الفصل العاشر

راهب الإسكندرية

أقبل أهل الدير على راهبهم الجديد يحدثونه ويسمعون منه، وكان شيخًا قد تقدمت به السن، ولكنه احتفظ بقوةٍ ونضرةٍ قلَّمَا يحتفظ بهما الشيوخ إذا قاربوا السبعين. وكان وضيء الوجه، مشرق الجبين، منطلق اللسان، عذب الحديث في يونانيته الإسكندرية. وكانت تظهر على وجهه وفي حديثه آثار النعمة والغنى، وحياة الرجل الذي لم يذق بؤسًا ولا فقرًا ولا هوانًا. وكان قد أقبل على هذا الدير الصغير الذي كان يقوم في طرف من أطراف الصحراء مما يلي الشام، حيث تمر القوافل الآتية من بلاد العرب والذاهبة إليها. وكان مقدمه على الدير حديثًا لم تمضِ عليه إلا أيام قليلة.

وكان قد أقبل يحمل مالًا كثيرًا فيه ذهب وفضة، وفيه جوهر وعروض فلما بلغ الدير استأذن على رئيسه فأذن له. وهنالك قدم إليه ما كان يحمل من المال وقال: اتخذ من هذا المال ما تصلح به أمر الدير وأهله، فإن بقي منه فضلٌ فأنفقه في وجوه الخير والمعروف؛ فإني قد خرجت لك عنه كما خرجت لله عن لذات الحياة كلها، ووقفت ما بقي لي من العمر على الطاعة والعبادة والتفكير في الدير، ولست أسألك إلا أن تئويني في هذا الدير؛ لأنقطع إلى عبادة الله وانتظار أمره. قال رئيس الدير: أما أنت فقد قبلناك على الرحب والسعة، وما ينبغي لنا أن نرد طارقًا يريد أن يشاركنا فيما نحن فيه من ذكر الله والإحسان إلى الناس. وأما مالك فإنا نقبله شاكرين لله أن ساقه إلينا؛ فإن حاجتنا إلى المال في هذا المكان المنقطع الذي نحن فيه لا تنقضي. وسترى أن أيامنا وليالينا لا تخلو من هؤلاء الطارقين الذين تنقطع بهم سبل الصحراء فنئويهم، ونعينهم ونحملهم، ونبذل ما نملك من الجهد لنبلغهم مأمنهم. والناس يعينوننا على هذا المعروف بالقليل والكثير، فنقبل منهم ما يبذلون وننفقه فيما ترى. ثم أوصى به أهل الدير من علمه ما للجماعة من نظام. فلم يكد يمضي بينهم أيامًا حتى ألفوه وكلفوا بحديثه، وعلموا أن عنده شيئًا، وأنه ليس كغيره من هؤلاء الذين تدفعهم قوة إيمانهم أو يدفعهم يأسهم مما كانوا يبتغون من المنافع والآمال أو اللذات إلى الدير. إنما كان رجلًا فذًّا تدل مظاهره وأحاديثه على أن له نبأ لا كالأنباء وأملًا لا كالآمال. فأخذوا كلما فرغوا من أعمالهم وطعامهم وصلاتهم حين يقبل الليل، يطيفون به، ويسمرون معه، فيتحدثون إليه ويستمعون له. وهم في هذه الليلة يسألونه عن أمره: كيف انتهت به الحياة إلى الدير، وكيف طابت نفسه عن هذا المال العريض والثراء الضخم فنزل عنه كما ينزل عن أيسر الأشياء؟ قال: إن قصتي لا تخلو من عجب، وقد تسمعونها فتنكرون منها الشيء الكثير، ولكني مع ذلك سأحدثكم بها لا رغبةً في أن أثير العجب في نفوسكم، ولا في أن أعينكم على إنفاق الوقت، ولكن نصحًا لكم وإشفاقًا عليكم؛ فقد أرى أن أمري يثير في نفوسكم حبًّا للاستطلاع قويًّا متصلًا، يوشك أن يصرفكم عن بعض ما ينبغي أن تفرغوا له. وما أريد أن أكون مصدر خطيئة مهما يكن أمرها يسيرًا.

ثم أطرق غير طويل كأنه يفكر ويستحضر أول قصته، ثم قال: كنا ثلاثة شركاء نصرف بين أرجاء الأرض العريضة تجارة واسعة. وكنا قد اقتسمنا الأرض بيننا أثلاثًا، فرغ كل واحد منا لواحد منها يدبر شأنه، ويصرف التجارة فيه إيرادًا وإصدارًا. وكنا نلتقي من حين إلى حين ليلقي بعضنا إلى بعض ما انتهت إليه تجارته من ربح، ولننظم فيما بيننا أمر هذه الثروة التي كانت تنمو فتسرع في النمو، وتطرد زيادتها الغريبة من عام إلى عام. وكان أحدنا قد اتخذ مستقره في روما يدير منها تجارة القسم الغربي من الأرض. وكان الآخر قد اتخذ مقامه في قسطنطينية يدير تجارة هذا القسم من أقسام الدولة في بلاد اليونان وتراقيا وما إليها حتى يصل إلى بلاد السيتيين. وكنت أنا قد اتخذت الإسكندرية لي دارًا، وكنت من أهلها.

وكانت إليَّ تجارة الهند وهذه البلاد التي يسكنها البدو، والتي تسير منها القوافل فتخترق الصحراء على ظهور الإبل والتي يسمونها بلاد العرب. وكانت تجارتنا الواسعة تضطرنا إلى علم دقيق بأمور الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وبأمور الأقاليم والأقطار، وما تستطيع أن تعطي وما تستطيع أن تأخذ. وكان هذا العلم يدفعنا إلى نشاط شديد عند رجال المال والزراع، وإلى اتصال شديد برجال الدين والسياسة والحكم. فإما صاحبي في قسطنطينية فقد كان واسع الحيلة حسن المدخل إلى نفوس الناس، حتى استطاع أن يجعل لنفسه في بلاط قيصر مكانًا ممتازًا. وأستطيع أن أقول: إني جهدت ووفقت في الجهد حتى كان حكام مصر وبطارقتها وقادتها أصدقاء لي، لا يكاد أحدهم يصل إلى الإسكندرية حتى تنشأ بينه وبيني أسباب المودة والألفة، وما هي إلا أن أصبح من خاصته وأصفيائه المقربين. ولم يكن صاحبنا الغربي أقل منا مهارةً، ولا أضيق منا حيلةً في التعرف إلى من في الغرب من العظماء، والسادة ومن الأشراف والملوك.

وكانت أمورنا تجري على خير ما نحب، إلا من ناحية واحدة كانت تكلفنا عناء وجهدًا لا آخر لهما ولا غناء فيهما. وكانت هذه الناحية هي ناحيتي أنا؛ فقد كنا نلقى مشقةً وعناءً في تدبير تجارة الهند والشرق، لا نستطيع أن نصل إلى مصادرها ولا أن نأخذها من أهلها، لبعد الشقة وضعف الأداة وانقطاع سلطان الدولة عند الصحراء. فكنا نتلقى هذه التجارة كما يتلقاها الناس الآن من هذه القوافل التي تحملها إلينا، فتقطع بها الصحراء وتنفق في ذلك من الجهد، وتحتمل في ذلك من المشقة، وتبذل في ذلك من النفقات، ما يدفعها إلى أن تغالي في البيع، وتشتط فيما تطلب من الربح. وكنا نذعن لشططها كما يذعن الناس الآن؛ لأننا لم نكن نجد كما لا يجد الناس الآن بدًّا من هذا الإذعان. وكنا نسعى في بلاط قيصر وعند حكام الإسكندرية ونلح في السعي، نريد أن نحمل الدولة على أن تبذل شيئًا من الجهد لتبسط سلطاننا على الصحراء أو على البحر، فلم يكن سعينا ينتهي إلى شيء. وإنا لفي ذلك، وإذا فرصة تسنح وظروفٌ تتهيأ، ما كنا لنحسب لها حسابًا، وما كان ينبغي لنا أن نهملها وقد سنحت وأمكنتنا من العمل.

أقبلت سفينة البريد ذات يوم من قسطنطينية وفيها رسولٌ أرسله صاحبي إليَّ ينبئني بأن كتابًا ذا خطر قد أرسل إلى الحاكم، ويتقدم إليَّ١ في أن أتلطف حتى أعرف من أمر هذا الكتاب ما يعني تجارتنا، وألا أقصر إذا عرفت ذلك فيما ينبغي أن أتخذ من الوسيلة لتستفيد تجارتنا أعظم الفائدة.

فلما قرأت هذا الكتاب عنيت بما فيه، ولم ألبث أن زرت الحاكم، ولم أنصرف عن مجلسه، حتى علمت جلية الأمر، وحتى قدرت لتجارتنا نموًّا لا حد له. ذلك أن السفينة كانت تحمل إلى الحاكم كتابًا من ديوان قيصر، يأمره فيه أن يهيئ أسطولًا لا يقل عن مائة من السفن ليبحر إلى بلاد النجاشي، وعرفت أن مصدر هذا الأمر إنما هو اعتداء اليهود في أقصى البلاد العربية على إخواننا في الدين، وتحريقهم بالنار، وأخذهم بألوان العذاب، حتى بلغ الذين قتلوا منهم عشرين ألفًا أو يزيدون. وقد لقيت عند الحاكم أخًّا لنا في الدين من أهل تلك البلاد، قد استطاع أن يفلت من اليهود ومعه مصحف من مصاحف الإنجيل قد مسته النار، فلجأ إلى النجاشي يطلب منه الغوث، وأظهر النجاشي حفيظةً وغضبًا للدين، ولكنه عجز أن يغيثه؛ لأن جنده على قوته وكثرته لم يكن يستطيع أن يعبر البحر إلا على السفن، ولم يكن عند النجاشي من السفن قليل ولا كثير.

هنالك أرسل النجاشي هذا العربي النصراني إلى قيصر يستنجده ويستعينه، ويطلب إليه السفن لتجيز جيشه إلى عدوة٢ اليمن. ولم يكد قيصر يرى مصحف الإنجيل وقد مسته النار، ولم يكد قيصر يسمع قصة النصارى وقد خددت لهم الأخاديد وحرقوا فيها تحريقًا، ولم يكد قيصر يسمع قصة ذلك القديس اليوناني الذي حمل إلى العرب دين المسيح، فذاق في سبيل ذلك الموت محرقًا بتلك النار التي حرقت غيره من المؤمنين، حتى ثارت حفيظته وموجدته، وأمر من فوره أن يكتب لحاكم الإسكندرية في تسيير هذا الأسطول مهما يكلفه ذلك من النفقات.

فلما عرفت من الحاكم ومن هذا العربي جلية الأمر لم أطل التفكير، وإنما عدت إلى الحاكم بعد ساعات وقلت له: لا عليك! إني أريد أن أنهض بهذا الأمر، وأن أجد فيه وحدي، وأن أريح الدولة مما قد تتكلف في سبيله من الجند والمال والمشقة. فهذا النجاشي لا يريد إلا سفنًا تجيز جنده إلى اليمن، فدعني أهيئ هذه السفن. قال الحاكم وهو يبتسم: لا أرى بذلك بأسًا؛ فهو يريح الدولة، وهو ينفعك وينفع صاحبيك؛ فما أرى أن هذه السفن ستعود فارغة، وما أرى إلا أن قوافل الصحراء ستتعب في عبورها إلى الشام في العام المقبل، وما أرى إلا أن أهل البادية سيحسون لذع الجوع. قلت: وإن أهل مصر والإسكندرية سيجدون الثروة والغنى إن وفقنا في هذه الرحلة، وإن أصحاب هذه السفن إن عادت سالمة موفورةً. سيعرفون للدولة ورجالها ما ينبغي من الحق قال الحاكم: فهو ذاك.

ولست أستطيع أن أصور لكم تلك الخواطر التي لم تكن تحصى والتي كانت تضطرب في نفسي اضطرابًا كاد يذهلها عن كل شيء. فقد كنت أرى نفسي قائدًا عظيمًا على رأس أسطول ضخم، يبعد في البحر ليرفع أعلام قيصر على أرض لم تبلغها جنودنا من قبل. وكنت أرى نفسي سائحًا عظيمًا يسجل في كل يوم ما شهد وما رأى من غرائب البر والبحر، ومن أطوار الناس وضروب الحيوان والنبات. وكنت أقارن بين نفسي وبين إكسينوفون، وأرى أن الكتاب الذي سأكتبه عن هذه الرحلة لن يكون أقل جمالًا ولا روعة ولا خطرًا من كتاب إكسينوفون بعد أن عاد من رحلته المشئومة. وكنت أرى نفسي ثائرًا للدين، منتقمًا للنصرانية، مؤيدًا للمسيح، ظافرًا بإكبار القسس والرهبان والبطارقة في جميع أقطار الأرض. ثم كنت أرى نفسي بعد هذا كله مُثريًا عظيمًا قد ملك البحر، وقاد مائة سفينة فارغة، ثم عاد بها مثقلةً بخير ما تنتج الهند وبلاد العرب السعيدة وبلاد الإثيوبيين من ضروب التجارة والعروض، حتى إذا انتهى إلى مصر نشر تجارته هذه في الشرق والغرب، وغمر الأرض كلها بهذه البضاعة فيسر على الناس من أمرهم كل عسير، وأتاح للأغنياء المترفين والفقراء والبائسين من وسائل الترف واللذة ما لم يكونوا يحلمون به، وربح من هذا كله مالًا لم أفكر في إحصائه وتقديره؛ لأن ذلك كان يسلط على رأسي شيئًا من الدوار لم أكن أستطيع أن أثبت له.

ومنذ ذلك اليوم أعرضت عن كل شيء إلا تدبير هذه السفن وتهيئتها للرحيل. فما أكثر ما اشتريت من سفن، وما أكثر ما ابتنيت منها، وما أسرع ما بثثت أعواني في أقطار مصر يجمعون لي من أنواع التجارة والعروض ما كنت أريد أن أحمله! فلم تطب نفسي عن ذهاب السفن فارغة إلى بلاد النجاشي. ولم تمضِ ستة أشهر حتى أقلع الأسطول العظيم بعد أن بارك عليه رجال الدين، وبمشهد حافل من رجال السياسة والأعمال، ومن جماعات الشعب الذين كانوا ينظرون إلينا مبتهجين مستبشرين، والذين لم يملكوا أنفسهم أن دفعوا في الجو صيحة هائلة ملؤها البشر والإعجاب حين اندفعت سفننا تشق عباب الموج. وقضينا في البحر أيامًا طوالًا تطيب لنا الريح أحيانًا، وتتنكر لنا فيها أحيانًا أخرى. ونحن على كل حال مبتهجون مستبشرون، نستمتع بما نرى من جمال الطبيعة في هذا البحر الذي لم يألفه اليونان، ولم يُذِلُّوه لسفنهم بعد.

لست أريد أن أسوأكم بأن أصور لكم حياتي في تلك الأيام التي قضيتها قائدًا عظيمًا للأسطول العظيم، والتي كنت أراها أسعد ما كان ينتظر الإنسان من دهره، فأصبحت أراها الآن أيام شقوة ونقمة وتعس، وأستغفر الله جاهدًا مما حملت فيها من أوزار وأثقال. وأعتقد أني مهما أتكلف من مشقة في العبادة، ومن حرمان في ذات الله، فلن أكفر عن بعض ما جنيت فيها من إثم وذنب. وحسبي أن تعلموا أني كنت كغيري من أهل طبقتي ومنزلتي في الإسكندرية وغيرها من المدن التي كانت تزهر فيها الحضارة، ويسود فيها سلطان الفلسفة والعلم، رقيق الدين، قد اتخذت من المسيحية ستارًا لا يكاد يخفي ما بقي لي من عادات آبائي الوثنيين. فقد كنت أحب اللذة وأتهالك عليها، وقد كنت أبسط سلطان عقلي على كل شيء، فينتهي بي إلى الشك في كل شيء. وكنت أحب وثنية اليونان القدماء، ولكني لا أؤمن بها، وأتكلف مسيحية اليونان المحدثين، ولكني لا أطمئن إليها. وكنت قد اتخذت لنفسي دينًا قد اتخذه أشرافنا وسادتنا لأنفسهم في هذه الأيام. وقوام هذا الدين الشك في كل شيء، والإيمان بإلهين اثنين، هما اللذة والغنى. وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي في الإسكندرية، وعلى اللذة والغنى وقفت حياتي حين كنت قائدًا عظيمًا لأسطول عظيم. فكم استصحبت من القيان والمغنين والشعراء والمضحكين؛ وكم حملت من الكتب والنبيذ! وكم أنفقت من الحيلة لأتخذ من ألوان الزهر والشجر ما يستطيع الاحتفاظ بجماله ونضرته على بعد العهد واختلاف الجو والإقليم! وتستطيعون بعد ذلك أن تصوروا لأنفسكم كيف قضيت تلك الأيام الطوال منذ أبحرت من مصر إلى أن بلغت بلاد الإثيوبيين.

هنالك استقبلنا الناس استقبال الفاتحين الظافرين؛ فقد كانوا يتحرقون غيظًا على هذا الملك العربي اليهودي ومن حوله من اليهود. وكانت قلوبهم تدمى حزنًا على إخوانهم المسيحيين الذين فتنوا عن دينهم، واستشهدوا في سبيل هذا المسيح. ولم تكن النار التي كان يثيرها الغيظ والحزن في صدورهم أقل من النار التي أذكاها ذلك الملك العربي اليهودي وحرق فيها إخوانهم في الدين. وما أظن أن أحدًا كره البحر وضاق به، وتمنى لو غار ماؤه والتقى ساحلاه، كما كره أولئك الناس بحرهم ذلك الذي كان يحول بينهم وبين عدوهم من اليهود. على أننا أنفقنا أيامًا قبل أن نجيز بالجند إلى بلاد العرب؛ فلم يكن بدٌّ من أن ألقى الملك وأقدم إليه تحية قيصر وهديته. ولم يكن بدٌّ من أن أصرف تجاربي واستوثق لما حملت من العروض.

وما هي إلا أيامٌ حتى كانت السفن قد شحنت بالجند وما يحتاج إليه من عدة وسلاح وفيلة. ولم يكن عبور البحر عسيرًا، ولم يكن النزول إلى أرض اليمن شاقًّا، ولم يحتج الجند إلى كبير قتال؛ فإن الملك العربي لم يكد يرى هذا الجيش الضخم مجهزًا بما كان قد جهز به من العدة والسلاح، ولم يكد يرى هذه الفيلة المروعة المخيفة حتى خاف وارتاع، ووجه فرسه نحو البحر فاقتحمه ولم يعرف الناس له خبرًا. وتفرق من كان حوله من الجند وعلى رءوسهم أقيال اليمن وأذواؤها. وخلصت الطريق لنا إلى صنعاء، فدخلناها ظافرين ولم نلق كيدًا. ولم نستقر في صنعاء حتى وجهنا الجند إلى تلك المدينة الشهيدة فنبلغها بعد أيام ونرى من آثارها وأطلالها ما يمزق الأفئدة ويذيب النفوس.

فما أسرع ما يعمل الجند! وما أسرع ما يسخر اليهود! وما أسرع ما تقام المدينة! وما أسرع ما تقام فيها البيع والكنائس! وما أسرع ما ينادي في الناس أن مدينة المسيح قد ردت إليه وأن أهلها الذين فرقهم الخوف آمنون! وما أسرع ما حمل كثيرون من أهل اليمن على النصرانية حملًا! وما أسرع ما دخل كثيرٌ من أهل اليمن في النصرانية راغبين أو راهبين! ونعود إلى صنعاء وقد ثأرنا للدين، وأقمنا نجران على خير ما كان ينبغي أن تقام عليه مدينةٌ من المدن.

وأخذت بعد ذلك أفكر فيما ستشحن به السفن من التجارة والعروض وجعلت أتهيأ لذلك وأهيئ له. وتحدثت فيه إلى قائد الجيش فلم يمانعني ولم يأب علي، بل تقدم في ذلك بخير ما أحب. ولكنه طلب إليَّ ألا أعود بالسفن كلها إلى مصر؛ فقد تطرأ الطوارئ وتعرض الأحداث ويحتاج جند اليمن إلى العبور إلى بلادهم، أو يحتاج أهل الحبشة إلى العبور إلى إقليمهم الجديد؛ فلا بد لهم من سفن وإن تكن قليلة يستعينون بها على مثل هذه الشئون. فدع لنا بعض أسطولك ونحن نعوضك عنه بما شئت من المال والعروض.

وكذلك تم الاتفاق بينه وبيني على أن أنزل له عن ثلث الأسطول وأعود بثلثيه وقد حملتها ما استطاعت حمله من تجارة تلكم الأقطار. ويتم كل شيء، وتقلع سفن الأسطول كلها إلا سفينة القائد العظيم؛ فإنها تنتظر أن أصل إليها لتأخذ طريقها إلى مصر. ولكن حدثًا يحدث فيغير كل شيء، ويقطع بيني وبين الأسطول كل سبب، ويصرفني عن التجارة كارهًا أعوامًا طوالًا. ماذا أقول! بل يصرفني عن نفسي أعوامًا طوالًا. فقد كان قادة الجند منذ استقر لهم الأمر في هذا الإقليم الجديد يختلفون بينهم اختلافًا شديدًا: أيكتفون بهذا الفتح الذي وفقوا له، وهذا الثأر الذي ظفروا به، فقد أرضوا الملك حين بسطوا سلطانه من وراء البحر، وأرضوا الله حين انتقموا لعباده الشهداء، أم يحملون الناس على دين الملك حملًا، ويمحون اليهودية والوثنية من هذه الأرض محوًا؟ فأما قائد الجيش أرياط، فقد كان صاحب سياسة وكيد، وكان يرى الرأي الأول، وينظر إلى هذا الإقليم على أنه مستعمرة قد ضمت إلى أملاك النجاشي، فيجب أن تستغل أرضها وأن يستذل أهلها، ويسخروا لخدمة سادتهم الفاتحين. وأما غيره من زعماء الجيش، ولا سيما عظيمهم أبرهة، فقد كانوا أصحاب نسك وطاعة ودين، وكانوا يضعون النصرانية في المكان الأول، ولا يكادون يحفلون بالسياسة واستعمار الأرض. وكانوا يريدون أن يفرضوا النصرانية على اليمن فرضًا، وتقدموا في ذلك إلى قائدهم أرياط، فأعرض عنهم وأبى عليهم. وما هي إلا أن ينقضوا عليه الجيش، وما هي إلا أن ينظر الرجل فإذا هو مضطر إلى أن يضرب بعض الحبشة ببعض. ويعجبني أنا ما أرى، فأبقى لأشهد عاقبة هذا الخلاف. ولست أدري كيف استحالت مسيحيتي الدقيقة إلى إيمان قوي متين. والحق أني سألت نفسي فأطلت السؤال عن مصدر هذا التبديل الذي أخذت أحسه منذ وطئت قدماي أرض اليمن. وأكبر الظن أن منظر تلكم المدينة البائسة التعسة، وما كان قد أصابها من الخراب والدمار؛ لأن أهلها ثبتوا على دينهم، ثم ما نالها في وقت قصير من التجديد والعمران؛ لأن قومًا آخرين قد أرادوا أن يثأروا لدينهم، أكبر الظن أن هذا كله قد أثار في ضميري على غير شعور مني إعجابًا بقوة هذا الإيمان الغريب الذي يحمل ألوفًا من الناس أن يستقبلوا الموت ويتهافتوا في النار فرحين مبتهجين كأنهم الفراش، والذي يمحوا مدينة من الأرض محوًا، ثم يقيمها رفيعة العماد، شاهقة البنيان، معمورة بالناس. كأن الدهر لم ينلها بمكروه. فانصرفت نفسي شيئًا فشيئًا عن هذه الحياة التي كنت أكبرها والتي أصغرها هؤلاء المؤمنون. ومهما يكن من شيء فقد أخذت أحس حبًّا لهذه الأرض الجديدة، وميلًا إلى البقاء فيها، عطفًا على هؤلاء الذين كانوا يريدون أن يعلوا كلمة الحق، ويأخذوا الناس بدين المسيح راضين أو كارهين.

وإني لفي هذا كله وقد اشتد الأمر بين الجيشين المختصمين، وإذا رسول أبرهة يقبل على أرياط ليبلغه أن صاحبه يكره أن يقتتل الجيشان وأن تسفك دماء الأبرياء. ويقترح عليه المبارزة، فأيهما ظفر بصاحبه كان الأمر إليه. فيرى أرياط في هذا الاقتراح قصدًا ورفقًا وإنصافًا، فيقبله ويجيب إليه. ويزداد في نفسي الحرص على البقاء لأشهد عاقبة الأمر. وقد شهدتها فأكبرتها: التقى الخصمان وبطش أرياط بعدوه، ولكن الحربة لم تقتله وإنما شقت جبهته وأنفه وشفته. ويسرع عبدٌ لأبرهة فيضرب أرياط فيرديه. وتجتمع الحبشة على هذا الزعيم الذي كان يريد أن يكسب أهل اليمن لدين المسيح.

هنالك وقع في نفسي أن هذه العاقبة ليست من عمل الإنسان ولا من المصادفة، وإنما هي شيء قضاه الله لأمر يراد، فتشتد في نفسي الرغبة في أن أطيل البقاء بهذه الأرض لأشهد الصراع المحتوم بين المسيحية من ناحية، واليهودية والوثنية من ناحية أخرى.

وكنت مع ذلك أنازع نفسي نزاعًا شديدًا، ولكني لم أكد أتحدث إلى أبرهة حتى استقر رأيي على البقاء، فأرسلت رفيقًا لي إلى سفينة القائد ليقدم بالأسطول على مصر، وقد أوصيته، وأحكمت أمري له إحكامًا. ثم أبقى لأرى ما كان الله قد قدر لي أن أراه.

وهنا أذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم، فتفرقوا، وكم كانوا يودون لو مدت لهم أسباب السمر والحديث.

وأنفق أهل الدير بقية ليلهم بين جاهد في العبادة، ومغرق في النوم وأنفق أهل الدير بياض نهارهم بين مصل لله، ومحسنٍ إلى الناس. فلما جنهم الليل وهدأت من حولهم الأشياء واتخذت الصحراء جلالها الرهيب، عادوا إلى مجلسهم يسمرون، وسألوا صاحبهم أن يتم عليهم ما بدأه أمس من الحديث. فقال: تمت عزيمتي بعد طول التردد والتفكير على الأوبة إلى مصر، وانتصر في نفسي حب الوطن على حب هذه الأرض الجديدة، وظهر في نفسي حب اللذة والغنى على هذا الميل الجديد إلى النسك والجهاد في سبيل المسيح. فأقبلت على أبرهة من الغد أودعه قبل الرحيل. ولكني لم أرَ قائدًا ظافرًا، ولا ملكًا منتصرًا، ولا رجلًا يزدهيه الفوز ويحيي نفسه الأمل، وإنما رأيت رجلًا متهدمًا محزونًا كئيبًا، قد فكر حتى عجز عن التفكير، وقدر حتى أعياه التقدير، فأسلم نفسه لقضاء الله فيه، كأنه الغريق أعيته مكافحة الموج، فاستسلم له وانتظر الموت. ولم أكد أتحدث إليه حتى عرفت مصدر ما هو فيه من هم وغم، ومن كآبة وبؤس فقد كان مستيقنًا أنه أغضب الله، وأحفظ الملك، وأساء إلى الناس. ألم يكن قد بغى على قائده واعتدى عليه في غير حق ولا إذعان لما تقدم به الملك إلى الجند من الطاعة لقائده والنصح لخليفته فيه؟ فكيف استباح لنفسه أن ينتصف لرأيه بيده، وأن يفرض هذا الرأي على الجند فرضًا، لا يرجع في ذلك إلى أمر من الملك، ولا ينتظر في ذلك رأي الملك بعد أن يرفعه إليه! وكيف استباح لنفسه أن يقتل رجلًا من النصارى ويسفك دمه ظلمًا وبغيًا، لا لشيء إلا لأنه لم يوافقه في الرأي، ولم يشاركه في الهوى! وقد كان هذا الرجل مع ذلك نصرانيًّا مثله يؤمن بالمسيح ويصلي لله، وقد ثأر للدين من عدوه، ورد المطرودين من النصارى إلى وطنهم، فآمنهم وأظلهم بسلطان واسع رفيق من الرحمة والعدل والإنصاف!

ثم هو لم يقف من العدوان والإثم عند هذا الحد، ولكنه ابتهج بما أتيح له من الانتصار والظفر، فلم يكد يرى خصمه صريعًا تحت قدميه حتى التفت إلى عبده الذي قتل أرياط شاكرًا له، مغرقًا في الثناء عليه، قائلًا له: احتكم فأنا زعيمٌ لك بكل ما تريد. وقد احتكم العبد، فأسرف على نفسه وعلى مولاه، وطلب إلى سيده أمرًا عظيمًا: طلب إليه أن يحكمه في أبكار اليمن كافة، فلا تزف واحدة منهن إلى عروسها حتى تمر به قبل الزفاف. ولم يشعر أبرهة بعظم هذا الأمر الذي طلبه إليه العبد؛ لأن نفسه كانت ثملة بهذا الفوز، معرضة عن كل شيء غيره، فأجاب العبد إلى ما أراد، ولم يقدر أنه عصى الله بهذا الإثم الذي اقترفه، وأقدم على إذلال أمة لم تعرف الذل، وما كان لها أن تعرفه. ولكن أمر هذا العبد لم يكد يعرف في الناس حتى انتهى إلى نتيجته المحتومة، فلم يحي العبد بعده يومًا كاملًا: لم يكد يلقاه أول من عرف هذا النبأ من حمير حتى عدا عليه فقتله. فكان أبرهة إذًا حين لقيته متعبًا مكدودًا، مضطرب النفس، حائرًا غارقًا في ندم عميق. وجعلت أرده إلى نفسه قليلًا قليلًا، أجد لا في تهوين الأمر عليه فلم يكن أمره هينًا ولا يسيرًا، بل في التقريب بينه وبين الرشد والصواب، لعله يعود إلى التفكير والتقدير، ولعلي أستطيع أن أعينه على أن يجد لنفسه مخرجًا من هذا المأزق الذي اضطر إليه.

فقد كان عظيمًا حقًّا أن تذهب كل تلك الآمال والأماني التي ملأت نفس هذا الرجل وأصحابه من قواد الجند، ودفعتهم إلى ما دفعتهم إليه لينشروا كلمة الله، وليُدِيلوا٣ للنصرانية من وثنية الوثنيين، ويهودية اليهود. وما زلت به ألاينه حينًا وأخاشنه حينًا آخر، حتى هدأت نفسه بعض الشيء، واستطعنا أن ننظر إلى الأمر في روية وتبصر، وأقنعته بأن يبدأ بما لا بد من الابتداء به، فيُرضي هؤلاء الناس الذين أحفظَهم وأثار في نفوسهم الحمية حين حكَّم عبدًا من عبيده في أعراضهم وكرامتهم. وما هي إلا أن يسمع لي ويقبل رأيي، وإذا هو يدعو إليه من حضره من أشراف حمير، فيعتذر إليهم ويثني عليهم، ويهنئهم بما أظهروا من عزة وإباء للضيم، ويقسم لو قد عرف نية العبد لما حكمه، بل لاكتفى بما يكتفي به الناس في مثل هذه الحال، فأعتق العبد وأغناه ورده إلى بلاد الحبشة راضيًا مسرورًا. فأما وقد قتل هذا العبد نفسه فلا عليكم ولا علي؛ فقد ظهر لي أنكم أحرارٌ كرام، وسيظهر لكم أني حر كريم، وأن المودة بينكم وبيني لن تسوء، ولكنها ستسركم وتقر أعينكم، وستشعرون بأني لا أملك بلادكم لنفسي ولا للنجاشي مولاي، وإنما أملكها لكم قبل كل شيء، أصلح من أمرها وأمركم مستعينًا بكم على هذا الإصلاح، فمن رأى منكم أن يشير عليَّ بشيء فليفعل مشكورًا واثقًا بأني سأقدر نصحه، وأسمع لمشورته ما وجدت إلى ذلك سبيلًا.

وكان لهذا الكلام اللين الرفيق موقعه في نفوس هؤلاء الأشراف من حمير، الذين كانوا ينتظرون غضب أبرهة عليهم وانتقامه منهم. فلما رأوه ملاينًا محاسنًا، لاينوه وحاسنوه، وأظهروا ثقةً ورضًا واطمئنانًا، ووعدوا بالنصح له والطاعة لأمره، كما كانوا يفعلون مع ملوكهم من أبناء تُبَّع. وبالغ أبرهة في استرضائهم، فأجزل لهم العطاء، ونظم الصلة بينهم وبينه على خير ما يحبون، ثم خلا إليَّ فقال: لقد جئتني مودعًا فيما أذكر؛ لأنك تريد العودة إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقد طالت غيبتي عن الوطن والأهل والمال قال: فإني مع ذلك لن آذن لك في الرحيل. قلت: وما ذاك؟ قال: ذلك أنك رددتني إلى نفسي وأشرت عليَّ فأحسنت المشورة، وما أرى أني أستطيع فراقك منذ اليوم؛ فأنا في حاجة إلى رأيك وتدبيرك ومعونتك لي على ما سيعرض من الخطوب والأحداث، وقد رفعت عني بعض الثقل، وفرجت عني بعض الحرج، وأصلحت ما بيني وبين أهل هذه الأرض. ولكن الملك واجدٌ عليَّ وناقمٌ مني، ليس في ذلك شك ولا ريب ولا بد من أن يصلح ما بيني وبينه على أي نحو من الأنحاء، وليس لي غنى عن نصيحتك قبل أن تستقيم بينه وبيني الأمور. وهبها استقامت على ما أحب وأهوى، فإن بيني وبين نفسي خصومة عنيفة لا أقوى على حملها وحدي؛ فأعفي على نفسي ببقائك معي، فلعلك إن فعلت، أن تعينني على أن أنفق حياتي في إصلاح ما بيني وبين الله، بعد أن أثمت فأسرفت في الإثم، وعدوت فأسرفت في العدوان.

وكنت كلما هممت أن أجيبه مضى في حديثه ملحًّا فيه، ولم يُمَكِّنِّي من الكلام. وكان يقول: لقد أقدمت على ما أقدمت عليه من الأمر وإن في نفسي لآمالًا كبارًا؛ فلم أكن أريد أن أكسب هذه الأرض وحدها لدين المسيح، وإنما كنت أريد أن أنشر هذا الدين في جميع هذه الأقطار التي لا تصل إليها أيدي الملوك، ولا ينبسط عليها سلطان قيصر وكسرى والنجاشي. فما يمنعك أن تعينني على ذلك، وتشاركني فيما سأبذل فيه من جهد، وما سأحتمل فيه من عناء، وما سألقى عليه من أجر وجزاء؟! وكان يقول: ولست أرى على تجارتك بأسًا، وإنما أرى لها الربح كل الربح والنمو كل النمو؛ فما يمنعك أن تقيم هنا حتى تنظم الصلة بين بلادنا وبلادك، فتكسب أنت، ونكسب نحن، ويستفيد الناس جميعًا!

كل هذا الحديث المختلف أثر في نفسي وغير رأيي وعزيمتي، وأغراني بالبقاء، وفتح لي أبوابًا من الأمل والنشاط لم أقدر قط أني سألجها في يوم من الأيام. فقد رأيتني محتكرًا لتجارة الهند وبلاد العرب. ورأيتني وزيرًا لملك إلا يكن عظيمًا الآن، فسيكون عظيمًا من غير شك بعد وقت قصير. ورأيتني سفيرًا مقيمًا لقيصر عند هذا الملك وعند النجاشي، أستطيع أن أسير سياستهما فيما يرضي مصالح الروم ومرافقهم وتفوقهم السياسي على عدوهم من الفرس. وما هي إلا أن أقبل الإقامة مع أبرهة، ولو إلى حين.

وتمضي أيام، وإذا أنباء النجاشي تصل إلينا مخيفةً مروعة. فلم يكد يعلم بما كان من اضطراب الجند وقتل قائده أرياط، حتى أقسم لا يستقر قبل أن يسفك دم أبرهة ويطأ أرضه. ويخلو إليَّ أبرهة للتشاور والتدبير! فيتفق رأينا على أن نُحِلَّ الملك من قسمه بحيلة من الحيل، وفن من فنون المكر؛ فإن أفلحنا فذاك، وإلا نصبنا له الحرب وقطعنا ما بينه وبيننا من صلة. وأنَّى لِيَدِهِ أن تمتد إلينا والبحر بيننا وبينه، والسفن خالصة لنا من دونه؟ ثم يفتصد أبرهة ويضع دمه في قارورة، ويملأ جرابًا من تراب اليمن، ويرسل دمه وتراب اليمن إلى الملك معتذرًا إليه ما وسعه العذر، مجددًا طاعته، مؤكدًا وفاءه قائلًا: «هذا دمي فليسفكه الملك، وهذه أرضي فليطأها الملك، تَحِلَّةً من قسمه، وله عليَّ بعد ذلك ألا أورد ولا أصدر إلا عن أمره ورأيه ورضاه!»

وقد أعجبت الملك حيلتنا هذه، فيرضى عن قائده ويقره على عمله، ونفرغ نحن لما كنا ندبر من الشئون. وكانت عظيمة حقًّا تلك الشئون التي كنا ندبرها. فلم نكن نطمع في أقل من أن ترد إلى بلاد اليمن يمنها القديم، وثراءها الذي بعد صوته في الآفاق، وفي أن نجعلها خالصة للنصرانية، وفي أن تبسط سلطانها على بلاد العرب كافة. وكنت أداعب في نفسي حلمًا لذيذًا، لم يلبث أن أصبح أملًا تدفعنا إليه ظروف الحياة دفعًا. فقد كنت أفكر في أن أنشر سياسة قيصر وسلطانه مع دين المسيح، وفي أن أصل بين ملك قيصر في الشام وحلفاء قيصر في اليمن، وفي أن أخضع ما بين هذين القطرين من الأرض لسلطان إن لم يكن خالصًا لقيصر. فهو شركةٌ بينه وبين حليفه النجاشي؛ وهو على كل حال معينٌ لقيصر على عدوه كسرى. ولم أكن أصارح أبرهة بهذه الأحلام والآمال، حتى اضطرتني الظروف إلى أن أصارحه بها ذات يوم، حين أقبل السفراء من عند كسرى فأنبئوا بأن الحرب قد شبت بين الفرس والروم وطلبوا إلى أبرهة أن يعين على الروم بما يملك من قوة وتأييد. هنالك صارحت صاحبي، ولم أجد مشقةً في إقناعه برأيي وحمله على ما كنت أريد. ألم يكن يجمع بيننا وبينه الدين!

على أننا فرغنا قبل كل شيء لأمور اليمن، فجددنا من عماراتها المتداعية، وأقمنا سدودها المتهدمة، ونظمنا مجاري الماء فيها تنظيمًا حسنًا، واجتهدنا في نشر الدين ما وسعنا ذلك، لا نَشُقُّ على الناس ولكن نأخذهم باللين والرفق، وأقمنا كنيسةً في صنعاء لم يعرف أهل هذه البلاد مثلها ضخامة وفخامة، وجلالًا وجمالًا وزخرفًا: جلبنا لها المرمر من أطراف الأرض، ودعونا لها العمال من قسطنطينية، وحليناها بالذهب والفضة والجوهر، وحرقنا فيها من الطيب والبخور ما كان ينتشر عرفه إلى أماكن بعيدة حول صنعاء، ورتبنا لها القسس والأحبار، ورغبنا الناس في أن يختلفوا إليها ويصلوا فيها. وقدرنا أن نقيم أمثالها في أماكن مختلفة من هذه البلاد. ولكن العرب أهل وثنية ولجاج في الوثنية، كانوا يكبرون من أمر أبرهة ويعظمون سلطانه ويبتغون عنده المعروف، ولكنهم كانوا يكرهون دينه وتأبى نفوسهم الاستجابة له. وكان الذين يختلفون إلى كنيستنا قليلين مهما يكثروا، وكانوا جميعًا من ضعفاء الناس وفقرائهم وأصحاب الحاجة منهم. على أننا لم نستيئس وأخذنا نهيئ أمورنا ونرغِّب الوفود في طاعتنا؛ حتى لقد دعا أبرهة إليه عظيمًا من عظماء العرب في هذا الإقليم الذي يسمونه تهامة، فأكرم مثواه وأعظم أمره، وتوَّجه ملكًا على قومه، وردَّه عزيزًا مكرمًا.

وفي ذات يوم رفع إلى أبرهة أمران ضاق بهما أشد الضيق، وخرج لهما عما قد ألف من الحلم والأناة. أصبح سدنة الكنيسة فرأوا أنفسهم أمام أمر عظيم: رأوا كنيستهم قد لُطِّخت بالقاذورات، وألقيت فيها الجيف، وانتهكت حرمتها، فثاروا بذلك ورفعوه إلى أبرهة، وزعموا له أن هذا الإثم لا يمكن أن يجنيه إلا رجل من هؤلاء العرب الذين يأتون من تهامة، حيث يقوم لهم بيت هناك يقدسونه ويحجون إليه يسمونه الكعبة، والعرب كلها تحج إليه وتعظم أمره، وتعظم الذين يعيشون حوله من هذا الحي الذي يسمى قريشًا، والذي يتجر بين بلادنا وبلاد الشام.

فلما سمع الملك ذلك غضب أشد الغضب، وأقسم ليَهْدِمنَّ هذا البيت وليحملن العرب على أن يحجوا إلى كنيسته بالسيف، بعد أن أعياه حملُهم على ذلك بالرفق واللين. ولم يكد النهار يتقدم حتى رفعت الأنباء إلى أبرهة بأن أهل تهامة قد قتلوا ذلك الرجل الذي أرسله إليهم ملكًا، فطار طائره، وثار ثائره، وأذَّن من فوره بالتجهز للحرب والاستعداد للرحيل، وأرسل إلى النجاشي ينبئه بذلك، ويسأله أن يمده بالجنود والفيلة. وما هي إلا أيام حتى تهيأ له جيشٌ ضخم قوي، وحتى فصلنا عن صنعاء يملؤنا الأمل وتزدهينا الكبرياء. وكنت أتحدث إلى أبرهة بأننا سنقطع هذه الطريق على طولها في غير مشقة ولا جهد، وبأننا سنصل بين الشام واليمن، وبأني سأستقبله ضيفًا في بلاد القيصر، كما استقبلني ضيفًا في بلاد النجاشي. وكان جيشنا يعظم ويضخم كلما تقدمنا في الطريق بمن كان ينضم إلينا من أذواء اليمن وأقيالها.

ولكن طريقنا لم تخل مع ذلك من العقاب،٤ ولم تكن أمنًا كلها، فقد نصب لنا الحرب جماعةٌ من أقيال اليمن على رأسهم رجل يقال له ذو نفر، غيرةً على وثنيتهم، وحفيظةً لبيتهم ذلك، ودفاعًا عن حلفائهم من قريش، ولكنا هزمناهم في غير مشقة، وأخذنا رئيسهم أسيرًا. وهم الملك أن يقتله، ثم رق له وعفا عنه، واستبقاه في أسره. ومضينا أمامنا لا نلقى كيدًا حتى كدنا نبلغ تهامة اليمن، وإذا حي من أحيائها قوي عظيم البأس مسلط على الأرض، متحكم في الطريق وفي القوافل التي تقطعها، يقال له خثعم، قد جمع لحربنا، وغره عدده فخيل إليه أنه سيقهرنا كما تعود أن يقهر الناس من قبل. ولكنا قهرناه في أقصر وقت وأيسر جهد؛ وأخذنا رئيسه رجلًا يقال له نُفَيل بن حبيب أسيرًا. وهم الملك أن يقتله ولكنه استعطف وغلا في الاستعطاف حتى ظفر بعفو الملك، وتقدم مع الأدلاء ليسلكوا بنا طريق هذا البيت الذي كنا نقصد إليه. ونمضي في طريقنا لا نلقى كيدًا، وقد هابتنا العرب وخلت لنا الطريق، وأعظمت أمرنا إعظامًا. حتى إذا دنونا من مكة، وبلغنا مدينة عظيمة هناك يقال لها الطائف؛ تقوم على مرتفع من الأرض عظيم، ومن حولها النخيل والكروم والحدائق فيها أنواع الفاكهة والثمر، كأنها مدينةٌ من مدن الساحل الشامي قد نقلت إلى تلك الأرض المقفرة المجدبة فأقامت فيها مشرقة زاهية كأنها الابتسامة الجميلة في الوجه المظلم الكئيب، خرج إلينا هنالك أهل هذه المدينة فقدموا الطاعة وأظهروا الخضوع، وبعثوا معنا رجلًا منهم يسلك بنا إلى مكة أقرب طريق. ونمضي أمامنا حتى نبلغ مكة، فينيخ الجيش ليستريح قبل أن يأخذ في الهجوم.

ويأتي سفراء القبائل إلى الملك من كل مكان يقدمون إليه طاعتهم ويعرضون عليه ثلث أموالهم، ويطلبون إليه أن يدع بيتهم هذا لا يمسه بسوء، فلا يسمع الملك منهم ولا يحفل بهم. ثم يرسل الملك طلائعه فتغير على ما حول مكة من الأرض وتستاق كل ما تجد فيه من مال. حتى إذا كان الغد أرسل الملك جماعة من أصحابه إلى مكة وكلفهم أن يسألوا عن سيدها وعظيمها؛ فإذا لقوه أنبأوه بأن الملك لا يريد قتالهم ولا حربهم، وإنما يريد أن يهدم هذا البيت، فإن خلوا بينه وبين البيت فهم آمنون، وإلا فليأذنوا بحرب تسحقهم سحقًا. وأمر الملك سفراءه أن يأتوا بعظيم قريش إن أظهر الموادعة والميل إلى السلم. ويمضي السفراء ثم يعودون ومعهم رجل عظيم، وسيم وجسيم، لم أرَ قط أجمل منه، ولا أملأ للعين، ولا أوقع في القلب، ولا أشد مهابة وجلالًا. حتى إذا بلغوا سرادق الملك دخلوا يستأذنون له. ويسأل الملك عنه فيقال له: هذا عبد المطلب سيد قريش وصاحب عيرها، أعظمها شرفًا، وأعلاها مكانة وأكرمها نفسًا، وأسخاها يدًا، يطعم الناس في السهل ويطعم الوحوش في رءوس الجبال. وكنت عند الملك حين أدخل عليه هذا الرجل، ورأيت الملك ينظر إليه فيكبره ويعظمه، ويلقاه بالتجلة والكرامة، ويهم أن يجلسه معه على السرير، ولكنه يشفق أن تنكر الحبشة ذلك، فينزل عن سريره ويجلس مع هذا الرجل على البساط. ثم يكلف الترجمان أن يسأله حاجته. فما أشد ما عجب الملك حين فسر الترجمان له جواب سيد قريش. قال: حاجتي أن ترد إلى مائتين من الإبل أخذتها طلائعك فيما أخذت أمس من المال. قال الملك مستهزئًا: لقد أعظمتك حين رأيتك، فإني لأصغر من شأنك الآن. لقد كنت أظن أنك ستحدثني في بيتك هذا الذي أريد أن أهدمه، والذي هو دينك ودين آبائك، وشرفك وشرف آبائك، فإذا أنت تحدثني في مائتين من الإبل! قال سيد قريش في صوت الهادئ الواثق المطمئن: أنا رب الإبل، فلأحدِّثْك فيها، فأما البيت فإن له ربًّا سيمنعه. قال الملك: لن يمنعه مني. قال سيد قريش: فأنت وذاك. وأمر الملك أن ترد إلى الشيخ إبله، فردت إليه.

ولكني تبعته لأرى ما يكون من شأنه، فإذا هو لا يقبض هذه الأبل إلا ليرسلها هديًا إلى هذا البيت، الذي لم يرد أن يتحدث إلى الملك فيه. ويمضي هذا الشيخ إلى قومه من قريش، فيأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب وعلى رءوس الجبال هربًا من الملك، وإشفاقًا من معرة الجيش، ويقوم أمام بيته هذا الذي يعظمه وقد أخذ بحلقة بابه، ومن حوله نفرٌ من قومه ويقول كلامًا حسن الانسجام شديد الوقع في النفس، سمعته فأحببته ولكني لم أفهمه، على أني كنت قد أخذت أحسن هذه اللغة. ثم يرسل حلقة الباب، ويمضي مع من كان يصحبه من قومه فيحتضن في شعب من الشعاب. وأنظر أنا إلى هذه المدينة فإذا هي قد خلت من أهلها، وقامت بيوتها هادئة ساكنة، يظلها حزنٌ عميق فيه هيبة وجلال. قامت يظلها هذا الحزن، ولكني لم أكن أرى في هذا الحزن خوفًا ولا إشفاقًا من معاول الهادمين. وأصبحنا وقد أمر الملك بدخول المدينة، فيهم الجيش أن يتحرك وفي مقدمته فيلٌ عظيم، ولكني أرى دليلنا نفيل بن حبيب الخثعمي يدنو من الفيل فيأخذ أذنه ويسر فيها كلامًا، ثم يرسلها ويشتد هاربًا في الجبل.

وتثير حركة هذا الرجل في نفسي شيئًا من العجب، فما علمت أنه يعرف منطق الفيلة، وما علمت أن الفيلة تعرف منطق العرب. عجبت، وليت عجبي لم يتجاوز هذه القصة، ولكني رأيت بعد ذلك ما يقضي على كل عجب: رأيت بعد ذلك أشياء ما قدرت قط أنني سأرى بعضها. رأيت بعد ذلك أشياء وددت لو لم أرها قط.

وإني على ذلك لسعيد أشد السعادة، مغتبط أشد الغبطة لأني رأيتها، فهي التي هدتني إلى الحق، وهي التي كشفت عن نفسي الغطاء. رأيت الفيل قد برك، حتى إذا دنا منه ساسته لينهضوه نهض معهم، حتى إذا وجهوه إلى مكة برك من جديد. ويجد ساسته بعد ذلك في إنهاضه فلا يبلغون منه شيئًا، يحثونه ويؤذونه ويضربونه، ويبلغون به أقصى ما يهيج الفيل فلا ينهض ولا يهم بالنهوض. حتى إذا أداروا رأسه نحو الشام أو نحو اليمن أو نحو الشرق نهض ومضى مهرولًا، فإذا أداروا رأسه نحو مكة برك ولم يتقدم أمامه إصبعًا. ونحن ننظر إلى هذا وقد ملأنا العجب وأخذ الدهش من نفوسنا كل مأخذ، وبدأ الخوف يلعب بقلوبنا، وبدأ الذعر يطلق بعض الألسنة بالرغبة عن دخول المدينة والانصراف عن هذا البيت. وإنا لفي ذلك ننظر إلى الساسة وهم يعالجون الفيل، وإذا الجو يظلم شيئًا فشيئًا، وإذا سحابٌ كثيف يبدو لنا من بعيد، قد أقبل إلينا مسرعًا من ناحية البحر، فلا نكاد نطيل النظر إليه حتى نتبين، ويا هول ما نتبين! لسنا نرى سحابًا كالسحاب، ولا غمامًا كالغمام، وإنما نرى سحابًا حيًّا يخفق بأجنحته خفقًا، ويبعث منظره في نفوسنا روعًا يخرجنا عن أطوارنا وينتهي بنا إلى شيء يشبه الذهول. إني لأرى الآن السحاب حين كان يقبل علينا أسرابًا من طير صغار، لها مناقير الطير وأكف الكلاب؛ حتى إذا دنت منا أخذت تحصب الجيش بحجارة دقاق كانت تحملها في مناقيرها وأرجلها. ولم تكن هذه الحجارة تبلغ دقة العدسة ولا عظم الحمصة، وإنما كانت شيئًا بين بين، وكانت على دقتها لا تمس شيئًا إلا هشمته تهشيمًا، ولا تمس رجلًا إلا ألقته صريعًا. وسلوا ما شئتم عن خوف الخائفين وذعر المذعورين، وانصراف أصحاب الفيل عن الفيل، وتحول الجيش عن مكة إلى غيرها من الوجوه جادًّا في الهرب، وهذه الأسراب من الطير تتبعه، تحصبه بهذه الحجارة، وتملأ الجو من حوله بصياح مخيف.

ولست أدري كيف انتهى أمرنا، ولا كيف نجونا من هذه الطير. ولكني أراني مجدًّا في الهرب، ومن حولي قوم يجدون مثلي في الهرب وقد حملوا رجلًا مريضًا سيئ الحال. حتى إذا انقطعت أصوات الطير، ونظرنا فلم نرَ في السماء شيئًا، أخذت أسأل عن نفسي وعمن حولي وعن الجيش، وأخذت أسأل عن هذا المريض الذي أراه محمولًا يتأذى، فإذا هو أبرهة، قد مسه حجر من تلك الحجارة فصرع، وظهر على جسمه بلاء عظيم، وأخذت أجزاء جسمه تتساقط قليلًا قليلًا، لا يسقط جزء منها إلا تبعه صديدٌ منكر قبيح. كم تأذى هذا الرجل! وكم احتمل من ألم في نفسه وجسمه! وكم ذاق من مرارة الندم ولذع الحسرة واللوعة! إني لأراه حين بلغنا صنعاء، وأدخل إلى قصره ليمرض فيه وقد هزل ومسه الضر، حتى لكأنه فرخٌ من فراخ الطير. على أن حياته لم تمتد في قصره، وإنما ألح الألم عليه إلحاحًا شديدًا. وأقبل أحد بنيه صباح يوم فنعاه إليَّ فلما سألت كيف مات، علمت أن صدره انفجر عن قلبه انفجارًا.

وكان حديث الشيخ قد ملك على هؤلاء السمار نفوسهم وقلوبهم، فأغرقوا في شيء من الوجوم لم يحسوا معه أن صاحبهم قد قطع الحديث واندفع في تفكير عميق بعيد. ولست أدري كم أنفقوا من الوقت في هذا الوجوم الصامت، ولكني أعلم أن رجلًا منهم شابًّا لم تكن قد تقدمت به السن بعد، خرج من هذا الصمت وأخرجهم منه حين قال بصوت متهدج تقطعه العبرات تقطيعًا: إن لهذا البيت في مكة شأنًا! قال الشيخ: نعم! إن لهذا البيت في مكة لشأنًا، وإن هذا الشأن هو الذي اضطرني إلى أن أعود من اليمن مسرعًا ما وسعتني السرعة، حتى أبلغ مصر وأنتهي إلى الإسكندرية. وأقسم ما حفلت بأهلي ولا بوطني ولا بشركائي في التجارة، ولا أتحت٥ لأحد منهم أن يسألني من أمري عن قليل أو كثير، وإنما فرقت فيهم مالي تفريقًا، وحملت منه ما استطعت حمله، ومضيت إلى الشام يحسبني الناس تاجرًا يبتغي الربح، وإنما كنت سائحًا أبتغي هذا الدير لأدخله، فأخرج من الحياة ولذاتها، ومالها وغرورها، وأفرغ للعبادة وطاعة الله.

وإني لأرجو لو امتدت بي الحياة أن أعود إلى هذا البيت في مكة، لا غازيًا ولا باغيًا ولا قاصدًا إلى شر، بل تائبًا ثائبًا منيبًا مستغفرًا من هذا الإثم الذي شاركت فيه. وإلى أن يتيح الله لي هذه الأوبة إلى مكة، إن كان قد قدر لي أن أراها مرة أخرى، فسأقيم معكم ألقى من تلقون من هؤلاء الذين يأتون من مكة ويعودون إليها، فأتحدث إليهم وأسمع منهم، وأنالهم بما أستطيع أن أنالهم به من إحسان.

وأذن مؤذن أن قد آن لأهل الدير أن يأووا إلى حجراتهم؛ فتفرقوا وما في نفوسهم رغبة في سمر ولا ميل إلى حديث، وما منهم إلا من يفكر في هذا البيت الذي أحجم عنه الفيل، ورجمته طير أبابيل، ترمي عدوه بحجارة من سجيل، فإذا هم كعصف مأكول.

١  تقدم إليه بكذا أو في كذا: أمره به وأوصاه.
٢  العدوة: الشاطئ.
٣  يقال: أدال الله فلانًا من فلان إذا أظفره به وجعل الكرَّة له عليه.
٤  العقاب: جمع عقبة، وهي طريق في الجبل وعر، ويكنى بها عما يعترض الإنسان من المشاق والمصاعب.
٥  أتاح فلان الشيء: هيأه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤