الفصل الحادي عشر

اليتيم

قضى أهل مكة أيامهم فرحين مبتهجين، يملؤهم الفخر، ويزدهيهم النصر، ويتحدثون بحديث الفيل إذا أضحوا، ويتذاكرون انهزام الحبشة إذا أمسوا، حتى كاد يشغلهم ذلك عن تجارتهم ويصرفهم عن مرافقهم. وتسامعت العرب بهذه الآية الكبرى التي أظهر الله بها كرامة هذا البيت، ورفع الله بها مكانة الذين يقومون حوله من قريش! فازداد العرب لقريش حبًّا وإكرامًا، وأخذت تستوثق الأمور لأهل مكة على من دنا منهم أو نأى عنهم في تهامة ونجد والحجاز. ولكن شيخًا من قريش لم يشغله فخر، ولم يَزْدَهِهِ نصر، ولم تصرفه أحاديث الناس من حوله عن حديث نفسه المتصل وحزنها المقيم! وهو عبد المطلب بن هاشم.

ولكن امرأة من قريش لم يأخذها عجب ولم يملكها تيه، ولم تشارك نساء قريش فيما كن يتخذن من زينة، وينصرفن إليه من لذات الحياة، إنما كانت تؤثر العزلة وترغب في الخلوة إلى نفسها، تتحدث إليها وتسمع منها، لا تجد في هذا الحديث حزنًا صريحًا ولا سرورًا صريحًا، وإنما هو شيء بين بين: فيه راحة من لذع اليأس، وفيه صارف عن نشوة الأمل! وهي آمنة بنت وهب.

كان الشيخ يذكر ابنه فيشغله الحزن المُمِضُّ العميق عما كانت فيه قريش من بهجة وسرور، ومن غبطة وحبور. وكان الشيخ يفكر في قصة الفيل وانصراف المغيرين عن مكة، ثم يرى فخر قريش وتمدحها واستعلاءها على العرب، فيبتسم في نفسه ساخرًا منها عاطفًا عليها. فلم تصنع قريش شيئًا إلا أنها لاذت بشعاف١ الجبال، وفرت إلى حيث كانت تهيم الوحوش، وخلت بين طاغية الحبشة وبين البيت. فلم تردده إذًا، ولكن الله رده، ولم تحطمه إذًا ولكن الله حطمه. وهي على ذلك تفاخر وتكاثر، وهي على ذلك تستكبر وتستعلي. وكذلك الإنسان يغره بنفسه الغرور، فيضيف إليها ما لم تفعل، ويحمل عليها ما لم تأتِ من الأمر.

كان الشيخ يسخر في نفسه من قريش، ويعطف في نفسه على قريش، يلتمس لها المعاذير في هذا الضعف الذي يصيب الناس فيخدعهم عن أنفسهم ويكبرهم في أعينهم، ويخيل إليهم أنهم شيء، وما هم بشيء أمام هذه القوة القاهرة التي تغلب ولا تُغلب، والتي تقهر ولا تُقهر، والتي لا تريد إلا بلغت ما تريد. هذه القوة التي أخرجت من البحر طيرًا لم يرها الناس من قبل، فسلطتها على جيش لم يرَ الناس مثله من قبل، فما هي إلا أن حلقت فوقه ساعةً من نهار حتى انهزم وانحطم، وأصبح كعصف مأكول، وسلم البيت من عادية المعتدي، وأمن البيت من طغيان الطاغية.

هذه القوة التي ظن هو أنه قد استنقذ منها ابنه فحماه من الموت، وضمن له حياة كحياة الرجال: فيها ما في حياة الرجال من سعادة وشقاء، ومن راحةٍ وتعب، ومن جدٍّ وسعي، ومن اضطراب بين اليمن والشام، ومن استقرار في الظواهر والبطحاء. ألم يصارع الموت عن ابنه صراعًا! ألم يشتر ابنه من القضاء شراء! فما هذا الجهاد بالقداح بينه وبين القضاء المسلط! يفادي ابنه بالإبل فيشتط عليه القضاء ولا يرضى حتى يبلغ المائة. وفيم كان انتصاره؟ وفيم كان ابتهاج بني هاشم؟ وفيم كان ابتهاج قريش بانتصار الحياة على الموت، وإفلات الشباب من مدية المضحي؟

وكان الشيخ يضحك في نفسه ضحكًا حزينًا يوشك أن يكون يأسًا مهلكًا وثورةً جامحةً، لولا أنه كان ذا قلب تعلم كيف يطمئن للأحداث ويذعن للخطوب، ويصبر على النائبات. كان الشيخ يضحك في نفسه ضحكًا حزينًا حين كان يفكر في غرور قريش، وتقديرها أن الله قد رد طاغية الحبشة، وأرسل عليه وعلى جيشه ما أرسل من الطير الأبابيل، تكريمًا لها وإيثارًا؛ وحين كان يفكر في غروره هو حين كان يقدر أن الله قد أنقذ ابنه من مديته وفداه بمائة من الإبل إيثارًا له بالعافية، واختصاصًا له بالكرامة. كلا! كلا! لم يهزم الفيل وأصحاب الفيل إكرامًا لقريش، وإنما هي آية أجراها الله لأمر يعلمه هو، ولا يعلم الناس منه شيئًا. ولم ينقذ الله عبد الله من الموت ويفاده بمائة من الإبل إكرامًا له أو إكرامًا لأبيه، وإنما أنقذه من الموت وفاداه بالإبل لأمر يريده هو، ولا يعلم الناس منه شيئًا. وإلا ففيم نجا هذا الفتى من الموت ليموت بعد ذلك بقليل! أليس غريبًا أن ينجو من الموت فيتخذ له زوجًا لا يقيم معها إلا وقتًا قصيرًا، ثم يفارقها كما يفارق الناس أزواجهم ليعود إليها كما يعود الناس إلى أزواجهم، ولكن رفاقه يعودون وهو لا يعود، إنما يتخلف في يثرب ليموت عند أخواله من بني النجار؛ وقد عرفت زوجه بعد أن ارتحل عنها أنه قد حملها أمانةً ما زالت تحملها في جوانحها، حتى إذا جاء أمر الله أدت هذه الأمانة. ومن يدري! لعل عبد الله لم يوجد إلا ليودع هذه الأمانة عند زوجه! ومن يدري! لعل آمنة لم توجد إلا لتؤدي هذه الأمانة إلى الناس!

وكان الشيخ إذا فكر في هذا كله، لم يملك نفسه أن يرى ابنه شديد النشاط، عظيم القوة، رائع الشباب، بارع الجمال، يستقبل السفر بأمل لا حد له؛ ثم يراه نحيلًا، هزيلًا، شاحبًا، متهالكًا، محزونًا، يمرض على فراشه عند بني النجار؛ ثم يراه وقد دنا منه الموت مكابرًا مكاثرًا، فاستله من الحياة أو استل الحياة منه، كأنما يثأر لنفسه من تلك الهزيمة التي أصابته يوم الفداء. فكان الشيخ يستسلم لحزن عميق لا يخرجه منه إلا اضطراب الناس من حوله، وإلحاح الناس عليه، وفيهم أبناؤه وبناته، فيما كان يشغلهم من الأمور.

وكانت آمنة ترى نساء قريش ونساء بني هاشم من حولها، يبسمن للأيام ويبتهجن للحياة، فيعجبها ذلك منهن، ولا يداخلها حسدٌ لهن أو ميلٌ إلى مشاركتهن. كانت تحس إحساسًا قويًّا، ولكنه غامض، بأن الأيام قد وفتها حظها من الغبطة وقسطها من النعيم في ذلك الوقت القصير، الذي قضته مع زوجها منذ لقيته بعد الفداء إلى الرحيل. وكانت تريد أن تسعد بالتفكير في هذا الجنين الذي تحسه يضطرب في أحشائها، ولكنها لا تلبث أن تذكر زوجها، وأنه قد حرم السعادة بهذه النعمة، فتكره أن تستأثر من دونه بالخير، وتتحدث إلى نفسها بأن الاستمتاع بالأبناء والبنات لذةٌ لا يستبد بها الفرد، وإنما هي مشتركة بين اثنين، فإذا ذهب أحدهما ثقلت على الآخر وشق احتمالها عليه وكانت له مصدر ألم وحزن. ولكنها مع ذلك لم تكن تجد هذا الألم المُمِضَّ الذي كانت تقدره وتنتظره، كأنما خلقت نفسها مذعنةً، وكأنما فطر قلبها على الرضا، وكأنما استيقنت أن حياة الأحياء عبء يجب أن يحمل، رضي الناس أو سخطوا، وأن احتماله مع الرضا والاطمئنان خير من السخط الذي لا يجدي، والثورة التي لا تفيد.

على أن الأيام لم تكن تتقدم بآمنة نحو ذلك اليوم المشهود، حتى يغمرها شيء يشبه نسيان النفس والانصراف عن الشعور الواضح بالحياة والتفكير الجلي فيها. وكانت تنفق نهارها ذاهلةً أو كالذاهلة، وتنفق ليلها في نوم هادئ حلو الأحلام. وما أكثر ما كان يزورها من حلم؛ وما أكثر ما كان يلم بها من طيف! وما أكثر ما كان يلقي إليها من حديث! حتى إذا كانت ذات ليلة تتهيأ للخروج من ذهول النهار والدخول في هدوء الليل، أحست بعض ما يحس النساء حين يدنو منهن المخاض.

هنالك دعت إليها من حضرها من نساء بني هاشم، فأسرعن إليها وقضين معها ليلة لا كالليالي، أنكرن فيها كل شيء وأعجبن فيها بكل شيء. أنكرن حتى أنفسهن؛ فقد رأين ما لم يرَ أحد، وسمعن ما لم يسمع أحد، وأحسسن ما لم يحس أحد. ولم تكن آمنة أقلهن إنكارًا وإكبارًا وإعجابًا؛ فقد كانت ترى، وهي يقظةٌ غير نائمة، أن نورًا ينبعث منها فيملأ الأرض من حولها ويزيل الحجب عن عينها. وكانت تنظر فترى قصور بصرى في أطراف الشام. وكانت تنظر فترى أعناق الإبل تردى٢ في أقصى الصحراء. وكانت لا تتحدث إلى من حولها بما ترى مخافة أن ينكرن ما تقول، وأن يظنن بها الظنون. وكانت هذه من صاحباتها لا تمد طرفها إلى شيء حتى تراه نورًا كله لا ظلمة فيه، وإنما هو مشرقٌ مضيء، أو هو الإشراق الخالص. وكانت هذه الأخرى من صاحباتها تنظر فإذا نجوم السماء تدنو من الأرض وتمد إليها أشعةً قويةً نقيةً باهرة ساحرة، وإنها لتدنو وتدنو حتى يخيل إلى الرائية أنها توشك أن تمسها وتقع عليها.

وكانت هذه الأخرى من صاحباتها ترى ظلمةً مظلمةً قاتمة، وتأخذها رعدةٌ قويةٌ ناهكةٌ، ويلم بها شيء كأنه النوم، تسمع أثناءه صوتًا مهيبًا رهيبًا يسأل: إلى أين ذهبت به؟ فيجيبه صوتٌ مهيب رهيبٌ: إلى المشرق. ثم ينجلي عنها ما ألم بها فتفيق. ثم يعاودها ما كانت فيه، فإذا ظلمةٌ قاتمة، وإذا رعدةٌ قوية ناهكةٌ، وإذا غاشٍ يغشاها كأنه النوم، وإذا هي تسمع الصوت المهيب الرهيب يسأل: أين ذهبت به فيجيبه صوتٌ مهيب رهيب: إلى المغرب. ثم ينجلي عنها ما هي فيه فتفيق.

وكذلك لم تدن السماء من الأرض كما دنت في هذه الليلة. وكذلك لم يرَ الناس من الأعاجيب كما رأى هؤلاء النساء في هذه الليلة. ولم تكن آمنة على هذا كله تجد ألمًا قليلًا أو كثيرًا، إنما كشف عنها كل حجاب، ورفع عنها كل غشاء، وخلي بينها وبين عالم من الجمال الذي يرى ومن الجمال الذي يسمع لا عهد للناس بمثله. ثم ترى ويرى صاحباتها كأن شهابًا انبعثت منها فملأ الأرض من حولها نورًا يبهر الأبصار، ثم ترى فإذا ابنها قد مس الأرض يتقيها بيديه رافعًا رأسه إلى السماء محدقًا ببصره إليها كأنما يلتمس عندها شيئًا. ثم تسرع صاحباتها إليه وإليها ليؤدين له ولها ما تحتاج إليه الأم حين تمنح الحياة، وما يحتاج إليه الابن حين يستقبل الحياة، فإذا هي لا تحتاج إلى شيء، وإذا هو لا يحتاج إلى شيء، وإذا هن يتناولن أجمل صبي، وأروع صبي، وأبرع صبي، وإذا قلوبهن قد امتلأت بأن الأرض قد استقبلت وليدًا لا كالولدان.

ثم يشرق الفجر وتبسط الشمس رداءها النقي على بطحاء مكة وما يحيط بها من الجبال، ويرتفع الضحى، ويضطرب الناس في أمورهم وقد قضوا ليلًا جاهلًا غافلًا، لم يشعروا فيه بشيء، كأن لم يكن فيه شيء. ولو قد كشف عنهم الغطاء، ولو قد أزيلت عن قلوبهم الحجب لرأوا وسمعوا. ولكن الله قد جعل لكل شيء قدرًا؛ فهو يظهر آياته لمن يشاء، ويخفي آياته على من يشاء. وعبد المطلب جالس في الحجر وحوله أبناؤه وجماعة من قريش، قد أخذوا فيما كانوا يأخذون فيه من حديث. وهو يسمع إليهم بأذنيه ويعرض عنهم بنفسه، يفكر في فقيده الذي لا يستطيع أن ينساه. وإنه لفي ذلك وإذا البشير يقبل عليه مسرعًا، حتى إذا انتهى إليه حياه وقال: لقد ولد لك غلام، فهلم فانظر إليه؛ فلا يسمع هذه البشرى حتى يحس أن الله قد أخلفه من فقيده ورفق به في مصابه، وادخر له عزاءً عن محنته. فيسأل: أهو ابن عبد الله؟ فيجيبه البشير نعم. فينهض مسرعًا وينهض معه بنوه، ويمضون لا يلوون على شيء حتى يبلغوا بيت آمنة. فإذا دخل الشيخ ورأى الغلام أحس كأن الله قد أنزل على قلبه السكينة وجلا عن قلبه الحزن، ورده إلى غبطة وسرور بعد عهده بهما.

ثم يسمع حديث النساء فلا ينكر منه شيئًا، كأنما كان ينتظره، وكأنما كان منه على ميعاد. ثم يرفع الصبي إليه فيقبله ويقول: لأسمينه محمدًا. قالت آمنة: لقد أتاني في النوم فأمرني أن أسميه أحمد. قال عبد المطلب: فهو محمد وهو أحمد، وما أرى إلا أنهما بعض أسمائه.

قلت لمحدثي: فقد زعموا أن عبد المطلب خرج بعد ذلك فنحر الإبل لأهل مكة، ونحر الإبل لأهل الشعاب، ونحر الإبل على رءوس الجبال، ليطعم الناس وليطعم الوحش. قال: وهل كان عبد المطلب إلا نعمةً للناس ونقمةً على الإبل!

ولكن عبد المطلب لم يفرغ من شأنه ذاك، ولم يعد إلى المسجد مع العصر، حتى رأى أندية قريش متجمعةً فيه، تلهج كلها بحديث غريب ونبأ طريف! أذاعه في مكة رجلٌ من أهل الظواهر، فشغل به الناس وتناقلوه. وكان هذا الرجل طلبة أهل المسجد، ينتقل بحديثه من ندي إلى ندي، فلا يكاد يتم حديثه إلى قوم حتى يدعوه إليهم قومٌ آخرون ليسمعوا منه ويسألوه. وكان يستجيب لمن يدعوه، ولا يزهد في أن يعيد قصته مرةً ومرة، وكأنه قد أحس لنفسه خطرًا، وكأنه قد رأى نفسه مطلوبًا بعد أن لم يكن من قبل إلا طالبًا، وكأنه قد كبر في نفسه، فكان يقول ويطيل في القول، وكان يفصل ويغرق في التفصيل. وكانت أفناء قريش تسمع له، فمنها من يعجب، ومنها من يرتاع، ومنها من يلقى الحديث بالإغراق في الضحك، ومنها من يلقى الحديث بهز الرءوس.

وكان هذا الرجل يقص قصصه فيقول: ما كنت أعلم أن لليل أسرارًا ليست للنهار. وما كنت أعلم أن للصحراء أنباء ليست للمدن والأرض العامرة. وما كنت أحسب أن في هذا الهواء الذي نتنسمه وفي هذا الفضاء الذي يحيط بنا أرواحًا تتناجى، وأحياء تتجاذب الحديث، حتى رأيت ما رأيت، وسمعت ما سمعت، فتبينت أن حياتنا غرور، وأن علمنا جهل، وأن أحاديثنا لهوٌ وهراء. والناس يتعجلونه فيقولون له: هات ما عندك من النبأ، حتى إذا فرغت من قصته فقل ما شئت، وهو يقول: لقد جنني الليل، وإني لفي طريقي من الطائف إلى مكة فلا أحفل بذلك ولا آبه له، ولا أفكر في أن آوي إلى حي من هذه الأحياء التي تنتشر بيوتها في الطريق لأنتظر مشرق الشمس، ولكنني أمضي أمامي لا ألوي على شيء ولا أرهب شيئًا، وماذا أرهب والطريق آمنة واضحة يسلكها الناس إذا أصبحوا، ويسلكونها إذا أمسوا، يسيرون فيها مع ضوء النهار، ويسيرون فيها مع ظلمة الليل؛ قد عرفوها فهم لا يحتاجون إلى مرشد ولا دليل. فأمضى أمامي مجدًّا في السرى، أريد أن أفجأ أهلي مع الصبح. وإني لفي بعض الطريق وقد سكن من حولي كل شيء حتى لا أسمع إلا أخفاف مطيتي تمس الأرض مسًّا رفيقًا، وإلا هذه الأنات التي ترسلها المطايا إذا جهدها السير وحنت إلى الراحة، وإلا ما كنت أناجي نفسي به من حديث أهلي إذ طلعت عليهم مع ضوء الشمس. وكان ضوء القمر قد انبسط على الفلاة هادئًا نقيًّا، فملأ نفسي أمنًا ودعة وهدوءًا.

وإني لفي ذلك، وإذا غمغمة تصل إليَّ من بعيد، فلا أحفل بها ولا ألقي إليها بالًا، وإنما أمضي فيما أنا فيه من الاستمتاع بلذة هذا السرى، ومس أخفاف مطيتي للأرض، وحنينها إلى ما بعد عهدها به من الراحة، وأحاديث نفسي عمن فارقت، في الطائف وعمن سألقى في مكة. ولكن الغمغمة تدنو مني أو أنا أدنو منها، وإذا هي تشتد شيئًا فشيئًا، وإذا أصواتها تمتاز وتستبين، وإذا أنا أسمع أحاديث قوم يتهامسون، وإذا أنا أنظر فلا أرى أحدًا. والقمر مع ذلك مشرق مضيء، والفلاة مع ذلك مبسوطة لا عوج فيها ولا ارتفاع، والحديث مع ذلك من حولي واضح يملأ الهواء، وقلبي مع ذلك يضطرب ويمشي في صدري رعبًا. وأنا أذهب بمطيتي إلى أمام وأرجع بها إلى وراء، وأذهب بها عن يمين وأذهب بها عن شمال، وأرفع بصري إلى السماء وأخفض بصري إلى الأرض، فلا أرى شيئًا ولا أتبين شيئًا إلا جمال هذا الضوء الرائع يغشي الأرض برداء نقيٍّ رقيق. وهذه النجوم التي لا تحصى وقد تألقت في السماء كأنها المصابيح، وانطلقت في طريقها مسرعةً كأنها تستبق، وهذه الأحاديث الواضحة تتحدث بها جماعاتٌ لا أراها، ولكنها لا تستقر، إنما يمضي بعضها إثر بعض. وإني لأسمع قائلًا يقول: «انظروا إلى السماء، فما أرى أنها كعهدنا بها من قبل. إن نجومها لتتألق في قوة لم نرها قط. إنها لتستبق في سرعة لم نرها قط. إنها لتدنو من الأرض حتى إن نارها لتوشك أن تحرقنا. إن التصعيد في السماء لعسير. وفيم نصعد إلى السماء وإن السماء لتهبط إلينا! إن البقاء على الأرض لعسير. وأنى لنا الثبات بهذا الضوء الذي لا يخفى عليه شيء، حتى أشباحنا الخفية التي لا تراها العيون! النجاء النجاء! إن للغيب لعجبًا، وإن في الأرض لحدثًا، وإن الزمان ليستدير، وإنا لا ندري أشرٌّ أريد بالناس أم خيرٌ!»

وإني لأسمع ما أسمع وأرى ما أرى، فيبهرني ما أسمع ويسحرني ما أرى، وأشغل به حتى عن أن أسائل نفسي، أين أكون وما تكون هذه الأصوات. ولكني أحس أصواتًا أخرى كأنها تهيب بأهل تلك الأصوات التي كنت أسمعها قائلة: النجاء النجاء! ولكن إلى أين؟! إنكم لتفرون من مكة كأن شيئًا أزعجكم عنها وقد كنت فيها آمنين، وقد كنا نفر إليكم لأن شيئًا أزعجنا عن دورنا، وأخرجنا من مأمننا، واضطرنا إلى أن نهيم في الأرض، لا ندري ما هو، ولا ندري من أين جاء، إنا لنتسامع من أطراف الأرض بأن حدثًا قد حدث، وبأن كائنًا قد كان. إنا لنتسامع بأن إيوان كسرى قد اضطرب ومادت به الأرض، فسقطت شرفاته وتهدم بنيانه. وإذا أصوات أخرى تصيح منتشرة في الفضاء: وإنا لنتسامع بأن نار الفرس قد خبت فجأة لأول مرة منذ ألف سنة. وإذا أصوات أخرى تصيح: إنا لنتسامع بأن بحيرة ساوة قد جفت، وما عهدناها إلا غريزة جمة الماء. وإذا هذه الأصوات كلها تملأ الأرض، رقيقة خفيفة، خائفة قلقة: النجاء! النجاء! إن للسماء لخبرًا، وإن الأرض لتستقبل يومًا لم تستقبله من قبل، وإن لهذا اليوم في حياة الأرض لشأنًا لا ندري أخير هو أم شر! النجاء النجاء!

وقد فقدت صوابي وأضللت عقلي، فلا أحس شيئًا، ولا أرى شيئًا، ولا أسمع شيئًا، كأنما انتزعت من الحياة انتزاعًا، ثم يمسني برد السحر فأفيق وكأنما ثبت إلى نفسي من سفر بعيد. وأنظر حولي فأرى أصابع الفجر تمتد إلى الأشياء كأنما تريد أن تلمسها، وأرى الليل ينحسر عن الأشياء كأنما يودعها محزونًا، وأرى النجوم تنهزم في السماء كأنما تخاف جيشًا منتصرًا، وأرى ناقتي مذعنة لحكم السرى تمضي أمامها كأن شيئًا لم يكن من حولها. وأبلغ أهلي مع الصبح، فيستقبلونني دهشين كما كنت أقدر، ولكني لا أستمتع بهذا الدهش كما كنت أريد.

ويتفرق الناس عن هذا الرجل وقد سمعوا منه، وإن بعضهم ليسأل بعضًا: ماذا يقول وماذا رأى؟ وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد أخذه النوم فعبثت به الأحلام، وإن بعضهم ليقول لبعض: لقد مر بجماعة من جن الصحراء كانوا يسمرون.

ويسمع عبد المطلب هذا كله فتثور في نفسه خواطر لا ينكرها ولا يعرفها، ولكنه لا يطيل الوقوف عندها؛ لأنه مشغول عنها بمقدم حفيده اليتيم.

١  شعاف الجبال: رءوسها، واحدها شعفة بالتحريك.
٢  تردى: تسرع بين العدو والمشي الشديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤