الفصل الأول

حفر زمزم

كان عبد المطلب سَمْح الطبع رضيَّ النفس، سخيَّ اليد، حلو العشرة عذب الحديث. وكان عبد المطلب أيضًا قويَّ الإيمان، تملك قلبه وتسيطر على نفسه نزعة دينية حادة عنيفة، ولكنها غامضة، يحسها ويخضع لها، ولكنه لا يتبينها ولا يستطيع لها فهمًا ولا تفسيرًا. وأبوه من مكة، حيث التجارة والثروة، وحيث المكر والدهاء، وحيث الوثنية السهلة التي لا تحرُّج فيها ولا مشقة. وأمُّه من يثرب، حيث الزراعة والصناعة اليسيرة، وحيث اليهودية تجاوز الوثنية فتضعفها، وتنقص من ظلها وتكاد تمحوها، وحيث الأخلاق اللينة والشمائل الحلوة، وحيث الظرف ونعومة الحياة.

ولد في يثرب، ومات عنه أبوه فلم ينقله إلى مكة، فنشأ بين أخواله وتأثر بحياتهم وتخلق بأخلاقهم وسار سيرتهم، حتى بلغ الشباب أو كاد. ثم أقبل عمه فانتزعه من إقليمه السهل الهين، إلى إقليم آخر صعب عسير، تجدب فيه الأرض، ولا تبتسم له السماء إلا قليلًا، ويرحل أهله إلى الآفاق ويفد على أهله الناس من جميع الآفاق، فهم يأخذون من الناس ويعطونهم ويبادلونهم الأخلاق والشمائل كما يبادلونهم المنافع وعروض التجارة. ولعل أخلاق يثرب وخصال مكة قد اختصمت في نفس هذا الغلام. ولعل اختصامها قد طال، ولعل اختصامها قد قصر، ولكنها على كل حال قد انتهت إلى شيء من الاعتدال آخر الأمر. فلم يكتمل للفتى شبابه حتى كان فتى من قريش، ولكنه يمتاز من بقية فتيان قريش؛ فيه ذكاؤهم وفطنتهم، وفيه إباؤهم وعزتهم، ولكن فيه دعة لم تكن مألوفة عندهم، وفيه شدة في الدين قلَّمَا كانوا يرضونها أو يبسمون لها. على أن خصلة أخرى ميزته منهم أشدَّ التمييز؛ فلم يكن يصدر في حياته، كما كانوا يصدرون، عن الروية والتفكير وطول التدبر، وإنما كانت تدفعه إلى العمل والاضطراب في الحياة قوة خفية يحسها ويأبى عليها ويغلو في الإباء، ولكنه يُضطر إلى أن يذعن لها ويأتمر أمرها. وكانت هذه القوة تُصدر إليه أمرها في أشكال مختلفة: تدفعه إلى العمل حينًا وكأنها إرادته الخاصة، قد ملكت عليه حسه وشعوره، فهو لا يستطيع عنها انصرافًا، ولا يملك لها خلافًا. وتتمثل له حينًا آخر شخصًا واضح المخايل، بيِّنَ الصورة، يلمُّ به إذا اشتمله النوم، فيأمره أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وتنتهي إليه مرة ثالثة صوتًا رفيقًا، ولكنه ملحٌّ يملأُ أذنيه يقظانَ، ويملأ أذنيه نائمًا، يحثه على أن يأتي كذا وكذا من الأمر. وكان في هذا الصوت غموض، وكان في هذا الصوت إبهام، وكان في هذا الصوت جلال مصدره هذا الغموض والإبهام. وكان الفتى ينكره ويرتاع له، وكان الصوت يغمره ويلح عليه. وكان الفتى يخاف هذا الصوت ويهواه، وكان الصوت يتجنب الفتى حتى يؤيسه من نفسه، ويلمُّ به فيكثر الإلمام. ولم يكن هذا الصوت يقع في أذن الفتى بألفاظ كالتي تقع في آذان الناس إنما كان يصطنع ألفاظًا خاصة غريبة الجَرْس غريبة المعنى.

كانت إليه رِفادة الحاجِّ وسقايته بعد عمه المطلب، فكان يُطعم الناس إذا حجوا البيت ويسقيهم، يجمع لهم الماء في أحواض من الأَدَم. وكان يجد في جمع هذا الماء لسقاية الحجيج جهدًا وعسرًا. فبينا هو نائم ذات يوم أو ذات ليلة أتاه آت رأى شخصه ولم يتبين له سمةً ولا شكلًا، وقال له في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفُرْ طيبة.» قال: «وما طيبة؟» فانصرف الشخص، وانقطع الصوت. وأفاق الفتى وفي نفسه ذعر وعجب وأمل، وحاول أن يعود إلى النوم، لعله يرى هذا الشخص، أو يسمع هذا الصوت، أو يتبين هذا الحديث، ولكن كان النوم قد خاصم عينيه، وانصرف عنه مع هذا الشخص الغريب. ففكر وأطال التفكير، وقدر وأطال التقدير، وتقلب في مضجعه فأكثر التقلب، حتى ضاق بالنوم واليقظة وسئم مضجعه، فجلس يرقى ببصره الحائر إلى السماء، لعل شمس النهار أو نجوم الليل تفسر له هذه الرؤيا. ويخفض بصره إلى الأرض لعله يجد في إطراقه تفسير هذه الرؤيا. ويمد بصره نحو الكعبة، لعل صنمًا من هذه الأصنام المنصوبة يوحي إليه تعبير هذه الرؤيا. ولكن السماء صامتة والأرض ساكنة، وعلى أصنام الكعبة شيء كأنه الوجوم، فيرتد إلى الفتى بصره متعبًا مكدودًا. وتهوي نفسه إلى قرارة ضميره، لعلها تجد لهذا الرمز تأويلًا فلا تجد شيئًا؛ فيشتد بها الذعر، ويزداد فيها العجب. ويبقى الأمل. وينهض الفتى فيضطرب مع الناس فيما يضطربون فيه من أمور الحياة.

ثم يقبل الليل ويأوي الفتى إلى مضجعه، وقد أُنسي كل شيء، إلا أنه قد مشى كثيرًا، وأجهد نفسه كثيرًا، وأنه أشدُّ ما يكون حاجة إلى أن يبسط عليه النوم جناحيه. ها هو ذا مغرق في نوم هادئ مطمئن، وقد هدأ من حوله كل شيء، واطمأن في نفسه وجسمه كل شيء. ولكن ما هذا الشخص الغريب يقبل ساعيًا إليه في أناة، حتى إذا دنا منه قال له في صوت رفيق غريب فيه أنس وفيه وحشة: «احفرْ بَرَّة!» وجسم الفتى هادئ مطمئن، ولكن نفسه ثائرة مضطربة، ولسانه يتحرك في ثقل وصوته ينبعث من بين شفتيه خفيفًا رقيقًا بهذه الكلمة: «وما برة؟» فينصرف الشخص، وينقطع الصوت، ويفيق النائم وجلًا مذعورًا، معجبًا آملًا، ويفكر ويقدِّر ويتقلب. ثم ينهض فيسأل السماء ولكنها صامتة، ويسأل الأرض ولكنها ساكنة، ويسأل أصنام الكعبة ولكنها مغرقة في البله والوجوم. ويضيق الفتى بنفسه وبالسماء والأرض والأصنام؛ فيهيم على وجهه يلتمس في الحركة والاضطراب نسيان هذا الطائف الذي يفزعه ويغريه.

ثم يعمل الناس في أمور الحياة، وينقضي النهار بخيره وشرِّه، وحلوه ومرِّه؛ ويقبل الليل شيئًا فشيئًا، فيبسط أرديته السود على ما يحيط بمكة من جبال وآكام، وما يزال يمدُّ في هذه الأردية حتى يغمر كل شيء ويستر كل شيء، لولا هذه المصابيح الضئيلة التي تشب في الأرض، وهذه النجوم القليلة التي تضطرب في السماء. وقد سمر الفتى مع السامرين، فسمع أحاديث التجار عن غرائب الأقطار: هذا يحدث عن صور بصرى وعظمتها، وهذا عن الخورنق والسدير، وهذا يذكر غمدان، وهذا يصف أخلاق اليمانيين ومكرهم بالتجار، وهذا يتحدث عن سذاجة أهل الشام وانخداعهم لغربان العرب، وهذا يذكر ما أفاد من ربح حين باع الأدم في الحبشة، وهذا يذكر للقوم ما حمل لهم من خمر بيسان. وهم في أثناء هذا كله يتندرون على العجم والأعراب، ويتفكهون بأحاديث أولئك وهؤلاء، ويسخرون من أولئك وهؤلاء. حتى إذا تقدَّم الليل واطمأن كل شيء تفرقوا، ونهض الفتى ثقيلًا، فمشى إلى بيته متباطئًا يود لو فرَّ من النوم، ويودُّ مع ذلك لو نام فألمَّ به هذا الطائف. انظر إليه! إنه ليتردد: أيقذف بنفسه في أمواج النوم هذه التي تتمثل أمام عينيه؟ أم يبقى على الشاطئ يقظان يداعبه النوم ولا ينام؟ ليتردد ما استطاع، ليمتنع على النوم ما وسعه الامتناع؛ فإن هذه الأمواج المصطخبة أمامه تستطيع أن تطغى على الشاطئ فتغمره، وتغمر معه كل شيء. وكيف يستطيع هذا الفتى أن يمتنع عليها، وما استطاعت أن تمتنع عليها جبال مكة هذه التي تحيط بها من كل ناحية! انظر! أترى حركة؟ اسمع! أتحسُّ نبأة؟ كل شيء هادئ، كل شيء مطمئن؛ فما نبوك وما امتناعك! هلمَّ إلى النوم لا تخف شيئًا؛ إن هذه الأمواج تريح ولا تغرق. أقبل إلى هاتين الذراعين اللتين تمتدان إليك، فستنسى بينهما كل شيء. ومن يدري! لعلك تجد بينهما شفاء لنفسك الحائرة. وأطبق الفتى جفنيه واندفع أمامه، فاشتملت عليه أمواج النوم كما اشتملت على غيره من الناس والأشياء. ولكن ماذا؟ هذا شخص يتقدَّم ساعيًا هادئًا كأنه يمشي على الهواء، حتى إذا دنا من الفتى، قال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر المضنونة.» جسمُ الفتى هادئ ولكن صورة من الحيرة قد ارتسمت على جبهته، وهذا صوت خفيف رقيق ينبعث بين شفتيه وهو يقول: «ما المضنونة؟» فينصرف الشخص. ويفيق الفتى مذعورًا مأخوذًا، قد أظلم في نفسه كل شيء، وأحاط اليأس بعقله وقلبه وضميره، لا يرتفع بصره إلى السماء، ولا ينخفض إلى الأرض. ولا يمتدُّ إلى أصنام الكعبة، ولكنه يدور حائرًا. وينهض الفتى وهو يقول: ما أرى إلا أني سأجنُّ؛ لئن أصبحت لآتين الكاهن، فلعلي أجد عنده من هذا العارض شفاء.

أقبلْ أيها الصبح! أسرعْ في الخطو، ارفقْ بهذه النفس الحائرة؛ هلمَّ إلى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص الماثلة، فرَّق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلًا طويلًا ثقيلًا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها، أسرع الفتى إلى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته، ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئنانًا وثباتًا. ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون، وتشيع فيَّ هذه المقالة. ويضحك مني حرب بن أمية ولِدَاتُه، ويتندَّر عليَّ فتيان مخزوم! كلا! ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن إلى نفسها في قبور الموتى، وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس واستيقظت الطبيعة، فإذا أظلم الليل ونام الكون، انتشرت هذه الخيالات في الجو، فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الأرض يروِّع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالًا من هذه الخيالات، لعله ظِلُّ ميت من موتى قريش قد أُنسيه قومه، فهم لا يزورونه ولا يقرِّبونه إليه. لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلحُّ على الإنس فتتقاضاهم الطاعة وتخضعهم لسلطانها كرهًا. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالتضحية والقربان. لقد مضت أيام ولم تُقدَّم إلى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القانئ الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيهِ يا عبد المطلب؛ تقرَّبْ إلى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر. وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع، ولكنه كان شارد النفس، فلم يُطل الحديث ولا الاستماع ونهض موليًا. فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله: أرأيتم إلى سري بني هاشم! إني لأراه محزونًا، وإني لأعرف في وجهه الهمَّ، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.

ومضى الفتى إلى أهله. فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشةً وهي تقول: إيه يا شيبة! ما خطبك؟ إني لأنكرك منذ أيام، أراك مؤرَّق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردَّك عليَّ وانتهارك لي؛ فإني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن، ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك؛ فأنت صامت إذا خلوت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين إن ظلك معهم سقف. تحدَّث! ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلًا من قريش، أشرِك أهلك فيما يعنيك. لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه. لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث إلى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها، ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة. ولكني وجدت نعمةً ولينًا، ووجدت حبًّا وعطفًا، ووجدت عناية لا تعدلها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه: لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان.

قالت ذلك وانتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين: عزيز عليَّ يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة أمل! إني لأحبُّك كما يحب الظمآن ما ينقع غلته من الماء العذب، إني لآنسُ إليك أنسًا يزيل عن نفسي كل همٍّ، ويحبب إليَّ الحياة ويرغبني فيها. إني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك. ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش، ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكنَّ قوة خفية عاتية طاغية تملك عليَّ نفسي، وتأخذ عليَّ كل سبيل وتدفعني إلى حيث لا أدري ولا أريد. إيه يا سمراء! إني لمؤرق الليل، قلق النهار، مفرق النفس منذ ليال، وإني لأخشى على نفسي شرًّا. هذا طائف يلمُّ بي إذا أغرقت في النوم، فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة، أن أحفر شيئًا يسميه طيبة، ويسميه برَّة، ويسميه المضنونة. فإذا سألته عما يريد، انصرف شخصه، وانقطع صوته، وأفقت حائرًا مذعورًا لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولون: إن له رئيًّا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هون عليك ولا تغلُ في الخوف ولا تسرف في الإشفاق. ما أكثر ما يلمُّ أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون. ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن ولا توسل به؛ قم فضحِّ لهم، وقرِّب إليهم، فسيرضون وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قومًا من قريش.

وما هي إلا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء قد أقبلوا من البطاح والظواهر، وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدِّمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يُغلي الضحايا ويكثر منها، وأولئك ينتظرون ويمنُّون أنفسهم بغريض اللحم وجيده. لقد سمعوا أن عبد المطلب يريد أن يضحِّي، وأن بني هاشم قد حفلت لذلك؛ فكرهت أمية ألا تفعل فعلهم، وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية ويتنافسون في القربان. تنافسوا! تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فإن في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.

وقضت مكة يومًا داميًا سمينًا، كثر فيه الطعام، وكثر فيه الشراب، ورضيت فيه الأصنام. وسعد الفتى بما رأى، ونسي الفتى ما كان يهمُّه وينغصه، وقدَّر الفتى أنْ قد صُرف عنه الشر، ورُدَّ عنه المكروه. ورضيت سمراء، فتحدثت كثيرًا وسمعت كثيرًا، وأضحكت زوجها وابنها الحارث بمُلَح الأعراب ونوادر البادية، وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحببْ إليَّ بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك؛ فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه، ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم — مهما تكن الخطوب — إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدِّر لها حسابًا؛ فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخرًا للأيام وما يعرض فيها من الخطوب!

قال عبد المطلب: إذًا فأنت راضية يا سمراء. إن رضاك ليقع من نفسي المخزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وانتظري أن يقدِّر الله لك خيرًا منه. فلو قد صُرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية، لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترقُّ حواشي العيش!

وأوى الفتى إلى مضجعه راضيًا مسرورًا، واستقبل النوم مبتهجًا له راغبًا فيه. ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيًا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يدًا باردة خفيفة وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر زمزم.» واضطرب جسم الفتى كله، واضطربت نفس الفتي كلها، وانفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: «وما زمزم؟» قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة، ومازجته سخرية ورحمة: «لا تُنزَح ولا تُذَمُّ، تَسقي الحجيجَ الأعظم، وهي بين الفرْث والدَّم، عند نقرة الغراب الأعصم.» قال الفتى: «الآن قد وَعيْت.» فتولى عنه الطيف باسمًا وهو يقول: «لله أنتم أيها الناس؛ لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان! رويدًا! عما قريب سيضيء الصبح!» ونهض الفتى مبتهجًا مسرورًا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرقَ الوجه مضيء الأسارير.

قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحبُّ إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟! ما أرى إلا أنك قضيت ليلًا هادئًا.

قال: انعمي صباحًا يا سمراء! لقد طابت الحياة منذ اليوم. إن هذا الطائف الذي يلمُّ بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث. إنه يأمرني أن أحتفر في فناء المسجد بئرًا، فلأفعلنَّ منذ اليوم. ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلمَّ يا حارث خُذْ مِعْوَلًا١ ومَكْتِلًا٢ ومِسْحَاة٣ واتبَعْ أباك.
١  المعول: الفأس العظيمة.
٢  المكتل: زنبيل من خوص.
٣  المسحاة: المجرفة التي يجرف بها التراب والطين من على وجه الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤