الفصل الثاني

التحكيم

لاهُمَّ قد لبَّيتُ مَنْ دَعاني
وجئتُ سَعْيَ المُسرِع العَجْلان
ثَبْتَ اليقين صادقَ الإيمان
يتبعني الحارثُ غيرَ وان
جذلانَ لم يحفل بما يُعاني
لاهُمَّ فلتصدُقْ لنا الأماني
ما لي بما لم ترضه يدان

كان صوت عبد المطلب يندفع بهذا الرجز عريضًا يملأ الفضاء من حوله، نقيًّا يكاد يبعث الحنان فيما يحيط به من الأشياء. وكان كل شيء مستقرًّا لا يضطرب فيه إلا هذا الصوت العريض النقيُّ، وإلا هذه الذراع التي ترتفع بالمعول قوية، ثم تُهوي به مُحْتفرة، ثم تدعه إلى المسحاة فتغرف بها التراب في المِكتل، وإلا هذا الغلام الناشئ يرقب حركة أبيه، ويسمع صوته ويردُّ عليه رجعَ هذا الصوت كلما وصل في الدعاء إلى هذا البيت:

لاهُمَّ فلتصدُقْ لنا الأماني!

حتى إذا امتلأ المِكتل حمله بذراعيه الضعيفتين، وأسرع في شيء من الجهد إلى خارج المسجد، فألقى ما فيه ثم عاد، وأبوه يرفع المِعول في الجو ويهبط به إلى الأرض، ويملأ فضاء البيت بصوته العريض، والعرق يتصبَّب على جبينه، ولكنه لا يحسُّ جهدًا ولا يجد إعياء. وكانت الشمس قد ألقت على الأرض رداءً من النور نقيًّا، ولكنه ثقيل همَد له كلُّ شيء، وأوى له الناس إلى بيوتهم يَقيلون، وانقطعت له الحركة، وخفتت الأصوات، إلا هذه الجنادب التي يروقها وَهج الشمس، ويُسكرها لهب القيظ، فتصدح بالغناء إذا سكت كل شيء. وقد أخذ الغلام يحسُّ لذع الجوع وحرَّ الظمأ، ولكنه لا يقول شيئًا، بل لا يكاد يفكر في شيء، إنما سمعه وقلبه لصوت أبيه، وعيناه للمكتل والتراب، ونشاطه لإفراغ المكتل إذا امتلأت. وهما في ذلك، إذا غلام يسعى قد أرسلته سمراء، يحمل إلى الرجل والغلام شيئًا من طعام وشراب، حتى إذا انتهى إليهما وضع ثقله وقال: مولاي، هذا غذاؤك وغذاء الصبي، قد أعدَّته سيدتي العامرية، هيأته بيدها، وهي تعزم عليك لتصيبنَّ منه، ولترفقن بنفسك ولترفِّهن على هذا الصبي الحدث! لقد قال الناس جميعًا، وهدأ كل شيء لهذا الوَهج الذي يصهر الأبدان ويحرق الجلود، وأنت فيما أنت فيه من جدٍّ يُضْني، وجهد يُهلك، لا تقيل ولا تستريح، ولا تُريح هذا الطفل الذي لم يتعوَّد الجهد والعناء، بعض هذا يبلغك ما تريد. ولكن عبد المطلب لم يسمع للغلام إلا بأذن معرضة، ولم يستقبله إلا بوجه مُشيح، إنما هو ماضٍ في رجزه واضطراب يده بالمعول ارتفاعًا في الجو وهبوطًا إلى الأرض، والصبي يتبعه بسمعه وقلبه، ولكن عينه ربما اختلست نظرة قصيرة ملؤها الجوع والظمأ والنهم إلى هذه السَّلة وما فيها، وربما وقف ذهنه الصغير عن متابعة أبيه. وانصرف إلى ما في هذه السلة يعدِّده ويحصيه ويتمثله: إنَّ فيها لشواءً غريضًا وإن فيها للبنًا يمازجه عسل هُذَيل الذي حمله خاله فيما حمل من هدايا البادية حين أقبل يزور أخته منذ أيام، وإنَّ فيها لماء عذبًا. ومن يدري! لعل سمراء قد نقعت فيه شيئًا من زبيب الطائف؛ فإنها تجيد ذلك وتحسنه. وعبد المطلب ماضٍ في رجزه وفي حركة يديه بالمعول والمسحاة، وقد امتلأ المكتل، فيهمُّ الصبي أن يحمله ليلقي ما فيه. ويدنو الغلام يريد أن يعينه في ذلك، ولكن عبد المطلب ينهره نهرًا عنيفًا: «إليك يا غلام! فما لهذا الأمر إلا عبد المطلب وابنه.»

ويمضي الصبي بالمكتل ويعود، ولكن الرجز قد انقطع، وذراع عبد المطلب لا تضطرب بالمعول صعودًا وهبوطًا، وإنما هو مُطرق إلى الحفرة ينظر فيها فيطيل النظر، ثم يرفع بصره إلى السماء فيطيل رفعه، ثم يدير عينيه من حوله كأنه يريد أن يلتمس شيئًا أو أن يلتمس أحدًا، ثم يدعو ابنه في صوت ملؤه الدهش والحيرة والرضا والإشفاق: هلمَّ يا حارث انظر! أترى ماء؟

– كلا يا أبت! وإنما أرى ذهبًا وسلاحًا.

– ومع ذلك فلم أوعد بذهب ولا سلاح، وإنما وعدت بالماء لسقي الحجيج. إن وراء هذا الأمر لسرًّا! ولكن هلمَّ يا بُني، فما أرى إلا أن الظمأ والجوع قد أجهداك.

وأقبل الرجل وابنه على السلة فأصابا مما فيها ذاهليْن واجميْن، ما أحسب أنهما وجدا لما يصيبان طعمًا أو حَسَّا له ذوقًا، يصرفهما عنه هذا الذهب الذي يتوهج في الحفرة، وهذا السلاح الذي يظهر أنه كثير ثقيل. حتى إذا فرغا من طعامهما عاد عبد المطلب إلى الحفرة فيستخرج ما فيها، فإذا غزالان من ذهب نقي ثقيل، وإذا سيوف ودروع فيكبر، ويرفع صوته بالتكبير ويسرع إليه أفراد قليلون كانوا قد بدءوا يفدون إلى المسجد، كدأب قريش حين كانت تخف وطأة القيظ، فإذا رأوا هذا الكنز دهشوا ثم تصايحوا، ثم يفيض الخبر فيتجاوز المسجد، وإذا شباب قريش وشيوخها يُقبلون سراعًا مزدحمين، يُسرع ببعضهم حبُّ الاستطلاع، ويسرع ببعضهم الآخر الطمع في الغنيمة، ويُسرع بفريق منهم باعث ديني غامض، فيه خوف وفيه رجاء وفيه إكبار للآلهة، وتوقع للمعجزة الخارقة. حتى إذا توافوا جميعًا، واستوثقوا من أن عبد المطلب قد وجد كنزًا، وعرفوا حقيقة هذا الكنز، وقوَّموا ذهبه الخالص، وصناعته البارعة، وما فيه من سيوف ودروع، أداروا أمرهم بينهم: لمن يكون الكنز؟ قال هشام بن المغيرة: إنما هو لقريش! فقد وُجد في المسجد، وكل ما وُجد داخل الحرم في أرض عامة فهو لقريش. وقال حرب بن أمية: إنما هو لبني عبد مناف خاصة؛ فهم الذين احتفروا وهم الذين ظفروا، وما ينبغي لقريش أن تغلبنا على خير ساقته إلينا الآلهة.

وتنازع القوم وطال النزاع، واختصم القوم واشتدت الخصومة، وعبد المطلب صامت مطرق، لا ينطق بكلمة ولا يأتي بحركة. هنالك صاح به حرب: ما لك لا تقول وأنت الذي وجد الكنز، وأنت أحقنا بأن ترى رأيك فيه؟! قال عبد المطلب في هدوء وأناة: ما ينبغي أن يكون الكنز لأحد حتى نستشير الآلهة؛ فما حفرت ولا ظفرت إلا بأمر خفي، وما أرى إلا أن للآلهة في ذلك إرادة وقدرًا لا نبلغهما حتى نسأل الكهان. هنالك وجمت قريش وغضب بنو عبد مناف، وأنكروا جميعًا في أنفسهم أن يشرك عبد المطلب معهم الآلهة في هذا الكنز الدفين. ولكنهم لم يقولوا شيئًا، وما كان لهم أن يقولوا شيئًا. ومن الذي يستطيع أن يرد قضاء الآلهة؟ حمل الكنز إذًا إلى الكعبة. وأقبل القوم إلى الكاهن يسألونه أن يضرب بالقداح. وها هو ذا يضرب بقداحه، ثم يضرب، ثم يضرب بين قريش والكعبة، فتخرج القداح للكعبة ثلاثًا، فيصيح عبد المطلب: لقد ظهر قضاء الله، فليكن ما أراد! تفرقوا يا معشر قريش؛ تفرقوا يا بني عبد مناف! فليس لأحد منكم في هذا الكنز نصيب! أما هذا الذهب فسيضرب صفائح على باب الكعبة. وأما هذه السيوف فستعلق عليها. وأما هذه الدروع فستُدخر في خزائنها. ثم التفت إلى ابنه وقال: هلمَّ يا حارث، اتبعني لنمضي فيما كنا فيه. وتفرقت قريش وفي صدورها غلٌّ وحنق. ولكن ثلاثة نفر من أهل الظواهر انتحوا ناحية، وأقاموا يردِّدون الطرف بين الكنز والكعبة وعبد المطلب، ثم انصرفوا وقد فهم بعضهم بعضًا. وأصبح الناس ذات يوم وإذا بالكعبة قد جُرِّدتْ مما علق عليها من ذهب وسلاح.

وراح عبد المطلب مع المساء إلى أهله محزونًا مكدودًا، راضيًا مع ذلك، لم يفارق قلبه الأمل. فاستقبلته سمراء فاترة لم تسع إليه ولم تبتسم له، ولكنها لم تُعرض عنه ولم تتجهَّم له. فلما سألها عن هذا الفتور أطالت الصمت. ولما ألح في السؤال، قالت: وبمَ تريد أن أبتهج؟ ولم تريد أن أبتسم؟ لقد علمت منذ زفَّني أبي إليك أني قد تزوجت رجلًا لا كالرجال. لقد أحببتك ولكني أنكرتك. لقد أملت فيك ويئست منك، ثم عاد إليَّ الأمل أول أمس، ثم ها أنت ذا تردَّ إليَّ اليأس مظلمًا حالكًا قبيح الوجه، بشع المنظر كأنه الغول. ماذا؟! يلمُّ بك الطائف أربع ليال، يهيب بك ويلحُّ عليك، رمزًا حينًا ومصرحًا حينًا ومصرًّا دائمًا، حتى إذا أذعنت لأمره وانتهيت إلى ما سيق إليك من خير وادخر لك في الأرض من غنى زهدت فيه وانصرفت عنه، وأشفقت أن تُسلمه إلى قريش أو إلى بني عبد مناف، فيقال: ألقى بيده ونزل عن غنيمته؛ فصرفت ذلك عنك وعنهم إلى هذه البَنِيَّةِ١ تحلِّيها بالذهب وتُعِزُّها بالسلاح! وماذا تصنع الأحجار القائمة بذهبك وسلاحك! لله أنتم يا معشر قريش! إنكم لتُكبرون من هذا البناء المنصوب ما لا نُكبر نحن في البادية. ولولا حاجاتنا ومنافعنا لما هبطنا بطاحكم حاجين ولا معتمرين، ولكنكم قوم ضعاف تُكبرون ما لا يُكبر، ويغرُّكم أن أفئدة الناس تهوي إليكم، تحسبونهم يُقبلون إليكم بالدين وينصرفون عنكم بالطاعة. وإنما يقبلون عليكم بما عندهم من عروض، وينصرفون عنكم بما تحملون لهم من الآفاق.

هلا طاولت قريشًا وانتظرت بهذا الكنز حتى تروح إليَّ! لقد كان فيه غنًى لك ولهذا الصبي الذي تعنِّيه وتضنيه منذ ألمَّ بك ذلك الطائف. هلا تريثت أو اصطنعت الأناة! إذًا لاحتويت الكنز ولأصبحت أغنى قريش وأكثرهم مالًا، ولما استطاع بنو عبد شمس أن يكاثروك بما يملأ خزائنها من الدراهم والدنانير. إذًا لأقبلت إليك بنو عامر بقوتها وبأسها فأعزتك ومنعتك من قريش ولكنك أشفقت وملأ قلبك الفَرَق، وعبثت بنفسك بقية من كبرياء، فأفقرت نفسك، وقضيت على ابنك هذا أن يكون دون بني حرب ثروة ومالًا. قال عبد المطلب محزونًا: هوِّني عليك يا سمراء، وأقلِّي اللوم، فما أرى أنك تفقهين مما ترين شيئًا. لا أحب لوجهك هذا النضر أن تعلوه غبرة الحرص على المال. وما أحبُّ لصوتك هذا العذب أن تشوبه مرارة الحديث عن المال. وما أرضى وإن نسلتك أشراف بني عامر أن تَغُضِّي من أمر قريش. إن فيكم — أهلَ البادية — لطباعًا غلاظًا ونفوسًا يملؤها الطمع. أنتم لا تحسبون الدين ولا تقدرون الغيب، ولا تؤمنون إلا بما ترون، ولا تخافون إلا القوة الظاهرة. لقد كنت أحسب أن مُقامك الطويل بمكة قد غير نفسك بعض الشيء، فإذا أنت اليوم كما كنت يوم انحدرت من بادية نجد إلى هذه البطحاء. هوِّني عليك ولا تشغلي نفسك بما لست منه في قليل ولا كثير. لقد أمرني الطائف أن أحتفر، ووعدني أن أجد الماء لأسقي الحجيج لا أن أجد الذهب لأغنيك وأدخل الخصب على بني عامر؛ فليس هذا الذهب لي ولا لقريش وإنما هو مخبوء لأمرٍ يُراد. وإني لمن قوم لا يحبون الغضب ولا يستأثرون بما ليس لهم، ولا يمنعون الحقوق. فإن تكن غلظة الأعراب وجفوة البادية وجحودها قد شاقتك فزمِّي رحالك غدًا وألمِّي بأهلك! فهم أحق بك وأدنى إليك. قال ذلك ونهض غاضبًا، وتركها واجمة بهذا الحديث العنيف تقاوم غيظًا لم يلبث أن استحال إلى دموع غلاظ تحدَّرت على خديها كأنها لؤلؤ العقد قد خانه النظام.

وارتفع صوت عبد المطلب بالتكبير حتى امتلأ به المسجد وفاض من حوله، وحتى اضطربت له مجالس قريش في فناء البيت، فخف الناس إليه وهم يقولون: ما نرى ابن هاشم هذا إلا مطروقًا يلقى من الجن شططًا، ويريد أن نلقي منه شططًا. أقبلوا إليه سراعًا يزدحمون وقد آلى أشرافهم لئن وجدوه قد ظفر بكنز وعثر على غنيمة، ليغبنُنَّه عليها، وليُعْطنه منها نصيب رجل من قريش. وانتهوا إليه وهو يكبر ويصيح: هذا طوي إسماعيل! هذه بئر زمزم! هذه سقاية الحاج! لقد صدق الوعد وتحقق الأمل.

فنظروا فإذا عبد المطلب قد وجد الماء، وإذا هو يستقي فيشرب ويسقي ابنه، ويرسل الماء بيديه من حوله كأنه يريد أن يسقي الأرض والهواء والناس. هنالك ابتسموا له ورفقوا به، وقالوا: لقد بررت بقومك يا شيبة، وأنبطت لهم هذا الماء يستقون منه، إذا ضنَّت عليهم الينابيع، فوصلتْك رحم! لتعرفنَّ لك قريش هذه اليد. قال: ما أنتم وذاك! هذه بئري قد حفرتها، وكشفت طيها بأمر هبط إليَّ من السماء. وهذا شرب ساقه الله إليَّ سأسقيكم منه إن أردت، ولكني أسقي الحجيج منه قبل أن أسقيكم، فبذلك أمرت وأنا على ذلك قائم. قالوا: يابن هاشم! إنك لتسرف على نفسك، وتشطُّ على قومك، وتختلق على السماء! إن هذه الأرض ليست لك، وإنما هي لله ثم لقريش، وإن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تَنزَّل إليك. ومتى تَنزَّل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان! فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم! خلوا بيني وبين الماء، فوالله لن تبلغوا مني شيئًا. إنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم، ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حريٌّ أن يردَّ عني كيدكم ويحميني من ظلمكم. إنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد، ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد مَن أكاثركم به. وإني أقسم لئن منحني من الولد عشرةً ذكورًا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد! وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردُّون عنه عدوان قريش. وكاد الشرُّ يقع بين القوم، ولكن عبد المطلب قال يا قوم فيم قطع الأرحام، وخَفر الذمام، وإراقة الدماء! إني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء. فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلمَّ إلى حكمٍ فليقض بيننا. قال الملأ من قريش: لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه، فليكفَّ بعضكم عن بعض، ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هُذَيم، فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.

وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام؛ فأجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في مُعان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف، وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة، ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر، ونفد ما كان معهم من ماء، واشتد بهم الظمأ وأحرق أكبادهم الصدى، وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار فيها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد، ليس فيها عين ولا بئر، ولا شجرة ولا عشب، وإنما هي أرض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام. وقد يئس القوم من كل روح، وقنطوا من كل وجهة، فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم: يا قوم؛ إنما هو الموت فأنتم بين اثنتين: إما أن تموتوا ضيعةً وتصبح أجسامكم نهبًا لسباع الأرض والجو، لا تواريكم يدٌ في التراب، ولا تأوي نفوسكم إلى جَدَث تطمئن فيه؛ وإما أن يقوم بعضكم على بعض، ويواري بعضكم بعضًا، فيكون لكل منكم حُفرته، وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع، وألمَّتْ بأهلها في بطاح مكة وظواهرها، كيف تهتدي إلى أجسادها فتلِمُّ بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كلٌّ منكم حفرته، وأن تُقيموا، فأيكم ذهب الصدى بنفسه وأراه أصحابه وبكوا عليه، فلا يذهب منكم ضيعةً إلا رجل واحد تمتدُّ به الحياة إلى أقصى أجل.

قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته؛ وتثاقل القوم بعض الشيء، يفكرون في أولادهم وآخرتهم، ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال، ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة، ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتَقدَّمَ رُسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم، فيعمد كلٌّ منهم إلى سنان يخطُّ به حفرته في الأرض.

كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ، ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: «يا معشر قريش، ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت، وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وإن فيكم لبقية من قوة، وإن في إبلكم لقدرة على الحركة وفضلًا من النشاط! لا والله ما أنا بمُسلم نفسي للموت حتى يُكرهني عليها. هلمَّ فاضربوا في هذه الأرض! فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجًا.»

ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث، وإذا الآمال تحيا، وإذا النشاط يتجدَّد، وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم، وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه. وينهض عبد المطلب إلى راحلته، حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت وهمت لتندفع. ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مُكبرًا وهم يلتفتون، فإذا عين غزيرة قد انفجرت تحت خُف الراحلة، وإذا هي تفور، وإذا بالماء ينبسط من حولها فينقع غُلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!

هلمَّ يا معشر قريش إلى الماء الرواء! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد هلمَّ فاشربوا واسقوا إبلكم واملئوا مزادكم. هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القائمة المحرقة. والقوم يضجُّون بالرضا والغبطة، وإن للإبل من حولهم لأطيطًا ملؤه الرضا والغبطة أيضًا. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم، وتشعر بالسرور والحزن! روي الناس، ورُويت الإبل، ورُويت الأرض. وقالت رسل قريش لعبد المطلب: عُدْ بنا يا شيبة إلى مكة فقد قُضي علينا، وإن الذي أسقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك، هو الذي أسقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.

وأقبل البشير على سمراء ينبئها بأن زوجها قد عاد إليها سالمًا موفورًا مُظفَّرًا! فقالت وعلى ثغرها ابتسامة الكئيب المحزون: «حبذا شيبة مسافرًا! وحبذا شيبة مقيمًا! ولكن شيبة لن يخلص لي منذ اليوم؛ إنه ليريد كثرة الولد! وأيُّ نساء قريش تستطيع أن تمتنع عليه؟!»

ثم أشرقت شمس الغد على عبد المطلب وهو يسعى إلى عمرو بن عائذ المخزومي ليخطب إليه فاطمة، وهي أمُّ جماعة من ولده بينهم عبد الله.

١  البَنِيَّةُ: الكعبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤