انتهت بهم إلى الأصالة والابتكار؛ ولهذا يُعتبر الأدب التمثيلي شعرًا أو نثرًا من أهم ما يملكه الغربيون من تراث أدبيٍّ في لغاتهم المختلفة، وقد كتبوا في هذا الأدب روائع خالدة، وذلك بينما اعتُبر فن التمثيل دخيلًا على عالمنا العربي الحديث، وظل يُعاني من هذه النظرة المُزرية عشرات السنين، بحيث لم نستطع ربطه بتراثنا الأدبي إلا تدريجيًّا وبخطًى بالغة البطء، مما عاق ظهور روائع تمثيلية في أدبنا المعاصر.

ولقد زاد الأمر تعقيدًا في بلادنا بسبب ازدواج اللغة نتيجة للجهل ونقص العلم باللغة الفصحى وانتشارها، حتى بعُدت المسافة بينهما وبين لهجاتنا العامية، ولما كان التمثيل فنًّا جماهيريًّا لا بد من تقريبه من الشعب حتى يُقبل عليه، وكان المظنون بوجه عام هو أن اللغة العامية هي التي تُدني هذا الفن من الجماهير، وتقرِّبه إليهم وتوهمهم بأنه يعرض صورًا ولوحات من واقع حياتهم؛ فقد رأينا اللغة العامية أو اللغة العربية الركيكة الدارجة، هي التي تطغى على معظم ما أنتجه رواد هذا الفن من مسرحيات.

وكل ما هو عاميٌّ أو ركيك اللغة لا يزال مجتمعنا كما قلنا يرفض أن يعتبره جزءًا من تراثنا الأدبي، حتى ولو كانت تلك المسرحيات العامية متينة التأليف من الناحية الفنية البحتة، وكان كُتابها من أولئك الذين درسوا أدب الغرب التمثيلي دراسة جيدة، وأتقنوه حتى أصبحوا قادرين على التجويد فيه من أمثال أديبنا المثقف الكبير، وناقدنا المسرحي المستنير محمد تيمور الذي آثر أن يكتب مسرحياته باللغة العامية، فكتب بها مسرحية «العصفور في قفص» في ثلاثة فصول، و«عبد الستار أفندي» في أربعة فصول، و«الهاوية» من ثلاثة فصول، والثلاثة من نوع الكوميديا الأخلاقية، ثم «العشرة الطبية» وهي أوبرابوف ذات أربعة فصول، وكل ذلك بالرغم من أن محمد تيمور كان شاعرًا وكاتب قصة، وناقدًا أدبيًّا يجيد الكتابة بالفصحى شعرًا ونثرًا.

وعندما نصل إلى المسرح النثري، ونحاول تحديد وقت ظهوره في عالمنا العربي الحديث، لا بد أن نعود فنذكر أن غلبة الطابع الغنائي على فن التمثيل في بلادنا منذ أول نشأته، قد كان أيضًا من عوامل تأخير ظهور المسرح النثري، بل ومن عوامل تأخير الأدب التمثيلي كله، وذلك بحكم أن هذا الأدب لا بد لظهوره والتجويد فيه من أن يستقل فن التمثيل أولًا بذاته، وينفصل عن الفنون الأخرى كالموسيقى والغناء والرقص وغيرها، وإذا كان اليونان القدماء قد انفردوا بين شعوب الأرض — هم وخلفاؤهم وتلاميذهم الرومان — بخلق أدب تمثيلي رفيع بالرغم من أن التمثيل كان يجمع عندهم بين النص الأدبي والموسيقى والغناء والرقص؛ فإن ذلك إنما يرجع إلى أن موسيقاهم كانت بالغة البساطة ولم تكن تطغى على النص الأدبي، وأن غناءهم لم يكن أيضًا يطمس ذلك النص، كما أن الأجزاء الغنائية في مسرحياتهم كانت قاصرة على الجوقة التي يتناوب غناؤها مع الفصول التمثيلية، ويأتي بمثابة تعليق أو استخلاص للعِبرة من المشاهد التمثيلية، أو تمهيد للحركة المسرحية التالية. وأما الأدب المسرحي في العصر الأوروبي الحديث الذي ابتدأ بعصر النهضة، فإنه لم يُنتج الروائع في هذا النوع من الأدب إلا بعد أن تم فصل التمثيل عن الغناء والموسيقى، واختراع فن خاص للمسرح الغنائي هو فن الأوبرا والأوبريت، الذي يُقصد منه إلى متعة الموسيقى والغناء لا متعة الأدب، ولذلك تُعتبر الأوبريت جزءًا من الموسيقى لا من الأدب، والنص الأدبي فيها ثانوي القيمة وكأنه مجرد نغمات صوتية تُضاف إلى النغمات الوترية وغيرها لتكمل المتعة الروحية.

ولما كانت شعوبنا العربية تحب الطرب والغناء بحكم التقاليد والتربية المتوارثة، التي جعلت العرب القدماء يتغنون بكل شعرهم، ويحددون لكل قصيدة الضرب الذي تتغنى به، على نحوٍ ما نشاهد في موسوعتهم الأدبية، وهي كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، ثم بحكم ظروف حياتهم التي غلبت عليها الخشونة حينًا والقسوة والظلم حينًا آخر، مما يُولِّد في نفوسهم حاجة ماسة إلى الترويج بالطرب والغناء، وكل ذلك فضلًا عما يزعمه البعض من أن العربي طروب بطبعه — لما كان كل هذا حقًّا ملموسًا، وكان لا بد لرواد فن التمثيل من أن يستهووا له الأفئدة بكل وسيلة ممكنة — فقد ظل الغناء مصاحبًا للتمثيل، بل وكان بعض المغنين مثل الشيخ سلامة حجازي وسيد درويش أو منيرة المهدية وغيرهم يظهرون أحيانًا على المسرح في فترة ما بين الفصول؛ ليغنوا قصائد أو مقطوعات لا تمت إلى المسرحية المعروضة بصلة، فضلًا عن حشو الأغاني داخل المسرحيات والتماس أوهى العلاقات لإدراجها في حناياها مما يُخالف أصول التأليف المسرحي السليم، كما يجنح به إلى اللغة العامية أو الدارجة التي تُعتبر أصلح للغناء أمام جمهورنا المتفشية فيه الأمية من اللغة الفصحى، بل لقد بلغ الحرص على الغناء وإقحامه على المسرحيات أن رأينا بعض الممثلين يُحملون على الغناء بالنثر على نحوٍ ما يحدثنا محمد تيمور في كتابه «حياتنا التمثيلية» في الفصل الذي عقده لمحاكمةٍ وهمية نصبها للمؤلفين المسرحيين؛ حيث روى محمد تيمور على لسان أدمون روستان وكيل النائب العام في محكمة التمثيل قوله: ولم يكتفِ فرح أفندي بذلك، بل عمد إلى تعريب الأغاني الشعرية إلى نثر يمجه الذوق السليم، وهذا لعجزه عن نظم نصف بيت من الشعر، أرأيتم يا حضرات القضاة في جميع أنواع الأوبريت أن النثر يُغنَّى.

فصاح جيته قائلًا: هذا كثير … هذا كثير.

وقال روستان: أما كان الأجدر به أن يستعين بأي زجَّال مصري يَنظِم له الأزجال؟! إن فرح أفندي يجهل النظْم جهله التلحين، فلماذا استعان بكامل الخلعي للتلحين ولم يستعن بزجال مصري لنظم أزجال رواياته؟ هذا سر أود أن يحدثنا عنه فرح أفندي في دفاعه، ولم يكتفِ فرح أفندي بذلك، بل عمد إلى الممثل الكبير جورج أبيض وقاده من التراجيدي إلى الأوبريت. أخرج لنا فرح أفندي جورج أبيض في دور المتصرف بالعباد، وأجبره على إنشاد بعض قطع نثرية، دعوني يا حضرات القضاة أبكي بدموع حارة على وفاة جورج أبيض؛ لأنه بلا نزاع انتحر انتحارًا أدبيًّا يوم تمثيله هذا الدور، ولقد قُبر في قبر النسيان وخفت صوته ذو التجعيرة الإلهية، وماتت التراجيديا بموته؛ أي يوم تمثيل المتصرف بالعباد.

والأغرب من كل ذلك أن جورج أفندي كان يُضحك الثكلى ساعة إنشاد القطع النثرية، والآن دعوني أضحك قليلًا يا حضرات القضاة، أجل دعوني أضحك، فقد بكيت كثيرًا، إني لا أنسى رنين صوت أبيض، لقد كان صوته ذا رنين أشبه برنين صوت «أم قويق».

ويحدثنا محمد تيمور أيضًا كيف أن استبداد الجمهور وأصحاب دُور المسرح، الذين يبغون الربح من مهنتهم بملكات الأدباء، قد اضطر هؤلاء إلى ترك ما يسميه تيمور بالمسرح الفني إلى المسرح اللافني؛ ففرح أنطون أقلع عن تأليف المسرحيات الفنية مثل مسرحيتيه الجيدتين «السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم» و«مصر الجديدة» إلى اقتباس الروايات الفودفيلية القديمة وترجمتها ترجمة غريبة عجيبة مشوَّهة، نصفها عاميٌّ والنصف الآخر فصيح، وخلطها ببعض نكات سورية وألفاظ «عميقة جدًّا في الاصطلاحات السورية والتركية» ليُضحك بها الجمهور، منها مثلًا لفظة «جاره» بمعنى بسرعة، ولفظة «ياواش» بمعنى على مهلك، وكان ذلك على أثر عودة فرح أنطون من أمريكا التي كان قد نزح إليها؛ طلبًا لرخاء العيش ولكنه لم ينجح، فعاد إلى مصر ليكافح من جديد في مجال الصحافة والأدب إلى أن توفاه الله في سنة ١٩٢٢، وهو في الثامنة والأربعين من عمره، إذ كان ميلاده في طرابلس بلبنان سنة ١٨٧٤.

وما قاله محمد تيمور عن فرح أنطون يمكن أن نقوله أيضًا عن غيره من أدباء عصره، الذين اشتغلوا بالتأليف المسرحي؛ فإبراهيم رمزي إذا كان قد ألَّف نثرًا فصيحًا في بعض المسرحيات الفنية مثل: «أبطال المنصورة» و«الحاكم بأمر الله» فإنه قد اضطر هو الآخر تحت ضغط نفس الظروف إلى تأليف عدد كبير من المسرحيات في سرعة خاطفة؛ ليُشبع نهم الفرق التجارية، وهي مسرحيات يغلب عليها الهزل الذي لا يهدف إلى شيء غير الإضحاك، ولا يقوم على أسس فنية سليمة، وفي ذلك يقول محمد تيمور: إذا قارنا بين «الحاكم بأمر الله» و«أبطال المنصورة» وهما الروايتان اللتان قضى في تأليفهما زمنًا طويلًا، وبين «حنجل بوبو» و«بنت الإخشيد» و«الهواري» وهي الروايات التي كتبها وهو يمزح وينكت، ظهر لنا الفرق كما لو كان بين السموات والأرض، ومن السهل أن نلاحظ أن هذا الوباء لا يزال قائمًا عندنا حتى اليوم؛ حيث نرى مؤلفين تخصصوا في غمر السوق بالروايات المسرحية والسينمائية، وكأنهم معامل للتفريخ مثل: أبو السعود الإبياري وبديع خيري وغيرهما ممن لا نظن أنهم يبذلون في إنتاجهم الأدبي من الجهد والعناية ما يكفل له البقاء، أو الدخول في تراثنا الأدبي الذي يستحق التأمل والدراسة.

والظاهر أن العقبات التي كانت تحول دون ظهور أدب تمثيلي كالأدب الموجود في اللغات الأوروبية، لم تكن قاصرة على الجمهور وانحطاط ثقافته وذوقه، ولا على الفرق التمثيلية والروح التجارية المسيطرة عليها فحسب، بل كانت تمتد أيضًا إلى بطش السلطات الحاكمة وتعسفها على نحو ما يُخبرنا إبراهيم رمزي نفسه في المقدمة، التي كتبها لمسرحية «أبطال المنصورة» وهي مسرحية ألَّفها في سنة ١٩١٥، ومع ذلك لم يطبعها وينشرها إلا في سنة ١٩٣٩ حيث يقول:

هذه ثالث رواية وضعتها، وكان ذلك في سنة ١٩١٥ مطاوعةً لشعور ابتعثه همُّ المصريين يومئذٍ لتغيير القوم عاهليتهم بالرغم منهم، وإيقاظًا لنفسية كاد يتلفها ما كانوا يَلْقونه من المذلة والعبث.

ولقد حاولت ما حاولت ليأذن الرقيب بتمثيلها فلم أُفلح، إلا في سنة ١٩١٨ فقد تضافر موظفو قلم المطبوعات على رفضها، والنيل مني ومنها عند رجال السلطة السياسية والعسكرية، فنالوا الحظوة لديهم كما أرادوا، وباءوا بعدُ بخزي من الله والوطن.

وأخيرًا مثَّلتها فرقة الأستاذ عبد الرحمن رشدي لأول مرة في المنصورة؛ تكريمًا للمدينة التي حدثت فيها واقعة التاريخ الذي أدونه لأبطالها في هذه القصة، بقلم التجلة والإكبار بعد أن دوَّنوه لأنفسهم بأثلات السيوف والرماح، وجعلوا صحيفته نورًا للمستنيرين في الحق والوطنية، بيد أنها كانت مرة واحدة مُثلت فيها، ثم رأيت من واجبي أن أنقل حق تمثيلها إلى فرقة ترقية التمثيل العربي، التي كانت في مجرى الإنشاء يومئذٍ فتولت إخراجها في دارها بحديقة الأزبكية وأحسنت تمثيلها، ولكن لم تكن هذه الدار حرة يومئذٍ في العمل؛ إذ كانت هناك عوامل تزيغ الدراما لتحل محلها الروايات الغنائية، فاختفت هذه الرواية من الجو المسرحي المحترف، وإن لم تختفِ من مسارح الجماعات الهاوية.

وكل هذا فضلًا عن أن تأليف القصص والمسرحيات، بل ومتابعة كتابة الشعر أو غيره من فنون الأدب والتجويد في ذلك، يحتاج إلى تفرغ واحتراف، وهذا ما لم يتم حتى اليوم لأدباء اللغة العربية إلا نادرًا؛ لأن هذا التفرغ والاحتراف لا يمكن أن يحدث إلا إذا توفرت له الظروف المواتية، فإما أن يكون الأديب قد رُزق ثروة خاصة تُغنيه عن العمل لكسب العيش، وإما أن يجد جمهورًا نابهًا نشطًا مقبلًا على الأدب، بحيث يستطيع أن يجد قوت حياته من نبع إنتاجه الفني، وإما أن تكفل الدولة للأدباء هذا التفرغ، الذي يستطيعون معه تجديد إنتاجهم واستكمال ثقافتهم دون أن يلهبهم سوط الحياة، هذا كله لم يتوفر منه شيء لأدباء العربية في العصر الحديث حتى اليوم؛ لذلك قلما نعثر بينهم على أديب محترف متفرغ، كما نلاحظ أن القلائل الذين تفرغوا للأدب هم الذين غزر إنتاجهم وجاد أحيانًا، وأما من عداهم فقد كانوا يُضطرون إلى مزاولة الكثير من المهن الأخرى ليعيشوا، كالمحاماة والطب، والتدريس، وأخيرًا وبنوع خاص الصحافة التي تلتهم الوقت، وتُضني العصب، وتستنفد الطاقة في سرعة خاطفة، لا تُريح ولا تُمهل، وربما كانت هذه الظروف من الأسباب التي جعلت أديبًا آخرَ معاصرًا لهذه الجماعة، لا يواصل تأليفه المسرح، وهو الأستاذ محمد لطفي جمعة، الذي كتب مسرحية سيكولوجية هي «قلب المرأة» ثم مسرحية تاريخية هي «نيرون» ثم سكت، حتى اضطر محمد تيمور إلى أن يقدمه إلى محكمة التمثيل، التي حكمت عليه بثلاثة أحكام كان من بينها «أن يبحث لطفي أفندي جمعة عن جوق جديد يمثل له روايته المقبورة في درج مكتبه وهي «خضر زرعك» وأن يبدأ بتأليف رواية جديدة حالًا.»

ومن المؤكد أن نفس هذه الظروف السيئة، هي التي كانت تدفع بالكثير من الأدباء، أو تضطرهم إلى العدول عن التأليف إلى الترجمة والتعريب والتمصير والاقتباس؛ لأن كل هذا أسرع وأقل مئونة ومشقة من التأليف، وإذا كنا نرحب بالترجمة؛ لأنها تُثري آدابنا وتضع أمام أدبائنا نماذج ناضجة من الآداب الغربية إذا أحسنا اختيار الترجمة، وإذا كنا نغتبط أحيانًا بالتعريب؛ أي عدم الترجمة الحرفية والتصرف المحدود في النصوص الأجنبية بحيث تخرج عربية الديباجة والروح، فإننا نشك كثيرًا في قيمة ما سموه عندئذٍ بالتمصير، وهو مسخ بعض المسرحيات العالمية الغربية لإخراجها في ثوب مصريٍّ عاميٍّ، وبشخصيات وأسماء مصرية مثل تحويل «القسيس طرطوف» إلى «الشيخ متلوف»، وإن تكن بعض المسرحيات المُمصَّرة قد لاقت نجاحًا، على نحوٍ ما فعل محمد عثمان جلال في مجموعة الكوميديات التي مصَّرها عن موليير، ونُشرت باسم «نخب الروايات في فن التياترات» ومن بينها كوميديا «الشيخ متلوف» التي لا تزال فرقتنا القومية تعرضها حتى اليوم، وأما الاقتباس فإننا نوافق محمد تيمور في الحكم الذي أصدره عليه، عندما جعل محكمة التمثيل تحكم في قضية فرح أفندي أنطون بقولها: «إنها تُحرِّم على فرح أفندي الاشتغال بفن الاقتباس مدة عشر سنوات»؛ أي المدة التي تكفي الجمهور المصري لنسيان هذا النوع العقيم والواقع أن الاقتباس ما هو إلا سرقة ومسخ، وتسميته اقتباسًا يمكن أن نقبله إذا جاز أن نصحح الحكم الشعبي الشهير فنقول: «إن حسن أبو علي اقتبس المعزة.»

ونخلص من استعراض كل هذه الظروف التاريخية إلى أنه بالرغم من قسوة هذه الظروف، وعدم استطاعة فن التمثيل أن يستقل بنفسه عن فنون الطرب الأخرى، استقلالًا رأينا فيه أساسًا هامًّا لظهور ما نسميه بالمسرح النثري، نقول إنه بالرغم من كل ذلك فقد ظهرت في تلك الفترة بعض المسرحيات النثرية التي أشرنا إليها فيما سبق، والتي يصح أن ننظر فيها نظرة سريعة قبل أن ننتقل إلى الحديث عن كاتبنا المعاصر الكبير «توفيق الحكيم» الذي يصح أن نقول عنه إنه قد نجح في أن يربط الأدب النثري بالمسرح على نحوٍ ما نجح أحمد شوقي في أن يربط الأدب الشعري به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤