فرح أنطون والمسرح الاجتماعي في مصر الجديدة

وإذا كانت مسرحية «أبطال المنصورة» هي ومسرحية «السلطان صلاح الدين ومملكة أورشليم» تُعتبران من أوائل المسرحيات ذات الهدف الجدي، من حيث إنهما تبرزان بطولة القومية العربية الإسلامية في فترة حاسمة من تاريخ العرب، وهي فترة الحروب الصليبية، فإن مسرحية «مصر الجديدة» لفرح أنطون تُعتبر هي الأخرى من أوائل المسرحيات ذات الهدف الاجتماعي الجاد، وإذا كان ظهور هذه المسرحيات الجادة التي سمَّاها محمد تيمور بالمسرحيات الفنية قد كان وليد تغيير أساسي في وظيفة المسرح والتأليف المسرحي، بحيث لا يعود الهدف منها مجرد التسلية والترويح والطرب على نحوٍ ما كان الحال في الخطوات الأولى للمسرح في عالمنا العربي، عندما كان الطابع الغنائي هو الغالب عليه، فإنه من المؤكد أن هذا التطور قد كان نتيجة للصراع العنيف الذي أخذ يتضح في الربع الأول من هذا القرن، بين الحضارة الغربية الرافدة والحضارة الشرقية المتوارثة؛ أو بين ما كانوا يسمونه عندئذٍ بالقديم والجديد.

فاتصال العالم الشرقي عامة ومصر خاصة بأوروبا منذ القرن الماضي، كان قد أخذ ينقل إلى عالمنا الشرقي طائفة من مظاهر الحياة الغربية وعاداتها وطرق حياتها قبل أن ينقل إليه ثقافتها وعلمها العميقين وجوَّها الثمين، فإن الحضارة الشرقية المتوارثة، والتي أخذنا نبعث في نفس الفترة ما كان قد مات منها، لم تلبث أن أخذت تقاوم تلك الحضارة الغربية الوافدة، ومن هنا كان ذلك الصراع العنيف الذي انعكس على الحركة الأدبية والثقافية، فولَّد فيها تيارين: أحدهما التيار التاريخي الذي دفع آباءنا إلى البحث عن موضوعات تاريخية، يثيرون بها أمجاد العرب والمسلمين التليدة وبطولاتهم؛ ليجابهوا بها عادة الأخذ بالحضارة الغربية المتحمسين لها، والمعتزين بما فيها من أمجاد وانتصارات في كافة الميادين، حتى رأينا رواد الفنون الأدبية الوافدة إلينا من الغرب نفسه، كفن القصة وفن المسرحية، يختارون لهذين الفنين مضامين من تاريخ العرب وتاريخ المسلمين، على نحوٍ ما نعلم من سلسلة القصص التاريخية التي كتبها في مصر الرائد القصصي جورجي زيدان، واختار تلك المضامين من بين فترات البطولة العربية المنتصرة أو البطولة التي انهزمت، وأراد زيدان أن يتخذ من تلك الهزائم وسيلة لاستثارة الهمم وحشد العزائم لاسترداد المجد السليب، على نحوٍ ما فعل في بعض القصص التي صوَّر فيها كارثة العرب في الأندلس وخروجهم منها.

وكان التيار الثاني هو التيار الاجتماعي الذي أخذ يبحث في سر تأخر المصريين خاصة والشرقيين عامة، كما يبحث في سر تقدم الغربيين على نحوٍ ما نحس عندما نقارن مثلًا بين كتابين ظهرا في أوائل هذا القرن، أحدهما مترجم وهو «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» الذي ترجمه إلى العربية فتحي زغلول، وثانيهما مُؤلَّف وهو «حاضر المصريين أو سر تأخرهم» لمحمد عمر؛ حيث نرى الكتاب الأول يُرجِع تقدم الإنجليز السكسونيين إلى تربيتهم الاستقلالية التي تعوِّدهم الاعتماد على النفس والثقة بها والشجاعة في تحمل المسئولية، بينما يُرجع الكتاب الثاني تأخر المصريين إلى تواكلهم وانهيار ثقتهم بأنفسهم وضعفهم عن تحمل مسئولياتهم، أو على نحوٍ ما نحس في دعوات الإصلاح التي نادى بها مفكر كالشيخ محمد عبده، أو مصلح كقاسم أمين صاحب كتابي «تحرير المرأة» و«المرأة الجديدة».

وإلى جوار هذه الأبحاث الاجتماعية والدعوات الإصلاحية المتأثرة بالغرب، نرى تيارًا نقديًّا عنيفًا يتناول بالشجب والتجريح، كل تلك العادات والتقاليد السيئة التي أخذت تتسرب إلينا من قشور الحضارة الغربية، مثل القمار وشرب الخمر والرقص الثنائي المختلط ودُور اللهو والربا، وما إلى ذلك من مواضع النقد العنيف التي نطالعها عند عدد آخر من رواد القصة مثل محمد المويلحي في «حديث عيسى بن هشام» وحافظ إبراهيم في «ليالي سطيح» وغيرهما.

وها نحن نلتقي بمسرحية «مصر الجديدة ومصر القديمة» لفرح أنطون، فنراها مسرحية اجتماعية وليدة لنفس الظروف؛ أي لتسلل قشور أو مساوئ الحضارة الغربية إلى بلادنا؛ فالمسرحية تتضمن نقدًا لاذعًا مريرًا للكثير من المفاسد التي تسللت إلينا من الغرب، مثل الدعارة وتبديد المال في العبث والمجون، والتعامل بالربا الفاحش مع خريستو وأمثاله، والوقوع في مصائد تجار الرقيق الأبيض مثل الخواجة الفرنسي أيتين وزوجته، اللذين غررا بالخادمة الفرنسية الجميلة أديل، واحتالا على جلبها إلى مصر بتزوير الأوراق الرسمية، اصطحباها معهما كابنة عم لهما، مع أنها فريسة بريئة جلباها كمصيدة يصيد بها خريستو السادة البكوات والباشوات المصريين، ولندع فرح أنطون مؤلف المسرحية نفسه يلخص لنا مسرحيته وهدفه منها؛ حيث قال في مقال نشره بإحدى الصحف في يوم تقديم فرقة جورج أبيض لها بدار الأوبرا في ٥ أبريل سنة ١٩٢٣:

إن المسرحية في الحقيقة أربع روايات متداخلة بعضها في بعض، ولكن تجمعها جامعة واحدة وينظمها سلك واحد؛ فإحداها حول فؤاد بك بطل مصر الجديدة، وهي مبنية على قوة الإرادة والنشاط والعمل والتزام الجد حتى في حالات اللهو، وصيانة النفس والعيلة حتى في الحالات الغرامية العظمى، التي يضيع فيها رشادُ ذي الرشاد، والرواية الثانية تدور حول الست ألمز نابغة فن التمثيل وخليفة عبده، وألمز الأولى وهي مبنية على تاريخ ابنة العيلة، وابنة المدرسة التي سقطت لغلو أخلاقها في طلب الحرية، وأرادت النهوض عن سبيل الحب، والرواية الثالثة تدور حول خريستو الهائل صاحب أعظم كازينو في مصر، وهي مبنية على حوادث الرقيق الأبيض، وإغراء البنات بالفساد والسُّكر والقمار والإسراف والاستقراض الهائل بمال هائل يذهب بالمال والطين والعقار، وقهاوي الرقص والخمارات والملاهي السرية، التي تأكل الآن الثروة العمومية، والرواية الرابعة تدور حول مهفهف باشا وجماعة من الوارثين، وما كانوا عليه وما صاروا إليه بسبب التبذير والطيش وحياة اللهو المتصل اتصالًا قاتلًا، زد على ذلك صدى جميع تلك الأفاعل لدى السيدات في خدورهن ومؤامرة السيدات على الرجال لإعادتهم إلى السراط المستقيم، ووراء أولئك وهؤلاء صوت صباح باشا السوداني، يهتف هتاف الفرح والمسرة بقيام ناشئة جديدة في شخص فؤاد بك، هي ابنة مصر الجديدة التي تدفع عنها بقوة الإرادة والإقدام والعمل والنشاط والإباء كل ما يشكو منه أبناء مصر القديمة؛ فالفكرة الأساسية التي بُنيت عليها الرواية هي «قوة إرادة العمل وعمل الإرادة» كما قال فؤاد بك لرفاقه في المسرحية، وكأنها فصل طويل كُتب في سبيل الدعوة إلى الحياة الجدية، ونشيد منثور لإظهار فضل من انصرف من الناشئة الجديدة إلى هذه الفضائل.

ومضمون المسرحية كما هو واضح من هذا التلخيص مضمون شريف وهدفها نبيل، ولكننا من الناحية الفنية نلاحظ أن المسرحية فاقدة لأهم مبدأ فني وهو مبدأ الوحدة، وقد اعترف المؤلف نفسه بهذا النقص الخطير عندما ذكر أن المسرحية تتضمن أربع روايات، والواقع أن كل فصل من فصولها الأربعة، بل ومن الفصل التمهيدي الذي يجريه المؤلف على ظهر السفينة التي التقى فيها مصادفة تاجر الرقيق الأبيض وزوجته القوادة، وفريستهما الفتاة البريئة أديل مع مهفهف باشا وفؤاد بك، كل من هذه الفصول يصلح في ذاته؛ لأن تُؤلف منه مسرحية قائمة بذاتها موحدة الموضوع، ولقد اعتذر المؤلف نفسه عن هذا التفكك وحاول تبريره بقوله: «أعترف للقراء بأن اشتغالي بأمر إرضاء الجمهور الذي اعتاد التردد على المراسح، كان في هذه الرواية مقدمًا عندي على أمر الدرس السيكولوجي الدقيق في حادثة واحدة متماسكة من جميع جوانبها، وتخرج أجزاؤها وحوادثها بعضها من بعض خروج الأزهار من أكمامها.»

ونحن لا نرى في هذا تبريرًا مقبولًا لما في هذه المسرحية من تفكك يكاد يودي بقيمتها الفنية، وكان جمهورنا ورغباته المدعاة دائمًا التعلة التي يحاول بها أدباؤنا ومفكرونا تبرير عيوبهم الفنية أو ضحالتهم الفكرية، وما يجوز أن يعبأ ناقد جاد بمثل هذا التبرير، ومن المؤكد أنه من الممكن، بل من الواجب أن يُرفع الجمهور إلى مستوى الفن الرفيع بأن نقدم إليه دائمًا الفن الرفيع.

وأما عن المضمون فهو كما قلنا نبيل الهدف، وقد كان فرح أنطون من كبار المثقفين في عصره، وقد عُرف بكثرة القراءة في مؤلفات الفلاسفة والمفكرين الشرقيين والغربيين على السواء، ودراستهم والكتابة عنهم، وربما كانت حصيلته من الفلسفة والاجتماع أكبر من حصيلته الأدبية، وقد يكون في هذا بعض ما يفسر ضعف الصورة الفنية في هذه المسرحية وغيرها، إلى جوار قوة مضمونها وسلامة ما تتضمنه من تفكير نقدي اجتماعي سليم.

ولما كانت هذه المسرحية مستقاة من واقع حياتنا الاجتماعية في ذلك العصر، فإنه لم يكن بد من أن تجابه المشكلة اللغوية فرح أنطون، عند أخذه في كتابة مسرحيته على نفس النحو، الذي لا تزال هذه المشكلة تواجه به أدباءنا عندما يكتبون المسرحيات المستمدة من واقع حياتنا المعاصرة، وإذا كان عدد من كبار أدبائنا قد فضلوا أن يكتبوا مثل هذه المسرحيات باللغة العامية، على نحوٍ ما فعل محمد تيمور وإبراهيم رمزي وعباس علام، وعلى نحوٍ ما لا يزال يفعل في الوقت الحاضر عدد من أدبائنا؛ فإن فرح أنطون قد حل هذه المشكلة على نحو فريد، فكتب أجزاءً منها بالعامية وأخرى بالفصحى، وثالثة بين الاثنتين سمَّاها الفصحى المخففة، أو العامية المشرفة، وقال في تفسير ذلك: «إنما مجلس التمثيل (المسرح أو الملعب) مجلس أناس يقلدون غيرهم، فإذا كانت الروايات مُعرَّبة صح جعل اللغة العربية الفصحى لغة لها، يحسبان أن الرواية حكاية حال قوم لغتهم أعجمية، ولنا حق اختيار اللغة التي نجعلها قالبًا لتلك الحكاية، ولكن إذا كانت الروايات تأليفًا وإنشاءً، وموضوعها شئون من لغتهم المحكية اللغة العربية العامية، وجعلنا لغة هذه الروايات اللغة العربية الفصحى صرفًا، خرجنا عن الطبيعة التي ما أنشئت الروايات التمثيلية إلا لتقليدها، وخالفنا الواقع في شكله وصورته، وفي هذا هدم لأصل من أصول التمثيل الأساسية، وكيف يُستطاع مثلًا جعْل خريستو في مصر الجديدة ينطق باللغة الفصحى وهو أعجميٌّ، وما يكون رأي مشاهدي هذه الرواية، إذا سمعوا فيها نساء قهوة الرقص، وباعة الصحف، والخادمات والخادمين، والبرابرة والسكارى والمترنحين، بل والسيدات في خدورهن ينطقون باللغة الفصحى، ثم نرى من وجه آخر أننا إذا جعلنا تأليف الروايات التمثيلية الاجتماعية باللغة العامية، حرصًا على تقليد الطبيعية كل التقليد، كما هي وظيفة مجالس التمثيل (المراسح) وقعنا فيما هو أشد وأنكى، وقعنا في إحياء العامية وإضعاف الفصحى، وهذا أمر يأباه كل من ذاق لذة هذه اللغة الجميلة التي جرى حبها منا مجرى الدم في المفاصل، وما كنت لأرضى بأن يكون الشروع في أمر كهذا الأمر على يدي، هذا هو المشكل الذي وقعت فيه في تأليف «مصر الجديدة» وسيقع فيه بعدي كل من يتصدى لتأليف الروايات التمثيلية الاجتماعية باللغة العربية، بقي علي أن أذكر الوجه الذي اخترته لإزالة هذه الصعوبة بأقل ما يمكن من التسامح في شأن «اللغة» وشأن «الطبيعة»؛ لأنه من الواجب في رأيي ألا تُضحي إحداهما في سبيل الأخرى تضحية تامة، اخترت وجهًا وسطًا، وما أزعم أنه الحل النهائي، ولكني رأيته أفضل وجه حتى الآن؛ فقد اصطلحت على جعل أشخاص الطبقة العليا في الرواية يتكلمون اللغة الفصحى؛ لأن تربيتهم ومعارفهم وأحوالهم تبيح لهم هذا الحق، وجعلت أشخاص الطبقة الدنيا يتكلمون اللغة العامية، ولما كان للغة العامية إشارات واصطلاحات وكلمات، هي في بعض المواقف المخصوصة من العذوبة والحلاوة بمكان، فقد أبقيت لها هذه المواقف، ولكني اجتثثتها من أصولها اجتثاثًا في المواقف العالية والحوادث الفاجعة، التي لا تكسبها إلا اللغة الفصحى جمالًا وجلالًا، ولو وضعت العامية موضعها فيها لمسختها وقلبتها أضحوكة، ثم تشعبت من هذه المشكلة مشكلة أخرى، وهي أننا إذا اصطلحنا على جعل أشخاص الطبقة الدنيا في الرواية يتكلمون العامية، وجب على مخاطبيهم أن يكلموهم بها، أولًا ليتفاهم الفريقان، وثانيًا لكي لا يثقل في سمع السامع الانتقال من العامية إلى الفصحى، ومن الفصحى إلى العامية بين سؤال وجواب، وهذا هو السبب في أن اللغة العامية استغرقت معظم الفصل الأول (بعد الفصل التمهيدي) فإن خريستو أحد أبطال الرواية يملأ ذلك الفصل، وهو أعجمي لا يتكلم العامية، بل شبهها، ولا يفهم غيرها، فلزم عن ذلك جعل مخاطبيه حتى فؤاد بك ومهفهف باشا وصباح باشا والست ألمز، يخاطبونه بها، فامتلأ ذلك الفصل بالعامية، وكان ذلك أعظم انتقام لخريستو.

ثم تفرعت من هذا الوجه صعوبة أخرى: سيدات في خدورهن يتحادثن عما صار إليه أمر الرجال، ويحنقن ويضطربن ويتآمرن، أية لغة يتكلمن؟ قد جعلت لهن لغة ثالثة لا هي بالعامية ولا هي بالفصحى، ويمكن تسميتها «الفصحى المخففة والعامية المشرفة»، وبناء على ما تقدم يكون في الرواية ثلاث لغات: «العامية والمتوسطة والفصحى، وسأرى بعد التمثيل هل أسأت أم أحسنت.»

وهذه النظرية الخطيرة لا يمكن قبولها على أي وجه؛ فكل مسرحية إنما هي حكاية حال، كما قال فرح أنطون نفسه عن المسرحيات المترجمة، ولا يمكن أن تكون حكاية لسان؛ فالمؤلف لا ينطق لسان مقال شخصياته الروائية، بل ينطق لسان حالهم، والواقعية ليست في اللغة، وإنما في التصوير النفسي للشخصيات، ومدى مطابقة هذا التصوير لواقع الحياة الظاهر منه والخفي، والذي لا تستطيع الشخصيات التعبير عنه أو لا تستطيع، وليس بمعقول أن يترك المؤلف شخصياته يتحدث كلٌّ منها بلسان مقاله الخاص، والذي يحدث فعلًا هو أن المؤلف يعبِّر بلغته هو وبلسانه، وكل ما يطلب منه هو أن يكون تعبيره صادق التصوير لواقع شخصياته، وسيان في ذلك من الناحية الفنية، أن يستخدم لغة عربية فصيحة أو عامية أو أية لغة أخرى.

وبالرغم مما في هذه المسرحية من تفكك في البناء وفي التعبير اللغوي، إلا أننا لا نستطيع أن ننكر ما في بعض مشاهدها من نجاح فنيٍّ أصيل، مثل الفصل التمهيدي الذي يجري على السفينة وما فيه من حركة وتشويق ومفاجآت، ومثل الفصل الثالث الرائع الذي يجري في المنزل الذي استأجره فؤاد بك للمغنية ألمز بعد أن عشقها، وما جرى به من أحداث درامية عنيفة مثيرة؛ حيث تأتي زميلة قديمة لألمز لتحاول أن تغريها بالعودة إلى الغناء في المقهى ومصاحبة خريستو، ولكن ألمز ترفض في قوة وإصرار متمسكة بالحياة البيتية المستقرة التي تسعد بها مع فؤاد بك، وفي نفس الوقت تُفاجأ بخبر تُدلي به زميلتها نعرف منه أن فؤاد بك متزوج بامرأة جميلة، وله منها طفلة لطيفة في الثامنة من عمرها اسمها حبيبة، ثم لا يلبث فؤاد بك أن يدخل وتأخذ ألمز في استجوابه، ثم نُفاجأ بابنته حبيبة تدخل خلفه، فيصعق فؤاد ويُغمى على ألمز، ويزداد الموقف تعقيدًا بدخول خريستو الذي كان يبحث عن ألمز ويتابعها، وهنا نشهد موقفًا دراميًّا عنيفًا، لا يجد فؤاد بك منه مخرجًا إلا أن يدعي أن المنزل منزل خريستو، وأنه جاء إليه لبعض شئونه التجارية، حتى يُخفي عن ابنته الصغيرة البريئة حقيقة الموقف، وإن تكن هذه الأكذوبة قد ردت مع ذلك فؤاد بك إلى رشده واستقامته، فتخلص من ألمز واصطحب زوجته وابنته في الرحلة التجارية التي كان قد اعتزمها إلى السودان لبعض مهامه التجارية التي لم تُنقذ أسرته فحسب، بل وأنقذت أيضًا تجارته من الإفلاس والخراب، مما حمل فرح أنطون نفسه عند تحليله لمسرحيته، على أن يرى في فؤاد بك رمزًا لمصر الجديدة التي تتطلع إلى التخلص من الانحلال والانهيار.

وأما من حيث تصوير الشخصيات وتحديد أبعادها، فإن شخصيات المسرحية لا نكاد نتبين لها صورًا أو أبعادًا محددة، كأن كل هذه الشخصيات قد استحالت إلى مجرد رموز أو نماذج من السلوك، وضروب من التصرف التي أراد المؤلف أن ينقدها وأن يُظهر مساوئها وأخطارها على المجتمع.

والمسرحية بعد كل ذلك يطغى عليها طابع الوعظ والإرشاد، حتى لنحس بالحوار ينقلب في الكثير من أجزائها إلى خطب منبرية، وقد شعر المؤلف نفسه بذلك حتى لنراه يقول إن مسرحيته قد جاءت «كفصل طويل كُتب في سبيل الإرادة والدعوة إلى الحياة الجدية، ونشيد منثور لإظهار فضل من انصرف من الناشئة الجديدة إلى هذه الفضائل.»

فرح أنطون والأصول الفنية

وبالرغم مما أخذنا على مسرحية «مصر الجديدة ومصر القديمة» من تفكك في البناء، وضعف في تصوير الشخصيات، فإننا لا نستطيع أن نزعم أن فرح أنطون كان يجهل أصول فنه من الناحية النظرية، وذلك بدليل أنه هو نفسه قد اعترف بما في مسرحيته من عيوب فنية، وحاول تبرير ذلك بطبيعة الجمهور المصري ورغباته.

وفي الكتاب الخاص بفرح أنطون في سلسلة «مناهل الأدب العربي» التي أصدرتها مكتبة بيروت، وهو كتاب يضم عددًا ممتازًا من مقالاته، نطالع في ٤٥ وما بعدها مقالًا له عن إنشاء الروايات العربية، يوضح فيه عددًا من أصول فن التأليف المسرحي، توضيحًا يدل على سعة اطلاعه على هذه الأصول وحسن فهمه لها، كما يتعرض لأسباب ضعف التأليف المسرحي في عصره فيفسر هذا الضعف قائلًا: «إن كل من أمسك قلمًا في هذه الأيام يرى نفسه قادرًا على وضع رواية؛ لأن كل إنسان يقدر على قص قصة، أو سرد حوادث يتصورها وجميعهم يعلمون أن فن الروايات علم بأصول، ولكنهم يجرءون مع هذا على وضع هذه الروايات لثلاثة أسباب، الأول: انعدام حرية النقد أو بعبارة أخرى الجهل بحقيقة هذا الفن للإقدام على نقده. والثاني: اعتبار القراء في الشرق، الرواية عالمًا خياليًّا يُلهى به ساعة أو نصف ساعة، فلا يطلبون فيه غير قطع الوقت. والثالث: قلة القراء في اللغة العربية؛ فالروايات التي تظهر فيها لا يستفيد منها مؤلفوها فائدة حقيقية، إلا إذا كانوا أصحاب مكاتب ومطابع، صناعتهم التجارة بالكتب، وقلما نرى كاتبًا يجهد قريحته ويكوِّن فكرة وينضج رأيه في وضع رواية مهمة؛ لأنه يعلم أن الفائدة التي تنشأ عنها لا تعدل التعب، الذي يُبذل في تأليفها وطبعها، والجمهور لا يفهم منها سوى قصتها.»

ثم يأخذ بعد ذلك في عرض الأصول الفنية، التي لا بد من مراعاتها لكي يستقيم تأليف المسرحية الناجحة، فيحصر هذه الأصول في ستة هي:
  • (١)

    قوة الاختراع التي نرى فيها بحق أهم تلك الأصول، ويفسرها بقوله إن المراد بها أن تكون مخيلة الكاتب قادرة على اختراع حوادث وأخبار، تجعل في الرواية فكاهة ولذة، وبهذه القوة تنشأ في الرواية المشاهد والمواقف الكبرى، التي تحتك فيها العواطف والأميال والمبادئ احتكاكًا شديدًا لتأسر لب القارئ.

  • (٢)

    قوة الحركة التي يُنزلها في المرتبة الثانية بعد قوة الاختراع، قائلًا إن تلك الحوادث التي يجيد المؤلف في اختراعها، إذا لم يجعلها متحركة سئم قارئها ومل قراءتها، والإجادة هنا هي جعْل حوادث الرواية منبئة عن أخلاق أشخاصها.

  • (٣)

    وحدة السياق وتنوع الموضوع؛ حيث يقول إن الشرط الثالث في تأليف الرواية وحدة السياق وتنوع الموضوع، والمراد بوحدة السياق رسم طريق للرواية تبتدئ في أولها، وتنتهي في آخرها دون أن تخرج الرواية عنها في أثناء تقلباتها، فكأنها سلك يمده رجل بين طرق ضيقة وشوارع واسعة فيوغل فيها، ولكن السلك في يده وهو يعرف من أين ابتدأ وإلى أين ينتهي، والمراد بتنوع الموضوع جعل مواضيع الرواية التي تتفرع من ذلك السياق متنوعة متفرعة؛ لاجتناب ملل القارئ أولًا، واستيفاء البحث في أخلاق أشخاص الرواية ثانيًا، ومن أقوال الفلاسفة أن الطبيعة واحدة من حيث مادتها ونواميسها، ولكنها متنوعة من حيث صورها وأشكالها، وهم يسمون هذا باسم التنوع في الوحدة، وما يُقال في الطبيعة يُقال في الرواية؛ لأن الوحدة المقرونة بالتنوع أساس قوة كل شيء وجماله في العالم، وبدونها تكون الحياة مضطربة مضجرة.

  • (٤)

    قوة البسيكولوجيا والسيسيولوجيا؛ أي قوة الدراسة النفسية والاجتماعية لشخصيات الرواية، وهو يرى أنه إذا كان الأديب يحتاج إلى ثقافة موسوعية، فإن دراسة علم النفس تأتي في المرتبة الأولى من هذه الثقافة، ويلحق به في ذلك علم الاجتماع، وقد كان فرح أنطون يفضل الروايات الاجتماعية، ويراها أنفعها لنا على نحوٍ ما نطالع في مقال آخر بنفس الكتاب عن «الروايات وأنفعها لنا»؛ حيث نراه يفضل الروايات الاجتماعية الفلسفية على كافة الروايات الأخرى، بما فيها الروايات التاريخية، وقد سبق أن أوضحنا كيف أن ظروف حياتنا، وما كان يجري فيها عندئذٍ من صراع بين القديم والجديد، وبين حضارة الشرق وحضارة الغرب، وما أصاب حياتنا نتيجة لذلك من اضطراب قد كان يدفع الأدباء والمفكرين دفعًا إلى معالجة المشاكل الاجتماعية، وتناولها بالنقد والإيضاح في قصصهم ومسرحياتهم وكتبهم الاجتماعية والفلسفية.

  • (٥)

    درس هذا الفن؛ حيث يقول: «كما أن العالم لا يصير عالمًا إلا بالبحث والدرس، والصانع لا يكون صانعًا إلا بالإكباب على صناعته، فكذلك الروائي لا يصير روائيًّا إلا بدرس فنه، ولكن ليس للروايات مدرسة تعلم فيها أصول هذا الفن، وإنما مدرسته أمران: الأول مطالعة روايات أكابر المؤلفين، والثاني مطالعة كتابات مشاهير نقادي الروايات؛ فالروايات المشهورة الجيدة هي خير مدرسة لمؤلف الروايات؛ لأنها خلاصة الاختيار والعلم في هذا الفن، ولكن هذه المطالعة وحدها لا تكفي الراغب في التأليف، إذا لم يكب على الأمر الثاني، وهو درس أقوال نقادي الروايات وإكبابه عليها.»

  • (٦)

    عاطفة الجمال؛ حيث يقول: «والشرط السادس والأخير من شروط وضع الروايات التزام عاطفة الجمال فيها؛ لأن تأثيرها وحلاوتها متوقفان على ذلك، ويدخل في هذا أمران: الأول جمال موضوعها، والثاني جمال سبكها، أما جمال موضوعها فمتوقف على الإجادة في الصفات الخمس التي تقدَّم بسطها، أما جمال سبكها فالمراد به نسجها بلفظ عذب ومعنًى طلي وروح جلي، فيجد القارئ حين مطالعتها من الحلاوة والعذوبة ما يستأثر بلُبه، وإذا كان الجفاف والجمود في الإنشاء مما يغتفر في المباحث العلمية والتاريخية؛ لأن الغرض منها تقرير الحقائق سواء كان لباسها من نُضار أو كان عليها أطمار؛ فإن ذلك مما لا يُقبل في الروايات أصلًا؛ لأن العمدة في الروايات إنما هي على التأثير في نفس القارئ لجذبه إلى مبادئها وشرح صدره لحلاوتها، وهذا الجذب والتأثير لا يتمَّان إلا بعاطفة الجمال.»

وواضح من حديث فرح أنطون عن هذه الأصول الستة، أنه كان كما قلنا على علم ودراية وتمثيل لتلك الأصول، وفي صلب المقال الذي لخصنا عنه هذه الأصول الستة، نُحس بأن فرح أنطون كان دائم القراءة والاطلاع، وبخاصة في الأدب الفرنسي، وما نقل إلى الفرنسية من آداب الأمم الأخرى، حتى نراه يؤيد ما لقوة الاختراع من صدارة على الأصول الأخرى، بإيراده رأي تولستوي في رواية جوركي «الطبقة السفلى»، التي جعلت له بين كتاب أوروبا منزلة سامية، وهو قوله «إنها جيدة، ولكن ينقصها قوة الاختراع.» ثم يعقِّب على هذا بحكم صادق على قصص تولستوي نفسه حيث يقول: «ولكن كثيرين يقولون عن روايات تولستوي نفسه مثل هذا القول (أي ضعف الاختراع)؛ لأنها إنما تمتاز بمبادئها وآرائها وصبغتها النظرية لا باختراع حوادثها.» كما نُحس من نفس المقال أن فرح أنطون لم يكن يقرأ روائع الروايات فحسب، بل وكان يقرأ أيضًا كتابات النقاد، بل ويدرس تاريخ حياة بعض كبار الأدباء العالميين، ومراحل صقل ملكاتهم الأدبية الفنية وتجويد تأليفهم؛ حيث نراه يذكر عن القصَّاص الفرنسي الكبير إسكندر ديماس مثلًا، قائلًا بلسان ديماس نفسه: «إنه لما عقد النية في شبابه على أن يكون مؤلف روايات أخذ يُطالع جميع الروايات المشهورة لأكابر المؤلفين، فرنسيين وغير فرنسيين، فصرف وقتًا طويلًا في درسها والتأمل بها وتدبُّر أغراضها ومراميها، فأتى عليها كلها حتى انطبعت في ذهنه أساليبها وطرقها، واختلطت في فكره وقائعها ومذاهبها، وبعد ذلك شرع في الكتابة فكتب الرواية الأولى وأحرقها لعدم رضائه عنها، ثم كتب الثانية والثالثة وأحرقها أيضًا، ولما كتب الرابعة دفعها للتمثيل، فكان لها دوي في باريس، وقد حضرها أحد أمراء العائلة المالكة، وكان ديماس مستخدمًا عنده، ولما ذُكر اسم المؤلف للجمهور نهض الأمير من مجلسه، ورفع قبعته لمستخدمه ديماس إكرامًا له وتنشيطًا.»

كل هذا صحيح وواضح، ولكننا نلاحظ مع ذلك أن فرح أنطون لم يأخذ نفسه دائمًا بكل هذه الأصول الدقيقة، التي كان يجيد معرفتها وقد يكون ذلك لصعوبة التطبيق إلى حدٍ ما، كما قد يكون نتيجة لنفس الأسباب التي أوردها فرح أنطون لتفسير هبوط التأليف المسرحي من الناحية الفنية، وبخاصة ضغط البيئة وانحطاط مستوى الجمهور، ونزول أصحاب دُور المسرح إلى مستواه، كما قد يكون اضطرار المؤلفين المحترفين إلى الإنتاج السريع المتلاحق ليقوموا بضرورات حياتهم؛ إذ إن التأليف الأدبي كان ولا يزال حتى اليوم عاجزًا من أن يقوِّت أديبًا ينقطع له، وذلك بسبب ضعف إقبال الجمهور على القراءة، بل وضعف إقباله على دُور المسارح، مما يضطرها إلى تغيير مسرحياتها بسرعة، حتى تقدم دائمًا جديدًا للعدد المحدود من رواد المسرح، الذين ينتظمون في الاختلاف إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤