الفصل الخامس

البين

لم تظهر آمنة ارتياعًا للوداع، ولا التياعًا للفراق، ولم تصعد من صدر آمنة زفرة، ولا انحدرت من عين آمنة عبرة، وإنما كان وجهها هادئًا منبسط الأسارير، وكان صوتها مطمئنًا لم تفارقه عذوبته الحازمة حين أقبل زوجها عليها يودعها آخر السحر، وقد أخذ الفجر يتنفس في دعة، ويمس بأصابعه الرقيقة ما حول مكة من الربا. وكان عبد الله يدافع حزنًا عميقًا كان يريد أن يظهر على وجهه وينطلق على لسانه، وكان يتكلف من التجلد والتصبر ما لا بد منه ليكون فتى من فتيان قريش، ليس للجزع على نفسه سلطان، ولا للضعف إلى قلبه سبيل. ومع ذلك فقد اتصلت عيناه الحادتان بوجه امرأته الجميل اتصالًا طويلًا، كأنما كانتا تريدان أن تطبعا صورته الحلوة الهادئة في نفس الفتى لتكون له رفيقًا مؤنسًا في سفره الشاق الطويل.

ولم تجرؤ آمنة على أن تطيل النظر في وجه زوجها كما كان هو يطيل النظر في وجهها، إنما كانت عيناها ترتفعان إلى وجه الفتى، ثم لا تلبثان أن تنخفضا حياء واحتشامًا وصبرًا. حتى إذا خرج الفتى ليلحق بإخوته الذين كانوا ينتظرونه غير بعيد ليصحبوه إلى حيث يودع أباه وأمه، ثم إلى حيث عسكرت القافلة تنتظر الإيذان بالرحيل، نظرت آمنة فإذا عيناها لا تبكيان، وإذا قلبها لا يخفق، وإذا شخصها كله هادئ مطمئن، لا تظهر عليه آيات الجزع ولا أمارات الذهول. ومع ذلك فقد كانت نفسها تبكي بكاء مرًّا، وكان قلبها يشكو شكاة الطائر المهيض، ولكن أصداء هذا البكاء وهذه الشكاة لم تكن تتردد إلا في أعماق الضمير. كانت آمنة ثابتة للخطب مطمئنة له، كأنما أذعنت للحوادث إذعانًا، وكأنما أخذت تروض نفسها على صبر لم تعرفه نساء قريش، وتهيئ نفسها لحزن طويل لم تألفه أترابها اللاتي لم يكدن يذقن لذة الحياة.

وما أشرقت الشمس وما ارتفع الضحى حتى كانت القافلة قد بدأت طريقها الطويلة إلى غايتها البعيدة، وحتى كان كثير من شباب مكة وأحداثها يشرفون من كل مرتفع، ويمدون أبصارهم إلى حيث مضت العير؛ ليروا منها ما يستطيعون أن يروه قبل أن تتقطع بينهم وبينها الأسباب.

وكان بيت آمنة في هذا الوقت قد امتلأ بنساء بني هاشم وبني زهرة، أقبلن عليها يعزينها ويسلينها ويعاونَّها على احتمال هذا الحزن الجديد. ولكنها لقيتهن كما تعودت أن تلقاهن من قبل: باسمة في حزن، نشيطة في هدوء ولم تعنهن على أن يطلن الحديث في الوداع والرحيل، وفي القافلة وما يتصل بها من الأمر، فأخذن فيما كن يأخذن فيه من أحاديثهن المألوفة في كل يوم.

وكان عبد المطلب قد ذهب إلى مجلسه من المسجد كدأبه في كل يوم، فتلقاه أبناؤه بالتحية وتلقاهم هو بالدعاء، وجلس وجلسوا من حوله يتحدثون عن القافلة كما كانوا يتحدثون عنها من قبل. وكان الشيخ يسمع لهم ويرد عليهم، ولكنه كان يجد في نفسه حزنًا عميقًا لاذعًا لم يكن تعود أن يجده حين كان يرحل أبناؤه غير عبد الله مع القوافل إلى اليمن أو إلى الشام، ولا حين كان يرحل هو تاركًا أبناءه وأهله.

وكان الشيخ يحس كأن له شخصين مختلفين: أحدهما حاضر بمكة يأخذ مع أبنائه وغيرهم من قريش بأطراف الحديث، والآخر غائب عن مكة قد فصل مع العير، وأخذ قصد الشام يصاحب هذا الفتى الذي ارتحل ولم يكن من الحق أن يرتحل لو أن عبد المطلب طاوع نفسه واستمع لصوت الضمير. وكان هذا الشخص الغائب يرسل إلى الشيخ صورًا قوية متلاحقة تمثل الطريق التي تسلكها العير، والأحياء التي تمر بها، واستقبال هذه الأحياء للعير، واحتفاءها بها ومتابعتها لها. وتمثل له ابنه آخذًا في الحديث مع رفاقه كاتمًا ما يجد من حزن لفراق أهله وإخوته وبلده، وكثيرًا ما كان هذا الشخص الغائب يسبق العير في طريقها إلى الشام، ويعود إلى عبد المطلب يصور هذه الطريق، فيثير في نفسه ذكرى، ويثير في نفسه أملًا، ويثير في نفسه إشفاقًا؛ لأنه كان يستحضر ما كان يلقى في سفره إلى الشام من خير وشر، ومن راحة وجهد. وكان يرى أن ابنه سيلقى مثل ما لقي، وسيحس مثل ما أحس، فيبتهج حينًا ويبتئس حينًا آخر.

وكان على هذا كله لا يستطيع أن يدافع خاطرًا يلم به من حين إلى حين، فيصور له يوم الفداء، ويصور له هذا الصراع العنيف الذي كان بينه وبين الموت في ذلك اليوم، والذي كان موضوعه هذا الفتى الذي تُرقِل به مطيته الآن نحو بلاد الروم. وكان كلما فكر في ذلك أحس خوفًا مرًّا تظهر آثاره على وجهه المشرق الموقور، كأنما كان يسأل نفسه: أفي الحق أن قد انتهى هذا الصراع بيني وبين الموت؟ أفي الحق أني قد استخلصت هذا الفتى ووهبته للحياة المتصلة والبقاء الطويل؟ إن الدهر لكثير الغدر مشغوف بالخداع، وإن من حولنا لقوًى خفية إن يكن منها الخير المسعف فإن منها الشرير الخاتل. وإن هذه القوى الشريرة لتجد لذة سيئة في تضليلنا والعبث بنا ودفعنا إلى الشيء كأنه الخير كل الخير، حتى إذا اندفعنا إليه وتورطنا فيه، انصرفت عنا ساخرة منا، وتكشفت لنا الأحداث عن الشر والنكر والبلاء، ومن يدري! لعل قوة خفية من هذه القوى الخاتلة قد خدعتني ومكرت بي، وخيلت إليَّ أن في حمل هذا الفتى على الرحلة مع شباب قومه وكهولهم نفعًا له وإصلاحًا، على حين لم تكن تريد به إلا الشر، ولم تكن تريد به إلا النكر، ولعلها أن تكون قد أرصدت له في الطريق رصدًا وكادت له في السفر كيدًا. وكان الشيخ إذا ألمَّ به الخاطر وانتهى به التفكير إلى هذه الصورة امتلأ قلبه بهم شاغل عنيف، يكاد يقطع عليه حديثه مع من كان حوله من قومه، ويكاد ينهضه قائمًا ويسعى به إلى حيث يركب أسرع نجائبه ليلحق بابنه ويرده إلى مكة، فكان الوقار وحده يكفه عن ذلك، ويرده إلى أن يأخذ نفسه بالصبر والاحتمال، ويحتفظ بما في قلبه من الهم سرًّا مكتومًا لا يظهر عليه أحدٌ غيره، ولا يناجي به إلا ضميره.

وكذلك اتصلت حياة الشيخ منذ ارتحل ابنه مضاعفةً؛ يحيا مع أهل مكة ويضطرب فيما يضطربون فيه، ويمضي مع القافلة ويشاركها فيما تجد من مشقة الرحيل وراحة المقام، وربما شاركها في أحاديثها وآمالها، وربما شاركها في خوفها وثقتها. ثم ربما فكر في آمنة فأطال التفكير. وماله لا يفكر فيها وقد كانت في حجر عمها وهيب، فلما زُفت إلى عبد الله أصبحت في كنفه هو، ولا سيما بعد أن سافر زوجها وبقيت هي وحيدة محزونة ليس لها مُسلٍّ عن الوحدة ولا معين على الحزن! لذلك كان الشيخ شديد العطف على هذه الفتاة، يزورها فيكثر زيارتها ويطيل المقام عندها، ويلح على هالة في أن تفعل فعله فتزور آمنة وتستزيرها، ولا تخلي بينها وبين الوحدة ما وجدت إلى ذلك سبيلًا.

وفي الحق أن الأسابيع الأولى التي تبعت رحلة عبد الله قد مرت على آمنة مرًّا سريعًا يسيرًا. فما أكثر ما كان يزورها نساء بني هاشم ويستزرنها! وما أكثر ما كانت تجد عزاءً وراحة فيما كان ينالها من بر الشيخ وأزواجه، ومن ود سمراء خاصة؛ على أن حياتها كانت كحياة عبد المطلب مقسمة بين مكة وبين الطريق التي كانت تسلكها القافلة. فكانت تحيا حياة النساء من حولها في قليل من العمل وشيء من الحديث وكثير من الصمت، وكانت تتبع عبد الله في طريق تتخيلها ولا تحققها. وأنى يكون لها تحقيق الطريق وهي لم ترتحل ولم تجب أقطار الأرض! إنما كانت تسمع أحاديث الناس عما يجدونه في طريقهم إلى الشام وإلى اليمن، فتصوره لنفسها كما استطاعت، وترى زوجها في أطوار المسافرين١ فتبتهج لذلك قليلًا وتشقى به كثيرًا.

وأصبحت آمنة ذات يوم تجد في نفسها شعورًا غريبًا لا تدري أألمٌ هو أم لذة؟ أحزنٌ هو أم سرور؟ رأت فيما يرى النائم كأن آتيًا قد جاءها فوقف منها غير بعيد، وحاولت أن تتبين شخصه فلم تستطع، وحاولت أن تحقق صوته فلم تستطع. وما كانت تدري أكان رجلًا أم امرأة، وما كانت تدري أكان شيخًا أم شابًّا، وإنما كانت تعلم أنه كان شبحًا مؤنسًا عذب الصوت. دنا منها حتى إذا كاد يمسها تحدث إليها في رفق كأنه يناجيها ويسر إليها سرًّا، فقال: أتعلمين أنك ستصبحين أمًّا؟ قالت: ماذا تقول؟ لم أفهم عنك. قال: أتعلمين أنك حامل؟ قالت لا! قال: فاعلمي إذًا أنك ستكونين أمًّا لخير من حملت الأرض من الناس. ثم نظرت فلم ترَ شيئًا. ثم استيقظت ونظرت من حولها فإذا الصبح قد يشرق ويضيء كل شيء. هنالك فكرت آمنة فيما رأت وفيما سمعت، وأنكرت آمنة ما رأت وما سمعت. وسألت نفسها، فإذا هي لا تعلم أنها قد أنكرت من أمرها شيئًا، إنما هو اضطراب يسير كان يلم بها من حين إلى حين قبل العرس، فلا غرابة في أن يلم بها بعده. وما كانت تقدر أن الحمل يسيرٌ إلى هذا الحد، لا تشعر المرأة به ولا تجد له عرضًا من الأعراض غير مألوف. على أنها لم تصدق ما سمعت، ولم تستطع مع ذلك أن تكذبه، فظلت منه في شك مريب، واستشعرت له خوفًا مقلقًا وأملًا لذيذًا. وظلت في حيرتها هذه الحلوة المرة حتى ارتفع الضحى. وأقبلت إليها نساء بني هاشم وفيهن سمراء وفاطمة بنت عمرو وهالة بنت وهيب. فقصت عليهن في استحياء ما رأت وما سمعت؛ وسألنها عن بعض الشيء، ثم رجحن لها صدق الرؤيا. ووصفت لها سمراء تمائم تقدمت إليها في أن تحملها لترد عنها الشر، وتذود عنها مزعجات الأحلام.

من ذلك اليوم ازدادت نفس آمنة رضًا واطمئنانًا، واحتملت بعد زوجها عنها في شجاعة لا مرارة فيها ولا حرمان. وأخذت تفكر في زوجها مبتسمةً له، وتنتظر عودته القريبة في شيء من الغبطة والسرور عظيم، وأخذت تقدر ابتهاجه حين يعود فيعلم من أمرها ما لو علمه الآن لهون عليه السفر ومشقة النوى. وعلقت آمنة ما وصف لها من تمائم، ولكنها لاحظت أنها ما كانت تفيق من نوم إلا وجدت تمائمها وقد انقطعت أسبابها وسقطت عنها. فلما تكرر ذلك أعرضت عن التمائم ولم تحفل بها. وأخذت تنتظر أعراض الحمل، وتهيئ نفسها لمثل ما احتملت هالة من ألم حين كانت تنتظر حمزة. ولكنها انتظرت وأطالت الانتظار، فلم تجد شيئًا ولم تشك ألمًا ولم تضق بالحياة، ولم ترغب عما كان يتاح لها من لذاتها اليسيرة.

ومع ذلك فقد مضت الأيام والأسابيع، ولم تشك آمنة في أن الأحلام لم تكذبها. وإذًا فممتازة هي من النساء! يألمن ويشكون ويضقن بكل شيء، ويزهدن في كل شيء. وهي لا تألم ولا تشكو، وهي لا تضيق ولا تزهد ولا تجد ثقلًا. وهي تتحدث بذلك إلى هالة وإلى سمراء وإلى فاطمة فينكرنه، ويعجبن له ويستبشرن به. على أنها لم تكن تتحدث إليهن بكل شيء. وأكبر الظن أنها كانت تشفق أشد الإشفاق — إن وصفت لهن كل ما تجد أو بعض ما تجد — أن يسخرن منها ويتهمن عقلها ويظنن بها الظنون. فقد كانت آمنة في حياة سعيدة لم تعرف مثلها: ما أحست من رضا النفس واطمئنان القلب وراحة الضمير مثل ما كانت تحس في تلك الأيام، وما ذاقت من عذوبة النوم ولا استمتعت من جمال الأحلام مثل ما كانت تذوق وتستمتع به في تلك الليالي. إن كانت لتأوي٢ إلى فراشها فيأخذها نوم هادئ رفيق، ثم تتمثل لعينيها مناظر فيها جمال وروعة وتلقى في أذنيها أصوات حلوة كأنها غناء الملائكة، وتقضي الليل كله في لذة غريبة نادرة، حتى إذا انجلى جبين الصبح أفاقت موفورة القوة شديدة النشاط، لا تجد كسلًا ولا فتورًا. وما هي إلا أن تستعذب آمنة أحلام الليل، فتود لو قضت وقتها كله نائمة مغرقة في هذه الأحلام. ثم تود لو لم يزرها أحد ولم يتحدث إليها أحد لتستحضر في اليقظة ما كانت تبتهج به أثناء النوم. ولكنها قرشية تعرف كيف تملك نفسها، وتضبط أهواءها، وتلقى الناس بمثل ما كانت تلقاهم به من البشر الهادئ البريء من الإسراف في الابتئاس أو الابتهاج.

وأخذت قريش تنتظر قفول العير وتستعد له، وأخذت الأسر تهيئ لاستقبال العائدين. وكانت آمنة كغيرها من نساء قريش تنتظر رجوع زوجها، وتتهيأ له سعيدة مرتين: سعيدة بمقدمه، وسعيدة بهذا النبأ الذي ستلقاه به إذا خلا إليها. ولم يكن عبد المطلب أقل قريش انتظارًا للقافلة، وتحدثًا عنها، وتحرقًا إلى لقاء بعض من كان فيها. وأقبل البشير فأذن في مكة أن مقدم العير قريب. وخف شباب قريش يلقون العير قبل أن تبلغ الحرم. واستعد كهول قريش للقاء العير متى دخلت مكة. وازَّيَّنت نساء قريش للقاء الأزواج والإخوة والأبناء. وخرج إخوة عبد الله فيمن خرج، وانتظر عبد المطلب فيمن انتظر، وازَّيَّنت آمنة فيمن ازَّيَّن، وأعدَّت فاطمة بنت عمرو طعامًا غير مألوف. ولكن إخوة عبد الله كانوا أسرع من عاد من استقبال العير، ولم يعودوا مبتهجين ولا مغتبطين ولم يكد يراهم عبد المطلب حتى وقع في نفسه حزن ثقيل. ولم يكد يسألهم عبد المطلب حتى عرف أن ابنه قد مرض في الطريق، فتخلف في يثرب ليمرض عند أخواله من بني النجار. واضطرب الشيخ وبنوه بين حزنهم للمريض وحزنهم لأنفسهم. وخاف الشيخ على آمنة، وخاف أبناؤه على أمهم فاطمة. وقضى الشيخ وبنوه ساعة كانت فيها حيرة سوداء مظلمة ثقيلة الحمل. ثم ثاب إلى الشيخ حلمه، وعاد إليه بصره بالأمور وحزمه في تصريفها، فلم يفكر في نفسه، ولم يفكر في آمنة ولا فاطمة وإنما فكر في المريض، فندب أكبر بنيه ليرحل من فوره إلى يثرب، ويشهد من قرب تمريض أخيه. وأبى الشيخ أن يهم بشيء أو يفكر في شيء حتى يفصل ابنه من مكة. وما هي إلا ساعة من نهار حتى كان أكبر أبناء عبد المطلب في طريقه إلى يثرب لا يلوى على شيء. هنالك رجع الشيخ إلى نفسه، فذكر يوم الفداء، وذكر ضحوة ذلك اليوم الذي أغرى ابنه فيها بالسفر وحضه عليه، وذكر يوم الرحيل، وذكر خوفه وإشفاقه، وذكر القوى الخفية الماكرة التي كان يخافها ويشفق منها. وحاول الشيخ أن يرد إلى نفسه طمأنينتها ودعتها فلم يوفق. فينهض متثاقلًا كالمأخوذ حتى دخل على سمراء. فلما رأته سمراء لم تشك في أن حادثًا قد حدث، على أنها تلقته مبتهجة بلقائه في شيء من العتب والمرارة. ولكنه لم يلبث أن أنبأها بما علم وما فعل، وبأنه مشفق على الفتى، وبأنه لا يدري كيف يلقى بهذا النبأ أم الفتى وزوجه.

قالت سمراء وهي تبكي وقد ذكرت ابنها: فابدأ بنفسك فالقها بهذا النبأ كما ينبغي أن يلقاها به الشيخ الوقور، فما أحب لك هذا الجزع، وما أعرف أنه يليق بك أو يجمل منك. وما أرى أن على الفتى بأسًا، وما أظن إلا أن الفتى قد اتخذ هذه العلة اليسيرة سببًا إلى زيارة أخواله في يثرب والمقام عندهم قليلًا. ومضت سمراء تعزِّي الشيخ وتهون عليه الخطب، والله يعلم ما كان الخطب عليه هينًا ولا يسيرًا. ومضت سمراء تعزي أم الفتى وزوجه وتهون عليهما الخطب. وقد سبقت إليهما به الأنباء.

وكانت طوالًا ثقالًا تلك الأيام وتلك الليالي التي قضاها آل عبد المطلب ينتظرون أنباء المريض، وكان مرًّا ذلك الحزن الذي كان يتجرعه الشيخ إذا أمسى، ويتجرعه إذا أصبح، ويتجرعه كلما تقدم النهار. وكانت غزارًا حارة تلك الدموع التي كانت تسفحها فاطمة في غير هدوء ولا انقطاع. وكانت لاذعةً محرقةً تلك اللوعة التي كانت تجدها آمنة كلما خلت إلى نفسها وفكرت في زوجها. ولكن! أكانت تخلو إلى نفسها حقًّا؟! أكان يتاح لها أن تفكر في زوجها حقًّا؟! يا له من جنين هذا الذي تحمله بين أحشائها! إنه ليصرفها عن الحزن، وإنه ليوقع في قلبها عزاء حلوًا، وإنه ليملأ نفسها صبرًا جميلًا! ومع ذلك فهذا الجنين أحق الناس بالرثاء إن حدث لمريض يثرب حدث. أليس قد يولد يتيمًا؟ بلى! لم يبق في ذلك شك. ولا بد من أن تؤخذ النفوس باحتماله والصبر عليه؛ فقد عاد رسول عبد المطلب ينبئ قومه بأنه قد بلغ يثرب فلم يرَ فيها أخاه المريض، وإنما رأى قبره في ناحية من دور بني النجار!

وجلس شبابٌ من قريش ذات ليلة عند فاطمة بنت مُرٍّ الخثعمية يسمرون، فانتهى حديثهم إلى مرض عبد الله وموته في يثرب. فلما سمعت فاطمة هذا الحديث غشيت جبينها المشرق سحابةٌ رقيقة من حزن، وتحيرت في عينها دمعة لم تلبث فاطمة أن كفكفتها وهي تقول في صوت كأنه يأتي من بعيد: نذرٌ وفداء، ورحلة ومرض، وموت في يثرب؛ إن للقدر في هذا الفتى من قريش لسرًّا!

ثم مضى القوم فيما كانوا فيه من لهو الحديث.

١  أطوار المسافرين: أحوالهم المختفة، الواحد طَوْر وهو الحال.
٢  أي إنها كانت تأوي؛ و«إنْ» للتوكيد وقد سكنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤